الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) ثروة الأمة والفاحشة الآثمة
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
…
إخوة الإسلام حديثي إليكم اليوم من القلب وأرجو أن يكون موقعه القلب منكم أيضًا .. حديثي إليكم عن قرة العيون، وفلذات الأكباد .. إنهم الشباب ثروة الأمة الكبرى في حاضرها، وأملها المرتقب في المستقبل الاهتمام بهذه النوعية علامة وعي الأمة ومؤشر لحضارتها وتقدمها، والالتفات إلى أساليب تربيتهم والنظر في مشكلاتهم يجنب الفرد والمجتمع غوائل الدهر وفاجعات الزمن ويبني جيلاً قادرًا على الإسهام والعطاء.
أما نسيانهم أو تناسي مشاكلهم، وعدم تقدير موقعهم فهو علامة الانحطاط والضياع والفوضى، ومنذ بزغت شمس الإسلام وهو يولي عنايته بالشباب، وكان في طليعة أوائل المؤمنين أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أحتضنه النبي صلى الله عليه وسلم منذ الصغر ورباه على عينه، وزيد بن حارثة رضي الله عنه الذي رغب الرق على الحرية في سبيل العيش بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم وفي كنفه.
وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يولي عنايته بالشباب ويعدهم للنائبات ويبعثهم في المهمات، وكانوا نعم المبلغين، وأثبتوا أنهم تربة خصبة للدعوة آتت أكلها وثمارها بعد حين، فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلمًا وموجهًا للأنصار في المدينة قبل هجرته إليها وكان نعم الداعي ونعم المبلغ.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 1/ 1415 هـ.
وهذا عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل نجران، وهو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ الصدقات (1).
أما أسامة بن زيد رضي الله عنهما فيؤمره على جيش فيه كبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.
إلى غير ذلكم من أحداث السيرة التي تؤكد اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالشباب.
وما كان لهذه النوعية من الشباب أن تتسنم القيادة، وتكون علي مستوى الثقة إلا بالتربية والإعداد والمتابعة والاهتمام، وكذلك ينبغي أن توجه الجهود لتربية الشباب وإعدادهم ورفع هممهم وإشراكهم في المسؤوليات وفرق بين جيل يشكل الشباب فيه ركنًا مهمًا لحمل أعباء الدعوة وتبليغ الرسالة، ويكون الواحد منهم عنصرًا مشعًا لحمل المعرفة وتعليم الجهلة، أو جنديًا صادقًا يذب عن حياض الأمة ويفلق هام الطغاة والمعاندين، ويفتح الأفاق ويقود الجيوش وبين جيل يشكل الشباب فيه عقبة أمام تطلعات الأمة وتحقيق أهدافها .. ويكون هؤلاء الشباب مشكلة بأخلاقهم وسلوكياتهم تأخذ حيزًا من فكر المجتمع وطاقاته لإيجاد الحلول المناسبة لهم وتفادي أضرارهم.
إن الأمة التي إذا التفتت إلى الشباب وجدت فيهم ضالتها المنشودة، وسهامها الرامية، وعدتها الحاضرة هي الأمة الجديرة بالبقاء، والمؤهلة لقيادة العالم.
وتخطيء الأمة طريق الإصلاح إذا تباهت أنها أخرجت شبابًا عقولها في أقدامها، أو شبابًا لا يتجاوز همها حدود المطعم والمشرب والوظيفة والمرتب؟
وما أسرع تسلل العدو للأمة إذا خدر شبابها، وأهدرت طاقاتها، ونحرت
(1) أسد الغاية 3/ 711 (صحائف الصحابة/ 92/ أحمد الصوبان).
على قارعة الطريق جدية الشباب وتطلعاتهم المثمرة، وكفنت أخلاق الشباب ولم تجد من يصلي عليها ويبعث العزاء لأهلهم والمسؤولين عنهم! !
إخوة الإيمان ولا يزال الخير في مجتمعنا، فقد نبتت في أرضنا نابتة خير من الشباب، عرفت طريقها، وآمنت بعقيدتها، وأدركت أهمية الوقت في حياتها، ونسأل الله لهم المزيد والثبات، كما نسأله تعالى أن يجزي كل مسؤول وكل عالم أو مرب أسهم في إصلاح هؤلاء الشباب وعرفهم طريق الخير والفلاح.
ولكننا مع ذلك ينبغي أن نلتفت للبقية الباقية من شبابنا، ويجب أن نتحسس دائمًا أحوال أبنائنا وبناتنا، فثمة أمراض خفية أو ظاهرة تحيط بنا، وثمة أخلاق وسلوكيات غير مرضية يتلبس بها بعض شبابنا، وهي لا تليق بهم ولا بنا. واستفحال الدواء قبل استعمال الداء واجب يحتمه علينا ديننا، وتمليه علينا مسؤوليتنا وقوامتنا .. وإذ كان المطلع بعمق على واقع الشباب يمكن أن يرصد أكثر من خطأ، ويمكن أن يشاهد أكثر من عيب، فسأركز الحديث في هذه الخطبة على واحد من هذه السلوكيات المتحركة طالما غفل عنه الخطباء استحياء لذكره، وطالما غفل عنه الآباء جهلاً منهم بواقعه وآثاره.
إنه الانحراف الخلقي وممارسة بعض السلوكيات الشاذة نتيجة اتصال الشباب ببعضهم وتغرير بعضهم ببعض. وهذا الانحراف لا يمكن أن يعمم كل كافة الشباب ولكنها فئة قليلة تتلبس به، ولولا مخافة تأثيرها على غيرهما والرغبة في حمايتها هي منه لما كان هذا الحديث.
ويبدأ المسلسل الآثم بصداقة غير نزيهة بين شابين يكبر أحدهما الآخر سنًا وتجربة، وما يزال الكبير يغوي الصغير بالخروج معه والركوب في سيارته إن كان ممن وفر له سيارة وهو ليس لها بأهل، وهكذا تترسخ الصداقة وتقوى الصلة، والأهل في غيبة عن هذا كله، والابن لا يسأل عنه إن راح أو غدى، وأين ذهب
ومتى جاء؟ هذا حال البيت، أما المدرسة فقد لا يلفت نظرها هذه الصداقة الجائرة، وقد تغيب عن بعض المربين في المدرسة أن تلك من أولويات مسؤولياتهم، وهكذا يستمرئ المجتمع هذه العلاقات ولا يسأل عن هذه الصلات، فيصبح الأبناء ضحيتها- ولا يفيق الجميع إلا على صوت النذير من بعض الجهات الرسمية الناصحة التي وقفت على المشكلة وحاولت سترها حفاظًا على سمعة الشاب وأسرته .. ولكن قرناء السوء الذين يتخلون عن صاحبهم وقت الأزمات سرعان ما أشاعوا الخبر وأفشوا السر المكنون .. فأين موقعك أيها الأب في تلك الحال، وهلا أعددت لهذا السؤال الجائر من جواب؟ وما هي وسائلك الأولى لوقاية أبنائك من هذه الأمراض الخطيرة؟ .
إخوة الإسلام: ويقص علينا القرآن الكريم كيف تشبث قوم لوط عليه السلام بجريمة اللواط، وكيف كانت عقوبتهم، وكيف كانت نهايتهم؟ يقول الحق تبارك وتعالى {ولوطًا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون} إلى قوله:{فأمطرنا عليهم مطرًا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} (1).
قال المفسرون إن أهل سدوم- وهم القوم الذي أرسل إليهم لوط- أول أهل الأرض في ممارسة هذه الجريمة البشعة، ولم يكن بنو آدم يعهدونه يألفونه، قال عمرو بن دينار: مانزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط، وقال الوليد بن عبد الملك: لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا (2).
(1) سورة الأعراف، الآية: 80 - 84.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 441.
ولعظم هذه الفاحشة كانت عقوبة أهلها أن رفع الله قرى قوم لوط إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الناس والكلاب، ثم أرسلها إلى الأرض منكوسة، ودمدم بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل، قال تعالى {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} (1).
وهكذا كانت القرى اللوطية وأهلها خبرًا بعد عين، وعبرة لكل ذي عقل وعينين، ولا يظلم ربك أحدٌ، ولم ينج منهم أحدًا ومن لم يمت حين سقط للأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذًا في الأرض يتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله فذلك قوله {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك} أي معلمة مختومة مكتوب عليها أسماء أصحابها (2) ومعنى قوله تعالى {وما هي من الظالمين ببعيد} أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه (3).
نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة من كل فتنة وبلية
…
(1) سورة هود، الآية: 82، 83.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 271، 272.
(3)
تفسير ابن كثير 4/ 274.