الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة (فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول؛ ممّا يكتب في الطّرّة والمتن)
أما الطّرّة: فليعلم أنّ الذي ينبغي أن يكتب في الطّرّة هنا: «هذا عقد صلح» ويكمل على ما تقدّم في الهدنة، ولا يكتب فيه:«هذه هدنة» لما يسبق إلى الأذهان من أن المراد من الهدنة ما يجري بين المسلمين والكفّار.
وأما المتن فعلى نوعين:
النوع الأوّل (ما يكون العقد فيه من الجانبين)
ولم أر فيه للكتّاب إلا الاستفتاح بلفظ: «هذا» ، وعليه كتب كتاب القضيّة بين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، على ما تقدّم ذكره.
وعلى ذلك استكتب هارون الرّشيد ولديه: محمدا الأمين، وعبد الله المأمون: العهدين اللّذين عهد فيهما بالخلافة بعده لابنه الأمين، وولّى خراسان ابنه المأمون، ثم عهد بالخلافة من بعد الأمين للمأمون، وأشهد فيهما، وبعث بهما إلى مكّة فعلّقا في بطن الكعبة، في جملة المعلّقات التي
كانت تعلّق فيها، على عادة العرب السّابقة: من تعليق القصائد ونحوها.
وبذلك سمّيت القصائد السبع المشهورة: بالمعلّقات لتعليقهم إيّاها في جوف الكعبة.
أما عهد الأمين، فنسخته بعد البسملة- على ما ذكره الأزرقيّ «1» في أخبار مكّة- ما صورته:
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد ابن أمير المؤمنين في صحّة من بدنه وعقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره.
إنّ أمير المؤمنين هارون ولّاني العهد من بعده، وجعل لي البيعة في رقاب المسلمين جميعا، وولّى أخي عبد الله ابن أمير المؤمنين هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين من بعدي، برضا منّي وتسليم، طائعا غير مكره، وولّاه خراسان بثغورها، وكورها، وجنودها، وخراجها، وطرازها «2» ، وبريدها، وبيوت أموالها، وصدقاتها، وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها، في حياته وبعد وفاته، فشرطت لعبد الله ابن «3» أمير المؤمنين عليّ الوفاء بما جعله له أمير المؤمنين هارون: من البيعة والعهد، وولاية الخلافة وأمور المسلمين بعدي، وتسليم ذلك له، وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها، وما أقطعه أمير المؤمنين هارون من قطيعة، أو جعل له من عقدة «4» أو ضيعة من ضياعه وعقده، أو ابتاع له من الضّياع والعقد،
وما أعطاه في حياته وصحّته: من مال، أو حليّ، أو جوهر، أو متاع، أو كسوة، أو رقيق، أو منزل، أو دوابّ، قليلا أو كثيرا، فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين موفّرا عليه، مسلّما له. وقد عرفت ذلك كلّه شيئا فشيئا باسمه وأصنافه ومواضعه، أنا وعبد الله ابن هارون أمير المؤمنين. فإن اختلفنا في شيء منه فالقول فيه قول عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، لا أتبعه بشيء من ذلك، ولا آخذه منه، ولا أنتقصه، صغيرا ولا كبيرا [من ماله]«1» ولا من ولاية خراسان ولا غيرها مما ولّاه أمير المؤمنين من الأعمال، ولا أعزله عن شيء منها، ولا أخلعه، ولا أستبدل به غيره، ولا أقدّم عليه في العهد والخلافة أحدا من الناس جميعا، ولا أدخل عليه مكروها في نفسه ولا دمه، ولا شعره ولا بشره، ولا خاصّ ولا عامّ من أموره وولايته، ولا أمواله، ولا قطائعه، ولا عقده، ولا أغيّر عليه شيئا لسبب من الأسباب، ولا آخذه ولا أحدا من عمّاله وكتّابه وولاة أمره- ممن صحبه وأقام معه- بمحاسبة، ولا أتتبّع شيئا جرى على يديه وأيديهم في ولاية خراسان وأعمالها وغيرها مما ولاه أمير المؤمنين في حياته وصحّته: من الجباية، والأموال، والطّراز، والبريد، والصّدقات، والعشر والعشور، وغير ذلك، ولا آمر بذلك أحدا من الناس، ولا أرخّص فيه لغيري، ولا أحدّث نفسي فيه بشيء أمضيه عليه، ولا ألتمس قطيعة له، ولا أنقص شيئا مما جعله له هارون أمير المؤمنين وأعطاه في حياته وخلافته وسلطانه من جميع ما سمّيت في كتابي هذا. «2» وآخذ له عليّ وعلى جميع الناس البيعة، ولا أرخّص لأحد- من جميع الناس كلّهم في جميع ما ولّاه- في خلعه ولا مخالفته، ولا أسمع من أحد من البريّة في ذلك قولا، ولا أرضى بذلك في سرّ ولا علانية، ولا أغمض عليه، ولا أتغافل عنه، ولا أقبل من برّ من العباد ولا فاجر، ولا صادق ولا كاذب، ولا ناصح ولا غاشّ، ولا قريب
ولا بعيد، ولا أحد من ولد آدم عليه السلام: من ذكر ولا أنثى- مشورة، ولا حيلة، ولا مكيدة في شيء من الأمور: سرّها وعلانيتها، وحقّها وباطلها، وظاهرها وباطنها، ولا سبب من الأسباب، أريد بذلك إفساد شيء مما أعطيت عبد الله بن هارون أمير المؤمنين من نفسي، وأوجبت له عليّ، وشرطت وسمّيت في كتابي هذا.
وإن أراد به أحد من الناس أجمعين سوءا أو مكروها، أو أراد خلعه أو محاربته، أو الوصول إلى نفسه ودمه، أو حرمه، أو ماله، أو سلطانه أو ولايته: جميعا أو فرادى، مسرّين أو مظهرين له- فإنّي انصره وأحوطه، وأدفع عنه، كما أدفع عن نفسي، ومهجتي، ودمي، وشعري، وبشري، وحرمي، وسلطاني، وأجهّز الجنود إليه، وأعينه على كلّ من غشّه وخالفه، ولا أسلمه [ولا أخذله]«1» ولا أتخلّى عنه، ويكون أمري وأمره في ذلك واحدا [أبدا]«2» ما كنت حيّا.
وإن حدث بأمير المؤمنين هارون حدث الموت، وأنا وعبد الله ابن أمير المؤمنين بحضرة أمير المؤمنين، أو أحدنا، أو كنّا غائبين عنه جميعا:
مجتمعين كنّا أو متفرّقين، وليس عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في ولايته بخراسان [فعليّ لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن أمضيه إلى خراسان]«3» وأن أسلّم له ولايتها بأعمالها كلّها وجنودها، ولا أعوقه عنها، ولا أحبسه قبلي، ولا في شيء من البلدان دون خراسان، وأعجّل إشخاصه إلى خراسان واليا عليها مفردا بها، مفوّضا إليه جميع أعمالها كلّها، وأشخص معه من ضمّ إليه أمير المؤمنين: من قوّاده، وجنوده، وأصحابه، وكتّابه، وعمّاله، ومواليه، وخدمه، ومن تبعه من صنوف الناس بأهليهم وأموالهم، ولا أحبس عنه
أحدا، ولا أشرك معه في شيء منها أحدا، ولا أرسل أمينا ولا كاتبا ولا بندارا «1» ، ولا أضرب على يديه في قليل ولا كثير.
وأعطيت هارون أمير المؤمنين وعبد الله بن هارون على ما شرطت لهما على نفسي، من جميع ما سمّيت وكتبت في كتابي هذا- عهد الله وميثاقه، وذمّة أمير المؤمنين وذمّتي، وذمة آبائي وذمم المؤمنين، وأشدّ ما أخذ الله تعالى على النّبيّين والمرسلين وخلقه أجمعين: من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكّدة التي أمر الله عز وجل بالوفاء بها، ونهى عن نقضها وتبديلها.
فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت لهارون أمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين وسمّيت في كتابي هذا، أو حدّثت نفسي أن أنقض شيئا ممّا أنا عليه، أو غيّرت أو بدّلت، أو حلت أو حلت أو غدرت، أو قبلت [ذلك] من أحد من الناس: صغيرا أو كبيرا، برّا أو فاجرا، ذكرا أو أنثى، وجماعة أو فرادى- فبرئت «2» من الله عز وجل، ومن ولايته، ومن دينه، ومن محمد صلى الله عليه وسلم، ولقيت الله عز وجل يوم القيامة كافرا مشركا؛ وكلّ امرأة هي اليوم لي أو أتزوّجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا، البتّة، طلاق الحرج «3» ، وعليّ المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجّة:
نذرا واجبا لله تعالى في عنقي، حافيا راجلا، لا يقبل الله منّي إلا الوفاء بذلك، وكلّ مال هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي «4» بالغ الكعبة الحرام، وكلّ مملوك هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله عز وجل.
وكلّ ما جعلت لأمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين،
وكتبته وشرطته لهما، وحلفت عليه، وسمّيت في كتابي هذا لازم لي الوفاء به، ولا أضمر غيره، ولا أنوي إلّا إيّاه؛ فإن أضمرت أو نويت غيره فهذه العقود والمواثيق والأيمان كلّها لازمة، واجبة عليّ، وقوّاد أمير المؤمنين وجنوده وأهل الآفاق والأمصار في حلّ من خلعي وإخراجي من ولايتي عليهم، حتّى أكون سوقة من السّوق، وكرجل من عرض «1» المسلمين، لا حقّ لي عليهم، ولا ولاية، ولا تبعة لي قبلهم، ولا بيعة لي في أعناقهم، وهم في حلّ من الأيمان التي أعطوني، براء من تبعتها ووزرها في الدّنيا والآخرة.
شهد سليمان ابن أمير المؤمنين المنصور، وعيسى بن جعفر، وجعفر بن جعفر، وعبد الله بن المهديّ، وجعفر بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن عيسى بن عليّ، وأحمد بن إسماعيل بن عليّ، وسليمان بن جعفر بن سليمان، وعيسى بن صالح بن عليّ، وداود بن عيسى بن موسى، ويحيى بن عيسى بن موسى، وداود بن سليمان بن جعفر، وخزيمة بن حازم، وهرثمة بن أعين، ويحيى بن خالد، والفضل بن يحيى، وجعفر بن يحيى، والفضل بن الرّبيع مولى أمير المؤمنين، والقاسم بن الرّبيع مولى أمير المؤمنين، ودماثة بن عبد العزيز العبسيّ، وسليمان بن عبد الله بن الأصمّ، والربيع بن عبد الله الحارثيّ، وعبد الرحمن بن أبي الشّمر الغسّانيّ، ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكّة، وعبد الكريم بن شعيب الحجبيّ، وإبراهيم بن عبد الله الحجبيّ، وعبد الله بن شعيب الحجبيّ، ومحمد بن عبد الله بن عثمان الحجبيّ، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبيّ، وعبد الواحد بن عبد الله الحجبيّ، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبيّ، وأبان مولى أمير المؤمنين، ومحمد بن منصور، وإسماعيل بن صبيح، والحارث مولى أمير المؤمنين، وخالد مولى أمير المؤمنين.
وكتب في ذي الحجة سنة ستّ وثمانين ومائة:
وأما ما كتبه المأمون، فنصّه بعد البسملة «1» :
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، في صحّة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نيّة فيما كتب من كتابه، ومعرفة ما فيه من الفضل والصّلاح له ولأهل بيته ولجماعة المسلمين.
إنّ أمير المؤمنين هارون ولّاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون أمير المؤمنين، وولّاني في حياته وبعده خراسان وكورها، وجميع أعمالها: من الصّدقات والعشر والبريد والطّراز وغير ذلك، واشترط لي على محمد ابن أمير المؤمنين الوفاء بما عقد لي من الخلافة والولاية للعباد والبلاد بعده، [وولاية]«2» خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء ممّا أقطعني أمير المؤمنين أو ابتاع لي من الضّياع والعقد والدّور والرّباع، أو ابتعت منه [لنفسي]«3» من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الأموال والجوهر والكسا والمتاع والدّواب [والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتّابي بسبب محاسبة]«4» ، ولا يتتبّع لي في ذلك ولا لأحد منهم أثرا، ولا يدخل عليّ ولا على أحد ممن كان معي ومنّي، ولا عمّالي ولا كتّابي، ومن استعنت به من جميع الناس- مكروها: في دم، ولا نفس، ولا شعر، ولا بشر، ولا مال، ولا صغير، ولا كبير [من الأمور] »
فأجابه إلى ذلك وأقرّ به، وكتب له به
كتابا كتبه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين [هارون وقبله وعرف صدق نيّته فيه، فشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين]«1» وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد ابن أمير المؤمنين وأطيعه ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشّه، وأوفّي ببيعته وولايته، ولا أغدر ولا أغدر ولا أنكث، وأنفّذ كتبه وأموره، وأحسن مؤازرته ومكانفته «2» ، وأجاهد عدوّه في ناحيتي بأحسن جهاد ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله هارون أمير المؤمنين، وسمّاه في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين ورضي به أمير المؤمنين، ولم ينقص شيئا من ذلك، ولم ينقض أمرا من الأمور التي اشترطها لي عليه هارون أمير المؤمنين.
وإن احتاج محمد بن هارون أمير المؤمنين إلى جند وكتب إليّ يأمرني بإشخاصهم إليه، أو إلى ناحية من النّواحي، أو إلى عدوّ من أعدائه خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه وسلطاني الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا وولّاناه-[فعليّ]«3» أن أنفّذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصّر في شيء كتب به إليّ.
وإن أراد محمد بن أمير المؤمنين هارون أن يولّي رجلا من ولده العهد والخلافة من بعدي، فذلك له، ما وفّى لي بما جعل لي أمير المؤمنين هارون واشترط لي عليه، وشرطه على نفسه في أمري، وعليّ إنفاذ ذلك والوفاء له بذلك، ولا أنقض ذلك ولا أغيّره، ولا أبدّله، ولا أقدّم [قبله]«4» أحدا من ولدي، ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين، إلّا أن يولّي هارون أمير المؤمنين أحدا من ولده العهد من بعدي، فيلزمني [ومحمدا]«5» الوفاء بذلك.
وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد بن أمير المؤمنين عليّ الوفاء بما اشترطت وسمّيت في كتابي هذا، ما وفّى لي محمد ابن أمير المؤمنين هارون
بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من جميع الأشياء المسمّاة في الكتاب الذي كتبه له، [وعليّ]«1» عهد الله تعالى وميثاقه، وذمّة أمير المؤمنين، وذمّتي، وذمّة آبائي، وذمم المؤمنين، وأشدّ ما أخذ الله عز وجل على النبيّين والمرسلين من خلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكّدة التي أمر الله عز وجل بالوفاء بها [ونهى عن نقضها وتبديلها]«2» ؛ فإن أنا نقضت شيئا مما اشترطت وسمّيت في كتابي هذا له، أو غيّرت، أو بدّلت، أو نكثت، أو غدرت- فبرئت من الله عز وجل ومن ولايته ومن دينه، ومن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقيت الله سبحانه وتعالى يوم القيامة كافرا مشركا، وكلّ امرأة لي اليوم أو أتزوّجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتّة [طلاق]«3» الحرج، وكلّ مملوك لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله تعالى، وعليّ المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكّة ثلاثين حجّة، نذرا واجبا عليّ وفي عنقي، حافيا راجلا، لا يقبل الله منّي إلا الوفاء به، وكلّ مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين أو شرطت في كتابي هذا لازم لي، لا أضمر غيره ولا أنوي سواه.
شهد فلان وفلان، بأسماء الشهود المقدّم ذكرهم في كتاب الأمين المبتدإ بذكره.
قال الأزرقيّ: ولم يزل هذان الشرطان معلقين في جوف الكعبة حتّى مات هارون الرّشيد؛ وبعد ما مات بسنتين، في خلافة الأمين [كلّم]«4» الفضل بن الربيع محمد بن عبد الله الحجبيّ في إتيانه بهما، فنزعهما من الكعبة وذهب بهما إلى بغداد، فأخذهما الفضل فخرّقهما وحرّقهما بالنّار.
قلت: وعلى نحو من ذلك كتب أبو إسحاق الصّابي مواصفة بالصّلح بين شرف الدّولة وزين الملّة أبي الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس
الملّة أبي كاليجار، ابني عضد الدّولة بن ركن، الدّولة بن بويه، في النّصف من صفر سنة ستّ وسبعين وثلاثماية.
ونصّها بعد البسملة الشّريفة:
هذا ما اتّفق واصطلح وتعاهد وتعاقد عليه شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس، وصمصام الدّولة أبو كاليجار، ابنا عضد الدّولة وتاج الملّة أبي شجاع بن ركن الدّولة أبي عليّ، موليا أمير المؤمنين الطائع لله- أطال الله بقاءه، وأدام عزّه وتأييده، ونصره وعلوّه وإذنه.
اتّفقا وتصالحا، وعاهدا وتعاقدا، على تقوى الله تعالى وإيثار طاعته، والاعتصام بحبله وقوّته، والالتجاء إلى حسن توفيقه ومعونته، والإقرار بانفراده ووحدانيّته، لا شريك له ولا مثل، ولا ضدّ ولا ندّ، والصلاة على محمد رسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما، والطّاعة لأمير المؤمنين الطّائع لله، والالتزام بوثائق بيعته، وعلائق دعوته، والتّوازر على موالاة وليّه، ومعاداة عدوّه، وعلى أن يمسكا [ذات]«1» بينهما بالسّير الحميدة، والسّنن الرشيدة، التي سنّها لهما السّلف الصالح من آبائهما وأجدادهما في التآلف والتّوازر، والتّعاضد والتّظافر، وتعظيم الأصغر للأكبر، وإشبال «2» الأكبر على الأصغر، والاشتراك في النّعم، والتّفاوض في الحظوظ والقسم، والاتّحاد بخلوص الطّوايا والخفايا، وسلامة الخواطر، وطهارة الضّمائر، ورفع ما خالف ذلك من أسباب المنافسة، وجرائر المضاغنة، وجوالب النّبوة، ودواعي الفرقة، والإقران لأعداء الدّولة، والإرصاد لهم، والاجتماع على دفع كلّ ناجم، وقمع كلّ مقاوم، وإرغام أنف كلّ ضار متجبّر، وإضراع خدّ كلّ متطاول مستكبر، حتّى يكون الموالي لأحدهم منصورا من جماعتهم، والمعادي له مقصودا من سائر جوانبهم، فلا يجد
المنابذ على أحدهم مفزعا عند أحد من الباقين ولا اعتصاما له، ولا التجاء إليه، لكن يكون مرميّا بجميع سهامهم، ومضروبا بأسياف نقمتهم، ومأخوذا بكلّيّة بأسهم وقوّتهم، ومقصودا بغالب نجدتهم وشدّتهم؛ إذ كانت هذه الآداب القويمة، والطّرائق السّليمة، جارية للدّول مجرى الجنن «1» الدّافعة عنها، والمعاقل المانعة لها، وبمثلها تطمئنّ النعم وتسكن، كما أنّ بأضدادها تشمئزّ وتنفر.
ولما وفّق الله تعالى شرف الدّولة وزين الملّة أبا الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس الملّة أبا كاليجار اعتقاد هذه الفضائل وإيثارها، والتّظاهر بها واستشعارها، ودعاهما مولاهما الطائع لله أمير المؤمنين إلى ما دعاهما إليه من التّعاطف والتآلف، والتّصافي والتّخالص، وأمر صمصام الدّولة أبا كاليجار بمراسلة شرف الدّولة أبي الفوارس في إحكام معاقد الأخوّة، وإبرام وثائق الألفة- امتثل ذلك وأصغى إليه شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس: أصغى إليه شرف الدّولة إصغاء المستوثق المستصيب، وتقبّله تقبّل العالم اللّبيب، وأنفذ إلى باب أمير المؤمنين رسوله أبا نصر «خرشيد بن ديار بن مأفنة» بالمعروف من كفايته، والمشهور من اصطناع الملك السّعيد عضد الدّولة وتاج الملّة رضوان الله عليه له، وإيداعه إيّاه وديعة الإحسان التي يحقّ عليه أن يساوي في حفظها بين الجهتين، ويوازي في رعايتها بين كلا الفريقين.
فجرت بين صمصام الدّولة وشمس الملة أبي كاليجار وبينه مخاطبات استقرّت على أمور أتت المفاوضة عليها، وأثبت منها في هذه المواصفة ما احتيج إلى إثباته منها [أمر]«2» عامّ للفريقين، وقسمان يختصّ كلّ واحد منهما بواحد منهما.
فأما الأمر الذي يجمعهما عمومه، ويكتنفهما شموله، فهو: أن يتخالص شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس الملّة أبو كاليجار في ذات بينهما، ويتصافيا في سرائر قلوبهما، ويرفضا ما كان جرّه عليهما سفهاء الأتباع: من ترك التّواصل، واستعمال التّقاطع، ويرجعا عن وحشة الفرقة، إلى أنس الألفة، وعن منقصة التّنافر والتّهاجر، إلى منقبة التّبارّ والتّلاطف، فيكون كلّ واحد منهما مريدا لصاحبه من الصّلاح مثل الذي يريده لنفسه، ومعتقدا في الذّبّ عن بلاده وحدوده مثل الذي يعتقده في الذّبّ عما يختصّ به، ومسرّا مثل ما يظهر: من موالاة وليّه، ومعاداة عدوّه، والمراماة لمن راماه، والمصافاة لمن صافاه؛ فإن نجم على أحدهما ناجم، أو راغمه مراغم، أو همّ به حاسد، أو دلف إليه معاند، اتّفقا جميعا على مقارعته: قريبا كان أو بعيدا، وترافدا على مدافعته: دانيا كان أو قاصيا، وسمح كلّ منهما لصاحبه عند الحاجة إلى المواساة في ذلك في سائر أحداث الزّمان ونوبه، وتصاريفه وغيره، بما يتّسع ويشتمل عليه طوقه من مال وعدّة، ورجال ونجدة، واجتهاد وقدرة، لا يغفل أخ منهما عن أخيه، ولا يخذله ولا يسلمه، ولا يترك نصرته، ولا ينصرف عن مؤازرته ومظاهرته بحال من الأحوال التي تستحيل بها النّيّات: من إرغاب مرغب، وحيلة محتال، ومحاولة محاول، ولا يقبل أحدهما مستأمنا إليه من جهة صاحبه: من جنديّ، ولا عامل، ولا كاتب، ولا صاحب، ولا متصرّف في وجه من وجوه التصرفات كلّها، ولا يجير عليه هاربا، ولا يعصم منه مواربا، ولا يتطرّف له حسدا، ولا يتحيّفه حقّا، ولا يهتك له حريما، ولا يتناول منه طوفا «1» ، ولا يخيف له سبيلا، ولا يتسبّب إلى ذلك بسبب باطن، ولا باعتلال ظاهر، ولا يدع موافقته، وملاءمته، ومعاونته ومظافرته في كلّ قول وفعل، وسرّ وجهر، على سائر الجهات، وتصرّف الحالات، ووجوه التّأويلات. يلتزم كلّ
واحد منهما ذلك لصاحبه التزاما على التماثل والتّعادل، والتّوازي والتّقابل.
وأما الأمر الذي يختصّ شرف الدّولة وزين الملّة به، ويلتزمه صمصام الدّولة وشمس الملّة له، فهو أن يقدّمه صمصام الدّولة وشمس الملّة على نفسه، ويعطيه ما أعطاه الله له من فضل سنّه، ويطيعه في كلّ ما أفاد الدّولة الجامعة لهما صلاحا، وهاض من عدوّهما جناحا، وعاد على وليّهما بعزّ، وعلى عدوّهما بذلّ، وأن يقيم صمصام الدّولة الدّعوة على منابر ما في يده من مدينة السّلام وسائر البلدان والأمصار، التي أحاطت بهما حقوقه، وضربت عليهما حدوده، لأمير المؤمنين ثم لشرف الدّولة وزين الملّة أبي الفوارس، ثم لنفسه، ويجري الأمر في نقش سكك دور الضّرب التي يطبع بها الدّينار والدّرهم في جميع هذه البلاد على المثال، ويوفّي صمصام الدّولة وشمس الملّة أبو كاليجار شرف الدّولة وزين الملّة أبا الفوارس في المكاتبات والمخاطبات حقّ التّعظيم، وشعار التّفخيم، على التّقرير بينه وبين خرشيد بن ديار بن مأفنة في ذلك.
وأما الأمر الذي يختصّ صمصام الدّولة وشمس الملة أبو كاليجار به، ويلتزمه شرف الدولة وزين الملّة أبو الفوارس له، فهو ترك التّعرّض لسائر ممالكه، وما يتّصل بها من حدودها الجارية معها، والإفراج منها عما يودّه ويسرع إليه أصحاب شرف الدولة وزين الملّة، وتجنّب التّحيّف لها أو لشيء من الحقوق الواجبة فيها، ومراعاته في الأمور التي يحتاج فيها إلى نظره وطوله، وإجماله وفضله، وما يجب على الأخ الأكبر مراعاة أخيه وتاليه فيه، ممّا ثبتت في هذه المواصفة جملته، واشتملت المفاوضة مع خورشيد بن ديار ابن مأفنة على تفصيله.
اتّفق شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس الملّة أبو كاليجار، بأمر أمير المؤمنين الطائع لله، وعلى الاختيار منهما، والانشراح من صدورهما من غير إكراه ولا إجبار، ولا اصطبار ولا