الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، واللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإيمان إذا عرفنا معنى الخشوع في الصلاة وقيمته وحكمه وبعضًا من مظاهر عدم خشوعنا في الصلاة، فهنا يرد السؤال المهم فكيف نخشع في الصلاة؟ ، وما هي الأسباب المعينة على الخشوع؟ وقبل الشروع في ذكر بعض الأسباب المعنية، أذكرك أخي المسلم بعلاج الظواهر السابقة لعدم الخشوع فتلافيها يورث الخشوع في الصلاة، وأضيف إليها أسبابًا أخرى للخشوع.
1 -
وأول هذه الأسباب استحضار عظمة الله حين الدخول في الصلاة. أولست تبدأ الصلاة بالتكبير قائلاً: الله أكبر
…
أجل إن معرفتك بمدلول هذه الكلمة يجعلك تعتقد أن الله أكبر من كل شيء ومن ثم فلا ينبغي أن يشغلك شيء عن ذكر الله وعن الصلاة حتى تفرغ منها. وينبغي أن تجل الله وأنت تقف بين يديه تناجين قال صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه» (1).
2 -
وتدبر ما تقول من أذكار وما تقرأ من قرآن، من خير ما يعينك على الخشوع، فأنت لو تأملت ما تقول من دعاء الاستفتاح وما تقوله حين تركع وترفع وتسجد وتعتدل، وتدبرت ما تقرأ بين ذلك من كتاب الله العزيز لكان في هذا ذاك شغل لك عن التفكير في أمور أخرى خارج الصلاة، ولمن يغفل عن
(1) رواه الحاكم في مستدركه 1/ 236 وهو صحيح الجامع الصغير رقم 651.
تدبر القرآن أثناء الصلاة أو خارجها أذكر بمقولة أحد السلف «إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} (1). وأذكر من يقرؤون من الآيات دون تدبر بموقف قتادة بن النعمان رضي الله عنه الذي قام الليل لا يقرأ إلا {قل هو الله أحد} يرددها لا يزيد عليها (2).
3 -
ومما يعين على الخشوع في الصلاة تذكر الموت، والصلاة صلاة مودع، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم «اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسنها، وصل صلاة رجل لا يظن أنه يصلي غيرها» (3). إي وربي إن صلاة من يظن أجله قاب قوسين أو أدنى لتختلف عن صلاة من خدع بطول الأمل وحب الدنيا.
4 -
أيها المسلمون ومن الأمور المعينة على الخشوع في الصلاة الحرص على سنن الصلاة، فصلاً عن الإتيان بواجباتها والأركان، ولهذا وذاك أثر في خشوع المصلي، أرأيت وضع اليد اليمنى على اليسرى على صدر المصلى
…
كم فيه من عبودية لله رب العالمين، وقد سئل الإمام أحمد يرحمه الله عن المراد بذلك فقال «هو ذل بين يدي عزيز» قال علي بن محمد المصري الواعظ يرحمه الله: ما سمعت في العلم بأحسن من هذا» (4). فوق ما في ذلك من اتباع هدي المرسلين «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة» (5) ثم أرأيت
(1) الفتاوى لابن تيمية 10/ 18.
(2)
رواه البخاري الفتح 9/ 59 وأحمد 3/ 43.
(3)
أخرجه الديلمي في مسنده بسند حسن: الخشوع للهلالي/ 45، المنجد/ 13.
(4)
الخشوع في الصلاة لابن رجب 36، 37.
(5)
رواه الطبراني في المعجم الكبير، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح 3/ 155.
تحريك السبابة حين التشهد كم هو شديد على الشيطان حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم «لهي أشد على الشيطان من الحديد» (1) ومثل ذلك يُقال في طأطأة الرأس، والنظر في موضع السجود، ونحو ذلك من هيئات الصلاة المشروعة، وكلها تدعوا للخشوع وتذهب الغفلة وتطرد وساوس الشيطان بإذن الله.
5 -
إخوة الإيمان، ومما يدعو للخشوع التأمل في حال السلف في صلاتهم، وتذكر مسلسل الخاشعين الماضين من المؤمنين، وهاك نموذجًا لهم، يقول مجاهد رحمه الله: كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيًا ما دام في صلاته» (2) وقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: في ثلاث خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن لكنت أنا أنا، إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لا يقع في قلبي ريبٌ أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول ويقال لها» (3).
ويذكر أن عصام بن يوسف رحمه الله مر بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم تحسن تصلي؟ قال: نعم، قال: كيف تصلي؟ قال: حاتم: أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم بالنية، وأختمها بالإخلاص لله عز وجل، وأرجع على نفسي بالخوف، أخاف ألا يقبل مني، وأحفظه بالجهد إلى الموت» قال: تكلم فأنت تحسن تصلي (4).
(1) رواه الإمام أحمد بسند حسن كما في صفة الصلاة/ 159، المنجد/ 24.
(2)
تعظيم قدر الصلاة 1/ 188 عن رسالة المنجد/ 37.
(3)
الفتاوى لابن تيمية 22/ 605.
(4)
الخشوع لابن رجب ص 47.
عباد الله أيها المصلون ومما يعين على الخشوع:
6 -
استحضار المغنم والمغرم في الصلاة، وإذا كان قد مضى شيء من المغرم لمن ضيع صلاته ولم يخشع فيها يكفي منها أنها لا تنهاه من الفحشاء والمنكر في الدنيا، وتكون في الآخرة سببًا لرد أعماله الأخرى، إلى غير ذلك من المغارم الأخرى.
أما الصلاة الخاشعة فلها مغانم كثيرة، منها مغفرة الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله» (1).
في الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام «إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه» (2).
قال المناوي: المراد أنه كلما أتم ركنًا سقط عنه ركن من الذنوب، حتى إذا أتمها تكامل السقوط وهذا في صلاة متوفرة الشروط والأركان والخشوع كما يؤذن به لفظ (العبد) و (القيام) إذ هو إشارة إلى أنه قام بين يدي ملك الملوك مقام عبد ذليل (3) والصلاة الخاشعة سبب لدخول الجنة كما ثبت ذلك في صحيح (4) وهي تمنع مدخل السوء ومخرجه كما صح بذلك الحديث (5).
إخوة الإيمان يطول الحديث عن آثار الصلاة ومغانمها- وليس هذا موضع بسطها- والمقصود أن نقدر هذه الصلاة حق قدرها، وأن يبصر كل منا نفسه
(1) رواه مسلم 1/ 206.
(2)
رواه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني وغيرهما بسند صحيح (صحيح الجامع 2/ 78).
(3)
فيض القدير 2/ 368 عن المنجد في 33 سببًا للخشوع في الصلاة / 41.
(4)
العوايشة: الصلاة وأثرها/ 51.
(5)
صحيح الجامع 1/ 197.
ويتأمل في صلاته، وإن من الحرمان أن يجهد المرء نفسه ثم لا يتقبل الله منه بسبب تقصيره وتلاعب الشيطان بعبادته، وكم هو مؤلم للنفس أن يمكث الإنسان دهرًا من عمره يؤدي الصلاة وكأنها عادة لا عبادة، فلا يجد فيها أنسه، ولا تنهاه عن معصية، وفرق كبير بين من إذا دخل الصلاة تمنى عدم الخروج منها لما يجده من لذة المناجاة وقرة العين، وبين من إذا دخل في الصلاة أخذ يحسب أنفاسه حتى تقضى الصلاة؟ .