الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعركة مع اليهود لماذا وإلى أين
؟ (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ..
إخوة الإسلام وهناك ظاهرة تلفت النظر في كتاب الله لمن تدبر وتأمل، فعلى الرغم من ذكره للأمم والشعوب البائدة، وحديثه عن الشرائع والرسالات السابقة، فقد كان له تركيز أكثر واهتمام أكبر ببني إسرائيل وأنبيائهم عامة، وبأمة اليهود ونبي الله موسى عليه السلام خاصة.
فما من أمة من الأمم تناول القرآن تفصيل نشأتها وتاريخ تكوينها وبيان أحوالها ودقائق مواقفها، ودخائل نفوس أفرادها وخصائص شخصيتها مثل أمة اليهود.
فأول ما يبدأ الحديث عن البشر بعد هبوط آدم من الجنة في سورة البقرة يبدأ عن بني إسرائيل {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} (2) ويشمر الحديث عنهم في نيف وثمانين آية، وتتكرر قصصهم في أكثر من ثلث سور القرآن، وفي أول سورة (الفاتحة) والتي يكررها المسلمون يوميًّا في كل فريضة من فرائضهم، ونوافلهم ما شاء الله، «ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» في هذه السور يرد البيان الإلهي عن انحراف اليهود والنصارى، ويلتجأ المؤمنون إلى ربهم ألا يسلك بهم سبيلهم {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} .
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 6/ 1416 هـ.
(2)
سورة البقرة، الآية:40.
وأول سورة بعد الفاتحة تسمى سورة البقرة، وهي بقرة بني إسرائيل، وتسمى السورة الثالثة بآل عمران، وآل عمران أسرة من أسر بني إسرائيل- وإن كانت تختلف عن بني إسرائيل في طاعتها وصدقها وعبادتها، ولذلك اصطفاها الله من بين من اصطفى {إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (1).
والسورة الرابعة تسمى سورة المائدة، وهي المائدة التي طلبها بنو إسرائيل، بل وخصصت سورة باسمهم هي سورة الإسراء التي تسمى سورة «بني إسرائيل» أيضا.
وليس هناك من نبي ورد التفصيل عنه أكثر من موسى عليه السلام مع اليهود، فما السر وراء هذا التركيز والاهتمام؟ ألكثرتهم؟ فقد كان اليهود ولا يزالوا أقلية في العالم لا يؤبه لعددهم.
أم لأن لهم كيانًا معتبرًا ودولة كبيرةً حين نزل القرآن؟ فالحق أنهم ليسوا كذلك كما كان الفرس والروم وسائر الدول الوثنية الأخرى.
إذن فما وراء هذا الاهتمام؟ قد يكون لكثرة تعنتهم وشدة صبر أنبيائهم عليهم، فيُنهى المسلمون عن محاكاتهم ويسلي النبي ويصبر على ما يلقى من أذى وعناد قومه .. قد يكون ذلك من أسرار هذا التكرار، وقد يكون السر في ذلك أن كتابهم المنزل (التوراة) فيه من العقائد والأحكام ما ينشئ أمةً ويكون سلطة ودولة، وكانت مواقفهم من هذه التشريعات والأحكام مجالاً لبيان الحق والصواب فيها.
وقد يكون وراء ذلك جوارهم لمهبط الوحي، وشدة احتكاكهم بالعرب والمسلمين.
(1) سورة آل عمران، الآية:33.
كل ذلك وغيره وارد أن يكون وراء الاهتمام بهم بهذا القدر، وهناك من خلص إلى سبب آخر فوق ما ذكر واعتبره الأهم، ألا وهو: أن الصراع بين اليهود والمسلمين سيبقى إلى يوم القيامة، وكلما خمدت جذوة الصراع في منطقة أو في عصر من العصور ستتجدد في مكان آخر وفي أزمنة متلاحقة وفي صور شتى فلا غرابة إذن أن يكثر الحديث عنهم، وأن يكشف القرآن أحوالهم (1).
والمتأمل في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يجد ما يعضد ذلك، فالله تعالى أخبر في كتابه أن إشعالهم للحروب دائمة، وكذلك إفسادهم، ولكن الله تعالى تولى إخماد حربهم، وكره إفسادهم {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين} (2).
كما تكفل الله تعالى ببعثها جند من جنده لتقليم أظافر اليهود كلما تطاولت إلى يوم القيامة {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (3).
وأخبر الله بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزل عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وسيسلط عليهم من يجوس ديارهم، ويستبيح بيضتهم {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوًا كبيرًا، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً} (4) وسواء كان المسلط عليهم في الأولى جالوت أو بختنصر أو غيرهما، وفي الأخرى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو غيرهم. فقد حكم الله عليهم
(1) د مصطفى مسلم. معالم قرآنية في الصراع مع اليهود ص 5.
(2)
سورة المائدة، الآية:64.
(3)
سورة الأعراف، الآية:167.
(4)
سورة الإسراء، الآية: 4، 5.
بالهزيمة في الدنيا متى عادوا للإفساد، مع ما يذكره لهم في الآخرة من العذاب والنكال {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} (1).
هذا في القرآن وفي صحيح السنة أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الملاحم التي تكون في آخر الزمان، ومن بينها الحرب مع اليهود (وأن الساعة لا تقوم حتى يقاتل المسلمون اليهود فينادي الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله إن خلفي يهوديًّا فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) (2).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر- أن اليهود يستمر خبثهم ويمتد كفرهم حتى يكونوا من جند المسيح الدجال في آخر الزمان، يقول عليه الصلاة والسلام «يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة» (3).
والفرق كبير والمسافة بعيدة بين من يستعيذ من فتنة الدجال كل يوم عدة مرات، وبين من يكون من جنده وأتباعه حتى الممات؟ وإذا انتكست المفاهيم والقيم، وانطمست الحقائق فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يغير ذلك من الحق شيئًا.
إخوة الإسلام إذن هذه أمة هذا شأنها وتلك بعض أخبارها في القرآن والسنة فلا عجب أن يهتم القرآن بذكرها.
بل ولعل المطلع في القرآن يعجب حين يلحظ تقدم ذكر اليهود في القرآن، فلم يتأخر حديث القرآن عن اليهود إلى الفترة المدنية حيث جاوروا المسلمين وبدأ الاحتكاك والعداء ينشب بينهم، وإنما تقدم الحديث عنهم في الفترة
(1) سورة الإسراء، الآية:8.
(2)
الحديث متفق عليه، البخاري كتاب المناقب 4/ 175 ومسلم وكتاب الفتن 8/ 188، والمسند 2/ 67.
(3)
الحديث رواه ومسلم في صحيحه، انظر صحيح الجامع 6/ 317.
المكية، فلماذا كان الحديث عنهم في مكة ولم يكن لهم بها شأن يذكر، وقد شغل المسلمون بأذى كفار قريش وعداوتهم، ومع ذلك جاء الحديث عن معتقداتهم ومواقفهم مع أنبيائهم كما في سورتي الأعراف وطه المكيتين؟
لو كان الأمر متروكًا للاجتهاد البشري لقيل أن الأولى عدم التعرض لليهود في المرحلة المكية، لعدم كثرة اليهود في مكة، وعدم الاحتكاك مع المسلمين، ولا داعي لفتح هذه الجبهة والجبهة قائمة لمجابهة المشركين، خاصة وأن المسلمين كانوا مستضعفين في مكة يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم؟
أما وإن الوحي إلهي، والتخطيط للمعركة وتحديد الجبهات رباني، فلا شك أنها لحكمة عظيمة وغايات كبيرة، ولعل من أبرز هذه الحكم أن تعلم الأجيال الإسلامية اللاحقة من آيات الكتاب الحكيم أن معركة المسلمين مع اليهود معركة مستمرة بغض النظر عن المواقع التي يحتلها كل من الطرفين قوةً وضعفًا.
إخوة الإيمان وتأملوا في قوله تعالى {وأعدوا لهم ها استطعتم من قوة} ، والآيات قبلها وبعدها ولعله من اللطائف القرآنية الدقيقة أن يأتي الأمر بإعداد القوة لإدخال الرعب والرهبة إلى قلوب الأعداء في سياق الحديث عن المعاهدات ونقض اليهود لها في كل مرة، فإن المعاهدة ليست سوى حبر على ورق لا أثر لها في الواقع إن لم تكن مدعمةً بالقوة التي ترتعد لها فرائص العدو، كلما فكر في نقضها أو إبطال مفعولها، وبعد الأمر بإعداد القوة الرهيبة يأتي الحديث عن السلم لأن السلم إن لم يكن من موطن القوة والعزة فهو تنازل للعدو وخضوع لشروطه فيكون استسلامًا لا سلامًا.
اقرأ ذلك كله في قوله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} (1).
وليستشفوا من خلال الآيات القرآنية أن المعركة معركة المنهج الرباني والصراط المستقيم ضد المناهج البشرية الجاهلية المحرفة لشرع الله ووحيه والساعية للإفساد في أرضه!
هذا كله فضلاً عن بناء الشخصية الإسلامية بناءً متميزًا بتوضيح الحق ورسم ملامحه، وفضح الباطل وكشف رموزه، ورغبة في سد الباب على المتقولين أن محمدًا أخذ من اليهود ما احتاج إليه ثم حسدهم وناصبهم العداء بعد الاحتكاك بهم، لو تأخر كشف باطلهم إلى الفترة المدنية.
كما أن المؤمن قد أعطى علاجًا وقائيًا لما قد يتعرض له عند الاطلاع على عقائد اليهود، وعند التعامل مع يهود (2).
إخوة الإسلام هذه وتلك- أعني مزيد اهتمام القرآن باليهود في سوره وآياته، وتقدم الحديث عنهم في السور المكية قبل أن يبدأ الاحتكاك معهم في المدينة. تلك معالم قرآنية في الصراع مع اليهود وهي تستدعي منا وقفة متأنية متأملة، تدعونا إلى العلم بطبيعة هؤلاء اليهود، وتعرفنا بحجم المعركة بيننا وبينهم، ويجب أن تهدينا إلى أخذ الحذر والحيطة والاستعداد لهم بكل ما أوتينا من قوة، ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية وما بعدها إلى يوم القيامة .. وليس أصدق من كلام الرحمن {ومن أصدق من الله قيلاً} وليس أهدى من القرآن {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} فهل يعي المسلمون حقائق القرآن، وهل يأخذون بتوجيهاته وأحكامه.
(1) سورة الأنفال، الآية: 60، 61. كذلك قرر صاحب المعالم القرآنية في الصراع مع اليهود ص 183، 184.
(2)
د. مصطفى مسلم: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود ص 27 - 29.