الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس من المقالة التاسعة (في عقود الصّلح الواقعة بين ملكين مسلمين؛ وفيه فصلان)
الفصل الأوّل (في أصول تعتمد في ذلك)
اعلم أنّ الأصل في ذلك ما ذكره أصحاب السّير وأهل التّاريخ، أنه لمّا وقع الحرب بين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وبين معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه، في صفّين، في سنة سبع وثلاثين من الهجرة- توافقا على أن يقيما حكمين بينهما، ويعملا بما يتّفقان عليه. فأقام أمير المؤمنين عليّ أبا موسى الأشعريّ حكما عنه، وأقام معاوية عمرو بن العاص حكما عنه؛ فاتّفق الحكمان على أن يكتب بينهما كتاب بعقد الصّلح، واجتمعا عند عليّ رضي الله عنه، وكتب كتاب القضيّة بينهما بحضرته، فكتب فيه بعد البسملة:
هذا ما تقاضى أمير المؤمنين عليّ، فقال عمرو: هو أميركم، أما أميرنا فلا. فقال [الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا. لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا، فأبى ذلك عليّ مليّا من النّهار. ثم إن الأشعث] «1» بن قيس قال: أمح اسم أمير المؤمنين؛ فأجاب عليّ ومحاه. ثم قال عليّ: الله أكبر! سنّة بسنّة [ومثل بمثل]«2» . والله
إني لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فكتبت: محمد رسول الله، فقالوا:
لست برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحوه، فقلت: لا أستطيع أفعل! فقال إذن أرنيه فأريته فمحاه بيده، وقال:«إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب» .
وهذه نسخة كتاب القضيّة بين أمير المؤمنين عليّ وبين معاوية، فيما رواه أبو عبد الله الحسين بن نصر بن مزاحم المنقريّ، في «كتاب صفّين والحكمين» بسنده إلى محمد بن عليّ الشّعبيّ؛ وهو «1» :[بسم الله الرحمن الرحيم] .
هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضيا من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، قضيّة عليّ على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب، وقضيّة معاوية على أهل الشّام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب، إنا رضينا أن ننزل عند حكم كتاب الله بيننا حكما فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات. على ذلك تقاضينا، وبه تراضينا. وإنّ عليّا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس «2» ناظرا ومحاكما، ورضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما، على أنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه، وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه، ليتّخذان الكتاب إماما فيما بعثاله، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجدا فيه مسطورا، وما لم يجداه
مسمّى في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول الله الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافا، ولا يتّبعان في ذلك لهما هوى، ولا يدخلان في شبهة.
وأخذ عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص على عليّ ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرّضا بما حكما به من كتاب الله وسنّة نبيّه، ليس لهما أن ينقضا ذلك [ولا يخالفا]«1» إلى غيره، وأنهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهليهما، ما لم يعدوا الحقّ، رضي بذلك راض أو أنكر منكر، وأنّ الأمة انصار لهما على ما قضيا به من العدل.
فإن توفّي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فأمير شيعته وأصحابه يختارون رجلا، [يألون]«2» عن أهل المعدلة والإقساط، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق والحكم بكتاب الله وسنّة رسوله، وله مثل شرط صاحبه.
وإن مات واحد من الأميرين قبل القضاء، فلشيعته أن يولّوا مكانه رجلا يرضون عدله.
وقد وقعت [هذه]«3» القضيّة بيننا و [معها]«4» الأمن والتّفاوض، ووضع السّلاح، وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه: ليحكمان بكتاب الله وسنّة نبيّه، لا يدخلان في شبهة ولا يألوان اجتهادا، ولا يتعمّدان جورا، ولا يتّبعان هوى، ولا يعدوان ما في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله، فإن لم يفعلا برئت الأمّة من حكمهما، ولا عهد لهما ولا ذمّة. وقد وجبت القضيّة على ما سمّينا في هذا الكتاب من موقع الشّرط على الأميرين والحكمين والفريقين، والله أقرب شهيدا وأدنى حفيظا، والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل، والسّلاح موضوع، والسّبيل
مخلّى، والشاهد والغائب من الفريقين سواء في الأمر. وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق وأهل الشّام، ولا يحضرهما فيه إلا من أحبّا عن ملإ «1» منهما وتراض. وأجّل القاضيين المسلمون إلى رمضان: فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجّها له، عجّلاها، وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم، فإن ذلك إليهما. فإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنّة نبيّه إلى انقضاء الموسم، فالمسلمون على أمرهم الأوّل في الحرب، ولا شرط بين واحد «2» من الفريقين. وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه على التّمام «3» على ما في هذا الكتاب. وهم يد على من أراد في هذا الكتاب إلحادا أو ظلما، أو أراد له نقضا.
شهد على ما في هذا الكتاب من أصحاب عليّ: الأشعث بن قيس [الكنديّ]«4» ، وعبد الله بن عبّاس، والأشتر بن الحارث «5» ، وسعيد بن قيس الهمدانيّ، والحصين والطّفيل ابنا الحارث بن المطّلب، وأبو أسيد بن ربيعة الأنصاريّ، وخبّاب بن الأرتّ، وسهل بن حنيف الأنصاريّ، وأبو اليسر بن عمرو الأنصاريّ، ورفاعة بن رافع بن مالك الأنصاريّ، وعوف بن الحارث بن المطّلب القرشيّ، وبريدة الأسلميّ، وعقبة بن عامر الجهنيّ، ورافع بن خديج الأنصاريّ، وعمرو بن الحمق الخزاعيّ، والحسن والحسين ابنا عليّ، وعبد الله بن جعفر الهاشميّ، واليعمر بن عجلان
الأنصاريّ، وحجر بن عديّ الكنديّ، وورقاء «1» بن سميّ البجليّ، وعبد الله ابن الطّفيل الأنصاريّ «2» ، ويزيد بن حجيّة الدكريّ «3» ، ومالك بن كعب الهمدانيّ، وربيعة بن شرحبيل، وأبو صفرة، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعقبة بن حجيّة.
ومن أصحاب معاوية: حبيب بن مسلمة الفهميّ «4» ، و [أبو] الأعور السّلميّ «5» ، وبسر بن أرطاة القرشيّ، ومعاوية بن حديج الكنديّ، والمخارق بن الحارث الحميريّ، وزميل «6» بن عمرو السّكسكيّ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد «7» المخزوميّ، وحمزة بن مالك الهمدانيّ، وسبع بن زيد الحميريّ «8» ، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن مرثد الكلبيّ، وخالد بن الحصين السّكسكيّ، وعلقمة بن يزيد الحضرميّ، ويزيد ابن الحرّ «9» العبسيّ، ومسروق بن حملة العكّيّ، ونمير بن يزيد الحميريّ، وعبد الله بن عامر القرشيّ، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة القرشيّ، وعقبة «10» بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، ويزيد بن عمرو الجذاميّ، وعمّار بن الأخوص الكلبيّ، ومسعدة ابن عمر القينيّ، وعاصم بن المستنير الجذاميّ، وعبد الرحمن بن ذي كلاع
الحميريّ، والصباح بن جلهمة الحميريّ، وثمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكيم، وحمزة بن مالك [الهمداني]«1» .
وإنّ بيننا على ما في هذه الصّحيفة عهد الله وميثاقه. وكتب عمير يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين.
وأخرج أيضا بسنده إلى أبي إسحاق الشّيبانيّ أن عقد الصّلح كان عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان: خاتم في أسفلها، وخاتم في أعلاها. في خاتم عليّ «محمد رسول الله» وفي خاتم معاوية «محمد رسول الله» .
قلت: وذكر روايات أخرى فيها زيادة ونقص أضربنا عن ذكرها خوف الإطالة، إذ فيما ذكرنا مقنع. على أن المؤرّخين لم يذكروا من ذلك إلا طرفا يسيرا.