الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صل وسلم عليه.
أما بعد: فاعلموا معاشر المسلمين أنه كما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنسانًا يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخف ضررًا ظاهرًا، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك .. وما قيل في هذا المعنى:
وسمعك صن عن سماع القبيح
…
كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند سماع القبيح
…
شريك لقائله فانتبه (1)
إخوة الإسلام مصيبتنا في المجالس المجاملة الزائدة عن الحدود الشرعية، فقد يتكلم أحد الحاضرين بكلام لا قيمة فيه، بل ربما كان فيه ضرر على الآخرين فلا يجد- أحيانًا- من ينكر عليه، أو يصرف الحديث إلي ما هو أولى وأحرى بعيدًا عن أعراض المسلمين وتجريحهم والتشهير بهم، ويرحم الله عمر وهو القائل: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء وإياكم وذكر الناس فإنه داء.
وتنبهوا- معاشر الصالحين- لمقولة الحسن يرحمه الله: «والله للغيبة أسرع في دين الرجل المؤمن من الأكلة في الجسدي» (2).
(1) الأذكار للنووي/ 291.
(2)
الإحياء 9/ 1599.
أيها المسلمون كما ورد الاستثناء في الكذب، فقد ورد الاستثناء في الغيبة كذلك، وقال أهل العلم تباح الغيبة إذا كان المسوغ لا غرضًا شرعيًا صحيحًا لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو أحد ستة أسباب:
الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أدن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية فيذكر أن فلانًا ظلمه وفعل به كذا وكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته: فلان يعمل كذا فازجره أو نحو ذلك.
الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه ورفع ظلمه عني؟ ونحو ذلك، فالتعيين جائز والتعميم أحوط.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر، وذلك من وجوه منها جرح المجروحين من رواة الحديث وبيان حالهم، ومنها الاستشارة في مصاهرة أو مشاركة أو نحو ذلك من المعاملات، فيباح للمستفتي لهذا الغرض أن يذكر ما يعلمه في الشخص على وجه النصح للمستشير وبيان ما يخفى عليه من أمره.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة فيجوز- والحالة تلك- ذكره بما يجاهر به.
السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب كالأعمش والأعرج والأعمى ونحوها جاز تعريفه بذلك بنية التعريف لا على وجه التنقص فإن ذلك حرام، وإن أمكن تعريفه بغيرها فهو أولى (1).
(1) الأذكار للنووي/ 292، ثلاث رسائل في الغيبة/ 29، 48.
أيها المسلم والمسلمة اتقوا الله فيما تعملون وما تدعون، وراقبوه في حركاتكم وسكناتكم واعلموا أن طريقكم إلى التوبة من الغيبة هو طريقكم في التوبة من بقية المعاصي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على عدم العودة، ولكن تزيد الغيبة شرطًا رابعًا، وهو التحلل ممن اغتبته فذلك من حقوق الآدميين التي لابد من إستحلالهم عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه» (1).
أما صاحب الحق فيستحب له الصفح عن أخيه إذا جاءه معتذرًا فذلك من كرم المؤمن وطيب خلقه، ودخوله في زمرة المحسنين، الذين أثنى الله عليهم بقوله {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (2).
والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على الرجل الذي كان يصفح عن إخوانه المسلمين فقال: «أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبى ضيعم أو أبي ضمضم، كان إذا أصبح، وفي رواية إذا خرج من بيته- قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك- أو على الناس-» (3).
أيها المسلمون .. وإذا كانت الغيبة هي الغالبة في أحاديث الناس، فإن النميمة لا تقل خطرًا، بل هي أشد إذ هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد (4).
(1) حديث صحيح رواه أحمد والبخاري، صحيح الجامع 5/ 349.
(2)
سورة آل عمران، الآية:134.
(3)
حديث رواه أبو داود في سننه وغيره وصححه الألباني، صحيح سنن أبي داود 3/ 924، انظر النووي في الأذكار/ 298.
(4)
النووي في الأذكار/ 288.
وهي لا تصدر إلا من مرضى القلوب، وضعاف النفوس .. وكم ثارت الحزازات بين قريبين أو صديقين بسبب نمام أشعل فتيل العداوة بينهما، ولا غرو أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق النمام «لا يدخل الجنة نمام» (1) وفي رواية «لا يدخل الجنة قتات» (2).
ويقال: إن رجلاً ذكر لعمر بن عبد العزيز يرحمه الله رجلاً بشيء فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية {هماز مشاء بنميم} وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدًا (3).
فترفعوا معاشر المسلمين عن الدنايا وعن كل ما يخدم المكروه أو يسيء إلى المسلمين، واطلبوا معالي الأمور، وانشدوا الإصلاح، وإحسان الظن ففي ذلكم الفلاح والنجاح .. وهو طريق إلى سلامة الصدور وطهارة القلوب .. أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم والمسلمين سلامة الصدر وطهارة القلب، وأن يجنبنا الغلّ والحقد والحسد وسوء الأخلاق
…
هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى والرحمة.
(1) أخرجاه في الصحيحين، الأذكار/ 289.
(2)
صحيح سنن أبي داود 3/ 922.
(3)
الأذكار/ 299.