الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس والثلاثون:
ذكر شيء من خبر حلف الفضول:
روينا في "السيرة لابن إسحاق تهذيب ابن هشام"، وروايته عن زياد البكائي شيئا من خبره، ونص ذلك على ما في السيرة، قال ابن هشام:"وأما حلف الفضول، فحدثني زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف الفضول؛ فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي لشرفه وسنة؛ فكان حلفهم عنده: بنو هاشم وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلم حتى ترد عنه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول".
قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن زيد، عن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" 1
…
انتهى.
وقد ذكر الزبير بن بكار أشياء من خبر حلف الفضول، وأفاد في ذلك غير ما سبق؛ لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبدية، قال: كان سبب حلف الفضول أن رجلا من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة، فاشتراها رجل من بني
1 سيرة ابن هشام 1/ 123، إتحاف الورى 1/ 121.
سهم؛ فلوى الرجل بحقه؛ فسأله ماله، فأبى عليه، فسأله متاعه فأبى عليه، فقام على الحجر وقال:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
…
ببطن مكة نائي الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض حرمته1
…
بين الإله وبين الحجر والحجر
أقائم من بني سهم بذمتهم
…
أم ذاهب في ضلال مال معتمر
إن الحرام لو تمت حرامته
…
ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
ثم ذكر الزبير خبرا يقتضي أن الرجل الذي باع سلعته من السهمي كان من زبيد، ولا منافاة بين كونه من اليمن، وكونه من زبيد، لجواز كون نسبته إلى اليمن، باعتبار يكناه به، والله أعلم.
وفي الخبر الذي فيه أن البائع من زبيد فوائد ليست في الخبر الذي فيه أن البائع من اليمن، فاقتضى ذلك ذكرنا له، ونص ذلك على ما في كتاب الزبير: حدثني محمد بن فضالة عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن ابن شهاب قال: كان شأن حلف الفضول أنه بدأ ذلك أن رجلا من بني زبيد قدم مكة معتمرا في الجاهلية، ومعه تجارة له فاشتراها منه رجل من بني سهم؛ فأواها إلى بيته، ثم تغيب، فابتغى متاعه الزبيدي، فلم يقدر عليه، فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا عليه، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه؛ فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها، ثم قال بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
…
ببطن مكة نائي الأهل والوطر
ومحرم شعث لم يقض عمرته
…
يا آل فهر وبين الحجر والحجر
هل محضر من بني سهم بحضرتهم
…
فعادل، أم حلال مال معتمر
فما نزل من الجبل أعظمت ذلك قريش؛ فتكلموا فيه. فقال المطيبون: والله لئن قمنا في هذا لنقضين على الأحلاف، وقال الأحلاف: والله لئن تظلمنا في هذا لنقضين على المطيبين؛ فقال ناس من قريش: تعالوا فلنكن حلفاء فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم يومئذ طعاما كثيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فاجتمعت بنو هاشم، وأسد، وزهرة، وتيم، وكان الذي تعاقد عليه القوم وتحالفوا أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد؛ إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه، ويردوا2 إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثم عمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا
1 في الروض الأنف 1/ 156: "عمره".
2 هكذا في الأصل.
به إلى البيت؛ فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه، فحدث هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان، من حلف الفضول ما لو دعيت إليه اليوم لأحببت، وما أحب أن لي به حمر النعم". قال الزبير: حدثني عبد العزيز بن عمرو العنبسي أن الذي اشترى من الزبيدي المتاع: العاص بن وائل السهمي، وقال: حلف الفضول بنو هاشم وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، تحالفوا بينهم بالله، لا يظلم أحد بمكة إلا كنا جميعا مع المظلوم على الظالم، حتى نأخذ له مظلمته ممن ظلمه، شريفا أو وضيعا، منا أو غيرنا. ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل؛ فقالوا: والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه، فأعطى الرجل حقه، فمكثوا كذلك لا يظلمن أحد حقه بمكة إلإ أخذوه له؛ فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول، وليست عبد شمس في حلف الفضول1.
وحدثني محمد بن حسن بن محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن فضالة، عن هشام بن عروة، وعن إبراهيم بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي قال إن بني هاشم وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزي، وبني تيم بن مرة، تحالفوا على أن لا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا إليه مظلمته، أو يبلغوا في ذلك عذرا، وعلى أن لا يتركوا لأحد فضلا إلا فخذوه، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك سمي حلف الفضول: بالله على الظالم حتى نأخذ للمظلوم حقه ما بل بحر صوفة، وما رسا حراء وثبير في مكانهما، وعلى الناس في المعاش.
وذكر الزبير ما يوهم أن سبب حلف الفضول بغير ما سبق؛ لأنه قال: وقال بعض العلماء إن قيسا السلمي باع متاعا من أبي بن حلف، فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جمح، فلم يقم بجواره؛ فقال قيس:
يال قصي كيف هذا في الحرم
…
وحرمة البيت وأخلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم2
وبلغ الخبر عباس بن مرداس فقال:
إن كان جارك لم تنفعك ذمته
…
وقد شربت بكأس الذل أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صددا
…
ولا تبد باديهم فحشا ولا باسا
1 الاكتفاء 1/ 91، إتحاف الورى 1/ 121.
2 الروض الأنف 1/ 157.
وثم كن بفناء البيت معتصما
…
تلقي ابن حرب وتلقي المرء عباسا
ساقي الحجيج وهذا ياسر فلح
…
والمجد يورث أسداسا وأخماسا
وقام العباس وأبو سفيان حتى ردا عليه متاعه. واجتمعت بطون قريش فتحالفوا على رد الظلم بمكة، وأن لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا له بحقه، وكان حلفهم في دار ابن جدعان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شهدت حلفا في دار ابن جدعان 1، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به لأحببت" فقال قوم من قريش: هذا والله أفضل من الحلف؛ فسمي: حلف الفضول.
قال: وقال الآخرون: تحالفوا على مثال حلف تحالف عليه قوم من جرهم في هذا الأمر؛ ألا يقروا ظلما ببطن مكة إلا غيروه، وأسماهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن وداعة، والفضي بن قضاعة. والله أعلم أي ذلك كان؟
وذكر الزبير خبرا يقتضي أن البائع من أبي بن خلف رجل من ثمالة؛ لأنه قال: حدثني علي بن صالح، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه، فذكر قصته، ثم قال: فبلغ ذلك معاوية، وعنده جبير بن مطعم، فقال له معاوية: يا أبا محمد كنا في حلف الفضول؟ قاله جبير بن مطعم: لا، وقد مر رجل من ثمالة؛ فباع سلعة له من أبي بن خلف ووهب بن حذافة بن جمح، فظلمه، وكان سيء المخالطة؛ فأتى الثمالى أهل حلف الفضول فأخبرهم؛ فقالوا: اذهب فأخبره بأنك قد آتيتنا، فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا. فأتاه فأخبره ما قال له أهل حلف الفضول، وقال له: فما تقول؟ فأخرج إليه حقه، فأعطاه إياه، فقال:
أتعجزني ببطن مكة ظالما
…
وإني ولا قومي لدي ولا صحبي
وناديت قومي بارقا لتجيبني
…
وكم دون قومي من فياف ومن شهب؟
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي
…
بني جمحخ والحق يؤخذ بالغصب
وذكر الزبير حبرا يوهم أن سبب حلف الفضول غير ما سبق؛ لأنه قال: حدثني غير واحد من قريش، منهم عبد العزيز بن عمر العنبسي، عن معن بن عبد الله بن عنبسة قال: إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا2، ومعه ابنه له يقال له يقال لها القتول، أوضأ نساء العالمين: فعلقهما نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، فلم يبرح حتى
1 كان عبد الله بن جدعان من أشراف قريش وساداتها وأثريائها، وهو الذي مدحه أمية بن أبي الصلت في شعره وفيه يقول قصيدته المشهورة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
…
حياؤك إن شيمتك الحياء
2 في الروض الأنف 1/ 157: "معتمرا أو حاجا".
نقلها إليه، وغلب أباها عليها، فقيل لأبيها: عليك بحلف الفضول، فأتاهم وشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن الحجاج، وقالوا: أخرج ابنة هذا الرجل -وهو يومئذ بناحية مكة وهي معه- وإلا فإنا من قد عرفت؛ فقال: يا قوم متعوني بها الليلة، فقالوا: قبحك الله ما أجهلك، لا والله ولا شخب لقحه1. قال: وهي أوسع أحاليل من الشاة فأخرجها إليهم، فأعطوها أباها، وركب معهم الخثعمي؛ فذلك يقول نبيه بن الحجاج:
راح صحبي ولم أحي القتولا
…
لم أودعهم وداعا جميلا
وذكر بقية الأبيات، وقال نبيه في ذلك أبياتا أخر2.
وذكر الفاكهي من خبر حلف الفضول عن الزبير بن بكار جميع ما ذكرناه عن الزبير3.
وذكر الفاكهي في ذلك غير ما سبق، فاقتضى ذلك ذكرنا له لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكر الفاكهي::ذكر حلف الفضول، وسببه، وتفسيره، وغيره من الحلف".
ثم إن قريشا تداعت إلى الفضول؛ وذلك بعد رجوعهم من عكاظ، ويقال: بعد فراغهم من بنيان الكعبة، وكان حلفا جميلا على قريش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالف فيه، فاجتمعوا في ذلك في دار ابن جدعان لشرفه وموضعه في قومه، وكانت له أسباب سأذكرها إن شاء الله تعالى.
حدثني عبد الله بن شبيب الربعي مولى بني قيس بن ثعلبة قال: حدثني أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الخزاعي، قال: حدثني عمرو بن أبي بكر العدوي، قال: حدثنا عثمان بن الضحاك، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت جدي حكيم بن حزام يقول: انصرفت قريش من الفجار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة؛ وكان حلف الفضول في شوال، وكان أشرف حلف وأعظم بركة؛ وذلك أن الرج لمن العرب أو غيرها من العجم، كان يقدم مكة بسلعته، فربما ظلم ثمنها، وكان آخر من ظلم بها رجل من زبيد4، فقدم مكة بسلعةله؛ فباعها من العاص بن وائل، فظلمه ثمانها، فطاف في الأحلاف: عبد الدار، وجمح، وسهم، ومخزوم، فسألهم أن يعينوه على العاص بن وائل، فزجروه وتجهموه، وأبوا أن يغلبوه
1 "الشخب": ما خرج من الضرع من لبن، واللقحة: الناقة القريبة العهد بالنتاج وتكون عادة غزيرة اللبن.
2 الروض الأنف 1/ 157.
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 190-195.
4 في الأصول: "من بن يزبيد: والمثيب عن سيرة ابن هشام 1/ 259، والسيرة الشامية 2/ 208، "زبيد".
على العاص؛ فلما نظر إلى سلعته قد حيل دونها، رقي على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتها، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
…
ببطن مكة، نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته
…
يال الرجال وبين الحجر والحجر
هل محضر من بني سهم بخفرته
…
وعادل أم ضلال مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته
…
ولا حرام لثوب الفاخر الغدر
فقال الزبير بن عبد المطلب: إن هذا الأمر ما ينبغي لنا أن نسمك عنه؛ فطاف في بني هاشم، وزهرة، وأسد، وتيم، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وتحالفوا بالله القائل، لنكون يدا للمظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة، ومارسا حراء وثبير في مكانهما، وعلى التأسي في المعاش: ثم نهضوا إلى العاص بن وائل فنزعوا سلعة الزبيدي، ودفعوها إليه، فقالت قريش: إنه قد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، فسمي: حلف الفضول، فقال الزبير بن عبد المطلب:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم
…
وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا
…
مقربة الغريب لذي الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا
…
أباة الضيم نمنع كل عار1
إذا لام الغدار لنا حراما
…
أقمنا بالسيوف ذا الازورار
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثني عمرو بن أبي بكر قال: كان يقال: كان في جرهم مثل هذا الحلف؛ فمشى فيه رجال، منهم فضل، وفضال، وفضالة، فسموه حلف الفضول، وقال: الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا
…
أن لا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا2 وتواثقوا
…
فالجار والمعتر فيهم سالم3
وقد بان بما ذكرناه من هذه الأخبار المتعلقة بحلف الفضول فوائد كثيرة تتعلق بذلك؛ وإنما سبب تسميته بحلف الفضول، كون الذين تحالفوا عليه تحالفوا على حلف مثله، سبق إليه جماعة من جرهم، يقال لكم منهم: الفضل، أو ما يقرب من معناه.
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 195، إتحاف الورى 1/ 121، الروض الأنف 1/ 156، السيرة لابن كثير 1/ 259.
2 في الروض الأنف 1/ 157، وإتحاف الورى 1/ 121:"تعاهدوا".
3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 194-195.