الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لماذا يتأخر النصر
؟ (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين تكفل بإظهار هذا الدين، ووعد بنصرة المؤمنين، فقال في كتابه المبين:{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (2) وقال تعالى: {وكان حقًا علينا نصر المؤمنين} (3) وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له اقتضت حكمته أن يديل الإسلام والمسلمين تارة، ويدير الكفر والكافين تارةً أخرى، وصدق الله {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (4).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عاش فترة من حياته والمسلمون معه في مكة ظروف المحنة وشدة الابتلاء حتى جاء الله بالنصر والفتح المبين، وعاد المحاربون له مسالمين مؤمنين، بل وفي عداد الغزاة الفاتحين.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} .
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 7/ 1416 هـ.
(2)
سورة الصف، الآية:9.
(3)
سورة الروم، الآية:47.
(4)
سورة آل عمران، الآية: 140، 141.
أيها المسلمون
…
يتكرر في فترات من التاريخ لمن تأمل انسياح الإسلام في الأرض وغلبة المسلمين، أو انحسار مدِّ الإسلام وهيمنة غير المسلمين، وإذا كانت أكثرية المسلمين تلتزم بالإسلام في حالة غلبته، فإن القلة من المسلمين من يتمالك نفسه ويلتزم بمقتضيات العقيدة والدين ويصبر على اللأواء والمحن في حال غلبة أعداء الدين، إذ من الناس من يصاب بالهلع وفقدان الثقة بنصرة هذا الدين، ويصاب آخرون بالإحباط واليأس والقنوط من رحمة الله، والتسخط لأقدار الله، وتلك أدواء قاتلة وهي منافية لحقيقة التوحيد من الصبر واليقين والتقوى والتوكل على رب العالمين.
إخوة الإيمان وهذا الشعور قديم وهذه الفتنة غير مستحدثة، وهذا الهاجس تحدث عنه العلماء السابقون، وذلك حين أصيبت الأمة، وكاد اليأس يلف بعض المنتسبين للإسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله، (وهنا نكتةٌ نافعة، وهي أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيبُ كثيرًا من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من المصائب، وما يصيب كثيرًا من الكفار والفجار في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاء في القرآن من أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين وأن العاقبة للتقوى، وقول الله تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون} (1) وهو ممن يُصدِّق بالقرآن حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط، وقال: أما في الدنيا فما نرى بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين
…
الخ (2).
(1) سورة الصافات، الآية:173.
(2)
كلام الشيخ وإجابته السديدة على هذه المشاعر الخاطئة والهواجس الفاسدة، فليراجعه من شاء في: جامع الرسائل، الرسالة الثالثة (قاعدة في المحبة) (عن: متى نصر الله، الجليل ص 56 - 74).
وهذا تلميذه الشيخُ ابن القيم رحمه الله، يعرض أمام ناظريك أيها المسلم الحكمة من وراء تمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان فيقول: «وكان في تمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أولياء الله إلى الكمال الذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه، وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له، فإن تمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، وإنما تكون المحبةُ صادقةً إذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة في مرضاة محبوبه والتقرب إليه، فإن بذل له روحه كان ذلك أعلى درجات المحبة، ومن المعلوم أن من لوازم ذلك
…
أن يخلق ذواتًا وأسبابًا وأعمالاً وأخلاقًا وطبائع تقتضي معاداة من يحبه
…
إلى أن يقول: فلولا خلق الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرج خاص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه، والعطاء له والمنع له (1).
أيها المؤمنون نستبطئ النصر أحيانًا ونحن بعد لم نقدم للنصر ثمنًا، ونستجعل النصر وقد لا يكون حان وقته بعد، ونتطلع إلى تغير مفاجئ في العالم ونحن بعد لم نغير ما بأنفسنا. وبالجملة فهناك معوقات للنصر وأسباب لتأخره، يعرفها العلماء ويجهلها البسطاء، وأسوق لكم طرفًا منها استجمعها صاحب الظلال- يرحمه الله- فاعقلوها وقارنوا واقع المسلمين بها، يقول سيد قطب- رحمه الله: (والنصر قد يبطئ لأن بنية الأمة المؤمنة لم ينضج بعد نضخها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى
(1) إلى آخر كلامه النفيس في طريق الهجرتين ص 214، 215. طبعة قطر.
المذخور فيها من قوة واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا لعدم قدرتها على حمايته طويلاً ..
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد فلا تستبقي عريزًا ولا غاليًا، إلا وتبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر .. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله ..
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر معها قرار، فيظل الفراغ قائمًا حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر لاستبقائه. «من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وللنصير تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفائه أسبابه، وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه» .
وقد تبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سندًا إلا الله ولا متوجهًا إلا إليه وحده في الضراء .. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله .. فلا تغطى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به.
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو
تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى فأيها في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (1).
كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحص خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرةٌ من خيار تذهب في الغمار ..
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريًا للناس ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية) (2).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {
…
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} (3). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
(1) متفق عليه.
(2)
طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 359.
(3)
سورة الرعد، الآية:11.