الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلف والوقت
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
إخوة الإيمان حديث اليوم عن الجوهرة الثمينة في نظر العارفين، والطاقة المهدرة عند البطالين، عن واحد من جوانب النعمة المغبون فيها كثير من الناس، عن الوقت بل عن الحياة، فالوقت هو الحياة.
والمسلم يستشعر قيمة الزمن وأهمية الوقت من آي القرآن الحكيم، فالله قد أقسم في كتابه أكثر من مرة بالوقت، ولله أن يقسم بما شاء لكنه لا يقسم إلا بعظيم يستحق القسم.
قال تعالى {والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر} (2).
ومع ما قيل في تأويل الفجر، والليالي العشر، والشفع والوتر والليل، فالذي يلفت النظر أن هذا القسم لعظمته وأهمية المقسم به إنما هو لأصحاب العقول الذين يعقلون ما يسمعون، ويستفيدون مما يعلمون {هل في ذلك قسم لذي حجر} وإنما سمي العقل حجرًا لأنه يمنع صاحبه من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال .. وهذا القسم هو بأوقات العبادة وبنفس العبادة من حج وصلاة وغيرها، كما يقول المفسرون (3).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 2/ 1416 هـ.
(2)
سورة الفجر، الآية: 1 - 5.
(3)
تفسير ابن كثير 8/ 416.
وقال تعالى: {والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى} .
وهل الليل والنهار إلا مراكب يختلف الناس في سبل الانتفاع بهما فمغبوط يستثمرها في طاعة الله، ويزرع فيهما ما يبلغه إلى الله ويسعد يوم لقاه، ومغبون مضيع لساعات الليل والنهار، مفرط على نفسه، يحمل الأوزار التي تثقل كاهله يوم العرض على الله، وصدق الله {إن سعيكم لشتى} .
ويقسم الله مرة ثالثة بالدهر فيقول {والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (1) والعصر هو الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر، والله تعالى يقسم أن بني الإنسان كلهم في خسارة وهلاك إلا من استثمر وقته، واستنفد عمره في عمل الصالحات (2) كما أقسم تعالى بالضحى والليل.
إخوة الإسلام يهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم بسنتيه القولية والفعلية إلى استثمار الوقت بما ينفع، ويحذر من إضاعة الأوقات سدى فيقول:«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (3). وتأمل قوله (كثير من الناس) والمعنى أن الذي يوفق لاستثمار هاتين النعمتين بما ينفع قليل.
قال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا، ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة
(1) سورة العصر، الآية: 1 - 3.
(2)
تفسير ابن كثير 8/ 500.
(3)
أخرجه أحمد والبخاري وغيرهما.
التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل.
يسر الفتى طول السلامة والبقا
…
فكيف ترى طول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة
…
ينوء إذا أم القيام ويحمل (1).
ولقد كان استثمار الوقت أحد نصائحه، وضمن مواعظه عليه الصلاة والسلام لأصحابه يقول- وهو الناصح الأمين- لرجل وهو يعظه:«غانم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (2).
فإذا كانت تلك طائفة من سنته القولية فيكفي أن ينظر اللبيب فيما عمل وخلف في مدة لا تتجاوز ثلاثة وعشرين عامًا، لقد أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، علم العلم وفاق غيره في العمل، وزرع الخير واقتلع جذور الشر، جاهد في الله في كل ميدان، وخلف أجيالاً تحمل مشاعل النور والهدى من بعده.
أيها المسلمون يكفيكم أن تطلعوا على نماذج من سير أصحابه لتروا كيف كانوا يعملون، وكيف كانوا لأوقاتهم مستثمرين، وفي ذلك إجابة لمن لا زالوا حائرين في استثمار الأوقات، متطلعين إلى نماذج راشدة في ملء الفراغ وبماذا تقضى الأوقات؟
وإذا كانت العبادة الحقة لله رب العالمين هدف الوجود في هذه الحياة امتثالاً لقوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (3).
(1) الفتح 11/ 230.
(2)
أخرجه الحاكم موصولاً وصححه ووافقه الذهبي وغيره، شرح السنة للبغوي 14/ 224.
(3)
سورة الذاريات، الآية:56.
فقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في استثمار الوقت فيها فالصلاة - مثلاً- لا يشغلهم عنها شاغل ولا يصرفهم عنها صارف حتى ولو كانوا في ساحات الوغى، ولا تسأل عن حسن صلاتهم وطول قراءتهم وقيامهم وركوعهم وسجودهم وخشوعهم، حتى أطلق على بعضهم السّجاد (محمد بن طلحة بن عبيد الله) لعبادته وتألهه (1) وبلغ الحرص بهم في المحافظة عليها جماعة المسلمين أن أحدهم إذا فاتته العشاء في جماعة أحيا بقية ليلته- كما ثبتت عن ابن عمرو رضي الله عنهما (2).
وفي الصيام لهم أخبار وأحوال تراها النفوس الضعيفة ضربًا من الخيال، ففي ترجمة (أبي طلحة الأنصاري) رضي الله عنه أنه كان يسرد الصوم، وأنه كان لا يفطر إلا في سفر أو مرض (3).
إخوة الإيمان مما يستثمر الصحابة رضوان الله عليهم به أوقاتهم تلاوة كتاب الله، تعلمًا وتعليمًا وعملاً، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يسأل عنه علي رضي الله عنه فيقول قرأ القرآن ثم وقف عنده وكفى به (4) وفي رواية أخرى: وعلم السنة وهو القائل: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن (5). وكانوا يعقدون لتعليم القرآن الحلق، وتمتلئ المساجد بالمتعلمين ولا تكاد تخلو من القائمين به في ساعات الليل والنهار، وأنعم بكتاب الله رفيقًا، وأكرم ببيوت الله موئلاً.
(1) السير 4/ 368.
(2)
السير 3/ 215.
(3)
السير 2/ 29، 30، 33.
(4)
رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 3/ 318.
(5)
أخرجه الطبري في تفسيره بسند حسن (السير 1/ 490).
وكان القوم جادين في حياتهم مستثمرين لأوقاتهم كذلك في بيوتهم، فهذا نافع رحمه الله يسأل: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما (1).
عباد الله يا من ترومون نهج السلف، وتريدون الاقتداء باستثمار الأوقات بما ينفع، فقد كان للعلم والتعليم بكل عام نصيبه وافر من أوقات العارفين، ومع ما كانوا فيه من عبادة خاصة فقد كانوا يؤثرون الناس على أنفسهم، ويجلسون لتعليمهم إذا احتاجوا إليهم ويعتبرون ذلك ضربًا من العبادة يتقربون بها إلى خالقهم كما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه (2).
وحين يرد الاختلاف بينهم فيما يقرؤون من أجل التعليم ينتهي في وقته، لأن الحق رائدهم، وهذا أبي بن كعب رضي الله عنه كان يقرأ قوله تعالى {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} (3) ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأغلظ له، فقال يا عمر: إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله، والله لئن أصبت لألزمن بيتي فلا أحدث شيئًا ولا أقرئ أحدًا حتى أموت! فقال عمر: اللهم غفرًا، إنا لنعلم أن الله قد جعل عندك علمًا فعلم الناس ما علمت».
وفي رواية: «بل أنت رجل عندك علم وقرآن فاقرأ وعلم مما علمك الله ورسوله» (4).
(1) أخرجه ابن سعد 4/ 70 بسند رجاله ثقات، السير 3/ 215.
(2)
السير 1/ 399 مع ضعف إسناده.
(3)
الفتح/ 26.
(4)
تفسير ابن كثير 7/ 327.
ولم يقف الأمر بهم عند حدود العلم والتعليم، بل استثمروا جزءًا من أوقاتهم في الدعوة لله فانتشروا في مشرق الأرض ومغربها يعلمون الناس الخير، ويدعون إلى الله بالحسنى، ويحملون صفاء الإسلام وإشراق العقيدة حتى هدى الله على أيديهم أممًا من الناس، واستنقذ الله بهم فئامًا من الخلق وهم في ذلك كله مسترشدون بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي لم يكفه بياض النهار في الدعوة للخير، بل استثمر سواد الليل، وهذا عمر رضي الله عنه يحدثنا أنه كان هو وأبو بكر رضي الله عنه يسمرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في بيت أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم» (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين} .
(1) أخرجه أبو نعيم والفسوي بإسناد صحيح، سير أعلام النبلاء 1/ 499، 500.