الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالين أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا إخوة الإسلام فليس القصد من ذكر هذه الأحداث المؤلمة التلذذ بذكر قصصها، ولا الاستزادة من معرفة أخبارها، فلمثل هذه الأحداث يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان.
وإنما القصد الاستفادة من عبرها ودروسها، والوقوف على الأسباب التي أدت إليها، ومعرفة طرق العلاج التي تسلك للخلاص منها.
وإليكم بعض الدروس والعبر لمثل هذه الأحداث والخطوب:
1 -
إن سنة الله جارية قديمًا وحديثًا، والذين تروعهم الأحداث المؤلمة في البوسنة والهرسك أو فلسطين، أو يعجبون للحرب العقائدية في أرض الشيشان، أو يستغربون تصفيات المسلمين في بورما وتايلند، وكشمير والفلبين وغيرها من بلاد المسلمين- ومن حقهم ذلك- لكن عليهم أن يتذكروا أنها حلقة في صراع الحق مع الباطل، وأنها معركة أطرافها القرآن الحق، حتى وإن ضيعه أهله، ولم يلتزموا بكل ما فيه .. والتوراة والإنجيل وسواهما من الأديان والنحل الباطلة، إذ يراد القضاء على البقية الباقية من هذا الدين، والسحق لهذه الشعوب المسلمة التي بدأت تتلمس طريق الخلاص، وتعود للإسلام وتعتز بالدين.
2 -
وغربة الدين وضعف المسلمين لا ينبغي بحال أن يقود إلى الإحباط وخور النفوس، ولا ينبغي أن يكون سلمًا لأن يخامر القلب الشكوك، أو أن
يظن المسلمون بربهم الظنون السيئة، بل يجب أن يكون مادة للصبر والثبات على دين الله والبذل في سبيله حتى يأذن الله بالفرج يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله .. معلقًا على حديث:«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء» «وكثير من الناس إذا رأى المنكر وتغير كثير من أحوال الإسلام فزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنبه فليصبر إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار» (1).
3 -
وكما أن المسلم مأمور بالصبر والثبات على دين الله في كل حال ولاسيما في المحن، ومنهي عن سوء الظن بالله، فهو منهي كذلك عن التأفف أو الاعتراض على شيء من أقدار الله، وقد حكى ابن كثير في ترجمة الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال قال: كان صالحًا ورعًا زاهدًا حكى عن نفسه قال: كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فرأيت في المنام رجلاً وفي يده كتاب فأخذته فقرأته، فإذا فيه هذه الأبيات فيها الإنكار علي:
دع الاعتراض فما الأمر لك
…
ولا الحكم في حركات الفلك
ولا تسأل الله عن فعله
…
فمن خاض لجة البحر هلك
إليه تصير أمور العباد
…
دع الاعتراض فما أجهلك (2)
4 -
الدرس الرابع أن يفتش المسلمون في أحوالهم، ويصدقوا مع أنفسهم في
(1) الفتاوى 18/ 295.
(2)
البداية والنهاية 13/ 241.
البحث عن أسباب الذلة والهوان .. وسيجدون أن أعظم الأسباب كامن في ذوات أنفسهم، وأن الله لا يسلط عليهم عدوًا من خارج أنفسهم إلا إذا هم خالفوا أمره وعصوا رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول الحق تبارك وتعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (1) ويقول تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (2) ويقول جل ذكره:{وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (3).
بل لقد أنزل الله- فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} (4).
وإذا كان هذا مع أهل الإيمان فلا تسأل عن غيرهم من أهل الضلالة والفجور والعصيان؟ وما ربك بغافل عما يعملون.
5 -
الدرس الخامس: هذه الأحداث المؤلمة على أهل الإسلام قديمًا وحديثًا كما تؤكد سنة الابتلاء وتمييز الصادقين من الكاذبين، فهي تؤكد كذلك عظمة هذا الدين، وأنه صخرة شماء، غني عنهم، لكنهم هم الفقراء إلى عفو الله ورحمته، فإذا صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم على شريعة الله فليبشروا
(1) سورة الشورى، الآية:30.
(2)
سورة الرعد، الآية: 11
(3)
سورة محمد، الآية:38.
(4)
سورة المائدة، الآية:54.
بنصر الله تحقيقًا لوعد الله والله لا يخلف الميعاد {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} (1).
6 -
سادسًا- ويبقى بعد ذلك صنفان من الناس لهما أثر كبير في صلاح الناس واستقامتهم ألا وهم العلماء والأمراء، وحيث لا يزال الحديث متصلاً بأحداث التتر منع المسلمين، وللحديث بقية، فسأورد لكم في الخطبة القادمة بإذن الله بأن العلماء والأمراء لهم أثر كبير في استصلاح أوضاع المسلمين، ومن ثم تحقيق النصر المؤزر في وقعة عين جالوت على أعداء الدين.
7 -
أيها المسلمون ويبقى سلاح الدعاء سهمًا نافذًا، وعدة ما لها من نفاد يملكها الفقراء كلما يملكها الأغنياء، وتشوي فيها الذكر والأنثى على حد سواء، ولا يعذر بها العامة فضلاً عن العلماء، فألحوا على الله بالدعاء بنصرة هذا الدين والتمكين للمؤمنين واظهروا لله الفاقة والتضرع والخشوع، وادعوه دعاء المضطر، لاسيما في مثل هذا اليوم الذي نصر الله فيه الحق على الباطل (يوم عاشوراء) وهو يوم الجمعة فيه ساعة تستجاب فيها الدعوة كما تعلمون .. وأنتم ومعظمكم لله صائمون وللصائم دعوة لا ترد.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة .. فهو يجيبه المضطر إذ دعاه ويكشف السوء.
(1) سورة الصافات، الآيات: 171 - 173.