الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، هو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مثيل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها الإخوة المؤمنون .. والخشوع الحق تصور واع لعظمة الله وعلم يقيني بثوابه وعقابه، يقود إلى صلاح القلب ووجله وتقواه، ويعلق صاحبه بالله دون سواه، ثم تسري هذه الشحنة الإيمانية في الجسد فيقشعر لها، ثم تفيض العين بالبكاء، ثم يلين القلب والجلد معًا، ثم تتنزل السكينة والوقار فيأمن الخاشع من المخاوف ويهدأ من الاضطراب، وينتهي بالمرء إلى الإخبات، والإخبات أول منازل الطمأنينة، حتى يبلغ الخشوع بالمرء إلى الطمأنينة وهي نهاية الإخبات، ومعها يسكن القلب والنفس مع قوة الأمن دون غرور .. تلك درجات الخشوع الحق لمن ابتغاها (1).
أيها المسلمون وليس من الخشوع الحق الزعيق والصياح كما يصنعه جهلة العوام أو المبتدعة، ولا الرقص والتصفيق كما يفعله أهل التصوف والطرقية والجهلة الطغام، يقول العز بن عبد السلام يرحمه الله: وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن، أو متصنع كذاب، كيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه
…
أما التصفيق فقد حرمه بعض العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما التصفيق
(1) انظر سليم الهلالي، الخشوع ص 57 - 61.
للنساء» (1) - إلى أن يقول العز رحمه الله: ومن هاب الإله، وأدرك شيئًا من تعظيمه لم يتصور منه رقصٌ ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيق إلا من غبي جاهل، ولا يصدر من عاقل فاضل (2).
أمة الإسلام .. وليس من الخشوع الحق ضرب الخدود وشق الجيوب، والتباكي كما يفعله أهل البدع الضلال، أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وقد تحدث الإمام الشاطبي رحمه الله عن طائفة من هؤلاء الذين شأنهم الرقص. والزمر، والدوران، والضرب على الصدور، وبعضهم يضرب على رأسه وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى والمبكي للعقلاء
…
وبين خطأهم وضلاهم كما علق عالم السنة أبو بكر الأجري رحمه الله على حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال الأجري: «ميزوا هذا الكلام، فإنه لم يقل: صرخنا من موعظة، ولا طرقنا على رؤوسنا، ولا ضربنا على صدورنا، ولا زفنا ولا رقصنا، كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند المواعظ، ويزعقون ويتناشون
…
إلى أن يقول: وهذا كله من الشيطان يلعب بهم، وهذا كله بدعة وضلالة (3).
عباد الله
…
ومن الخشوع الكاذب خشوع النفاق، وهو تكلف الإنسان الخشوع في جوارحه وأطرافه مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه، ذلكم هو الذي كان يتعوذ منه السلف، فيروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «استعيذوا
(1) أخرجه مسلم.
(2)
قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/ 186، 187، عن الخشوع للهلالي 63 - 65.
(3)
انظر: سليم الهلالي، الخشوع وأثره في بناء الأمة 65 - 67.
بالله من خشوع النفاق، قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا، والقلب ليس بخاشع» (1).
معاشر المسلمين- وليس من الخشوع الصادق المسكنة الفارغة، والضعف المذل، والسلبية والانطوائية، وضعف الإنتاج، وطأطأة الرأس دون وجل القلب وقوته، ويروى أن عمر رضي الله عنه أبصر شابًا قد نكس رأسه فقال له: يا هذا: ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب» فمن أظهر خشوعًا غير ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق (2).
هذه معاشر المسلمين ضروب من التخشع الكاذب فاحذروها، واعلموا أن الخير كل الخير فيما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن سار على نهجهم، وأولئك جاء في القرآن صفة خشوعهم، وأبانت السنة الصحيحة كيفية عبادتهم وهيئة خشوعهم، يقول الحق تبارك وتعالى في وصف أحوال أهل المعرفة عند سماع الذكر والتنزيل {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
…
}.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم، فصعد المنبر فقال:«سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا» فلما سمع ذلك القوم أرموا- أي سكتوا- ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنس: فجعلت ألتفت يمينًا وشمالاً فإذا كل إنسان لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي
…
الحديث.
(1) أورده السيوطي في الدر المنثور، ونسبه لابن المبارك وأحمد في الزهد، وابن أبي شيبة عن أبي الدرداء، انظر: الخضوع في الصلاة لابن رجب تحقيق علي حسن/ 21.
(2)
المرجع السابق/ 21.
وقد مر معنا هيئتهم عند الموعظة تذرف منها العيون، وتوجل منها القلوب- كما في حديث العرباض رضي الله عنه لكن دون زعيق أو صياح، أو رقص وتصفيق أو ضرب خدود وشق جيوب
…
أو نحو ذلك من أحوال رآها الخلف الجاهلون ضروبًا من العبادة والقربى
…
وهي ليست إلا ضروبًا من البدع منكرة
…
وألوانًا من المعونات الباطلة.
أيها الإخوة المؤمنون، وبالعلم والإيمان، وتدبر السنة والقرآن، والنظر في ملكوت الله وكيف خلق الإنس والجان، وكيف رفع السماء بلا عمد تراها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، وبسط الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها
…
والإلتفات بعد ذلك إلى الطامة الكبرى، يوم يرد الناس كلهم على الله آتيه فردًا، عراة غرلاً
…
كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا حقًا- ونذكر الله بأسمائه الحسنى وتصور صفاته العلى - بهذه وتلك، يناله الخشوع وتطمئن القلوب. قال تعالى وهو أصدق القائلين {إنما يخشى الله من عباده العلماء} .
وقال جل من قائل عليمًا {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك إنه على كل شيء شهيد} (1).
{الذي آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (2). ويبقى بعد ذلك حديث مهم عن الخشوع في الصلاة.
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، نسألك نعيمًا لا ينفد وقرة عين لا تزول
…
هذا وصلوا.
(1) سورة فصلت، الآية:53.
(2)
سورة الرعد، الآية:28.