الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأشار السهيلي إلى أن تسميته بحلف الفضول؛ لكون الذين تحالفوا عليه تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها؛ لأنه قال، بعد أن حكي عن ابن قتيبة: إن سبب تسميته أن جماعة من جرهم يقال لأحدهم الفضل بن فضالة، والثاني الفضل بن وداعة، والثالث فضيل بن الحارث، ومن تبعهم سبقوا قريشا إلى مثل هذا الحلف. والذي قاله ابن قتيبة حسن؛ ولكن في الحديث ما هو أقوى منه وأولى.
روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وأن لا يعين ظالم مظلوما".
ورواه في مسنده الحارث بن عبد الله بن أبي أسامة التميمي.
وقد بين هذا الحديث: لم سمي حلف الفضول. وكان حلف الفضول بعد الفجار؛ وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب1، والفضول جمع فضل
…
انتهى.
1 الروض الأنف 1/ 155-156.
ذكر شيء من خبر ابن جدعان الذي كان في داره حلف الفضول:
هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي التيمي المكي، يكنى أبا زهير، من رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان من رؤساء قريش وأجوادهم، وله في الجود أخبار مشهورة؛ منها: أنه كانت له جفنة للأضياف يستظل بظلها في الهاجرة؛ لأن في "غريب الحديث" لابن قتيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أستظل فيها بظل جفنة عبد الله بن جدعان بمة في الهاجرة".
قال ابن قتيبة: كانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير، وسقط فيها صبي فغرق، أي مات فيها1.
ومنها على ما قال هشام بن الكلبي: كان له مناديان يناديان؛ أحدهما بأسفل مكة، والآخر بأعلى مكة، وكان المناديان سفيان بن عبد الأسد، وأبو قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم فليأت دار ابن جدعان. وينادي الآخر: ألا من أراد الفالوذج فليأت دار ابن جدعان وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة؛ ذكر هذا الخبر عن ابن الكلبي الفاكهي في "أخبار مكة"2.
1 الروض الأنف 1/ 158.
2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 169.
ومنها: أن أمية بن أبي الصلت1 قبل أن يمدح ابن جدعان: كان قد أتى بني الديان من بني الحارث بن كعب، فرأى طعام بني عبد الديان2 منهم لباب البر والشهد والسمن، وكان ابن جدعان التمر والسويق ويسقي اللبن، فقال، أمية:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم
…
فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم
…
لا ما يعللنا بنو جدعان
فبلغ شعره عبد الله بن جدعان؛ فأرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن، وأمر مناديا ينادي على الكعبة: ألا هلموا إلى جفنه عبد الله بن جدعان، فقال أمية عند ذلك:
له داع بمكة مشمعل3
…
وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشيزى عليها
…
لباب البر يلبك بالشهاد4
وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك سريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشريته، ونفاه أبو وحلف أن لا يأويه أبدا، لما أثقل به من الغرم. وحمله من الديات، فخرج في شعاب مكة حائرا يتمنى الموت ينزل به، فرأى شقا في الجبل، فظن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح؛ فلم ير شيئا، فدخل فيه، فإذا فيه ثعبان عظيم، له عينان تقدان كالسراجين، فحمل عليه الثعبان. فأخرج له فانسابت عيناه مستديرتان ينظران نحو بيت، فخطا خطوة، فصفر به الثعبان، وأقبل عليه كالسهم، فأخرج له، فانساب عنه قدما لا ينظر إليه، فوقع في نفسه أن مصنوع، فأمسكه بيده، فإذا هو مصنوع من ذهب، وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه، ودخل البيت، فإذا جثث على سرر طوال لم ير مثله طويلا وعظما، وعند رؤوسهم لوح من فضة، فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم، وآخرهم موتا الحارث بن مضاض صاحب الغربة الطويلة، وإذا عليهم ثياب لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طوال الزمن، وشعر مكتوب في اللوح، فيه عظات، آخر بيت منه:
صاح هل رأيت أو سمعت براع
…
رد في الضرع ما قرى في الحلاب
1 شاعر جاهلي، طلب النبوة، وكان يحدث في شعره بأحاديث خلق الكون وقصص الأنبياء، ورثى قتلى بدر، وتوفي عام 9هـ.
2 في الروض الأنف 1/ 158: "المدان".
3 مشمعل: بعيد الصوت أو سريع.
4 الروح: جمع رواح، وهي الجفان الكبيرة، الشيزى: نوع من الخشب تتخذ منه القصاع، اللباب: خالص الشيء يلبك: يخلط أو يعجن، الشهاد: نوع من العسل.
وقال ابن هشام: كان اللوح من رخام، وكان فيه: أنا ثعلبة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد يا ليل بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله، عشت خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك؛ فلم يكن ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب:
قد قطعت البلاد في طلب الثر
…
وة والمجد قالص1 الأثواب
وسريت البلاد قفرا لقفر
…
بضماني2 وقوتي واكتسابي
فأًصاب الردى بنات فؤادي
…
بسهام من المنايا صباب
فانقضت شدلي وأقصر جهلي
…
واسترحت عواذلي عن عتاب
ودفعت السعادة بالحكم لما
…
نزل الشيب في محل الشباب
صاح هل رأيت أو سمعت براع
…
در في الضرع ما قرى في الحلاب
وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ، ثم علم على الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف.
وذكر حديث كنز ابن جدعان موصلا بحديث الحارث بن مضاض: ابن هشام في غير هذا الكتاب: ووقع لنا في كتاب "ري العاطش وأنس الواحش" لأحمد بن عمار، أن ابن جدعان حرم في الجاهلية، بعد أن كان مغرى بها؛ وذلك أنه سكر فتناول القمر ليأخذه، فأخبر بذلك حين صحا، فحلف لا يشربها أبدا، ولما كبر وهرم أراد بنو تيم أن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه لطمه لطمة خفيفة ثم قال: قم فانشد لطمتك، واطلب ديتها؛ فإذا فعل ذلك أعطته بنو تيم من مال ابن جدعان حتى يرضى
…
انتهى من كتاب السهيلي3.
وذلك جميع ما ذكرناه من خبر ابن جدعان خلا ما ذكرناه من خبره عن ابن الكلبي.
وفي مسلم أن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف؛ فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، إنه لا يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" 4
…
انتهى.
1 قالص الأثواب: القصير منها.
2 كاذ في الأصل، وفي الروض الأنف 1/ 159:"بقائي".
3 الروض الأنف 1/ 158-160.
4 أخرجه مسلم "الإيمان، 365".
وذكر الفاكهي في وفاة ابن جدعان هذا خبرا غريبا؛ لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بما نصه: "ذكر موت أهل الشرف من قريش، بمكة ومراثيهم"، ثم هلك عبد الله بن جدعان بن عمرو التيمي، فبكته الجن والإنس، فأما بكاء الجن: فحدثني إبراهيم بن يوسف المكي، قال: حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج قال: إن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن النباش بن زرارة التميمي -وكان حليفا لقريش- قال: خرجنا إلى الشام تجارا في الجاهلية وعبد الله بن جدعان صبي حين خرجنا؛ فلما سرنا نحوا من خمس عشرة ليلة، نزلنا ذات ليلة واشتهينا أن نصبح بذلك المكان. قال: فقام أصحابي، وأصابني أرق شديد، فإذا هاتف يهتف يقول:
ألا هلك الهلوك غيث بن فهر
…
وذو العز والمج التليد وذو الفخر
قال:
فأجبته فقلت:
ألا أيها الناعي أخا المجد والذكر
…
من المرء تنعاه لنا من بني فهر؟
فأجابه الهاتف فقال:
نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى
…
وذا الحسب المعدود والمنصب الفخر
قال: فأجبته فقلت:
لعمري لقد نوهت بالسيد الذي
…
له الفضل معلوم على ولد النضر
فأخبرنا أنا علمت وفاته
…
فإنك قد أخبرت جلا من الأمر
فأجابه الهاتف فقال:
مررت بنسوان يخمشن أوجها
…
عليه صياحا بين زمزم والحجر
قال فأجبته فقلت:
متى إنما عهدي به منذ جمعة
…
وستة أيام لغرة ذا الشهر
قال: فأجابه الهاتف فقال:
ثوى منذ أيام ثلاث كوامل
…
مع الصبح أو في الصبح في وضح الفجر
قال: فاستيقظ الرفقة وهي تتراجع بنعي ابن جدعان، وقالوا: إن كان أحد نعي لعز وشرف فقد نعي ابن جدعان؛ فقال الجني:
أرى الأيام لا تبقي عزيزا
…
لعزته ولا تبقي ذليلا
فأجبته فقلت:
ولا تبقي من الثقلين حيا
…
ولا تبقي الجبال ولا السهولا