الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لسلوك صراطه المستقيم، وأغنى من استغنى به عن الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الخير كله، وعنده مفاتح الغيبة لا يعلمها إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام إذا علمتم معنى التوكل ومنهج الأنبياء فيه، والمظاهر السلبية لعدم التوكل، والآثار السيئة لعدم التوكل على الله، فمن حقكم أن تعلموا أثر التوكل على الله، ومآثره الجليلة في حياة الإنسان.
فالتوكل على الله يكسب صاحبه قوة وشجاعة تهون في سبيلها قوة الخلق ومكائدهم مهما كانت، وكلما قل قدر المرء من التوكل زاد نصيبه من الضعف والخور، ولاحقته الهموم وسيطرت عليه الأوهام ومن يتوكل على الله فهو حسبه ويورث التوكل صاحبه حفظًا وحمايةً له من الله وقت الشدائد والأزمات فهذا الخليل عليه السلام حين ألقي في النار تجلله التقوى ويحميه التوكل على الله من الاحتراق، وزاده في هذه اللحظات الحرجة {حسبنا الله ونعم الوكيل} وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حمراء الأسد يدفع الله عنهم الوهن، ويقذف في قلوب أعدائهم الرعب حين قالوا:{حسبنا الله ونعم الوكيل} {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} .
روى البخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} .
فالتوكل على الله طريق السعادة فأسعد الناس في هذه الحياة هم المتوكلون على الله حق توكله، إذ ليست السعادة بالأموال الطائلة ولا بالزينة الظاهرة، ولكنها الطمأنينة في القلب وهدوء البال وراحة الضمير، والاستعداد ليوم الرحيل وتلك وربي لا تحصل إلا بالتوكل واليقين، ولعل هذا يفسر لكم سر شقاء القوم الكافرين مهما توفرت لهم ملاذ الحياة وتهيأ لهم من سبل الراحة، ويفسر لكم من جانب آخر كيف نال السعادة أقوام عاشوا بالأكواخ أو شبهها وقامت بنيان بيوتهم على جريد النخل أو نحوها، كانوا يأكلون القديد ويفترشون الحصير حتى أثرت في جنوبهم، ومع ذلك كانت السعادة تغمر حياتهم في الدنيا وهم في الآخرة في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وعلى قدر نقصان مكيال التوكل يقل حجم السعادة كافرًا كان أم فاسقًا.
ففي التوكل على الله باب واسع للرزق {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} ويلهث دون جدوى أولئك الذين يعلقون رزق الله على مجهودهم دون ربطه بحبل التوكل على الله، وفي حياة الناس عبرة فأنت ترى فئامًا من الناس يجهدون أنفسهم وربما واصلوا ليلهم بنهارهم في سبيل البحث عن الدرهم والدينار وقد تراهم من أفقر خلق الله وقد لا يوفرون لأنفسهم لقمة العيش فيضطرون إلى سؤال الناس واستجدائهم في حين ترى خلقًا من خلق الله أضعف حيلاً وأقل تفكيرًا وقد ضمن الله رزقهم وكفاهم من عنده، ويا له من حديث عظيم رواه عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال:«لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» .
ولماذا لا يتوكل المسلم على الله ويثق بما عنده وهو يعلم أن الأجل محدود، والرزق مضمون، وقد قدر للمرء نصيبه من هذه الحياة وهو بعد لم ير النور.
ففي التوكل على الله قطع لدابر وساوس الشيطان الذي لا يفتأ يخوف الإنسان عن مخاطر المستقبل الذي سيصير إليه، ويرجف به في طلب المعاش خشية الفقر والعيلة، وما يزال يلقي الأوهام عليه في صحته حتى يمرضه وإن كان سليمًا معافى، ويحاول جاهدًا قطع حبله بالله فيصله بمخلوقين لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا فكيف يرتجى منهم تقديم النفع لغيرهم، أو جلب الفقر لسواهم.
أيها المسلمون لا يعني التوكل على الله عدم الأخذ بالأسباب المأمور بها شرعًا، فذلك نوع من التواكل لم يقره الإسلام، وأنتم تعلمون قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أعقل دابتي أم أتكل على الله؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام «اعقلها وتوكل» (1).
وحين كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن الموكلون، أنزل الله لهم ولغيرهم {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (2).
قال العارفون: التوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا، ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها- كما ذكر ذلك ابن القيم وغيره (3).
إخوة الإسلام، قال بعض السلف جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} فلم يقل له
(1) حديث حسن رواه الترمذي، صحيح الجامع 1/ 352.
(2)
سورة البقرة، الآية: 197، تفسير ابن كثير 1/ 348.
(3)
فتح المجيد/ 417.
كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه (1) فتوكلوا على الله حق توكله، واستعينوا به وحده يكفكم ما أهمكم، ويوسع لكم في أرزاقكم ويمتعكم متاعًا حسنًا في الدنيا، وتفوزوا بالسعادة يوم لقاه.
أختي المسلمة ألتفت إليك بشكل خاص .. وأنت أدرى الناس بنفسك، أدعوك لترك القلق وعدم الاستسلام للأوهام، والاعتصام باليقين والتوكل على الله وستجدين فيه علاجًا لكل مرض وداء من كل سقم.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، وأن يهب لنا صدق التوكل عليه وخالص العبادة له.
(1) السابق/ 416.