الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن هشام: هذا كله عند العرب على غير هذا إلا الحام؛ فإنه عندهم على ما قال ابن إسحاق: فالبحيرة عندهم: الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها، ولا يشرب لبنها إلا ضعيف، أو يتصدق به، وتهمل لآلهتهم.
والسائبة: التي ينذر الرجل أن يسيبها إن برأ من مرضه، أو أصاب أمرا يطلبه؛ فإذا كان كذلك ساب من إبلعه ناقة أو جملا لبعض آلهتهم، فساب فصارت لا ينتفع بها.
والوصيلة: التي تلد أمها اثنين في كل بطن؛ فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها، ولنفسه الذكور، فتلدها أمها ومعها ذرك في بطنها، فيقولون: وصلت أخاها، فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به، حدثني به يونس غيره، وروي بعض ما لم يرو بعض.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله تبارك وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]، وأنزل عليه:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] وأنزل عليه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] وأنزل عليه: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143، 144]
…
انتهى.
وقال السهيلي: فصل: وذكر البحيرة والسائبة، وفسر ذلك، وفسره ابن هشام تفسير آخر، وللمفسرين في تفسيرهما أقوال، منها ما يقرب، ومنها ما يبعد عن قولهما، وحسبك ما وقع في الكتاب؛ لأنها أمور كانت في الجاهلية أبطلها الإسلام، فلا تمس الحاجة إلى علمها
…
انتهى1.
1 الروض الإنف 1/ 121.
ذكر شيء من خبر عمرو بن عامر الذي تنسب إليه خزاعة وشيء من خبر بنيه:
أما عمرو بن عامر -المشار إليه- فهو: عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن
سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الأزدي المازني؛ هكذا نسبه ابن هشام، وابن حزم، وابن الكلبي، فيما ذكر ابن عبد البر، ونسبه ابن الكلبي على ما وجدت في تاريخ الأزرقي على خلاف ذلك، وهو أنه جعل ثعلبة بين حارثة وامرئ القيس1، ونسبه هكذا المسعودي في تاريخه2.
وذكر غير واحد أنه يقال لعمرو هذا: مزيقيا، ولابنه عامر: ماء السماء، ولجده: حارثة الغطريف؛ وإنما قيل له: مزيقيا -على ما ذكر بعضهم- لأنه كان يلبس في كل يوم حلة ثم يمزقها لئلا يلبسها أحد بعده3؛ وإنما قيل لابنه ماء السماء -على ما ذكر السهيلي: لجوده، وقيامه عندهم مقام الغيث.
وكان عمرو بن عامر مالك مأرب -بهمزة ساكنة- وهي بلاد سبأ باليمن التي مزق الله أهلها وباعد بين أسفارهم، وأخربها سيل العرم، كما ذكر الله عز وجل في كتابه العزيز، حيث قال:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 15، 16] .
واختلف في معنى العرم، فقيل: هو صفة السيل، وهو اسم للوادي، وقيل: اسم لسد عارم كان يقيها من السيل، ويحبس الماء على أهلها، فيصرفونه حيث شاؤوا من بلادهم.
وهذا السد بناه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وساق إليه سبعين واديا -على ما قيل، ومات قبل أن يكلمه، وأكمله بعده ملوك حمير، وقيل: بناه لقمان بن عاد الأكبر على ما ذكره المسعودي4، وذكر أنه كان فرسخا في فرسخ، وأن طول البلد أكثر من شهرين للراكب المجد، وكذلك عرضها5 والخصب، طيبة الفضاء، وكان أهلها في غاية الكثرة؛ حتى قيل إنهم كانوا يقتبسون النار من بعضهم بعضا مسيرة ستة أشهر، مع اجتماع الكلمة والقوة، ثم مزقهم الله تعالى، وباعد بين أسفارهم، وأخرب بلادهم بسيل العرم، كما ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز6.
وكان سبب تمزقهم: تخوفهم من خراب بلادهم بالسيل، فإن طريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر -على ما قيل- رأت في كهانتها أن سيل العرم يخرب سد مأرب،
1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 92.
2 مروج الذهب للمسعودي 2/ 190.
3 الروض الأنف 1/ 21.
4 مروج الذهب 2/ 180.
5 هذه الروايات فيها مبالغة ظاهرة؛ لأن الآثار الباقية في شبه الجزيرة العربية تدل على أن مملكة سبأ كانت جزءا محدودا من بلاد اليمن، كما تشير إلى ذلك الروايات التاريخية، في مختلف المراجع.
6 مروج الذهب 2/ 181، 182.
فذكرت ذلك لملكهم عمرو بن عامر، وأرته لذلك علامات، ومنها: جزر يحفر في السد؛ فلما تحقق لك كتمه عن قومه، وعزم على الانتقال من بلاده بمكيدة دبرها، وهو أنه قال لأصغر ولده: إذا تحدثت بحضرة الناس رد على حديثي؛ فأظهر الغضب عليك وألطمك، فافعل بي مثل ذلك، ثم عمل عمرو وليمه عظيمة، ودعا أهل مآرب؛ فلما اجتمعوا عنده تحدث، فجاراه ولده الحديث؛ ورد عليه، فغضب أبوه ولطمه، ففعل به الولد مثل ذلك. فأظهر عمرو أنه يريد قتله، فلم يزل الناس به حتى كفوه عنه؛ فقال: لا أقيم ببلد يلطم فيه وجهي أصغر ولدي -وقيل: إن الذي فعل به ذلك، يتيم كان في حجره -وعرض عمرو أمواله للبيع؛ فقال بعض أشراف قومه: اغتنموا غضبه عمرو واشتروا منه قبل أن يرضى، ففعلوا؛ فلما صار الثمن إليه أخبر الناس بشأن سيل العرم وخرج من بلاده1.
وذكر ابن هشام أنه انتقل في ولده، وولد ولده، قال: قالت الأسد -يعني الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر؛ فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك2 مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم سجالا؛ ففي ذلك قال عباس بن مرداس البيت الذي كتبناه، يعني قوله:
وعك بن عدنان الذين بغوا
…
بغسان حتى طردوا كل مطرد
ثم ارتحلوا عنه فتفرقوا في البلدان، فنزل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت ثم ارتحلوا عنه فتفرقوا في البلدان، فنزل جفنه بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرا، ونزلت أسد السراة، ونزلت أزد عمان3
…
انتهى.
وقال شارح القصيدة العبدونية: ولما خرج عمرو بن عامر بن اليمن، خرج لخروجه منها بشر كثير، فنزلوا أرض عك، فحاربتهم عك، ثم اصطلحوا، وتفرقوا فيها حتى مات عمرو بن عامر، فتفرقوا في البلاد
…
انتهى.
وإنما ذكرنا هذا الكلام لإفادته حال قبائل عمرو ببلاد عك، ما لم يفده كلام ابن هشام، وليس ما ذكره من إقامتهم ببلاد عك، حتى مات عمرو بمقتضى لطول إقامتهم يستلزم قصر المدة؛ لأنه يمكن أن يكون عمرو مات في زمن الارتياد، والله أعلم.
نعم في كلام الأزرقي ما يقتضي أنه لم يقهرهم أحد، وذلك يخالف ما ذكره ابن هشام والشارح، وقد رأيت أن أذكر كلامه لهذا المعنى، ولإفادته أمورا أخر، من حال
1 مروج الذهب 2/ 188، 189.
2 "عك" بلاد بين اليمن والحجاز.
3 سيرة ابن هشام 1/ 29.
قبائل عمرو بن عامر بمكة وغيرها، وخصوصا حال خزاعة، وما آل إليه أمرهم بمكة؛ وذلك في خبر طويل، وفيه أيضا شيء من حال جرهم.
وهذا الخبر رواه الأزرقي في تاريخه، عن الكلبي، عن أبي صالح، قال فيه: "فباع عمرو أمواله، وسار هو وقومه من بلد إلى بلد لا يطئون بلدا إلا غلبوا عليه وقهروا أهله، حتى يخرجوا منه -ولذلك حديث طويل اختصرناه- ثم قال: فلما قاربوا مكة ساروا ومعهم طريفة الكاهنة، فقالت لهم: سيروا فلن تجتمعوا أنتم ومن خلفتهم أبدا، فهم لكم أصل وأنتم لهم فرع، ثم قالت: مه مه وحق ما أقول، ما علمني ما أقول إلا الحكيم العليم المحكم، رب جميع الناس من عرب وعجم، فقالوا لها: ما شأنك يا طريفة؟ قالت: خذوا البعير الشدقم فخضبوه بالدم، تلون أرض جرهم جيران بيته المحرم، قال: فلما انتهوا إلى مكة، وأهلها جرهم قد قهروا الناس، وحازوا ولاية البيت على بين إسماعيل وغيرهم، أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر: يا قوم إنا قد خرجنا من بلادنا؛ فلم ننزل ببلد إلا فسح أهلها لنا، وتزحزحوا عنا، فنقيم معهم حتى نرسل روادنا فيروتادون لنا بلدا يحملنا، فافسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قد ما نستريح، ونرسل روادنا إلى الشام وإلى المشرق؛ فحيث ما بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرا، فأبت جرهم ذلك إباء شديدا، واستنكروا في أنفسهم، وقالوا: لا والله، ما نحب أن تنزلوا معنا فتضيقون علينا مرابعنا وموادرنا، فارحلوا عنا بحيث أحببتم، فلا حاجة لنا بجوارحكم؛ فأرسل إليه ثعلبة أنه لا بد لي من القمام بهذا البلد حولا حتى ترجع إلي رسلي التي أرسلت، فإن تركتموني نزلت طوعا وحمدتكم وواسيتكم في الماء والمرعى، وإن أبيتم أقمت على كرهكم، ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا، ولا تشربوا إلا نتنا.
قال أبو الوليد الأزرقي يعني: الكدر من الماء، وأنشد على ذلك بيتين:
فإن قتلتموني قاتلتكم
…
ثم إن ظهرت عليكم سبيت النسا
وقتلت الرجال ولم أترك منكم
…
أحدًا ينزل الحرم أبدا
فأبت جرهم أن تتركه طوعا، وتعبت لقتاله، فاقتتلوا ثلاثة أيام، وأفرغ عليهم الصبر ومنعوا النصر، ثم انهزمت جرهم، فلم ينفلت منهم إلا الشريد.
ثم قال: وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا، فأصابتهم الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحيى؛ فدعوا طريفة، فشكوا إليها الذي أصابتهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون، وهو مفرق ما بيننا. قالوا: فماذا تأمرين؟ قالت: عليكم الإجابة وعلى التبيين. وقالوا: فما تقولين؟ قالت: من كان منكم ذا هم بعيد، وحمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بقصر عمان المشيد؛ فكان أزد عمان. ثم قالت: من كان
منكم ذا جلد وقصر، وصبر على أزمات الدهر؛ فعليه بالأراك1 من بطن مر، فكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في المنجل2، المطعمات من الحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، ويلبس الديباج والحرير، فليلحق ببضرى والغوير3 يريد الثياب الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق، فليلحق بأهل4 العراق؛ فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة من غسان وآل محرق، حتى جاءهم روادهم، فافترقوا من مكة فرقتين فرقة توجهت إلى عمان وهم: أزد عمان، وسار ثعلبة بن عمرو بن عامر نحو الشام؛ فنزلت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وهم الأنصار بالمدينة، ومضت غسان فنزلوا الشام، وانخزعت خزاعة بمكة، فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمروبن عامر -وهو: لحي، فولي أمر مكة، وحجاجة الكعبة5
…
انتهى باختصار.
وقد بأن بما ذكرناه شيء من حال عمرو بن عامر وقومه، وفيه كفاية إن شاء الله تعالى.
1 الأراك: وادي الأراك متصل بغيفة، وقال نصر: أراك فرغ من دون نافل قرب مكة.
2 عند الأزرقي: "الوحل".
3 الغوير: وهي ماء لكلب بأرض السماوة وأرض السماوة المسماة ببادية الشام. "معجم البلدان 2/ 94".
4 عند الأزرقي: "أرض".
5 أخبار مكة 1/ 92-95.