الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أسباب الهداية
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وارض اللهم عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
إخوة الإسلام وعدتكم في الجمعة الماضية أن يكون الحديث في هذه الجمعة عن أسباب الهداية وعوامل الثبات على دين الله.
ولا شك أن الهداية إلى الصراط المستقيم هدف ينشده كل مسلم مع تفاوت الناس في جدية الطلب، وصدق العزيمة وبلوغ الهدف وإلى كل راغب في الهداية، ومتجر لأسبابها ومتطلع للجنان العالية. عاشق لحورها ومؤمل في نعيمها، ومستجير من النار، وفار من حرها وزمهريرها ومر زقومها وسائر عذابها، أسوق الأسباب والعوامل التالية للهداية إلى الله بإذن الله:
أولاً: سعة الصدر وانشراحه للإسلام وتعاليمه قال الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} (2).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق، 10/ 3/ 1414 هـ.
(2)
سورة الأنعام، الآية:125.
ومفتاح شرح للإسلام التوحيد الذي لا يخالطه أدنى شك أو شرك مع الله، وإذا كان الهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، فإن الشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وإنحراجه فحققوا التوحيد وعمقوا الإيمان-معاشر المسلمين- وإياكم والشرك أو الشك والخرافات أو البدع التي لم ينزل الله بها من سلطان.
قال ابن عباس رضي الله عنهما {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} يقول: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به (1).
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكيس؟ قال «أكثرهم ذكرًا للموت، وأكثرهم لما بعده استعدادًا» ، وسئل عن هذه الآية {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح» ، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» (2).
يا أخا الإسلام، وإذا كان التوحيد مفتاح الهداية، فإن عمل الصالحات والتقرب إلى الله بسائر الطاعات هي الأسنان لهذا المفتاح، ومن هنا فاحرص على أن يكون لك حظ من كل طاعة، ولك نصيب من كل قربة، فيدفع الله عنك بهذه الطاعة مصيبة أو نازلة، ويرفعك بالأخرى منزلة، ويكتب لك أجرًا وعافية، وتصير من هذه وتلك إلى انشراح في الصدر وسعة في القلب تحس من خلالهما بطعم الحياة الدنيا، قبل أن تصير إلى لذة الحياة الأخرى.
(1) تفسير ابن كثير 3/ 327.
(2)
الحديث ذكر عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وقال الحافظ ابن كثير: ورد من طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا، والله أعلم. (تفسير ابن كثير 3/ 328).
وإياك أن تغمس نفسك في الشهوات، وتغرق قلبك بالمحرمات فتظلم الدنيا في عينيك، وتضيق بك الحياة مع سعتها على غيرك، وقد قيل في معنى قوله تعالى:{ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا} وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان ينفعه وينقذه.
وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من الأعراب من أهل البادية: ما لحرجة؟ قال: هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي الله عنه؟ كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير (1).
فحذار أخي المسلم أن تسيطر عليك الغفلة، أو أن تغريك اللذة العاجلة فتنسيك ما أمرك الله به، أو تدعوك لفعل ما نهاك عنه، وتذكر وأنت في الدنيا محادثة أهل النار واعترافهم {قالوا ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين} وعليك بالجمعة والجماعة .. وإطعام الطعام، وصلة الأرحام وفعل الخيرات وترك المنكرات جهدك، فإنها أسباب جالبة لشرح الصدر والهداية بإذن الله، وعكسها جالبة للضيق والشقاوة والضلال عن صراط الله.
وتأمل على سبيل المثال أثر عدم إقامة الصلاة والتهاون في اجتماع المسلمين للصلاة وكونه طريقًا لاستحواذ الشيطان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«ما من ثلاثة في قرية، لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية» (2).
(1) تفسير ابن كثير 3/ 328.
(2)
حديث حسن أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما .. (صحيح الجامع 5/ 162).
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: «ما عمل ابن آدم شيئًا أفضل من الصلاة، وإصلاح ذات البين، وخلق حسن» (1).
ثانيًا: من أسباب الهداية والتوفيق للصراط المستقيم استدامة ذكر الله، فذكر الله على كل حال سبب جالب لارتباط القلب بالله، وعامل مهم لطمأنينة القلب وانشراح الصدر، يقول خالق هذا القلب والعالم بمكوناته وأسراره {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} وهل علمت أخا الإسلام أنك على قدر ذكرك لله يذكرك الله {فاذكروني أذكركم} بل يزيد الله تفضلاً منه ورحمة فيذكرك أكثر «من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» .
وهل علمت أنك حينما تتغاضى وتتكاسل عن ذكر الله يسلط الله عليك الشياطين فيكونوا هم صحبتك وقرناءك {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين} والفرق كبير بين صحبة الملائكة وصحبة الشياطين، وإذا أردت أن تعلم ذلك جيدًا فتأمل هذا الحديث وتأمل أثر الذكر فيه، يقول الرسول صلى الله وسلم «ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان ردفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه إلا كان ردفه شيطان» (2).
أيها المسلم والمسلمة .. يا من تبحث عق الهداية في مظانها، وترغب الجنة مهما كان ثمنها، إليك هذه الوصية من أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يحدثنا عنه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، قال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء،
(1) الحديث رواه صحيح الجامع 5/ 149.
(2)
حديث حسن رواه الطبراني عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، صحيح الجامع 5/ 163.
وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر» (1).
وليس بخاف عليك أن مفتاح الجنة لا إله إلا الله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
أما الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من الذكر- فيكفي أن تعلم قدرها من خلاله قول النبي صلى الله عليه وسلم «من ذكرت عنده فخطئ الصلاة علي خطئ طريق الجنة» (2).
السبب الثالث والباعث على الهداية .. تلاوة كتاب الله، بتدبر وتمعن وخشوع وهو وإن كان من أنواع الذكر إلا أن إفراده بالذكر لعظيم أهميته ومزيد العناية به. قال الله تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} هكذا تأتي الآية على وجه الإطلاق والعموم فيشمل الهدي أقوامًا وأجيالًا بلا حدود من زمان أو مكان، وتستمر هداية القرآن إلى نهاية الوجود.
والقرآن يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، تنطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتنطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا
(1) حديث حسن رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه إلا ما أبهل الغرض وأعظم الثمر (صحيح الجامع 5/ 34).
(2)
حديث صحيح رواه الطبراني عن الحسين رضي الله عنه، صحيح الجامع 5/ 291.
تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعًا واستمتاعًا بالحياة (1).
أيها المسلمون .. وفي القرآن الشفاء والرحمة {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (2).
وكذلك يعلم الذين أوتوا العلم هذا الأمر العظيم للقرآن {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك هن ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} (3).
{وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون} (4).
وأثر القرآن وتأثيره على النفوس واضح مشهود، مهما بلغت القلوب من قسوتها ومهما كانت حال المرء من الشقاوة والضلال- وهل بعد الكفر من ذنب، ومع ذلك فقد روى البخاري في صحيحه قصة أثر القرآن في قلب كافر من أكابر قريش أنه جبير بن مطعم بن عدي الذي قدم المدينة في وفد أساري بدر، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بسورة الطور يقول: فلما بلغ هذه الآية {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون} كاد قلبه أن يطير (5).
ومثل ذلك أو قريب منه يقال في قصة عودة الفضل إلى الله وهو اللص الذي كان يخوف المارين ويروع الآمنين وينهب المسافرين، فلما أراد الله له الهداية،
(1) في ظلال القرآن 4/ 2215.
(2)
سورة الإسراء، الآية:82.
(3)
سورة سبأ، الآية:6.
(4)
سورة فصلت، الآية:26.
(5)
الفتح 8/ 603 وكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبه (الإصابة 2/ 6).
كان ذات يوم يتسلق بيتًا فسمع قارئًا يقرأ {ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} .
جعلني الله وإياكم من أهل القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والفرقان - أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.