الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في قدمات البندق)
جمع قدمة بكسر القاف وسكون الدال المهملة، وهي رسائل تشتمل على حال الرّمي بالبندق «1» ، وأحوال الرّماة، وأسماء طير الواجب، واصطلاح الرّماة وشروطهم.
وهذه نسخة قدمة، كتب بها شيخنا الشيخ شمس الدّين محمد بن الصّائغ الحنفيّ الأديب رحمه الله، لصلاح الدّين بن المقرّ المحيويّ بن فضل الله؛ ونصّها:
الحمد لله الذي سدّد لصلاح الدّين سهام الواجب، وشيّد بنجاح المطلوب مرام الطّالب، وجعل حصول الرّزق الشّارد بالسّعي في المناكب، وسهّل الممتنع على القاصدين فما منهم إلا من رجع وهو صائب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا صاحب، شهادة تزجر طير الإشراك بهذه الأشراك من كلّ جانب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قرّبه فكان قاب قوسين أو أدنى وهذه أعلى المراتب، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين رقوا في العلياء لمراق لم يسم إليها طير مراقب، صلاة يسبق بها المصلّي إلى بقاع شرف يشرق سناه في المشارق والمغارب، ويرجع طائرا بالسّرور ولا رجوع الطائر الشّارد إلى المشارب.
وبعد، فإن الصّيد من أحلّ الأشياء وأحلاها، وأجلّها وأجلاها، وأبهرها وأبهاها، وأشهرها وأشهاها، وأفخرها قيمة، وأغزرها ديمة؛ بورود الطّير فيه إلى المناهل تنشرح الصدور، وبوقوعه في شرور الشّرك يتمّ السّرور؛ يحصّل عند متعاطيه نشاطا، ويزيده انبساطا، ويشرح خاطره، ويسرّح ناظره، ويملأ عينه قرّة، وقلبه مسرّة؛ يشجّع الجبان، ويثبّت الجنان، ويقوّي الشّهوة، ويسوّي الخطوة، ويسوق الظّفر، ويشوق النّظر، ويروق منه الورد والصّدر، ويفوق فيه الخبر على الخبر. قال بعض الحكماء:«قلّما يغمش ناظر زهرة، أو يزمن مريع طريدة» ؛ يعني بذلك من أدمن الحركة في الصّيد ونظر إلى البساتين، فاستمتع طرفه بنضرتها، وأنيق منظرها.
ومن ذا الذي ينكر لذّة الاصطياد، والطّرب بالقنص على الإطراد؟
ولله درّ القائل:
لولا طراد الصّيد لم تك لذّة
…
فتطاردي لي بالوصال قليلا.
هذا الشّراب أخو الحياة وما له
…
من لذّة حتّى يصيب عليلا!
يا حسنه من فعل اعتلّت بالنّسيم موارده ومصادره، وفاقت أوائله في اللّذاذة أواخره؛ ولله القائل:
إنّما الصّيد همّة ونشاط
…
يعقب الجسم صحّة وصلاحا
ورجاء ينال فيه سرور
…
حين يلقى إصابة ونجاحا!
وما أطيب الاقتناص بعد الشّرود، وكيف يرى موقع الوصل بعد الصّدود:
وزادني رغبة في الحبّ أن منعت
…
أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا!
تقضي رياضات النّفوس السامية بمعاطاة كاسه، ومصافاة ناسه، لما فيهم من الفتوّة، وكمال المروّة، وصدق اللسان، وثبات الجنان، وطيب الأخلاق، وحفظ الميثاق؛ لا يعرفون غير الصّدق وإن كانوا يميلون إلى الملق، ولا يبغون بصاحبهم بديلا يعطفون عليه عطف النّسق؛ لا سيّما تعاطي صيد طيور الواجب، الذي سنّة الأكابر وجعلوا أمره من الواجب، وتشرّفت به هممهم العالية: تارة إلى السّماء، وآونة إلى مشارع الماء.
لا يتمّ سرورهم إلا برؤية تمّ كبدر التّمام، ومصباح الظّلام؛ يفرّ من ظلّه فرارا، ويريك بياض لونه وسواد منقاره شيبا ووقارا؛ ولا يداوي هموم لغبهم مثل كيّ، لأجنحته الخوافق في الخافقين نشر وطيّ، ولا تبتهج نفوسهم النّفيسة إلا بإوزّة، يزدري دلالها بالكاعب المعتزّة، ولا يطرب أسماعهم غير لغات اللّغلغة، حين تمتدّ كأنها مدامة في الزّجاجة مفرغة، ولا يؤنسهم إلا الأنيسة الأنيسة، والدّرّة النّفيسة، ولا يذهب حرجهم غير الحبرج الصّادح، المستوقف بحسنه كلّ غاد ورائح؛ تكاد قلوبهم تطير بالفرح عند رؤية النّسر الطائر، وتجبر خواطرهم بكسر ذلك الكاسر؛ إذا عاينوا عقبانا أعقبهم الفرح، ونزح عنهم التّرح، وإن كرّ كركيّ فرّ عنهم البوس، ورأوا على رأسه ذلك التّاج الذي لم يعل مثله على الرّؤوس؛ وإن عرض غرنوق غرقوا في بحار أفكارهم، وجدّوا إلى أن يقع بمجدول أوتارهم، وإن لاح ضوع كالذّهب المصوغ، ألقوه في الحبال وهو بدمه مصبوغ، وإن مرّ مرزم كالخودة الحسناء، ضربوا له الآلة الحدباء، وإن مرّ السّبيطر أجنحته كالسّحائب، جاءته المرامي من كلّ جانب، وإن عنّ عنز عمدوا إليه، حتّى يسقط في يديه؛ قد تعالوا في رتبها، وتغالوا في وصف وشيها، وجعلوا كلّ آلة
صنيعة، وربّة جمال منيعة، وبعيدة الرّمي بديعة:- من كلّ قوس هي في العين كالحاجب، أو النّون التي أجادها الكاتب؛ تدوّر الطائر عند الرّمي وتذيبه، وتئنّ أنينا أولى به من تصيبه. وبندق جبلت طينته على صوب الصّواب، يستنزل الطّير ولو استتر بذيل السحاب؛ كأنه النّجم الثّاقب، والشّهاب الصّائب؛ يرى الطّير كالسحاب الواكف، فينقضّ عليه انقضاض البرق الخاطف، ويرجع النّسر من حتفه راتعا، ويغدو بعد أن كان طائرا واقعا، ويصير بعد أن كان كاسرا مكسورا، وفي سوار القسيّ مأسورا؛ فهنالك يلفى الغالب وهو مغلوب، والطير الواجب وهو مندوب؛ فحينئذ تنشرح النفوس، وتطرب ولا طربها بالكؤوس.
ولما كان بهذه المنزلة العظيمة، والمرتبة الجسيمة، تعاطته الملوك وأبناء الملوك، ونظموا عقده بحسن السّلوك «1» ، وارتاضت به النفوس الطاهرة، واعتاضت به عن الكؤوس الدّائرة، ورأت به تكميل الأدوات، وسامت به فعل الواجب وإن قيل: إنّ ذلك من الهفوات؛ فهو تعب تنشأ الراحة عنه، ولعب لم يكن شيء أشبه بالجدّ منه.
فلذلك قصد الجناب الكريم، العاليّ، الصّلاحيّ، صلاح الدّنيا والدين، ونجاح الطّالبين، سليل الوزراء، ونجل الكبراء، وصدر الرؤساء، وعين العظماء، ابن المقرّ المحيويّ بن فضل الله، أدام الله تعالى علاه،
وكبت عداه، وأعلى معاليه، وشكر مساعيه، وأطال حياته، وأطاب ذاته- أن يسلك تلك المسالك، ويريض نفسه الكريمة بذلك، ويتحيّل على تحصيل اللذات بالتّحوّل، عملا بقول الشاعر:
تنقّل فلذّات الهوى في التّنقّل! وعمد إلى تحصيل آلاته، سائرا كالبدر في هالاته، فسار مع سرايا كالنّجوم، يتفاكهون في الحديث بالمنثور والمنظوم، ويخلطون جدّ القول بهزله، كلّما خلط لهم طلّ الجود بوبله، وانحدروا في النّيل بجمعهم الصحيح، وقصدوا المرامي العالية ولم يقنعوا من الأيام بالرّيح، وظلّوا يسيرون في تلك المراكب، التي كأنها قطع السّحائب.
هذا وهم يتشوّفون إلى المصايد، ويشرفون إلى الشّوارد، فيطلعون أحيانا إلى البرّ متفرّجين، وبطيب ذلك النسيم متأرّجين:
نسيم قد سرى فيهم بنشر
…
فأذكرهم بمسراه السّريّا!
كرامته استقرّت حين وافى
…
له نفس يعيد الميت حيّا!
ويجتنون من الغصن الزّاهي قدّا، ويجتلون من الورد الزّاهر خدّا، ويتأمّلون ضحك الأرض من بكاء السماء، وشماخة القضب عند خرير الماء؛ لا تذوق أجفانهم طعم الكرى، ولا يميلون عن السّير ولا يملّون السّرى؛ ما منهم إلا من إذا رأى الطّير جائشا، عاد من وقته له حائشا؛ بينما هم يسيرون متفرّقين، حتّى إذا لاح لهم طير تداعوا إليه غير مقصّرين والتفّوا محلّقين؛ ولم يزالوا كذلك ينهمون العيش، بالدّعة والطّيش؛ حتّى إذا أقبل اليوم المبارك الثامن والعشرون من جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وهو اليوم الذي عزم فيه الجناب الصّلاحيّ على الاصطياد، بالبنادق الحداد، فتباشرت به الطّيور، وسدّت بأجنحتها الثّغور، وسهل عندها فيه نزول الرئيس، فجادت له بالنّفيس، وخرجت من قشرها، وسمحت عند مدّ القوس بحزّ
نحرها، ورغب كلّ منها أن يكون له بذلك أوفر القسم، وترجّى أن يكون هو المكتوب له في القدم.
ومدّ يده نحو السّما، فأصاب مرزما؛ فيا له من صيد فاق به على الأكابر الصّيد! ويا له من يوم صار بنحر الطّير يوم العيد!! قام فيه بواجب ما شرعه الرّماة من الشّرع، وذكّرنا بهذا الصّرع يوم ذلك الصّرع؛ فلا زال سهمه مسدّد الأغراض، وجوهره محميّا من الأعراض؛ يجري بمراده المقدور، ويطيعه في سائر الأمور.
وقد نظمت مخمّسا مشتملا على ذكر طيور الواجب، وطرّزته باسمه، لأن هذه القدمة قد قدّمت له وجعلت برسمه؛ غير أني أعتذر عنها، لعدم مادّة عندي أستمدّ منها:
جلّ كؤوسا عطّلت بالرّاح
…
ولا تطع فيها كلام لاحي
واشرب هنيئا واسقني يا صاح
…
واذكر زمانا مرّ بالأفراح
هبّت به فيما مضى رياحي!
…
أيام كنت أصحب الأكابرا
وأغتدي مع الرّماة سائرا
…
ولا أزال بالغيار غائرا
إذا رأيت في المياه طائرا
…
نحوته من سائر النّواحي!
فتارة كنت أصيد النّسرا
…
وبعده العقاب يحكي الجمرا
والكيّ والكركيّ صدت جهرا
…
وصدت غرنوقا «1» وعنزا قهرا
وكنت بالإوزّ في انشراح!
…
وتارة تمّا كبدر التّمّ
تتبعه أنيسة كالنّجم
ولغلغ أسود مسك الهمّ
…
وحبرج عن الرّماة محمي
والضّوع مع سبيطر «1» سيّاح!
…
وكم وكم قد صدت يوما مرزما
أنزلته بالقوس من جوّ السّما
…
جناحه يحكي طرازا معلما
على بياض شية شبه الدّما
…
كأنّه ليل على صباح!
حيث الصّبا تشفع بالقبول
…
وشملنا يجمع بالشّمول
في مجلس ليس به فضولي
…
وجاءنا التّوقيع في الوصول:
فسادكم يغفر بالصّلاح
…
السّيّد الفائق في أفعاله
والمزدري بالبدر في كماله
…
والمشتري حسن الثّنا بماله
لا أحد يحكيه في نواله:
…
إلا أخوه معدن السّماح!
من ساد في الدّنيا على الكتّاب
…
وصان سرّ الملك في حجاب
عليّ العالي على السّحاب
…
الباذل المال بلا حساب! «2»
زاده الله نعما، وأجرى له في النّدى يدا، وثبّت له في العلى قدما؛ بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة رسالة في صيد البندق، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين أبي الثّناء محمود بن سلمان الحلبيّ، رحمه الله؛ وهي «3» :
الرّياضة- أطال الله بقاء الجناب الفلانيّ، وجعل حبّه كقلب «1» عدوّه واجبا، وسعده كوصف عبده للمسارّ جالبا، وللمضارّ حاجبا- تبعث النفس على مجانبة الدّعة والسّكون، وتصونها عن مشابهة الحمائم في الرّكون إلى الوكون، وتحضّها على أخذ حظّها من كلّ فنّ حسن، وتحثّها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللّسن، وتأخذ بها طورا في الجدّ وطورا في اللّعب، وتصرفها من ملاذّ السّموّ في المشاقّ التي يستروح إليها التّعب؛ فتارة تحمل الأكابر والعظماء في طلب الصّيد على مواصلة السّرى، ومقاطعة الكرى، ومهاجرة الأوطار، ومهاجمة الأخطار، ومكابدة الهواجر، ومبادرة الأوابد التي لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر؛ وذلك من محاسن أوصافهم التي يذمّ المعرض عنها، وإذا كان المقصود من ميلهم جدّ الحرب فهذه صورة لعب يخرج إليها منها. وتارة يدعوهم «2» إلى البروز إلى الملق، ويحدوهم «3» في سلوك طريقها مع من هو دونهم على ملازمة الصّدق ومجانبة الملق، فيعتسفون إليها الدّجى، إذا سجى، ويقتحمون في بلوغها حرق «4» النّهار، إذا انهار، ويتنعّمون بوعثاء السّفر، في بلوغ الظّفر، ويستصغرون ركوب الخطر، في إدراك الوطر، ويؤثرون السّهر على النّوم، واللّيلة على اليوم، والبندق على السّهام، والوحدة على الالتئام.
ولمّا عدنا من الصّيد الذي اتّصل به «5» حديثه، وشرح له قديم أمره وحديثه، تقنا إلى أن نشفع صيد السوانح، برمي الصّوادح، وأن نفعل في الطّير الجوانح، بأهلّة القسيّ ما تفعل الجوارح، تفضيلا لملازمة الارتحال، على الإقامة في الرّحال، وأخذا بقولهم:
لا يصلح النّفس إذ كانت مدبّرة
…
إلّا التّنقّل من حال إلى حال!
فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها، وتسير «1» من الأفق الغربيّ إلى موضع «2» رمسها، وتغازل عيون النّور بمقلة أرمد، وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجوه العوّد، فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق، أو عليل يقضي بين صحبه بقايا مدّة الرّمق؛ وقد اخضلّت عيون النّور لوداعها، وهمّ الرّوض بخلع حلّته المموّهة بذهب شعاعها:
والطّلّ في أعين النّوّار تحسبه
…
دمعا تحيّر لم يرقأ ولم يكف:
كلؤلؤ ظلّ عطف الغصن متّشحا
…
بعقده وتبدّى منه في شنف
يضمّ من سندس الأوراق في صرر
…
خضر ويجنى من الأزهار في صدف
والشّمس في طفل الإمساء تنظر من
…
طرف غدا وهو من خوف الفراق خفي
كعاشق سار عن أحبابه وهفا
…
به الهوى فتراآهم على شرف
إلى أن نضّى المغرب عن الأفق حلي «3» قلائدها، وعوّضه عنها من النّجوم بخدمها وولائدها؛ فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلّة، ومنعنا جفوننا أن ترد النّوم إلا تحلّة؛ ونهضنا وبرد اللّيل موشّع، وعقده مرصّع؛ وإكليله مجوهر، وأديمه معنبر؛ وبدره في خدر سراره مستكنّ، وفجره في حشا مطالعه مستجنّ؛ كأن امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل، وكأنّ ثريّاه لامتداده معلّقة بأمراس كتّان إلى صمّ جندل «4» :
ولا حت نجوم اللّيل زهرا كأنّها
…
عقود على خود من الزّنج تنظم
محلّقة في الجوّ تحسب أنّها
…
[طيور]«5» على نهر المجرّة حوّم
إذا لاح بازي الصّبح ولّت يؤمّها
…
إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم!
إلى حدائق ملتفّة، وجداول محتفّة؛ إذا خمش النّسيم غصونها اعتنقت اعتناق الأحباب، وإذا فرك مرّ المياه متونها انسابت في الجداول انسياب الحباب، ورقصت في المناهل رقص الحباب؛ وإن لثم ثغور نورها حيّته بأنفاس المعشوق، وإن أيقظ نواعس ورقها غنّته بألحان المشوق؛ فنسيمها وان، وشميمها لعرف الجنان عنوان، ووردها من سهر نرجسها غيران:
وطلّها في خدود الورد منبعث
…
طورا وفي طرر الرّيحان حيران!
وطائرها غرد، وماؤها مطّرد؛ وغصنها تارة يعطفه النّسيم إليه فينعطف، وتارة [يعتدل]«1» تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف؛ مع ما في تلك الرياض من توافق المحاسن وتباين التّرتيب، إذ كلّما اعتلّ النّسيم صحّ الأرج وكلّما خرّ الماء شمخ القضيب:
فكأنّما تلك الغصون إذا ثنت
…
أعطافها ريح «2» الصّبا أحباب:
فلها إذا افترقت من استعطافها
…
صلح ومن سجع الحمام عتاب
وكأنّها حول العيون موائسا
…
شرب وهاتيك المياه شراب!
فغديرها كأس وعذب نطافها
…
راح وأضواء النّجوم حباب!
يحيط بملق نطاقها صاف، وظلال دوحها ضاف، وحصاها لصفاء مائها في نفس الأمر راكد وفي رأي العين طاف؛ إذا دغدغها النّسيم حسبت ماءها بتمايل الظّلال فيه يتبرّج ويميل؛ وإذا طّردت عليه أنفاس الصّبا ظننت أفياء تلك الغصون تارة تتموّج وتارة تسيل: فكأنه محبّ هام بالغصون هوى فمثّلها في قلبه، وكأنّ النسيم كلف بها غار من دنوّها إليه فميلها عن قربه:
والنّور «1» مثل عرائس
…
لفّت عليهنّ الملاء
شمّرن فضل الأزرعن
…
سوق خلاخلهنّ ماء
والنّهر كالمرآة تنظر «2»
…
وجهها فيه السّماء!!!
وكأن صوافّ الطّيور المتّسقة «3» بتلك الأرض «4» خيام، أو ظباء بأعلى الرّقمتين قيام، أو أباريق فضّة رؤوسها لها أقدام «5» ، ومناقيرها المحمرّة أوائل ما انسكب من المدام، وكأن رقابها رماح أسنّتها من ذهب، أو شموع أسود رؤوسها ما انطفى وأحمره ما التهب؛ وكنا كالطّير الجليل عدّة، وكطراز العمر الأوّل جدّة:
من كلّ أبلج كالنّسيم لطافة
…
عفّ الضّمير مهذّب الأخلاق
مثل البدور ملاحة، وكعمرها
…
عددا، ومثل الشّمس في الإشراق!
ومعهم قسيّ كالغصون في لطافتها ولينها، والأهلّة في نحافتها وتكوينها، والأزاهر في ترافتها وتلوينها؛ بطونها مدبّجة، ومتونها مدرّجة؛ كأنها كواكب الشّولة في انعطافها، أو أرواق الظّباء في التفافها؛ لأوتارها عند القوادم أوتار، ولبنادقها [في]«6» الحواصل أوكار؛ إذا انتضيت لصيد «7» ذهب من الحياة نصيبه، وإن انتضت لرمي بدا لها أنها أحقّ به ممن يصيبه؛ ولعلّ ذاك الصّوت زجر لبندقها أن يبطيء في سيره، أو يتخطّى الغرض إلى غيره، أو وحشة لمفارقة أفلاذ كبدها، أو أسف على خروج بنيها من يدها؛ على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء، وشفعت لخصمها التّحذير بالإغراء:
مثل العقارب أذنابا معقّدة
…
لمن تأمّلها أو حقّق النّظرا!
إن مدّها قمر منهم وعاينه
…
مسافر الطّير فيها أو نوى «1» سفرا
فهو المسيء اختيارا إذ نوى سفرا
…
وقد رأى طالعا في العقرب القمرا!
ومن البنادق كرات متّفقة السّرد، متّحدة العكس والطّرد، كأنما خرطت من المندل الرّطب أو عجنت من العنبر الورد؛ تسري كالشّهب في الظلام، وتسبق إلى مقاتل الطّير مسدّدات السّهام:
مثل النّجوم إذا ما سرن في أفق
…
عن الأهلّة لكن نونها راء
ما فاتها من نجوم اللّيل إن رمقت
…
إلا ثبات يرى فيها وأضواء
تسري ولا يشعر اللّيل البهيم بها
…
كأنّها في جفون اللّيل إغفاء
وتسمع الطّير إذ تهفو قوادمه
…
خوافقا في الدّياجي وهي صمّاء!!!
يصونها جراوة «2» كأنها درج درر، أو درج غرر، أو كمامة ثمر، أو كنانة نبل، أو غمامة وبل؛ حالكة الأديم، كأنّما رقمت بالشّفق حلّة ليلها البهيم:
كأنّها في وضعها مشرق
…
تنبثّ منه في الدّجى الأنجم
أو ديمة قد أطلعت قوسها
…
ملوّنا وانبثقت تسجم!
فاتّخذ كلّ له مركزا، وتقضّى من الإصابة وعدا منجزا، وضمن له السّعد أن يصبح لمراده محرزا:
كأنّهم في يمن أفعالهم
…
في نظر المنصف والجاحد:
قد ولدوا في طالع واحد
…
وأشرقوا من مطلع واحد!
فسرت علينا من الطّير عصابة، أظلّتنا من أجنحتها سحابة، من كلّ طائر
أقلع يرتاد مرتعا، فوجد ولكن مصرعا، وأسفّ يبتغي ماء جمّا فوجد ولكن السّمّ منقعا، وحلّق في الفضاء يبغي ملعبا فبات هو وأشياعه سجّدا لمحاريب القسيّ وركّعا؛ فتبرّكنا بذلك الوجه الجميل، وتداركنا أوائل ذلك القبيل.
فاستقبل أوّلنا تمام بدره، وعظم في نوعه وقدره؛ كأنه برق كرع في غسق، أو صبح عطف على بقيّة الدّجى عطف النّسق؛ تحسبه في أسداف المنى غرّة نجح، وتخاله تحت أذيال الدّجى طرّة صبح؛ عليه من البياض حلّة وقار، وله كدهن «1» عنبر فوق منقار من قار؛ له عنق ظليم، والتفاتة ريم، وسرى غيم يصرّفه نسيم:
كلون المشيب، وعصر الشّباب
…
ووقت الوصال، ويوم الظّفر!
كأنّ الدّجى غار من لونه
…
فأمسك منقاره ثم فرّ!
فأرسل إليه عن الهلال نجما، فسقط منه ما كبر بما صغر حجما؛ فاستبشر بنجاحه، وكبّر «2» عند صياحه، وحصّله «3» من وسط الماء بجناحه.
وتلاه كيّ نقيّ اللّباس، مشتعل شيب الرّاس، كأنّه في عرانين شيبه لا وبله كبير أناس؛ إن أسفّ في طيرانه فغمام، وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النّسيم زمام؛ ذو عيبة كالجراب، ومنقار كالحراب، ولون يغرّ في الدّجى كالنّجم ويخدع في الضّحى كالسّراب؛ ظاهر الهرم، كأنما يخبر عن عاد ويحدّث عن إرم:
إن عام في زرق الغدير حسبته
…
مبيضّ غيم في أديم سماء
أو طار في أفق السّماء ظننته
…
في الجوّ شيخا عائما في ماء
متناقض الأوصاف فيه خفّة الجهّال
…
تحت رزانة العلماء!
فثنى الثاني إليه عنان بندقه، وتوخّاه فيما بين رأسه وعنقه، فخّر كمارد انقضّ عليه نجم من أفقه؛ فتلقاه الكبير بالتّكبير، واختطفه قبل مصافحة الماء «1» من وجه الغدير.
وقارنته إوزّة حلباء دكناء، وحلّتها حسناء «2» ؛ لها في الفضاء مجال، وعلى طيرانها خفّة ذوات التّبرّج وخفر ربّات الحجال؛ كأنّما عبّت في ذهب، أو خاضت في لهب؛ تختال في مشيتها كالكاعب، وتتأنّى في خطوها كاللّاعب، وتعطف «3» بجيدها كالظّبي الغرير، وتتدافع في سيرها مشي القطاة إلى الغدير:
إذا أقبلت تمشي فخطرة كاعب
…
رداح، وإن صاحت فصولة حازم «4»
وإن أقلعت قالت لها الرّيح: ليت لي
…
خفا ذي الخوافي أو قوى ذي القوادم
فأنعم بها في البعد زاد مسافر
…
وأحسن بها في القرب تحفة قادم!
فلوى الثالث جيده إليها، وعطف بوجه إقباله «5» عليها، فلجّت في ترفّعها ممعنة، ثم نزلت على حكمه مذعنة؛ فأعجلها عن استكمال الهبوط، واستولى عليها بعد استمرار القنوط.
وحاذتها لغلغة تحكي لون وشيها، وتصف حسن مشيها، وتربي عليها بغرّتها، وتنافسها في المحاسن كضرّتها؛ كأنها مدامة قطبت بمائها، أو غمامة شفّت عن بعض نجوم سمائها:
بغرّة بيضاء ميمونة
…
تشرق في اللّيل كبدر التّمام!
وإن تبدّت في الضّحى خلتها
…
في الحلّة الدّكناء برق الغمام!
فنهض الرابع لاستقبالها، ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها؛ فجدّت في العلوّ مبتذّة «1» ، وتطاردت أمام بندقه ولولا طراد الصّيد لم تك لذّة؛ وانقضّ عليها من يده شهاب حتفها، وأدركها الأجل لخفّة طيرانها من خلفها، فوقعت من الأفق في كفّه، ونفر ما في بقايا صفّها عن صفّه.
وأتت في إثرها أنيسة آنسة «2» ، كأنّها العذراء العانسة، أو الأدماء «3» الكانسة، عليها خفر الأبكار، وخفّة ذوات الأوكار، وحلاوة المعاني التي تجلى على الأفكار، ولها أنس الرّبيب، وإدلال الحبيب، وتلفّت الزائر المريب من خوف الرّقيب؛ ذات عنق كالإبريق، أو الغصن الوريق، قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشّقيق، وصدر بهيّ الملبوس، شهيّ إلى النفوس، كأنّما رقم فيه النهار باللّيل أو نقش فيه العاج بالآبنوس، وجناح ينجيها من العطب، يحكي لونها المندل الرّطب لولا أنه حطب:
مدبّجة الصّدر تفويفه
…
أضاف إلى اللّيل ضوء النهار
لها عنق خاله من رآه
…
شقائق قد سيّجت بالبهار!
فوثب الخامس منها إلى الغنيمة، ونظم في سلك رميه تلك الدّرّة اليتيمة، وحصل بتحصيلها بين الرّماة على الرّتبة الجسيمة.
وأتى على صوتها حبرج تسبق همّته جناحه، ويغلب خفق قوادمه صياحه؛ مدبّج المطا، كأنّما خلع حلّة منكبيه على القطا؛ ينظر من لهب، ويخطو على رجلين من ذهب:
يزور الرّياض، ويجفو الحياض
…
ويشبه في اللّون كدر القطا
ويغوي «1» الزّروع ويلهو بها
…
ولا يرد الماء إلا خطا!
فبدره السادس قبل ارتفاعه، وأعان قوسه بامتداد باعه، فخرّ على الألاء كبسطام بن قيس «2» ، وانقضّ عليه راميه [فحصّله]«3» بحذق وحمله بكيس.
وتعذّر على السّابع مرامه، ونبا [به]«4» عن بلوغ الأرب مقامه؛ فصعد هو وترب له إلى جبل، وثبت في موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل.
فعنّ له نسر ذو قوائم «5» شداد، ومناسر حداد، كأنّه من نسور لقمان بن عاد؛ تحسبه في السماء ثالث «6» أخويه، وتخاله في الفضاء قبّته المنسوبة إليه؛ قد حلق كالفقراء رأسه، وجعل مما قصّر من الدّلوق الدّكن لباسه، واشتمل من الرّياش العسليّ إزارا، وألف العزلة فلا تجد له إلا في قنن الجبال الشّواهق مزارا؛ قد شابت نواصي اللّيل وهو لم يشب، ومضت الدّهور وهو من الحوادث في معقل أشب:
مليك طيور الأرض شرقا ومغربا
…
وفي الأفق الأعلى له أخوان!
له حال فتّاك، وحلية ناسك
…
وإسراع مقدام، وفترة وان!
فدنا من مطاره، وتوخّى ببندقه عنقه فوقع في منقاره؛ فكأنّما هدّ منه
صخرا، أو هدم به بناء مشمخرّا؛ ونظر إلى رفيقه، مبشّرا له بما امتاز به عن فريقه.
وإذا به قد أظلته عقاب كاسر، كأنّما أضلّت صيدا أفلت من المناسر؛ إن حطّت فسحاب انكشف، وإن أقامت فكأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا لدى وكرها العنّاب والحشف «1» ، بعيدة ما بين المناكب:
إذا أقلعت لجّت علوّا كأنّما
…
تحاول ثأرا عند بعض الكواكب «2»
يرى الطّير والوحش في كفّها
…
ومنقارها ذا عظام مزاله
فلو أمكن الشّمس من خوفها
…
إذا طلعت ما تسمّت غزاله!
فوثب إليها الثامن وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها، ورماها بأوّل بندقة فما أخطأ قادمة جناحها؛ فأهوت كعود صرع، أو طود صدع؛ قد ذهب باسها، وتذهّب بدمها لباسها؛ وكذلك القدر يخادع الجوّ عن عقابه، ويستنزل الأعصم من عقابه، فحملها بجناحها المهيض، ورفعها بعد التّرفّع في أوج جوّها من الحضيض، ونزل إلى الرّفقة، جذلا بربح الصّفقة.
فوجد التّاسع قد مرّ به كركيّ طويل الشّفار، سريع النّفار، شهيّ الفراق، كثير الاغتراب يشتو بمصر ويصيف بالعراق؛ لقوادمه في الجوّ حفيف، ولأديمه لون سماء طرأ عليها غيم خفيف؛ تحنّ إلى صوته الجوارح، وتعجب من قوّته الرّياح البوارح؛ له أثر حمرة في رأسه كوميض جمر تحت رماد، أو بقيّة جرح تحت ضماد، أو فصّ عقيق شفت عنه بقايا ثماد؛ ذو منقار كسنان، وعنق كعنان؛ كأنّما ينوس، على عودين من آبنوس:
إذا بدا في أفق مقلعا
…
والجوّ كالماء تفاويفه:
حسبته في لجّة مركبا
…
رجلاه في الأفق مجاديفه!
فصبر له حتّى جازه مجلّيا، وعطف عليه مصلّيا، فخرّ مضرّجا بدمه، وسقط مشرفا على عدمه؛ وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون، وأصابه القدر بحبّة من حمإ مسنون؛ فكثر التكبير من أجله، وحمله على وجه الماء برجله «1» .
وحاذاه غرنوق حكاه في زيّه وقدره، وامتاز عنه بسواد رأسه وصدره؛ له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه، معقودتان من أذنيه مكان شنفه «2» :
له من الكركيّ أوصافه
…
سوى سواد الصّدر والرّاس
إن شال رجلا وانبرى قائما
…
ألفيته هيئة برجاس!
فأصغى العاشر له منصتا، ورماه متلفّتا؛ فخرّ كأنّه صريع الألحان، أو نزيف بنت الحان؛ فأهوى إلى رجله بيده [وأيده]«3» ، وانقضّ عليه انقضاض الكاسر على صيده.
وتبعه في المطار ضوع «4» ، كأنّه من النّضار مصنوع، تحسبه عاشقا قد مدّ صفحته، أو بارقا قد بثّ لفحته:
طويلة رجلاه مسودّة
…
كأنّما منقاره خنجر
مثل عجوز رأسها أشمط
…
جاءت وفي رقبتها معجر «5» !
فاستقبله الحادي عشر ووثب، ورماه حين «1» حاذاه من كثب، فسقط كفارس تقطّر عن جواده، أو وامق «2» أصيبت حبّة فؤاده؛ فحمله بساقه، وعدل به إلى رفاقه.
واقترن به مرزم له في السماء سميّ «3» معروف، ذو منقار كصدغ معطوف، كأن رياشه فلق اتّصل به شفق، أو مآء صاف علق بأطرافه علق:
له جسم من الثّلج
…
على رجلين من نار:
إذا أقلع ليلا قلت
…
برق في الدّجى ساري!
فانتحاه الثاني عشر ميمّما، ورماه مصمّما، فأصابه في زوره، وحصّله من فوره، وحصل له من السّرور ما خرج به عن طوره.
والتحق به سبيطر، كأنه [مدية]«4» مبيطر؛ ينحطّ كالسّيل، ويكرّ على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونيه بين ضدّين يقبل منهما بالنّهار ويدبر باللّيل؛ يتلوّى في منقاره الأيم «5» ، تلوّي التّنّين في الغيم:
تراه في الجوّ ممتدّا وفي فمه
…
من الأفاعي شجاع أرقم ذكر:
كأنّه قوس رام عنقه يدها
…
ورجله رجلها «6» والحيّة الوتر!
فصوّب الثالث عشر إليه بندقه، فقطع لحيه وعنقه؛ فوقع كالصّرح الممرّد، أو الطّراف الممدّد.
واتّبعه عناز «1» أصبح في اللّون ضدّه، وفي الشّكل ندّه؛ كأنّه ليل ضمّ الصّبح إلى صدره، أو انطوى على هالة بدره:
تراه في الجوّ عند الصّبح حين بدا
…
مسودّ أجنحة مبيضّ حيزوم «2» :
كأنّه حبشيّ «3» عام في نهر
…
وضمّ في صدره طفلا من الرّوم!
فنهض تمام القوم إلى التّتمّة، وأسفرت عن نجح الجماعة تلك اللّيلة المدلهمّة؛ وغدا ذلك الطّير الواجب واجبا، وكمل العدد به قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا؛ فيا لها ليلة حضرنا بها الصادح في الفضاء المتّسع، ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كلّ شمل مجتمع، وأصبحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النّظام، أو شرب كأنّ رقابها من اللّين لم يخلق لهنّ عظام؛ وأصبحنا مثنين على مقامنا، منثنين بالظّفر إلى مستقرّنا ومقامنا، داعين للمولى جهدنا، مذعنين له قبلنا أوردّنا، حاملين ما صرعنا إلى بين يديه، عاملين على التّشرّف بخدمته والانتماء إليه:
فأنت الذي لم يلف من لا يودّه
…
ويدعى له في السّرّ أو يدّعى له:
فإن كان رمي، أنت توضح طرقه
…
وإن كان جيش: أنت تحمى قبيله «4» !
والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل، بمنّه وكرمه. [إنما أثبتّ هذه الرسالة بكمالها لكثرة ما اشتملت عليه من الأوصاف، ولتعلق بعضها ببعض]«5» .