الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) اليوم الأغر سننه وأحكامه
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، وارجوا اليوم الآخر، وتلمسوا أسباب النجاة في هذه الحياة، وبواعث السعادة بعد الممات، ألا وإنكم في يوم عظيم من أيام الله، سبق في الجمعة الماضية بيان شيء من فضله، ونستكمل اليوم بعضًا من خصائصه وسننه وأحكامه.
روى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «سيد الأيام يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة» (2).
وهذه السيادة لهذا اليوم كان يقدرها المصطفى صلى الله عليه وسلم حق قدرها بدءًا من فجر هذا اليوم، حيث كان يقرأ في صلاة الفجر سورتي آلم السجدة، وهل أتى على الإنسان، ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة قرأ سورة
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 5/ 1413 هـ.
(2)
صححه الحاكم ووافقه الذهبي/ زاد المعاد 1/ 366.
أخرى فيها سجدة، ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعًا لتوهم الجاهلين (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وأن قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعًا، ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيث اتفقت (2).
أيها المسلمون، كان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، وقد اختلف العلماء هل هو أفضل أم يوم عرفة على قولين (3).
ويستحب الإكثار فيه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومه وليلته لقوله صلى الله عليه وسلم «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة» (4).
كما يستحب الاغتسال في يوم الجمعة، بل قال بعض العلماء إنه أمر مؤكد جدًا، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء، ومن مس الذكر والقهقهة في الصلاة، ووجوب الوضوء من الرعاف والحجامة والقيء ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ووجوب القراءة على المأموم.
قال الإمام ابن القيم- رحمه الله: وللناس في وجوب الغسل يوم الجمعة ثلاثة
(1) ابن القيم: زاد المعاد 1/ 375.
(2)
المصدر السابق 1/ 375.
(3)
هما وجهان لأصحاب الشافعي، الزاد 1/ 375.
(4)
أخرجه البيهقي من حديث أنس وهو حسن، المصدر السابق 1/ 376.
أقوال: النفي، والإثبات، والتفصيل بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها فيجب عليه، ومن هو عنه فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد (1).
أما التطيب يوم الجمعة فهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع، والسواك فيه له مزية على السواك في غيره.
أما التبكير للجمعة فقد سبقت الإشارة إليه، لكني هنا أشير إلى المقارنة بين صلاة الجمعة وصلاة العيد، حيث قال العلماء: لما كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العيد، وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان، وهذا من حكم قوله صلى الله عليه وسلم:«من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة» (2).
وهل علمت أخي المسلم أن قربك من الله يوم القيامة على قدر رواحك للجمعة، وهل تريد أن تعلم شيئًا من حرص السلف على التبكير لصلاة الجمعة؟
ذكر البيهقي في الشعب وابن ماجه في السنن وغيرهما عن علقمة بن قيس قال: رحت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى جمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد، ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رواحهم إلى الجمعة الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع» ثم قال: وما رابع أربعة ببعيد» (3).
ومن الأمور المستحبة في يوم الجمعة قراءة سورة الكهف، فقد ورد عن
(1) المصدر السابق 1/ 377.
(2)
الحديث (زاد المعاد 1/ 399).
(3)
الحديث حسنه المنذري في الترغيب والترهيب والبوصيري في الزوائد، انظر زاد المعاد 1/ 409.
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قي فضل ذلك: «من قرأ سورة الكهف في يومها سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين» (1).
كما يستحب في هذا اليوم أن يلبس أحسن ثياب، فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة:«ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» (2).
فإذا اجتمع لك يا أخا الإسلام غسل يوم الجمعة وسواك وتطيب ولبس أحسن الثياب ثم كملت ذلك بالمشي إلى المسجد مبكرًا وعليك السكينة، وركعت ما قدر الله لك أن تركع، وأنصت والإمام يخطب فأبشر بالخير والمثوبة من الله. وفي ذلك يقول صلى الله عليه ومسلم:«من اغتسل يوم الجمعة واستاك ومس من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم يركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» (3).
وكما يستحب أن يهتم الناس بنظافة ملابسهم وأجسادهم في كل حين، وبالأخص يوم الجمعة، فيستحب كذلك الاهتمام بالمساجد وتجميرها، وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يأمر بتجمير مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار (4).
وهذه مسألة طالما غفل عنها كثير من الناس في وقت لا يغفلون فيه عن تجمير
(1) حديث صحيح أخرجه الحاكم وغيره، زاد المعاد 1/ 377.
(2)
رواه أبو داود بإسناد صحيح 1/ 382.
(3)
حديث صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم/ صحيح الجامع 5/ 252.
(4)
زاد المعاد 1/ 391.
منازلهم وأضيافهم وبيوت الله حرية ألا تنسى، وضيوفها الملائكة وخيار الصالحين.
إخوة الإسلام من أبرز خصائص وفضائل هذا اليوم أن فيه ساعة الاستجابة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها: «وإن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وقال بيده يقللها» (1)، وقد اختلف أهل العلم في تحديد هذه الساعة وأرجح الأقوال رأيان يعضد كل منهما أحاديث صحيحة، وأحدهما أرجح من الآخر.
القول الأول أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، وصحة هذا القول ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن موسى أن عبد الله بن عمر قال له: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة شيئًا؟ قال: نعم سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» (2).
والقول الثاني أنها بعد العصر، وهذا- كما يقول ابن القيم- أرجح القولين وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة والإمام أحمد وخلق، وحجة هذا القول ما رواه أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر» .
وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فتفرقوا ولم يختلفوا إنها آخر ساعة من يوم الجمعة (3).
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2)
وهناك حديث آخر رواه ابن ماجه والترمذي يشير إلى نفس المعنى (زاد المعاد 1/ 39).
(3)
زاد المعاد 1/ 391.
فإن قلت: وكيف يكون آخر ساعة من يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي .. ومن المعلوم أن آخر ساعة من الجمعة ليست محل صلاة .. فقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم على سؤال وجهه له عبد الله بن سلام حين قال: إنها ليست ساعة صلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة» فهل يحتسب المسلمون هذه الساعة يروضوا أنفسهم على الجلوس في المساجد ابتغاء ما عند الله .. وإذا لم يمكنه في كل جمعة فهل يحاول ولو بعض الجمع، وإذا لم يستطع المكوث في المسجد من صلاة العصر فهل يحرص على الأقل على الذهاب إلى المسجد قبل الأذان بوقت يكفيه للدعاء والابتهال إلى الله .. إلى ذلك خير من الدرهم والدينار .. بل لعله من أنفع طرق جمع الدرهم والدينار، وما عند الله خير وأبقى .. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
أيها المسلمون، الصدقة في يوم الجمعة لها مزية على الصدقة في سائر الأيام، قال العلماء: والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور، وقال ابن القيم رحمه الله: وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية- عليه رحمة الله- إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سرًا وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضل وأولى بالفضيلة (1).
اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا .. ووفقنا لطاعتك وجنبنا معصيتك يا حي يا قيوم .. أقول هذا القول وأستغفر الله.
(1) زاد المعاد 1/ 407.