المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام - جـ ٢

[التقي الفاسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب السادس والعشرون: في ذكر شيء من خبر إسماعيل عليه السلام وذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام

- ‌الباب السابع والعشرون:

- ‌في ذكر شيء من خبر هاجر أم إسماعيل عليه السلام:

- ‌ذكر أسماء أولاد إسماعيل وفوائد تتعلق بذلك:

- ‌ذكر شيء من خبر بني إسماعيل عليه الصلاة والسلام:

- ‌ذكر ولاية نابت بن إسماعيل للبيت الحرام:

- ‌الباب الثامن والعشرون:

- ‌ذكر ولاية إياد بن نزار بن معد بن عدنان للكعبة:

- ‌ذكر ولاية بني إياد بن نزار الكعبة وشيء من خبرهم وخبر مضر ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش:

- ‌الباب التاسع والعشرون:

- ‌في ذكر من ولي الإجازة بالناس من عرفة ومزدلفة ومنى من العرب في ولاية جرهم وفي ولاية خزاعة وقريش على مكة:

- ‌الباب الثلاثون

- ‌في ذكر من ولي إنساء الشهور من العرب بمكة

- ‌ذكر صفة الإنساء

- ‌ذكر الحمس والحلة

- ‌ذكر الطلس:

- ‌الباب الحادي والثلاثون:

- ‌ذكر نسبهم:

- ‌ذكر سبب ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية:

- ‌ذكر مدة ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية:

- ‌ذكر أول من ولي البيت من خزاعة وغير ذلك من خبر جزهم

- ‌ذكر شيء من خبر عمرو بن عامر الذي تنسب إليه خزاعة وشيء من خبر بنيه:

- ‌الباب الثاني والثلاثون:

- ‌الباب الثالث والثلاثون:

- ‌في ذكر شيء من خبر بني قصي بن كلاب:

- ‌الباب الرابع والثلاثون

- ‌في ذكر شيء من خبر الفجار والأحابيش

- ‌ذكر يوم العبلاء:

- ‌ذكر يوم شرب:

- ‌ذكر يوم الحريرة:

- ‌ذكر الفجار الأول وما كان فيه بين قريش وقيس عيلان وسبب ذلك:

- ‌ذكر شيء من خبر الأحابيش ومحالفتهم لقريش:

- ‌الباب الخامس والثلاثون:

- ‌ذكر شيء من خبر حلف الفضول:

- ‌ذكر شيء من خبر ابن جدعان الذي كان في داره حلف الفضول:

- ‌ذكر شيء من خبر أجواد قريش في الجاهلية:

- ‌ذكر الحكام من قريش بمكة في الجاهلية:

- ‌ذكر تملك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن كلاب القرشي الأسدي على قريش بمكة وشيء من خبره:

- ‌الباب السادس والثلاثون:

- ‌ذكر شيء من خبر فتح مكة:

- ‌ذكر فوائد تتعلق بخبر فتح مكة:

- ‌الباب السابع والثلاثون:

- ‌في ذكر شيء من ولاة مكة المشرفة في الإسلام:

- ‌الدولة العباسية:

- ‌الباب الثامن والثلاثون

- ‌في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام

- ‌الباب التاسع والثلاثون:

- ‌سيول مكة في الجاهلية:

- ‌سيول مكة في الإسلام:

- ‌ذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة على ترتيب ذلك في السنين:

- ‌الباب الأربعون:

- ‌في ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها وشيء من خبرها:

- ‌ذكر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام:

- ‌ذكر شيء مما قيل من الشعر في التشوق إلى مكة الشريفة وذكر معالمها المنيفة:

- ‌خاتمة المؤلف للكتاب:

- ‌الملحق الأول:‌‌ ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام

- ‌ ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام

- ‌الملحق الثاني في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة

- ‌مقدمة بقلم اللجنة التي أشرف على تحقيق الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌الباب الأول- في ذكر أسماء المدينة وأول من سكنها

- ‌الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة

- ‌الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

- ‌الباب الرابع: في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها

- ‌الباب الخامس: في ذكر تحريم النبي للمدينة وحدود حرمها

- ‌الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله

- ‌الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها

- ‌الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضل الشهداء به

- ‌الباب التاسع: في ذكر إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير من المدينة

- ‌الباب العاشر: حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة

- ‌الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة

- ‌الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفضله

- ‌الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها

- ‌الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهده

- ‌الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما

- ‌الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله

- ‌الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة ومن بعدهم

- ‌الملحق الثالث في‌‌ العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريفمنذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة

- ‌ العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف

- ‌ المسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية:

- ‌ سير العمل في العمارة الجديدة:

- ‌ المباني التي هدمت:

- ‌ وصف المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة

- ‌ أبواب الحرم النبوي الشريف:

- ‌ حول عمارة المسجد النبوي الشريف:أسئلة موجهة من الحاج عبد الشكور فدا إلى سعادة الشيخ صالح القزاز وإجابة فضيلته عليها:

- ‌الملحق الرابع: بعض آثار المدينة والمزارات وغيرها

- ‌مساجد المدينة المنورة

- ‌ القصور التاريخية بالمدينة:

- ‌ خزانات ماء الشرب

- ‌كلمة الختام:

- ‌فهرس المحتويات:

الفصل: ‌الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما

‌الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما

روي عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه؛ فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم أقبل علي وقال: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيخ خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي الجنة قال: فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه.

وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول وارأساه فقال:"بل والله يا عائشة وارأساه"؛ فقال: "وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك"، قالت: قلت: لكأني بك قد فعلت ذلك، ثم رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى اشتد به وجعه وهو في بيت ميمونة فدعا نساءه وكن تسعا: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وزينب وميمونة وجويرية وصفية فاستأذنهن على أن يمرض في بيت عائشة فأذن له فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين العباس وعلي رضي الله عنهما عاصبا رأسه تخط قدماه الأرض حتى دخل بيت عائشة ثم حم رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه فقال: "هريقوا علي من من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم" فأقعدوه صلى الله عليه وسلم في مخضب وصبوا عليه الماء وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلى على أصحاب أحد واستغفر لهم وأكثر الصلاة عليهم ثم قال: "إن عبدًا من عباد الله خيره الله عز وجل بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عنده" قال: ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه يريد وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، ثم قال رسول الله عليه السلام:"يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي آويت إليها فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" ثم نزل فدخل بيته وتتام به وجعه، وروى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت أحدا الوجع عليه أشد من رسول الله.

وفيه أيضا من حديث عبد الله بن مسعود قال: دخلت على النبي وهو يوعك فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا قال: "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان

ص: 446

منكم"، ولما اشتد به وجعه صلى الله عليه وسلم جاءه بلال يؤذنه بصلاة الفجر من يوم الاثنين، قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"؛ فلما تقدم أبو بكر يصلي بالناس وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج على الناس قال أنس: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وقام على باب عائشة فكان المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فرحا به وتفرجوا؛ فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم قال: وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا لما رأى من هيئتهم في صلاتهم وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة، قال أبو بكر بن أبي مليكة: فلما تفرج الناس عرف أبو بكر أنهم لم يفعلوا ذلك إلا لرسول الله فنكص عن مصلاه فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في طهره وقال: "صل بالناس" وجلس الرسول إلى جانبه فصلى قاعدا عن يمين أبي بكر فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول: "يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإني والله ما تمسكون علي بشيء إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن"؛ فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من كلامه قال له أبو بكر: يا نبي الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قال: نعم قال: ثم دخل عليه السلام وخرج أبو بكر إلى أهله بالسيح وخرج يومئذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، قال: فأخذ العباس بيده، وقال: يا علي أحلف بالله لقد رأيت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب.

وفي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء؛ فبكت ثم دعاها فسارها فضحكت فسألتها عن ذلك فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه فبكيت ثم سارني أني أول أهله لحوقا به فضحكت، وفيه من حديثها أيضا أنها قالت: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيت وفي يومي وبين سحري ونحري وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وأنا مسندة النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري ومعه سواك رطب يستن به؛ فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت آخذه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته وطيبته ثم دفعته إليه فاستن به فما رأيت النبي عليه السلام استن استنانا قط أحسن منه وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول:"لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات" ثم نصب يديه فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده.

قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير؛ فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على

ص: 447

فخذي غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحوه سقف البيت ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى"؛ فقلت: إذا لا يختارنا فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح.

وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله عليه السلام وأصغيت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلى ظهره يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى"، ولما تغشاه الموت قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه، قال لها:"ليس على أبيك كرب بعد اليوم"، قالت عائشة: وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري فنظرت في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: "بل الفريق الأعلى في الجنة"، وقبض صلى الله عليه وسلم، قالت: فوضعت رأسه على وسادة وقمت أندب مع النساء أضرب وجهي وقالت فاطمة رضي الله عنها تندبه: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، وقال جبريل للنبي عند موته: يا أحمد هذا آخر وطئي في الأرض ولا أنزل إليها أبدا بعد إنما كانت حاجتي من الدنيا، وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة عن ثلاث وستين سنة من عمره وكمل بالمدينة من يوم دخلها إلى يوم مات عشر سنين كوامل مبلغا لرسالات الله مجاهدا لأعدائه. ولما توفي رسول الله قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله ما مات؛ ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى فإنه غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات، قالوا: وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسيح فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله وهو مسجى بثوب حبرة فشكف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي وأمي أنت والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها، ثم لن يصيبك بعدها موتى أبدا ثم رد البرد على وجهه وخرج عمر بن الخطاب يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلا أن يتكلم؛ فلما رآه أبو بكر لا ينصب أقبل على الناس؛ فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال: ثم تلا هذه الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ قال: وأخذها الناس عن أبي بكر فهي في

أفواههم قال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله قد مات، ولما مات رسول الله قالوا: والله لا يدفن، ومات مات وإنه ليوحى إليه فأخروه حتى أصبحوا من يوم الثلاثاء وقال العباس: إنه قد مات

ص: 448

وإني لأعرف منه موت بني عبد المطلب وقال القاسم بن محمد ما دفن رسول الله حتى عرف الموت في أظفاره قالت عائشة رضي الله عنها ما أرادوا غسل رسول الله اختلفوا فقالوا: والله ما ندري أيجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟ أو نغسله وعليه ثيابه، قالت: فلما اختلفوا ألقى عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه قالت: فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص دون أيديهم وغسله علي رضي الله عنه أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابناه الفضل وقثم يقلبونه معه وأسامة بن زيد وشقران مولى النبي يصبان الماء عليه وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا ولم يرد من رسول الله شيء مما يرى من الميت فلما فرغوا من غسله كفن.

روى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنه أنها قالت: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالا -أي جماعات: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله أحد.

واختلفوا في دفنه فأنبأنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو الحسن الفقيه، أخبرنا علي بن أحمد البندار، أنبأنا عبيد الله بن محمد العكبري، حدثنا أبو عبد الله بن مخلد، حدثنا علي بن سهل بن المغيرة، حدثنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في موضع قبره فقال قائل: بالبقيع فإنه كان يكثر الاستغفار لهم وقال قائل: منهم عند منبره وقال قائل: منهم في مصلاه فجاء أبو بكر رضي الله عنه فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما سمعت رسول الله يقول: "ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي". أخبرنا الحسن بن محمد الواعظ، أنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبي أن أصحاب النبي لم يدروا أين يقبرون رسول الله حتى قال أبو بكر رضي الله عنه فأخروا فراشه وحفروا له تحت فراشه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله عليه السلام وكان أبو عبيدة يضرح حفر أهل مكة وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة؛ فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة وللآخر اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسولك؛ فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله ثم دفن رسول الله من وسط الليل ليلة الأربعاء وكان الذين نزلوا قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابن العباس، وشقران مولى رسول الله وبنى على لحده

ص: 449

تسع لبنات نصبن نصبا، وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبره وجعل عليه حصباء حمراء من حصباء العرصة ورفع قدر شبرين من الأرض، وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر النبي مسنما.

وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك أنه قال: لما دفن النبي قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ أنبأنا أبو جعفر الواسطي، عن أبي طالب، عن ابن يوسف، أخبرنا أبو الحسن بن الأبنوسي، عن عمر بن شاهين، أخبرنا محمد بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد الكاتب، حدثني طاهر بن يحيى، حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما رمس رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينها وبكت وأنشأت تقول:

ماذا على من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت على مصائب لو أنها

صبت على الأيام عدن لياليا

روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: ما رأيت فاطمة رضي الله عنها بعد أبيها ضاحكة ومكثت بعده ستة أشهر.

وروى حجاج بن عثمان عن أبيه قال: رأيتهم اجتمعوا يوم مات النبي على أكمة فجعلوا يبكون عليه.

وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح رسول الله في هذين.

وروى أنس من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، أنبأنا يحيى بن أسعد بن بوش عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخلدي، أنبأنا يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثني غير واحد، منهم عبد العزيز بن أبي حازم ونوفل بن عمارة قالوا: إن عائشة رضي الله عنها كانت تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطنبة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم فترسل إليهم أن لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقيا لذلك، وروي أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم دعت نجارا يغلق ضبة لها، وأن النجار ضرب المسمار في الضبة ضربا شديدا فصاحت عائشة بالنجار وكلمته كلاما شديدا وقالت: ألم تعلم أن حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته إذا كان كان حيا قالت الأخرى: وماذا سمع من هذا قالت عائشة رضي الله عنها:

ص: 450

إنه ليؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت هذا الضرب كما لو كان يؤذيه حيا صلى الله عليه وسلم تسليما.

ذكر وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

ذكر محمد بن جرير الطبري بإسناد له أن اليهود سمت أبا بكر في أرزه، ويقال في خزيرة وتناول معه الحارث بن كلدة منها ثم كف وقال لأبي بكر: أكلت طعاما مسموما؛ فسم لسنته فمات بعد سنة ومرض خمسة عشر يوما فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآني، قالوا: فما قالك لك؟ قال: قال إني أفعل ما أشاء، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدا أبو بكر رضي الله عنه أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة وكان يوما باراد فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة وكان يأمر عمر بن الخطاب يصلي بالناس ويدخل عليه الناس يعودونه وهو يثقل كل يوم وهو يومئذ نازل في داره التي قطعها له رسول الله وجاه دار عثمان بن عفان، قال أهل السير كان ينزل أبو بكر بالسيح عند زوجته بنت خارجة بن زيد وأقام بالسيح بعدما بويع له بالخلافة ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة وربما ركب على فرس له وعليه إزار ورداء فيوافي المدينة؛ فيصلي الصلاة بالناس فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسيح؛ فكان إذا حضر صلى وإن لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب، وكان تاجرا يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج بالغنم لرعيها وربما كفيها ورعيت له، وكان يحلب للحي أغنامه؛ فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال بل لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ربي أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه؛ فكان يحلب لهم ثم نزل المدينة فأقام بها ونظر في أمره فقال والله ما يصلح أمر الناس والتجارة وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ولا بد لعيالي مما يصلحهم فترك التجارة واستنفق من بيت مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر، وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم؛ فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما علي من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا وإن أرضى التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم؛ فدفع ذلك إلى عمر فقال عمر: لقد أتعب من بعده.

روى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله؟ قالت: يوم الاثنين قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليلة؛ فنظرت إلى ثوب عليه كما يمرض فيه به ردغ من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين

ص: 451

وكفنوني فيها قلت: إن هذا لخلق قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت؛ فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل الصبح، وكان آخر ما تكلم به أبو بكر رضي الله عنه: رب توفني مسلما وألحقني بالصالحين، وتوفي بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال وكان عمره ثلاثا وستين سنة وغسلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية منه وابنه عبد الرحمن يصب عليه الماء، وكفن وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء المنبر ودفن ليلة الثلاثاء إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقوا لحده بلحده ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن ابنه رضي الله عنهم وكان أبوه قحافة حيا بمكة؛ فلما نعي إليه قال: رزء جليل، وعاش بعده ستة أشهر وأياما، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة وهو ابن سبع وتسعين سنة رضي الله عنهما.

ذكر وفاة عمر رضي الله عنه:

روى أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده من حديث معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام يوم الجمعة خطيبا؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، ثم قال: أيها الناس إني قد رأيت رؤيا كأن ديكا أحمر نقرني نقرتين ولا أدري ذلك إلا لحضور أجلي، وإن ناسا يأمرون أن أستخلف وإن الله لم يكن يضيع دينه وخلافته والذي بعث به نبيه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الرهط الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فأيهم بايعوا فاسمعوا له وأطيعوا وذكر كلاما طويلا قال: فخطب بها عمر يوم الجمعة وأصيب يوم الأربعاء.

وروى البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس حذاءه غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف والنحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس؛ فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلبي حين طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة وصار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا وشمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة؛ فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح علينا برنسا؛ فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه؛ فمن يلي عمر قد رأى الذي رأى وأما أواخر المسجد فإنهم لا يدرون؛ غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصانع؟ قال: نعم قال: قاتله الله لقد أمرت به

ص: 452

معروفا، وقال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل يدعي الإسلام واحتمل إلى بيته؛ فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل ذلك فقائل يقول: لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه فعرفوا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه وجاء شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك في صحبة رسول الله وقدمك في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم الشهادة قال: وددت أن ذلك كان كفافا لا علي ولا ولي؛ فلما أدبر رأى رداءه يمس الأرض قال: ردوا على الغلام، قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى لثوبك يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجوده ستة وثمانين ألفا أو نحوه قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فاسأل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم انطلق إلى عائشة أم المؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عليك السلام عمر بن الخطاب ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت فقال: الحمد لله ما كان أهم إلي من ذلك فإذا أنا قبضت فاحملوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء معه فلما رأينها قمن فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلا، فسمعنا بكاءها من داخل فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف قال: ما أجد أحدا أولى وأحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض؛ فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وقال: اشهد يا عبد الله بن عمر ليس لك من الأمر شيء وأوص الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل أن محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا؛ فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو ولا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا؛ فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يأخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم؛ فلما قبض رضي الله عنه خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر، وقال: يستأذن عمر بن الخطاب قالت: أدخلوه فأدخل موضعا هناك مع صاحبيه قلت: وباع عبد الله بن عمر دارا لعمر بن الخطاب ومالا له بالغابة ثم قضى دين أبيه وكانت وفاته رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث

ص: 453

وعشرين من الهجرة، وكانت خلافته عشر سنين كوامل وستة أشهر وأربعة أيام، وكان سنة ثلاثا وستين سنة وصلى عليه صهيب وجاه المنبر ودفن مع النبي.

وروى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس أنه قال: وضع عمر على سريره فكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع -وأنا فيهم- فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي؛ فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فترحم على عمر وقال: ما خلت أحدا أحب أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كنت أسمع كثيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"، وروي أن عائشة رضي الله عنها لما دفن عمر رضي الله عنه لبست ثيابها الدرع والخمار والإزار، وقالت: إنما كان أبي وزوجي؛ فلما دخل معهما غيرهما لزمت ثيابي.

وأخبرني يحيى بن أبي الفضل السعدي قال: أخبرنا أبو محمد الفقيه قال: أخبرنا أبو الحسن الشافعي قال: أخبرنا أبو عبد الله بن النبهاني أخبرنا أبو العباس الرازي أخبرنا أبو الزنباع، حدثنا عمر بن خالد، حدثنا أبو بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يخبر، عن عائشة رضي الله عنها أنها رأت في المنام أنه سقط في حجرها أو بحجرتها ثلاثة أقمار؛ فذكرت ذلك لأبي بكر فقال: خير.

قال يحيى بن سعيد؛ فسمعت بعد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي فدفن في بيتها قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك يا بنيه وهو خيرها، أنبأنا أبو القاسم الصموت عن الحسن بن أحمد، عن أحمد بن عبد الله عن جعفر بن محمد أخبرنا أبو زيد، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد عن أنيس بن أبي يحيى قال: لقي رسول الله جنازة في بعض سكك المدينة فسأل عنها فقالوا: فلان الحبشي فقال رسول الله: سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها. قلت: فعلى هذا طينة النبي صلى الله عليه وسلم التي خلق منها من المدينة وطينة أبي بكر وعمر من طينة النبي وهذه منزلة رفيعة، وروي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فأطلعت على قبر النبي وقبر أبي بكر وعمر فرأيت عليها حصباء حمراء.

وروي عن هارون بن موسى العروبي قال: سمعت جدي أبا علقمة يسأل: كيف كان الناس يسلمون على النبي قبل أن يدخل البيت في المسجد؟ فقال: كان الناس يقفون على باب البيت يسلمون وكان الباب ليس عليه غلق حتى هلكت عائشة رضي الله عنها، قال أهل السير: وكان الناس يأخذون من تراب قبر النبي؛ فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما زلت أضع خماري وأنفصل عن ثيابي حتى دفن عمر؛ فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا قلت:

ص: 454

وقبر النبي وقبر صاحبيه في صفة بيت عائشة رضي الله عنها، قال أهل السير: وفي البيت موضع قبر في الجهة الشرقية قال سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى ابن مريم عليه السلام، وروى عبد الله بن سلام، عن أبيه عن جده قال: يدفن عيسى ابن مريم مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما ويكون قبره الرابع، واختلف الرواة في صفة قبورهم؛ فأخبرنا أبو القاسم بن كامل إذنا عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الأصبهاني عن أبي محمد الخلدي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا إسحاق بن عيسى عن عثمان بن نسطاطس قال: رأيت قبر النبي لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعا نحو من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة مائلة، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبر النبي ورأيت قبر عمر أسفل منه وصورة لنا هكذا:

ص: 455

وبالإسناد المتقدم حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن إسماعيل عن عمرو بن عثمان بن هانئ عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أماه أريني قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضوان الله عليهما؛ فكشفت لي عن قبورهم فإذا هي لا مرتفعة ولا واطية مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة، وإذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم أمامهما، ورجلا أبي بكر عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند رجلي أبي بكر، وصفة ذلك كما يأتي:

قلت: ذكر أهل السير أن جدار حجرة النبي الذي يلي موضع الجنائز سقط في زمان عمر بن عبد العزيز فانهارت القبور الشريفة؛ فما رؤي بكاء في يوم مثل ذلك اليوم فأمر عمر بقباطي فخيطت ثم ستر الموضع بها، وأمر ابن ورد أن يكشف عن الأساس؛ فبينما هو يكشف إذ رفع يده وتنحى فقام عمر بن عبد العزيز فزعا؛ فرأى قدمين وراء الأساس وعليهما الشعر؛ فقال عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وكان حاضرا: أيها الأمير لا يروعنك فهما قدما جدي عمر بن الخطاب ضاف البيت عنه فحفر له في الأساس فقال يا ابن ورد أن غط ما رأيت، ففعل.

ص: 456

وروى البخاري في الصحيح من حديث هشام بن عمرو عن أبيه قال: لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنيانه فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي، وما هي إلا قدم عمر، قالوا: وأمر عمر أبا حفصة مولى عائشة وناسا معه فتبوءوا الجدار وجعلوا فيه كوة؛ فلما فرعوا منه ورفعوه دخل مزاحم مولى عمر؛ فرفع ما سقط على القبر من التراب والطين ونزع القباطي. قالوا: وباب البيت الذي دفنوا فيه شامي، قلت: وبنى عمر بن عبد العزيز على حجرة النبي حاجزا من سقف المسجد إلى الأرض وصارت الحجرة في وسطه وهو على دورنها.

ولما ولي المتوكل الخلافة أمر إسحاق بن سلمة، وكان على عمارة مكة والمدينة من قبله بأن يأزر الحجرة بالرخام من حولها؛ ففعل ذلك وبقي الرخام عليها إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من خلافة المقتفي، فجدد تأزيرها جمال الدين وزير بني زنكي وجعل الرخام حولها قامة وبسطة وجعل لها شباكا من خشب الصندل والأبنوس وأداره حولها مما يلي السقف، قيل: إن أبا الغنايم النجار البغدادي عمله أروانكا، وفي دورانه مكتوب على أقطاع الخشب إلا روانك سورة الإخلاص صنعة بديعة ولم تزل الحجرة على ذلك حتى عمل لها الحسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة ديبقية بيضاء وعليها الطرز والجامات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر وخيطها، وأدار عليها زنارا من الحرير الأحمر والزنار مكتوب عليه سورة يس بأسرها، قيل: إنه غرم على هذه الستارة مبلغا عظيما من المال، وأراد تعليقها على الحجرة فمنعه قاسم بن مهنا الأمير على المدينة وقال: حتى يستأذن الإمام المستضيء1 بأمر الله فبعث إلى العراق يستأذن في تعليقها فجاء الإذن في ذلك فعلقها نحو العامين ثم جاءت من الخليفة ستارة من الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة وعلى دوران جاماتها مكتوب بالرقم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: وعلى ظاهرها اسم الإمام المستضيء بأمر الله فرفعت تلك وأنفذت إلى مشهد علي بن أبي طالب بالكوفة فعلقت هذه عوضها؛ فلما ولي الإمام الناصر لدين الله2 أرسل ستارة أخرى من الإبريسم الأسود أيضا على شكل المذكورة؛ فأنفذتها فعلقت عليها حتى يومنا هذا على الحجرة ثلاث ستائر بعضهن على بعض. وفي سقف المسجد -الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا- معلق نيف وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة

1 تولى الخلافة من عام 566 حتى عام 576هـ في بغداد.

2 هو ابن المستضيء، ولي الخلافة العباسية مدة طويلة 576-622هـ.

ص: 457

والساذجة، وفيها اثنان من البلور وواحد ذهب، وفيها قصر من فضة مغموس في الذهب، وهذه تنفذ من البلدان من الملوك وأرباب الحشمة والأموال، واعلم أن حجرة النبي عليها ثوب مشمع مثل الخيمة وفوقه سقف المسجد وفيه خوخة عليها ممرق مقفل وفوق الخوخة في سقف السطح خوخة أخرى فوق تلك الخوخة، وعليها ممرق مقفول أيضا وحولها في سطح المسجد حظيرة مبنية بالآجر وبين سقف المسجد وبين سقف السطح فراغ نحو الذراعين وعليه شبابيك حديد ترمي الضوء منها إذا أرادوا الدخول إلى هناك لأجل تعليق سلاسل القناديل وحبال الأبارير لأجل العمارة في المسجد وهذه صفة الحاجز الذي بناه عمر بن عبد العزيز والحجرة في وسطه ومن الحجرة إلى المقصورة تسعة عشرا ذراعا ومن الركن الغربي إلى المسمار الفضة الذي هو مقابل وجه النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أذرع.

ص: 458

واعلم أنه في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سمعوا صوت هدة في الحجرة، وكان الأمير قاسم بن مهنا الحسيني فأخبروه بالحال؛ فقال: ينبغي أن ينزل شخص إلى هناك لينظر ما هذه الهدة وافتكروا في شخص يصلح لذلك؛ فلم يجدوا إلا عمر النساي1 شيخ من شيوخ الصوفية بالموصل، وكان مجاورا بالمدينة؛ فذكروا ذلك له؛ فذكر أن به فتقا والريح والبول تحوجه إلى الغائط مرارا فألزموه فقال: أمهلوني حتى أروض نفسي، وقيل إنه امتنع من الأكل والشرب وسأل الله إمساك المرض بناه عمر ودخل منه إلى الحجرة ومعه شمعة يستضيء بها فرأى شيئا من طين الثقف قد وقع على القبور فأزاله وكنس التراب بلحيته، وقيل إنه كان مليح الشيبة وأمسك عز وجل ذلك الداء بقدر ما خرج من الموضع، وعاد إليه وهذا ما سمعته من أفواه جماعة، والله أعلم بحقيقة الحال في ذلك، وفي شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في أيام قاسم أيضا وجد من الحجرة رائحة منكرة وكثر ذلك حتى ذكروه للأمير؛ فأمرهم بالنزول إلى هناك فنزل بيان الأسود الخصي أحد خدم الحجرة الشريفة، ومعه الصفي الموصلي متولى عمارة المسجد ونزل معهما هارون الشاوي الصوفي بعد أن سأل الأمير في ذلك في الحاجز بين الحجر والمسجد، وكان نزولهم يوم السبت الحادي عشر من ربيع الآخر، ومن ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم ينزل أحد إلى هناك2.

1 وفي وفاء الوفاء وخلاصة الوفا: النساء والصحيح ما هنا. وقد توفي عام 656هـ.

2 وفي عهد الأشرف قايتباري رئي احتياج المسجد النبوي إلى العمارة؛ وذلك عام 881هـ. ففعل ذلك وجدد رخام الحجرة الشريفة وجدد الكثير من بنائها وكان ختم هذا البناء في يوم الخميس سابع شوال عام 881هـ "216-220 خلاصة الوفا". وقد أقام من قبل الملك العادل نور الدين الشهيد خندقا مملوءا من الرصاص حول الحجرة الشريفة؛ وذلك عام 557هـ. هذا وقد احترق المسجد النبوي أول ليلة الجمعة أول رمضان عام 654هـ، ولم يسلم من الحريق سوى القبة التي أحدثها الخليفة الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم النبوي عام 576هـ، ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة على سقف بيت النبي صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة؛ فكتبوا للخليفة المستعصم وابتدئ بالعمارة عام 655هـ، وشارك فيها صاحب مصر المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك الصالحي وصاحب اليمن المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول، ثم لما عزل ملك مصر عام 657هـ، وتولى مكانه المظفر قطز المعزى، ولما قتل عام 658 تولى مكانه بيبرس وشارك هؤلاء جميعا في العمارة الشريفة، ولم يظل المسجد على هذه العمارة الجديدة؛ حتى جدد السقف الغربي والسقف الشرقي في أوائل دولة الناصر محمد بن قلاوون الصالحي؛ فجعلا سقفا واحدا؛ وذلك في سنتي خمس وست وسبعمائة، ثم أمر الناصر عام 729هـ بزيادة رواقين متصلين بمؤخر السقف القبلي فاتسع سقفه بهما وعم نفعه؛ إذ صار فيه سبعة أروقة وكان عددها خمسة كالشمالي، ثم حصل في هذين الرواقين خلل فجددهما الأشرف برسباي عام=

ص: 459