الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفضله
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فنزل في علو المدينة في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم، فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فأخذ مربد كلثوم فعمله مسجدًا، وأسسه، وصلى فيه إلى بيت المقدس، وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع النهار، فركب ناقته القَصوَى، وحشد المسلمون، ولبسوا السلاح عن يمينه وشماله، وخلفه منهم الماشي والراكب، واعترضه الأنصار فما يمر بدار من دورهم إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة، فيقول لهم خيرا ويدعو لهم، ويقول عن ناقته:"إنها مأمورة؛ خلوا سبيلها"، فمر ببني سالم فأتى مسجدهم الذي في الوادي وادي رانوناء، وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك وكانوا مائة رجل، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها وسار حتى انتهت به إلى زقاق الحبشي ببني النجار، فبركت على باب دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه القرآن ويأتيه جبريل حتى ابتنى مسجده ومساكنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل في سفل بيت أبي أيوب وذكر أبو أيوب أنه فوق النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل ساهرا حتى أصبح، فأتاه فقال: يا رسول الله، إني أخشى أن أكون ظلمت نفسي أن أبيت فوق رأسك، فقال عليه السلام:"السفل أرفق بنا وبمن يغشانا"، فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى انتقل إلى العلو، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب سبعة أشهر، وكان بنو مالك بن النجار يحملون كل يوم قصاع الثريد إلى النبي يتناوبون ذلك بينهم إلا سعد بن عبادة فإنه ما كان يقطع جفنته في كل ليلة إلى دار أبي أيوب فيدعو النبي أصحابه فيأكلون، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ المربد من بني النجار كان فيه نخل وقبور المشركين وخِرب "خرائب" فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضاديته حجارة، قال: وكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم: "اللهم إن الخير خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة" وجعلوا ينقلون الصخر، وطفق النبي صلى الله عليه وسلم ينقل اللبن معهم في ثيابه ويقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر
…
هذا أبر ربنا وأطهر
وبنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده مربعا، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وطوله سبعون ذراعا أو يزيد، وجعل له ثلاث أبواب: بابا في مؤخره، وباب عاتكة وهو باب الرحمة والباب الذي
كان يدخل منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو باب عثمان، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه وفتح الباب الآخر حذاءه فكان المسجد له ثلاثة أبواب: باب خلفه وباب عن يمين المصلى وباب عن يساره، وجعلوا أساس المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن، وفي الصحيحين: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزه، وقالت عائشة: كان طول جدار المسجد بسطة وكان عرض الحائط لبنة لبنة ثم إن المسلمين كثروا، فبنوه لبنة ونصفا ثم قالوا: يا رسول الله لو أمرت فزيد فيه قال: "نعم" فأمر به فزيد فيه، وبني جداره لبنتين مختلفتين ثم اشتد عليهم الحر، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، قال:"نعم"، فأمر به فأقيم له سواري من جذوع النخل شقة ثم شقة ثم طرحت عليها العوارض والخصف والإذخر، وجعل وسطه رحبة فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف1 عليهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد يعمر فَطُين فقال لهم: "عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات والأمر أعجل من ذلك"، فلم يزل كذلك حتى قبض صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن عريش موسى كان إذا قام أصاب رأسه السقف، قال أهل السير: بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده مرتين؛ بناه حين قدم أقل من مائة في مائة فلما فتح الله عليه خيبر بناه، وزاد عليه في الدور مثله، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه متوجها إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم أمر بالتحول إلى الكعبة فأقام رهطا على زوايا المسجد؛ ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده: هكذا، فأماط كل جبل بينه وبينها فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل: هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها، وصارت قبلته إلى الميزاب، أخبرنا أبو القاسم المظفري والأرحبي في كتابيهما عن أبي علي الأصفهاني عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخلدي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن أبو زبالة، حدثني عبد العزيز بن أبي حازم، عن هشام بن سعد بن أبي هلال عن أبي هريرة قال: كانت قبلة النبي صلى الله عليه وسلم الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده موضع الأسطوانة المخلفة اليوم خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام حتى إذا كنت بين باب آل عثمان كانت قبلته في ذلك الموضع.
فضيلة المسجد والصلاة فيه:
أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن أحمد العطار، أخبرنا أبو سعد عمار بن طاهر الهمداني، حدثنا مكي بن عبد السلام الرميلي، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي، أخبرنا محمد بن محمد الواسطي، حدثنا عمر بن الفضل بن مهاجر، حدثنا الوليد بن
1 أي يقطر سقفه عليهم ماء.
حماد الرملي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"، أخرجه البخاري في صحيحه.
أنبأنا الذهلي، حدثنا أبو محمد بن عبدوس، حدثنا يعقوب بن حميد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من دخل مسجدي هذا يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره".
أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الهمداني في كتابه قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين محمد بن محمد الفقيه، قال: أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي، حدثنا عمرو بن الفضل بن مهاجر، حدثنا أبي، حدثنا الوليد، أخبرنا محمد بن النعمان، أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو عبد الملك عن عبد الواحد بن زيد عن شهر بن حوشب عن عبد الله قال: سكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط، وهو يصلي في كل جمعة في خمسة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ومسجد قباء، ويصلي كل ليلة جمعة في مسجد الطور ويأكل كل جمة أكلتين من كمأة وكرفس ويشرب مرة من زمزم ومرة من جب سليمان الذي ببيت المقدس ويغتسل من عين سلوان.
أنبأنا أبو الفرج بن الجوزي قال: أنبأنا عباد بن أحمد الحسن آباذي، قال: أخبرنا الحسن بن عمر الأصبهاني أنبأنا الحسن بن علي البغدادي حدثنا محمد بن علي الهمداين حدثنا محمد بن عمران حدثنا بحر بن نصير أخبرنا موسى بن عبيدة عن داود بن مدرك عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء أحق المساجد أن يزار وتركب إليه الرواحل، وصلاة في مسجدي هذا أفضل من الصلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام". وأخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"1.
أخبرنا عبد الوهاب بن علي أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي أنبأنا أبو محمد الصيرفي أنبأنا أبو بكر بن عبدان عن عبد الوهاب بن المهتدي حدثنا أيوب بن سليمان الصعدي حدثنا أبو اليمان حدثنا العطاف بن خالد عن عبد الله بن عثمان بن عمر بن الأرقم بن أبي الأرقم عن أبيه عن جده قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن
1 هو في مسلم في كتاب الحج الجزء الأول.
أخرج إلى بيت المقدس قال: "فلم؟ " قلت: للصلاة فيه، قال:"ههنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة".
أنبأنا أبو القاسم البقل عن أبي علي الأصبهاني عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخلدي قال: أنبأنا أبو زيد المخزومي أخبرنا الزبير بن بكار أخبرنا محمد بن الحسن حدثني إسماعيل بن المعلى عن يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة".
وحدثني محمد بن الحسن حدثني حاتم بن إسماعيل عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبينة عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذباب والضباع، فيمر الرجل ببابه فيريد أن يصلي فيه فما يقدر عليه".
ذكر حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:
لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بنى بيتين لزوجته عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل، وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر أو ساج، ولما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بنى لهن حجرًا وهي تسعة أبيات، وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم، قال أهل السير: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشامي ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد.
قال عمر بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر، وذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع. قال مالك بن أنس: وحدثني الثقة عندي أن الناس كانوا يدخلون حجرات أزواج النبي بعد وفاته يصلون فيها يوم الجمعة.
قال مالك: وكان المسجد يضيق عن أهله، وحجر النبي صلى الله عليه وسلم ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.
أخبرنا صالح بن أبي الحسن الخريمي أنبأنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري أخبرنا أبو الحسن بن معروف أخبرنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتا باللبن ولها حجر من جريد، ورأيت أم سلمة
وحجرتها من لبن، فسألت ابن ابنها، فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة، بنت أم سلمة بلبن حجرتها، فلما قدم نظر إلى اللبن فقال: ما هذا البناء، فقالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال: يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان، وقال عطاء الخراساني: أدركت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم.
وسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم لو تركوها على حالها ينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر، وقال عمران بن أبي أنس: لقد رأيتني في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه نفر من أصحابه أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو أمامة بن سهل وخارجة بن زيد يعني لما نقضت حجر أزواجه عليه السلام وهم يبكون حتى اخضلَّت لحاهم من الدمع، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تُركت حتى يقصر الناس من البنيان، ويروا ما رضي الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح الدنيا بيده.
ذكر بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها:
كان خلف بيت النبي صلى الله عليه وسلم عن يسار المصلى إلى الكعبة وكان فيه خوخة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل إلى المخرج اطلع منها يعلم خبرهم، وكان يأتي بابها كل صباح، فيأخذ بعضادتيه، ويقول:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وقال محمد بن قيس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر أتى فاطمة رضي الله عنها فدخل عليها وأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفر، فصنعت فاطمة مسكتين من ورِق "فضة" وقرطين وسترًا لباب بيتها؛ لقدوم أبيها وزوجها، فلما قدم عليه السلام ودخل عليها وقف أصحابه على الباب، فخرج وقد عُرِفَ الغضب في وجهه، ففطنت فاطمة أنما فعل ذلك لما رأى المسكتين والقلادتين والستر، فنزعت قرطيها وقلادتيها، ومسكتيها، ونزعت الستر، وأنفذت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت للرسول: قل له: تقرأ عليك ابنتك السلام، وتقول لك: اجعل هذا في سبيل الله، فلما أتاه قال:"فعله، فداها أبواها -ثلاث مرات- ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء"، ثم قام، فدخل عليها.
وقال محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر من فاطمة شقَّهُ لكل إنسان من أصحابه ذراعين ذراعين.
وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر قبل رأس فاطمة رضي الله عنها.
أنبأنا أبو القاسم التاجر عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخواص، قال: أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر بن محمد، كان يقول: قبر فاطمة رضي الله عنها في بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد؛ قلت: وبيتها اليوم حوله مقصورة وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي عليه السلام.
ذكر مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالليل:
روى عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرح حصيرا كل ليلة إذا انكف الناس، ورأيت عليا كرم الله وجهه ثَمَّ يصلي صلاة الليل، قال عيسى: وذلك موضع الأسطوان الذي على طريق النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي الدور.
وروي عن سعيد بن عبد الله بن فضيل، قال: مر بي محمد بن علي ابن الحنفية رضي الله عنه وأنا أصلي إليها، قال لي: أراك تلزم هذه الأسطوانة هل جاءك فيها أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها؛ كانت مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، قلت: وهذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة رضي الله عنها وفيها محراب إذا توجه الرجل كان يساره إلى باب عثمان رضي الله عنه.
ذكر الجذع الذي كان يخطب إليه النبي عليه السلام:
أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر الجنابذي، أخبرنا يحيى بن علي المديني، أخبرنا أبو الحسين بن النقور، أخبرنا أبو القاسم بن حنانة، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا هدية بن خالد، حدثنا حماد بن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب إلى جذع نخلة، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه فسكن، فقال عليه السلام:"لو لم أحتضنه لَحَنَّ إلى يوم القيامة".
أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أخبرنا جابر بن ياسين، أخبرنا المخلص، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا المبارك بن فضالة، حدثنا الحسن عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى خشبة مسنِدًا ظهره إليها، فلما كثر الناس قال:"ابنوا لي منبرًا" فبنوا له منبرا له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنَّت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنس: وأنا في المسجد، فسمعت الخشبة تحنُّ حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكنت، فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه، وفي لفظ: فنزل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه وسارَّه بشيء، وفي لفظ: فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت تنشق، وفي لفظ: فجعلت تئن أنين
الصبي حتى استقرت، وفي لفظ: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر، كل هذه الألفاظ في الصحيح، وقال أبو سعيد الخدري: لما سكن الجذع أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحفر له ويدفن.
وقال أبو بريدة الأسلمي: لما سكن الجذع قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه كما كنت، فتنبت لك عروقك، ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمر، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتأكل أولياء الله من ثمرك"، ثم أصغى إليه النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول، قال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله، وأكون في مكان لا أداس فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم، قد فعلت"؛ وعاد إلى المنبر ثم أقبل على الناس فقال: "خيرته كما سمعتم فاختار أن أغرسه في الجنة، اختار دار البقاء على دار الفناء".
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غار الجذع فذهب، وقال ابن أبي الزناد: لم يزل الجذع على حاله زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما هدم عثمان رضي الله عنه المسجد اختلف في الجذع فمنهم من قال: أخذه أبي بن كعب فكان عنده حتى أكلته الأرضة، ومنهم من قال: دفن في موضعه، وكان الجذع في موضع الأسطوانة المخلفة التي عن يمين محراب النبي صلى الله عليه وسلم عند الصندوق.
ذكر عمل المنبر:
وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي حازم أن نفرا جاءوا إلى سهل بن سعد قد تماروا في المنبر من أي عود هو، فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو ومن عمله؛ رأيت رسول الله أول يوم جلس عليه، فقلت له: فحدثنا، فقال: أرسل عليه السلام إلى امرأة: "انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها"، فعمل هذه الدرجات الثلاث ثم أمر بها فوضعت بهذا الموضع وهي من طرفاء الغابة
…
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؛ فإن لي غلاما نجارا؟ قال:"إن شئت" فعمل له المنبر. وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر أن النبي لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرا يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: "بلى" قال: فاتخذ له منبرا مرقاتين1، وروي عن أبي الزناد أنه عليه السلام كان يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد فقال:"إن القيام قد شق علي" وشكا ضعفا في رجليه، فقال له تميم الداري وكان من أهل فلسطين: يا رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام قال: فلما أجمع
1 المرقاة: الدرجة.
ذوو الرأي من أصحابه على اتخاذه قال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"فمره يعمل"، فأرسل إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضع المنبر اليوم ثم راح إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حنَّ الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة حتى ارتاع الناس، وقام بعضهم على رجليه، فأقبل عليه السلام حتى مسه بيده فسكن، فما سمع له صوت بعد ذلك، ثم رجع إلى المنبر فقام عليه، وقد روي أن اسم هذا الغلام الذي صنع المنبر مينا، وقال عمر بن عبد العزيز: عمله صباح غلام العباس بن عبد المطلب.
قال الواقدي1: وفي سنة ثمانٍ من الهجرة اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبره واتخذه درجتين ومقعدة.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "قوائم منبري رواتب في الجنة، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "منبري على حوضي"، قال الخطابي: معناه: من لزم عبادة الله عنده سقي من الحوض يوم القيامة، قلت: الذي أراه أن المعنى هذا المنبر بعينه يعيده الله على حاله فينصبه عند حوضه كما تعود الخلائق أجمعون.
أخبرنا أبو طاهر المبارك بن المبارك العطار قال: أخبرنا أبو الغنائم محمد بن محمد الخطيب، وأخبرنا هبة الله بن الحسن بن السبط قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله العكبري قالا: أخبرنا أبو طالب العادي أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين قال: حدثنا علي بن محمد العسكري حدثني دارم بن قبيصة حدثني نعيم بن سالم قال: سمعت أنس بن مالك قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "منبري على ترعة من ترع الجنة". قال أبو عبيدة القاسم بن سلام: في الترعة ثلاثة أقوال: أحدها أنها الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة، والثاني أنها الباب، والثالث أنها الدرجة.
وروى أبو داود في السنن من حديث جابر بن عبد الله قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له النار".
وقال ابن أبي الزناد: كان صلى الله عليه وسلم يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى فلما
1 هو أبو عبد الله الواقدي المتوفى عام 207هـ أو 216هـ. وله: تاريخ مكة، وفتوح الشام.
ولي عمر قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان فعل ذلك ست سنين ثم علي فجلس موضع النبي وكسى المنبر قبطية، فلما حج معاوية كساه قبطية وزاد فيه ست درجات، ثم كتب إلى مروان بن الحكم وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر على الأرض فدعا له النجارين وعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها، وصار المنبر تسع درجات بالمجلس لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده، قال: ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة قال لمالك بن أنس: إني أريد أن أعيد منبر النبي صلى الله عليه وسلم على حاله، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد سُمِّر إلى هذه العيدان وشد، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك فلا أرى أن تغيره.
قلت: وطول منبر النبي صلى الله عليه وسلم ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مستند النبي صلى الله عليه وسلم ذراع، وطول رمانتي المنبر الذي يمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يخطب شبر وإصبعان، وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر ثلاث أصابع، والدكة التي هو عليها طول شبر وعقد، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل له باب يفتح يوم الجمعة ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوبا من الحرير الأسود، وله علم ذهب يكسى به المنبر، ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستورا على أبواب الحرم.
ذكر الروضة:
أخبرنا أبو طاهر بن المقطوش قال: أخبرنا أبو الغنائم بن المهتدي وأخبرنا أبو القاسم الهمداني أخبرنا أبو المعز بن كادش قالا: أخبرنا محمد بن علي بن أبي الفتح الحربي قال: أخبرنا أبو الحفص بن شاهين حدثنا علي بن محمد العسكري حدثنا دارم بن قبيصة حدثني نعيم بن سالم بن قنبر قال: سمعت أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 1 أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وقال:"بيتي" مكان "حجرتي"، وقال الخطابي: معناه: من لزم طاعة الله تعالى في هذه البقعة آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة، والذي هو عندي أن يكون هذا الموضع بعينه روضة في الجنة يوم القيامة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصحابة تقتبس منه العلم في ذلك الموضع فهو مثل الروضة قلت: ويؤيد قولَه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال:"حلق الذكر".
1 ويروى بلفظ آخر، وهو:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". وهو حديث صحيح رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن علي وأبي هريرة.
ذكر سد الأبواب الشوارع في المسجد:
روى البخاري في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ أن يكون الله عز وجل خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا، فقال يا أبا بكر:"لا تبك؛ إن أَمَنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر"، قال أهل السير: كان بابه في غربي المسجد، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأبواب كلها فسُدَّتْ إلا باب علي رضي الله عنه.
ذكر تجميره:
ذكر أهل السير أن عمر بن الخطاب أتى بسفط من عود فلم يسع الناس فقال: أجمروا به المسجد؛ لينتفع به المسلمون فبقيت سنة في الخلفاء إلى اليوم يؤتى في كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة عند المنبر من خلفه إذا كان الإمام يخطب، قالوا: وأتي عمر بن الخطاب بمجمرة من فضة فيها تماثيل من الشام فكان يجمر بها المسجد ثم توضع بين يدي عمر فلما قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد واليا على المدينة غيرها وجعلها ساذجا وهي في يومنا هذا منقوشة.
ذكر تخليقه:
روي أن عثمان بن مظعون تفل في المسجد فأصبح مكتبئا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا. فقال: لا شيء؛ إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم خلقتها فكان أول من خلق1 القبلة، وقال جابر بن عبد الله: كان أول من خلق المسجد عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم لما حجت الخيزران أم موسى وهارون في سنة سبعين ومائة وأمرت بالمسجد أن يخلق فتولى تخليقه جاريتها مؤنسة فخلقته جميعه حتى الحجرة الشريفة جميعها.
منع آكل الثوم من دخوله:
روى البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من أكل ثوما أو بصلا فليعتزل مسجدنا"، وفي لفظ آخر:"فلا يقربن مسجدنا".
1 أي طيبها بالخلوق وهو ضرب من الطيب.
النهي عن رفع الصوت فيه:
روى البخاري في الصحيح أن السائب بن يزيد قال: كنت نائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما، فقال: ممن أنتما أو من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
جواز النوم فيه:
روى البخاري في الصحيح أن عبد الله بن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له، وروى أيضا من حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يجد عليا رضي الله عنه في البيت فقال: "أين ابن عمك؟ "، فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل1 عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان:"انظر أين هو فأخبرنا"، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداءه عن شقه وأصابه تراب فقال له:"قم أبا تراب".
جواز الصلاة على الجنائز فيه:
روى أبو داود في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضا في المسجد سهيل وأخيه، وروي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه".
النهي عن إخراج الحصى منه:
روى أبو داود في السنن من حديث أبي هريرة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم "أن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد".
ذكر مواضع تأذين بلال:
روى ابن إسحاق أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن، وذكر أهل السير أن بلالًا كان يؤذن على أسطوانة في قبلة المسجد يرقى إليها بأقتاب وهي قائمة إلى اليوم في منزل عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروى نافع عن عمر قال: كان بلال يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر التي تلي المسجد
1 من القيلولة وهي النوم وقت الظهيرة.
قال: فكان يرقى على أقتاب فيه، وكانت خارجة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تكن فيه وليست فيه اليوم.
ذكر أهل الصفة رضي الله عنهم:
روى البخاري في الصحيح أن أصحاب الصفة كانوا فقراء، وروي أيضا من حديث أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء؛ إما إزار وإما كساء قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وروي أيضا من حديث أبي هريرة أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال:"أبا هر". قلت: لبيك يا رسول الله قال: "الحق" ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال:"من أين هذا اللبن؟ " قالوا: هداه لك فلان أو فلانة قال: "أبا هر" قلت: لبيك رسول الله، قال:"الحق إلى أهل الصفة فادعهم إلي" وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولا يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بدٌّ، فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت قال:"أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "خذ فأعطهم" فأخذت القدح فجعلت أعطيه فيشرب حتى يروى حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم وأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، وقال:"يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله قال: "اقعد فاشرب" فقعدت فشربت فقال: "اشرب" فشربت فما زال يقول: "اشرب" حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا قال: "فأرني" فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة، وروى أهل السير أن محمد بن مسلمة رأى أضيافا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال: ألا تفرق هذه الأضياف في دور الأنصار ونجعل لك من كل حائط قنوا؛ ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى" فلما جذ ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون ذلك، وكان معاذ بن جبل يقوم عليه وكان يجعل عليه حبلا
بين الساريتين ثم يعلق الأقناء على الحبل، ويجمع العشرين أو أكثر، فيهش عليهم بعصاه من الأقناء فيأكلون حتى يشبعوا ثم ينصرفون، ويأتي غيرهم فيفعل لهم مثل ذلك فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك.
ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة:
روى أهل السير عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد أحدا يذكر لنا منه شيئا حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة أنه جلس إلى جنبه أنس بن مالك فقال: تدري لم صنع هذا العود؟ قلت: لا أدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع عليه يمينه ثم يلتفت إلينا، فيقول:"استووا وعدلوا صفوفكم"، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سرق العود، فطلبه أبو بكر فلم يجده حتى وجده عمر عند رجل من الأنصار بقباء، وقد دفن في الأرض فأكلته الأرضة فأخذ له عودًا فشقه، ثم أدخله فيه ثم شعبه ورده إلى الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة، وهو الذي في المحراب اليوم باقٍ، وقال مسلم بن حباب: كان ذلك العود من طرفاء الغابة.
ذكر مواضع اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم:
روى أهل السير أن ابن عمر قال: كان النبي إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير بأسطوانة التوبة.
ذكر أسطوانة التوبة:
قال ابن إسحاق: لما حاصر رسول الله بني قريظة بعثوا إليه أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف -وكانوا حلفاء الأوس- نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم فقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدًا، فلا تراني ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا، فلما بلغ رسول الله خبره وأبطأ عليه وكان قد استبطأه قال:"أما لو جاءني لاستغفرت الله له، فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه"، فأنزل الله توبته على رسول الله وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك قال: "تيب على أبي لبابة"، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال: "بلى إن شئت"، قال: فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب
الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر؛ فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس؛ ليلقوه قال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه، وأنزل الله فيه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] قال إبراهيم بن جعفر: السارية التي ارتبط إليها ثمامة بن أثال الحنيفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة، وروى خالد بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ربوص، والربوص: الثقيلة، بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع وكاد بصره يذهب وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، وإذا أراد أن يذهب لحاجته حتى يفرغ ثم تأتي به فترده في الرباط كما كان، وكان ارتباطه ذلك إلى جذع في موضع الأسطوانة التي يقال لها أسطوانة التوبة، وروي عن محمد بن كعب القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أكثر نوافله إلى أسطوانة التوبة، قلت: وهذه الأسطوانة الثانية عن يمين حجرة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي إليها في الصف الأول خلف أمام الروضة وهي معروفة.
ذكر أسطوانة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي إليها:
روى الزبير بن حبيب أن الأسطوانة التي بعد أسطوانة التوبة إلى الروضة وهي الثالثة من المنبر ومن القبر ومن رحبة المسجد ومن القبلة وهي متوسطة في الروضة، صلى النبي صلى الله عليه وسلم إليها المكتوبة بضع عشرة ثم تقدم إلى مصلاه اليوم، وكان يجعلها خلف ظهره، وأن أبا بكر وعمر والزبير وابنه عبد الله وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها؛ وكان يقال لها مجلس المهاجرين، وقالت عائشة رضي الله عنها فيها: لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالاسم، فسألوها عنها، فأبت أن تسميها، فأصغى إليها ابن الزبير فسارَّته بشيء، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوانة عائشة، قال: فظن من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة وسميت أسطوانة عائشة، وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر رضي الله عنهما، ويقال: إن الدعاء عندها مستجاب.
ذكر أسطوانة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يجلس إليها إذا جاءه الوفود:
روى ابن أبي فديك عن غير واحد من مشايخه أن الأسطوانة الثالثة من قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي تلي الرحبة وهي خلف أسطوانة علي بن أبي طالب التي خلف أسطوانة التوبة كان النبي يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته، قلت: إذا عددت الأسطوان الذي فيه مقام جبريل كانت الثالثة.
ذكر أسطوانة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وروى أهل السير أن الأسطوانة التي خلف أسطوانة التوبة هي مصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين المسجد:
روى البخاري في الصحيح من حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة، قال: فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها، وروي أيضا من حديث أنس قال: لقد أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب. قلت: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الصلاة عندها؛ لأنها لا تخلو من أن كبار الصحابة صلوا إليها.
ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد:
عن ابن عمر قال: زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه، وروى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر أن المسجد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، وروى أهل السير أن عمر رضي الله عنه قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني أزيد في المسجد" ما زدت فيه، أنبأنا أبو القاسم الحذاء عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الأصبهاني عن أبي جعفر الخلدي، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة، حدثني محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن مصعب بن ثابت عن مسلم بن خباب أن النبي قال يوما وهو في مصلاه: لو زدنا في مسجدنا وأشار بيده نحو القبلة، فلما توفي عليه السلام وولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله قال: "لو زدنا في مسجدنا" وأشار بيده نحو القبلة فأجلسوا رجلًا في موضع مصلى النبي، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأوا أن النبي رفع يده ثم مد، ووضعوا طرفه بيد الرجل ثم مدوه فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه بما أشار رسول الله من الزيادة فقدم عمر القبلة فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة.
قال أهل السيرة: كان بين المنبر وبين الجدار الذي كان على عهد رسول الله بقدر ما يمر شاة، فأخذ عمر إلى موضع المقصورة اليوم، وزاده فيه، وزاد في يمين القبلة، فصار طوله أربعين ومائة ذراع، وسقفه جريد ذراعان، وبنى فوق ظهر المسجد سترة ثلاثة أذرع
وبنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة، وجعل له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة وبابين عن يسارها ولم يغير باب عاتكة ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي، وفتح بابا عند دار مروان بن الحكم، وفتح بابين في مؤخر المسجد، وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي". وروى غيره مرفوعا أنه قال: "هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ صنعاء كان مسجدي".
وكان أبو هريرة يقول: ظهر المسجد كقعره، وأدخل عمر في هذه الزيادة دارًا للعباس بن عبد المطلب وهبها للمسلمين، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد هدم دار كانت للعباس بن عبد المطلب؛ ليزيدها في المسجد وقال: ذلك أرفق بالمسلمين، فقال له العباس: حكِّم بيني وبينك في ذلك، فجعلا بينهما أبي بن كعب فقال: إني أحدثكما حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن داود النبي أراد بنيان بيت المقدس وكانت أرضه لرجل فاشتراها سليمان منه فلما باعه الرجل إياه قال الرجل: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ قال: بل ما أخذت، قال: فإني لا أجيز، فناقضه البيع، ثم اشتراها ثانية فقال له: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ فقال: بل ما أخذت منك قال: إني لا أجيز فناقضه البيع، ثم اشتراها الثالثة فصنع مثل ذلك، فقال له سليمان: أشتريها منك بحكمك على أن لا تسألني، قال: فاشتراها بحكمه فاحتكم شيئا كثيرا اثني عشر قنطارا ذهبا، فاستعظمه سليمان، فأوحى الله إليه: إن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى، وإن كنت تعطيه من عندك فذلك لك، وعم النبي العباس إن شاء باعها وإن شاء تركها، قال العباس: أما إذا قضيت فيَّ فقد جعلتها للمسلمين.
وكانت للعباس دار إلى جنب المسجد فقال له عمر: بعنيها فقال له العباس: لا أبيعك، فقال عمر: إذًا آخذها، فقال العباس: لا تأخذها، فقال: اجعل بيني وبينك من شئت، فجعلا بينهما أبي بن كعب فأخبروه الخبر، فقال: أوحى الله إلى سليمان أن ابْنِ بيتَ المقدس وكان بيت لعجوز فأراد أخذه منها فأبت أن تبيعه إياه، فعزم على أخذه منها وإدخاله في المسجد، فأوحى الله إليه أن بيتي أحق المواضع أن لا يدخل فيه شيء من الظلم، فكف عن أخذه فقال عمر: وأنا أشهدكم أني قد كففت عن دار العباس، فقال له العباس: أما إن كان هذا وحكم لي عليك فإني أشهدكم أني قد جعلتها صدقة على المسلمين، فهدمها عمر، وأدخلها في المسجد، واشترى نصف موضع كان خطه النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة دارا بمائة ألف فزاده في المسجد. أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن الحسن بن أحمد عن أحمد بن عبد الله عن جعفر محمد بن الحسن حدثني عبد العزيز بن أبي حبارة عن الضحاك بن عثمان عن أبي النضر عن
بشر بن سعيد أو سليمان بن يسار الضحاك أنه حدثه أن المسجد كان يرش زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر وعامة زمان عمر، وكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقا حتى قدم ابن مسعود الثقفي، وقال لعمر: أليس قربكم وادٍ؟ قال: بلى قال: فمر بحصباء تطرح فيه فهو أكف للمخاط والنخامة، فأمر بها عمر، وذكر محمد بن سعد أن عمر بن الخطاب ألقى الحصا في مسجد رسول الله وكان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم فأمر بالحصباء فجيء به من العقيق فبسط في المسجد.
ذكر زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه فيه:
روى البخاري في الصحيح أن عثمان زاد في المسجد زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وذكر أهل السير أن عثمان رضي الله عنه لما ولي الخلافة سنة أربع وعشرين سأله الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فاجتمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزيد فيه، وأشهد أني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من بنى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة"، وقدر أن لي فيه سلفا والإمام عمر بن الخطاب زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدمه وبنائه وتوسعته، فحسن الناس ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلًا يصوم النهار ويقوم الليل، وكان لا يخرج من المسجد فهدمه، وأمر بالقصة المنخولة وكان عمله في أول ربيع الأول سنة تسع وعشرين، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين، فكان عمله عشرة أشهر، وزاد من القبلة إلى موضع الجدار اليوم، وزاد فيه من المغرب أسطوانًا بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا ولم يزد فيه من المشرق شيئًا، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وخشب النخل والجريد وبيضه بالقصة وقدر زيد بن ثابت أساطنيه فجعلها على قدر النخل وجعل فيه طاقات مما يلي المشرق والمغرب وبنى المقصورة بلبن وجعل فيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام وكان يصلي فيها خوفا من الذي أصاب عمر وكانت صغيرة وجعل أعمدة المسجد حجارة منقوشة فيها أعمدة الحديد وفيها الرصاص وسقفه بالساج، فجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باب عاتكة، والباب الذي يليه، وباب مروان، والباب الذي يقال له باب النبي صلى الله عليه وسلم وبابين في مؤخره.
وقال عبد الرحمن بن سفينة: رأيت القصة تحمل إلى عثمان وهو يبني المسجد من بطن نخل، ورأيته يقوم على رجليه، والعمال يعملون فيه حتى تأتي الصلاة فيصلي بهم ثم
ربما نام في المسجد واشترى من مروان بن الحكم داره وكان بعضها لآل النجار وبعضها دار العباس لها باب إلى المسجد وهي اليوم باقية على حالها وفيها تسكن الأمراء.
ذكر زيادة الوليد بن عبد الملك فيه 1:
ذكر أهل السير أن الوليد بن عبد الملك لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه، فاشترى ما حوله من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبي أن يبيع عليه ووضع الثمن له فلما صار إلى القبلة قال له عبد الله بن عبد الله بن عمر: لسنا نبيع هذا هو من حق حفصة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكنها، فقال له عمر: ما أنا بتارككم أنا أدخلها المسجد، فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق، وما بقي من الدار فهو لكم، ففعلوا، فأخرج بابهم في المسجد وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة، وأعطاهم دار الرقيق وقدم الجدار في موضع اليوم، وزاد من المشرق ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد ومعه عشر أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام ومد في المغرب أسطوانتين وأدخل في حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي كان يقال لها القراين اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
…
بقيع المصلى أم كعمد القراين
ودار عبد الله بن مسعود، وأدخل فيه من المغرب دار طلحة بن عبيد الله ودار أبي سبرة بن أبي رهم ودار عمار بن ياسر وبعض دار العباس بن عبد المطلب وأعلى ما أدخل منها، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف أعظم من غيرها من سواري المسجد قالوا: وبعث الوليد إلى ملك الروم: إنا نريد أن نعمل مسجد نبينا الأعظم، فأعنا فيه بعمال وفسيفساء، فبعث إليه بأربعين من الروم وبأربعين من القبط وبأربعين ألف مثقال عونا له وبأحمال من فسيفساء، وبعث هذه السلاسل التي فيها القناديل، فهدم عمر المسجد، وأخمر النورة التي يعمل بها الفسيفساء، وحملوا القصة من النخل منخولة وعمل الأساس من الحجارة والجدار بالحجارة المنقوشة المطابقة والقصة وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، وجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمه مائتي ذراع وفي مؤخره مائة وثمانين وعمله بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقفه بالساج، وموهه بالذهب، وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأدخلها فيه، وأدخل القبر فيه أيضا، ونقل لبن حجرات النبي صلى الله عليه وسلم ولبن المسجد فبنى به داره بالحرة وهو فيها اليوم له بياض على اللبن.
1 تولى الوليد الخلافة بعد موت والده عبد الملك وذلك من عام 86هـ- حتى عام 96هـ.
وقال بعض الذين عملوا الفسيفساء: إنا عملناه على ما وجدناه من صور شجر الجنة وقصورها، وكان عمر إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء وأحسن عملها نقده ثلاثين درهما، قالوا: وكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة إلى القبر أربع عشرة أسطوانة منها عشرة في الرحبة وأربع في السقائف الأُوَل التي كانت قبل، وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين، وأدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وبقي ثلاث أساطين في السقايف وجعل للمسجد أربع منارات في كل زاوية منارة، وكانت المنارة الرابعة مطلَّة على دار مروان، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن فأطل عليه، فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد.
قالوا: وأمر عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد بأسفل الأساطين، فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها، وقدر مجلس اثنين يستندان إليها، وقالوا: ولما صار عمر إلى جدار القبلة دعا مشايخه من أهل المدينة من قريش والأنصار والموالي والعرب، فقال لهم: تعالوا احضروا بنيان قبلتكم لا تقولوا عمر غير قبلتنا فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع حجرا، قالوا: ومات عثمان بن عفان رضي الله عنه، وليس للمسجد شرافات ولا محراب، فأول من أحدث الشرافات والمحراب عمر بن عبد العزيز، قال: وكتب عمر بن عبد العزيز الكتاب الذي في القبلة عن يمين الداخل من الباب الذي يلي دار مروان بن الحكم حتى انتهى إلى باب علي رضي الله عنه كتبه مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه سعد، والكتاب "أم القرآن" ومن أول سورة:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} إلى خاتمة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، وعمل الميازيب من رصاص ولم يبقَ منها إلا ميزابان: أحدهما في موضع الجنائز، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق يقال له باب عاتكة، وعمل المقصورة من ساج، وهدم بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله في المسجد، وكان ذلك في سنة إحدى وتسعين ومكث في بنيانه ثلاث سنين.
وكتب عمر في القبلة في صحن المسجد في الفسيفساء ما نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أمر عبد الله أمير المؤمنين الوليد بتقوى الله وطاعته والعمل بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبصلة الرحم وتعظيم ما صغر الجبابرة من حق الله سبحانه وتصغير ما عظموا من الباطل وإحياء ما أماتوا من الحقوق وإماتة ما أحيوا من العدوان والجور وأن يطاع الله سبحانه، ويعصى العباد في طاعة الله فالطاعة لله سبحانه ولأهل طاعته لا طاعة لأحد في معصية الله يدعو إلى كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى العدل في أحكام المسلمين والقسم بالسوية في فيئهم ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله سبحانه بها لذوي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل".
قالوا: ولما قدم الوليد بن عبد الملك حاجًّا بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد جعل يطوف فيه وينظر إلى بنائه فقال لعمر حين رأى سقف المقصورة: ألا عملت السقف كله مثل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إذًا تعظم النفقة جدًّا؛ أتدري كم أنفقت على عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال: وكم؟ قال: خمسة وأربعين ألف دينار، وقال بعضهم: أربعين ألف دينار، وقال: والله لكأنك أنفقتها من مالك، وقيل: كانت النفقة أربعين ألف مثقال.
قالوا: وكان معه أبان بن عثمان بن عفان فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان فقال: أين بنياننا من بنيانكم، فقال أبان: بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس، قالوا: وبينا أولئك القوم يعملون في المسجد إذ خلا لهم فقال بعضهم لأبولن على قبر نبيهم فتهيأ لذلك ونهاه أصحابه فلما هم أن يعمل اقتلع وألقي على رأسه فانتثر دماغه فأسلم بعض أولئك النصارى وعمل أحدهم على رأس خمس طاقات من جدار القبلة، وفي صحن المسجد صورة خنزير، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز فأمر به فضربت عنقه، قالوا: وكان عمل القبلة مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من السقف من جوانبه ومؤخره، قال أهل السير: ولما فرغ عمر من بنيان المسجد أراد أن يجعل في أبوابه في كل باب سلسلة تمنع الدواب من الدخول فعمل واحدة وجعلها في باب مروان ثم بدا له عن البواقي، قلت: فهي باقية إلى اليوم، وأقام الحرس فيه يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز فيه، ومن أن يخترقوه، والسنة في الجنائز باقية إلى هذا إلا في حق العلويين ومن أراد من الأمراء وغيرهم من الأعيان، والباقون يصلى عليهم خلف الحائط الشرقي من المسجد إذا وقف الإمام على الجنازة كان النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه.
ذكر زيادة المهدي فيه:
قال أهل السير: لم يزل المسجد على ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولي أبو جعفر المنصور1 فهم بالزيادة وشاور فيها وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز، ويقول: إن زيد في المسجد من الناحية الشرقية توسط قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فكتب إليه أبو جعفر: إني قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه، قالوا: وتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا. ثم حج المهدي2 ابن أبي جعفر سنة إحدى وستين ومائة، فقدم من الحج إلى المدينة واستعمل عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس سنة إحدى وستين ومائة، وأمره
1 ولي أبو جعفر عرش الخلافة العباسية عام 136هـ، وظل خليفة حتى توفي عام 158هـ.
2 ظل في الخلافة من عام 158هـ، حتى عام 169هـ.
بالزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان، وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام، فزيد في المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم، وكانت زيادته مائة ذراع ولم يزد فيه من الشرق ولا الغرب ولا القبلة شيئا، ثم خفض المقصورة وكانت مرتفعة ذراعين من الأرض، فوضعها في الأرض على حالها اليوم، وسد على آل عمر خوختهم التي في دار حفصة حتى كثر الكلام فيها، ثم صالحهم على أن خفض المقصورة وزاد في المسجد لتلك الخوخة ثلاث درجات، وحفرت الخوخة حتى صارت تحت أرض المقصورة وجعل عليها في جدار القبلة شباك فهو عليها اليوم، وكان المهدي قبل بنائه المسجد قد أمر به فقدر ما حوله من الدور، فابتيع، وكان مما أدخل فيه من الدور دار عبد الرحمن بن عوف التي يقال لها دار مليكة، ودار شرحبيل ابن حسنة، وبقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء، ودار المسور بن مخرمة الزهري، وفرغ من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة. قالوا: وكتب على أثر الكتاب الذي كتبه عمر بن عبد العزيز في صحن المسجد ما نسخته: "أمر عبد الله المهدي أمير المؤمنين أكرمه الله وأعز نصره بالزيادة في مسجد رسوله الله صلى الله عليه وسلم وإحكام عمله ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة أحسن الله ثوابه بأحسن الثواب والتوسعة لمن صلى فيه من أهله وأبنائه من جميع المسلمين، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين فيما نوى من حسنته في ذلك وأحسن ثوابه، بسم الله الرحمن الرحيم" ثم كتب "أم القرآن" كلها، ثم كتب على أثرها:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18]
…
الآية كلها ثم كتب: "وكان مبتدأ ما أمر به عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين -أكرمه الله- من الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة اثنتين وستين ومائة، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائة، فأمير المؤمنين -أصلحه الله- يحمد الله على ما أذن له واختصه به من عمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسعته حمدا كثيرا، والحمد لله رب العالمين على كل حال".
قالوا: وعرض منقبة جداري المسجد مما يلي المغرب ينقصان شيئا، وعرض منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربع أصابع، وإنما زيد فيها؛ لأنها من ناحية السيل، وفي صحن المسجد أربع وستون بلاعة لماء المطر، عليها أرحا، ولها صمائم من حجارة يدخل الماء من أصعابها، وكان أبو البحتري وهب بن وهب القاضي على المدينة واليًا لهارون أمير المؤمنين، فكشف سقف المسجد في سنة ثلاث وسبعين ومائة، فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأدخل مكانها خشبا صحاحا، وكان ماء المطر يغشى قبلة المسجد فجعل التي في شرقيه تلي القبر فمنع الماء الصحن ومنع حصباء القبلة أن يصل إلى الصحن.
ذكر الستارة التي كانت على صحن المسجد:
قال أهل السير: لما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة أمر بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رءوس كقريات الفساطيط وجعلت في الطيقان، فكانت الريح تدخل فيها فلا يزال العمود يسقط على الإنسان فغيرها وأمر بستور هي أكثف من تلك الستور وبحبال، فأتي بها من جدة من حبال السفن المتينة، وجعلت على تشبيك حباله اليوم، وكانت تجعل على الناس كل جمعة فلم يزل كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر بها فقطعت ذرائع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمن هارون أمير المؤمنين1 فأحدث هذه الأستار، ولم تكن في زمن بني أمية.
أنبأنا ذاكر بن كامل عن الحسن بن أحمد بن محمد الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي جعفر الخلدي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني محمد بن الحسن بن زبالة قال: حدثني حسين بن مصعب قال: أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل أن تصل إلى مكة فتنشر على الرضراض في المسجد ثم يخرج بها إلى مكة وذلك في سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين ومائة.
ذكر المصاحف التي كانت بالمسجد:
قال مالك بن أنس: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير وكان في صندوق عن يمين الأسطوان التي عملت على مقام النبي صلى الله عليه وسلم وكان يفتح يوم الجمعة والخميس فيقرأ فيه إذا صليت الصبح، وبعث المهدي بمصاحف لها أثمان، فجعلت في صندوق عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت تقرأ عليها، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه فجعل عند الأسطوان التي عن يمين المنبر، وإلى الأسطوان الأخرى التي تليها صندوق آخر فيه مصحف بعث به المهدي؛ ليقرأ فيها الناس على طبقة منبر صحيح، وفي القبلة صندوق لاصق بالمقصورة فيه مصاحف يقرأ الناس فيها تصدقت بها حسنة أم ولد المهدي، ووضع رجل من أهل البصرة يقال له أبو يحيى صندوقا وجمع فيه مصاحف يتعلم فيها الأميون والأعاجم، قلت: وأكثر هذه المصاحف المذكورة دثرت على طول الزمان وتفرقت أوراقها فهو مجموع في يومنا هذا في خلال المقصورة إلى جانب باب مروان، وفي الحرم عدة مصاحف موقوفة، بخطوط ملاح مخزونة في خزانتين من ساج بين يدي المقصورة خلف مقام النبي صلى الله عليه وسلم وهناك
1 تولى الخلافة من عام 170هـ، حتى عام 193هـ.
كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه أنفذ به من مصر وهو عند الأسطوانة التي في صف مقام النبي صلى الله عليه وسلم محاذي الحجرة الشريفة، وإلى جانبه مصحفان على كرسي يقرأ الناس فيهما وليس في المسجد ظاهر سواهما.
ذكر السقايات التي كانت في المسجد:
قال محمد بن الحسن بن زبالة1: كان في صحن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة سقاية إلى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة تسع وتسعين ومائة: منها ثلاثة عشر أحدثتها خالصة وهي أول من أحدث ذلك، ومنها ثلاث سقايات ليزيد البربري مولى أمير المؤمنين، ومنها سقاية لأبي البحتري وهب بن وهب، وسقاية لسحر أم ولد هارون أمير المؤمنين، وسقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر، قلت: وأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه، وفيه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب ينزل الناس إليها بدرج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها يأتي من العين ولا يكون الماء فيها إلا في أيام الموسم إذا جاء الحاج وبقية السنة تكون فارغة عملها بعض أمراء الشام واسمه شامة، وعملت الجهمة أم الخليفة الناصر لدين الله وفقها الله توفيقا سديدا في مؤخر المسجد سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئرا، وفتحت بابا إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام وهي تفتح في أيام الموسم.
ذكر ذرع المسجد اليوم وعدد أساطينه وطبقاته وأبوابه وذكر تجديد عمارته وما وما يتعلق به من الرسوم:
اعلم أن طول المسجد اليوم من قبلته إلى الشام مائتا ذراع وأربع وخمسون ذراعا وأربعة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه مائة ذراع وسبعون ذراعا شافة، وطول رحبته من القبلة إلى الشام مائة ذراع وتسع وخمسون ذراعا وثلاثة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه سبع وتسعون ذراعا راجحة، وطول المسجد في السماء خمس وعشرون ذراعا، هذا ما ذرعته أنا بخيط، وذكر محمد بن زبالة أن طول مناراته خمس وخمسون ذراعا، وعرضهن ثمانية أذرع في ثمانية أذرع، وأما طيقانه ففي القبلة إحدى عشرة طاقة، وفي الشام مثلها، وفي المشرق والمغرب تسع عشرة طاقة وبين كل طاقتين أسطوان، ورءوس الطاقات مسددة بشبابيك من خشب، وأما عدد أساطينه غير التي في الطيقان، ففي القبلة ثمانٍ وستون أسطوانة منها في القبر صلى الله على ساكنه وسلم أربع، وفي الشام مثله، وفي الشرق أربعون منها اثنتان في الحجرة وفي المغرب ستون أسطوانا وبين كل أسطوان وأسطوان
1 لابن زبالة: كتاب في تاريخ المدينة والمسجد النبوي الشريف هو أصل لكل من كتب حول هذا وقد ألفه عام 199هـ.
تسعة أذرع وأما أبوابه فكانت بعد زيادة المهدي فيه: في المشرق باب علي رضي الله عنه، ثم باب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم باب عثمان رضي الله عنه، ثم باب مستقبل دار ريطة، وباب مستقبل دار أسماء بنت الحسن، ثم باب مستقبل دار خالد بن الوليد، ثم باب مستقبل زقاق المصانع، ثم باب مستقبل ابنا الصوافي فذلك ثمانية أبواب: منها باقٍ في يومنا هذا: باب عثمان والباب المقابل لدار ريطة وفي الشام أربعة أبواب: الأول حذاء دار شرحبيل بن حسنة، والرابع حذاء بقية دار عبد الله بن مسعود، وليس منها شيء مفتوح في زماننا هذا، وفي المغرب سبعة أبواب: الخامس منها باب عاتكة والسادس باب زياد والسابع باب مروان، وليس منها شيء مفتوح في يومنا هذا إلا باب عاتكة، ويعرف الآن بباب الرحمة وهو الذي يلي باب الإمارة وفي دار مروان باب إلى المسجد باقٍ على حاله حتى الآن، روى إبراهيم بن محمد عن ربيعة بن عثمان قال: لم يبقَ من الأبواب التي كان رسول الله يدخل منها إلا باب عثمان، واعلم أن حدود مسجد رسول الله من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين، ومن الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد، فهذا طوله وأما عرضه من المشرق إلى المغرب فهو من حجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسطوان الذي بعد المنبر وهو آخر البلاد. ولم تزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء على المدينة، ويمدونهم بالأموال؛ لتجديد ما يتهدم من المسجد ولم يزل ذلك متصلًا إلى أيام الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين1؛ فإنه ينفذ في كل سنة من الذهب العين الأمامي ألف دينار لأجل عمارة المسجد، وينفذ عدة من النجارين والبنائين والنقاشين والجصاصين والحراقين والحدادين والدوزجاربة والحمالين، ويكون مادتهم ما يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف المذكورة، وينفذ من الحديد والرصاص والأصباغ والحبال والآلات شيئا كثيرا، ولا تزال العمارة متصلة في المسجد ليلًا ونهارًا حتى إنه ليس به إصبع إلا عامرا وينفذ من القناديل والشيرج2 والشمع عدة أحمال لأجل المسجد، وينفذ من الند والغالية المركبة والعود لأجل تجمير المسجد شيئا كثيرا، وأما الرسوم التي تصل من الديوان لغير العمارة فأربعة آلاف دينار من العين الأمامية للصدقات على أهل المدينة من العلويين وغيرهم، وينفذ من الثياب القطن ألف وخمسمائة ذراع لأجل أكفان من يموت من الفقراء الغرباء، هذا غير ما ينفذ للخطيب وإمام الروضة وللمؤذنين وخدام المسجد، وذكر يوسف بن مسلم أن زيت قناديل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل من الشام حتى انقطع في ولاية جعفر بن سليمان الأخيرة على المدينة، فجعله على سوق المدينة، فلما ولي المدينة داود بن عيسى سنة سبع أو ثمانٍ وتسعين ومائة أخرجه من بيت المال، قلت: وفي يومنا هذا يصل الزيت من مصر من وقف هناك، ومقداره سبعة وعشرون قنطارا بالمصري والقنطار مائة وثلاثون رطلًا، ويصل معه مائة وستون شمعة بيضاء كبار وصغار وعلبة فيها مائة مثقال ند.
1 هو الناصر ابن المستضيء تولى الخلافة عام 576هـ حتى عام 622هـ.
2 هو نوع من أنواع الزيت ويسمى باللغة المصرية العامية "السيرج".