الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل يهدم بيته ويأخذ بابه فيضعه على البعير وينطلق به، واستقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم، والدفوف والمزامير والقيان تعزف خلفهم، وخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمهما على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرًا، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاه. فأنزل الله في بني النضير سورة الحشر بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليهم به رسوله وما عمل فيهم.
الباب العاشر: حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة
كان نفر من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا، فقدموا مكة على قريش، فدعوهم إلى حرب النبي، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فسرهم ذلك واتعدوا له وتجمعوا، ثم جاءوا غطفان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك وخرجت قريش وغطفان بمن جمعوا معهم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب الخندق على المدينة يعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ودأبوا فيه.
روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك فلما رأى ما بهم من النصب قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة"
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا
…
على الجهاد ما بقينا أبدا1
وروى أيضا من حديث البراء بن عازب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرَّ بطنه، ويقول:
والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا، ويرفع بها صوته: أبينا أبينا.
1 أعظِمْ بها من مبايعة، وأكرِمْ بمن اشترك فيها من مجاهدين خالدين.
قال ابن إسحاق: وحكت ابنة بشير بن سعد قالت: دعتني أمي فأعطتني حفنة من تمر في ثوب ثم قالت: اذهبي إلى أبيك وخالك بغدائهما، قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي فقال:"تعالي يا بنية ما هذا معك؟ ". قالت: قلت: يا رسول الله، هذا بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة؛ يتغديانه، قال:"هاتيه". قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما ثم أمر بثوب، فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده:"اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء"، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
وروى جابر بن عبد الله أن صخرة اشتدت عليهم، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك على تلك الصخرة، فانهالت حتى عادت كالكثيب ما ردت فأسا ولا مسحاة.
ولم يزل المسلمون يعملون فيه وينقلون التراب على أكتافهم حتى فرغوا منه وأحكموه، وأقبلت قريش ومن تبعها في عشرة آلاف حين نزلت بمجتمع السيول من رومة، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد، وخرج رسول الله في ثلاثة آلاف حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، وضرب عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام، وخرج حيي بن أحطب النضري حتى أتى قريظة في دارها، وسألهم أن يكونوا معهم على حرب رسول الله؛ فذكروا أن بينهم وبينه عقدا وحلفا، فلم يزل بهم حتى نقضوه وأجابوه إلى حرب محمد صلى الله عليه وسلم، فبعث سعد بن معاذ وجماعة معه إليهم؛ لينظروا صحة ذلك، فأتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم، فنالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد وشاتموه، ثم أقبل بمن معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وآتاهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلا النبل والرمي والحصار إلا فوارس من قريش فإنهم قاتلوا فقتلوا وقتلوا، ولما وقفوا على الخندق قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها؛ ويقال: إن سلمان أشار به على النبي صلى الله عليه وسلم ورمي سعد بن معاذ بسهم فقطع أكحله فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه؛ اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. واستشهد يومئذ من المسلمين ستة نفر من الأنصار منهم
أنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، وكعب بن زيد أصابه سهم فقتله، وسعد بن معاذ عاش حتى قتل النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة بحكمه، واستجاب دعاءه، ثم قبض شهيدا، وسيأتي ذكر وفاته، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة؛ لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى هدى الله نعيم بن مسعود أحد غطفان للإسلام؛ لإنفاذ أمره سبحانه في نصر نبيه وإقامة دينه؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة"، فخرج حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديمًا في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، ولا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم؛ فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا منهم أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن اليهود قد ندموا على ما صنعوه فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين قريش وغطفان رجالًا من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي حتى تستأصلهم، فأرسل إليهم: نعم، فإن بعثت إليكم يهود تطلب منكم رجلا واحدا فلا تدفعوه، ثم خرج فأتى غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش، فأرسلت قريش إلى يهود أن اغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، فقالوا: لسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فقالت قريش وغطفان: إن الذي حدثكم نعيم لحق، ثم أرسلوا إلى قريظة إنا لن ندفع إليكم أحدا؛ فإن أردتم أن تقاتلوا فقاتلوا، فقالت قريظة: إن الذي قال لكم نعيم لحق، وخذل الله بينهم وبعث عليهم الريح في ليالٍ باردة شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فرجعوا إلى بلادهم وكان مجيئهم وذهابهم في شوال سنة خمس من الهجرة.
قلت: والخندق اليوم باقٍ وفيه قناة تأتي من عين بقباء إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح وفي الخندق نخل قد انطم أكثره وتهدمت حيطانه.