الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كم فلان قالوا وقالوا فلانا
…
فإذا النّاس دون علياك حسرى
لك مدح قد طبّق الأرض سبحا
…
ن إله به إلى النّاس أسرى!
ما رأينا مصرا كمصر ولا مثلك فينا، والحمد لله شكرا!
الضرب الثاني (من الرسائل الملوكية رسائل الصّيد)
وهذه نسخة رسالة في صيد السّلطان الشّهيد الملك الناصر بن السّلطان الشّهيد الملك المنصور «قلاوون» من إنشاء القاضي تاج الدين البارنباريّ «1» ؛ وهي:
الحمد لله الذي نعّم النّفوس الشّريفة بإدراك الظّفر، وأنعم على هذه الأمّة بمحمّدها الذي أنار كوكب نصره وسفر، وشرع لها على لسان نبيّها صلى الله عليه وسلم الغنيمة في السّفر، وأسعف هذه الدّولة الشريفة بدوام سلطانها الذي حفّت أيّامه بالعزّ والتّأييد والظّفر.
نحمده على أن أقرّ العيون بفضله بما أقر، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ألانت قلب من نفر، وكرمت أسبابها فلا يتمسّك بها إلّا أعزّ فريق ونفر، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أعزّ من آمن وأذلّ من كفر، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تجاوز الله عن ذنوبهم وغفر، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ في ابتغاء النّصر ملاذا تدركها كلّ ذات شرفت، وتملكها السّجايا التي تعارفت بالفخار وائتلفت، وتنالها النّفوس التي مالت إلى العزّ
وإلى تلقائه صرفت؛ ومنشؤها من حالتين: إمّا في موقف عزّ عندما تلمع بروق الصّفاح، وتشيب من هول الحرب رؤوس الرّماح، وتسرح جوارح النّبال لتحلّ في الجوارح وتصيد في الأرواح؛ وإمّا في موطن سلّم عندما تنبسط النفوس إلى امتطاء صهوات الجياد في الأمن والدّعة، وتنشرح الصّدور إلى معاطاة الصّيود والمسرّات مجتمعة، وتطلق البزاة فتصيد، وتتصرّف بأمر الملوك الصّيد، وترسل الحوامي الممسكة، وتلقى على ما سنح من الوحش فلا ترى إلا مدركة؛ وتفاض النّعم السّلطانية وتجزل مواهبها، وتلوح العصابة الشّريفة وتنبعث مواكبها.
وكان الله تعالى قد جمع للمواقف الشّريفة، المعظّمة، السّلطانية، الملكيّة، النّاصريّة، خلّد الله سلطانها- سعادة الحالتين حربا وسلما، وآتاه فيهما النّصر الأرفع والعزّ الأسمى، ووسم بصدقاته وعزماته الأمرين وسما، ونصره نعتا وعظّمه سمعة وشرّفه اسما، فأيّام حروبه كلّها رفعة وانتصار، واستيلاء واستظهار، وقوة تحيا بها المؤمنون وتفنى الكفّار؛ وأيّام سلمه كلّها عدل وهبة، وصدقات منجية منجبة، ورفع ظلامات متشعبة، وقمع نفوس متوثّبة، وحسم خطوب مستدّة، وحفظ الحوزة الإسلامية من كلّ بأس ووقايتها من كلّ شدّة، وفي خلال كلّ عام تصرف عزائمه الشريفة إلى ابتغاء صيد الوحش والطّير: لما في ذلك من تمرين النّفوس على اكتساب التّأييد، وحصول المسرّة بكلّ ظفر جديد؛ فيرسم- خلد الله سلطانه- في الوقت الذي يرسم به من مشتى كلّ عام بإخراج الدّهليز المنصور فينصب في برّ الجيزة بسفح الهرم، في ساعة مباركة آخذة في إقبال الجود والكرم؛ فتمدّ بالتّأييد أطنابه، وترفع على عمد النّصر قبابه، ويحاط بحراسة الملائكة الكرام رحابه، وتضرب خيام الأمراء حوله وطاقا، وتحفّ به [مثل]«1» النّجوم بالبدر إشراقا؛ ويستقلّ الرّكاب الشريف- شرّفه الله- بعد ذلك بقصد عبور النّيل المبارك فيظهر من القلعة المحروسة والسّلامة تحجبه من المخافة، والحراسة
تصحبه فيما قرب ونأى من المسافة، ولسان السّعد قد خاطبه بالتّحيّة وشافه، ومماليكه الأمراء قد حفّوا به أطلابا «1» ، وسنيّ موكبه قد بعث أمامه من الإضاءة نجّابا «2» ؛ ولم يزل حتّى يأتي النّيل المبارك ويستوي على الكرسيّ في الفلك المشحون، محوطا بالنّصر الميمون والجيش المأمون، وقد استبشر باعتلائه البحر والنّون «3» ، وأضحى لظهر الفلك من الفخار [بحضرته]«4» المكرّمة، ما لصهوات أجياده العتاق المسوّمة، فلهذا نشر أعلام بشراها، وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها
«5» ، فسارت به في اليمّ، ونصر الله قد تمّ، وصعد من فلكه، على ما يسرّ نفوس المؤمنين في كمال سلطانه وعزّة ملكه، واستقرّ على جواد شرفت صهوته، وقرنت بالأناة والسّكون خطوته، عربيّ النّجار، يختال في سيره كأنّما انتشى من العقار:
ويختال بك الطّرف
…
كأنّ الطّرف نشوان
ترى الطّرف درى أو
…
ليس يدري أنّك سلطان!
وسار في زروع مخضرّة، وثغور نبات مفترّة؛ وقد طلعت للظّفر شموسه وبدوره، وأعدّت للصّيد بزاته وصقوره، من كلّ متوقّد اللّحظ من الشّهامة، محمول على الرّاحات من فرط الكرامة، يتوسّم فيه النّجاح، قبل خفق الجناح، ويخرج من جوّ السّماء ولا حرج ولا جناح؛ وبازها الأشهب،
يجيء بالظفر ويذهب بصدر مفضّض وناظر مذهب، له منسر أقنى، طالما أغنى، كأنّما هو شبا السّنان وقد حباه الكماة طعنا:
وصارم في يديك منصلت
…
إن كان للسّيف في الوغى روح
متّقد اللّحظ من شهامته
…
فالجوّ من ناظريه مجروح!
قد راش النّجح جناحه، وقرن الله باليمن غدوّه ورواحه، ونصره في حربه حيث جعل منسره رمحه ومخلبه صفاحه، في قوادمه السّعد قادم، وفي خوافيه النّصر ظاهر المعالم، كأنّما ألهم قوله صلى الله عليه وسلم:«بورك لأمّتي في بكورها» ، فيسرح والطّير جاثمة في وكورها، ويخرج في إغباش السّحر وعليه سواد، فيهابه الصّادح في الجوّ والباغم في الواد، ويأمر- خلّد الله سلطانه- أمراءه فيضربون على الطّير حلقة وهي لاهية في التقاط حبّها، غافلة عمّا يراد بها، فيذعرونها بخفق الطّبول وضربها، ومولانا السلطان- خلّد الله ملكه- لنافرها مترقّب، ولطائرها بالجارح معقّب، فما يدنو الكركيّ مقرورا حتّى يؤوب مقهورا، ساقطا من سمائه إلى أرضه، ومن سعته إلى قبضه، فسبحان من خلق كلّ جنس وقهر بعضه ببعضه؛ هذا: والجارح قد أنشب فيه مخالبه، وسدّ عليه سبله في جوّ السّماء ومذاهبه؛ ولم يزل- خلّد الله تعالى سلطانه- عامّة يومه متوغّلا في التّمتّع بلذّات صيوده، وأوقات سعوده، وحصول أربه ومقصوده، وجنود الملائكة حافّون به وبجنوده، حتّى ينسخ النهار الليل بظلمائه، ويلمع الطّارق بأضوائه، فيعود عند ذلك الرّكاب الشريف إلى المخيّم المنصور والجوارح كاسبة، والأقدار واهبة، والجوارح مسرورة، والطّيور مأسورة، والنّفوس ممتّعة، والمواهب منوّعة، والأرجاء مضوّعة، والله تعالى مع سلطانه بكلاءته:«ومن كان مع الله كان الله معه» ، فيرفع أمامه فانوسان توءمان، كأنهما كوكبان بينهما اقتران، أو فرقدان رفعتهما يدان، فيدنو إلى مخيّمه المنصور في سرادق العزّ الحفيل، وعصابة النّصر الأثيل، وتترجّل الأنصار قبل فسطاطه المعظّم على قدر ميل، ويسعى بالشّموع لتلقّيه، ويسوّى تخت الملك لترقّيه، فعند ذلك
يطوف بالدهليز أمراء الحرس بالشّموع المرفوعة، والمزاهر المسموعة، فإذا طلع الفجر مستطيلا، وجاء الصّبح شيئا قليلا، عرضت عليه النّعم فأعطاها، والمهمّات الإسلامية فقضاها، وقدّمت له الجياد المسوّمة فامتطاها، ويسرح إلى الصّيد والجوارح التي صادت بالأمس قد استأسدت، وبسعادته إلى ظفرها قد أرشدت؛ فإذا سار ركابه الشّريف فرّقت على أثره عساكر الإسلام، وقوّضت تلك الخيام كأنها الأيّام.
ولم يبرح ذلك دأبه في كلّ يوم من أيّام حركته حتّى يأخذ حظّه من صيد الطّير، فعند ذلك يثني عنان السّير، إلى اقتناص الوحش فيعدّ لإمساكها كلّ هيكل قيد الأوابد «1» قد عقد الخير بناصيته فأصبح حسن المعاقد.
فمن أشهب: كريم المغار، ذي إهاب من النّهار، وأديم كأنّه صحيفة الأبرار، أبيض مثل الهدى، له في الصّبح إثارة النّصر وإغارة على العدا؛ علا قدرا وغلا قيمة، وله إلى آل أعوج «2» نسبة مستقيمة، إذا استنّ في مضمار يسبق البروق الخاطفة، ويخلّف الرّيح حسرى وهي واقفة، يجده الفارس بحرا، وله عند مجرى العوالي مع السّوابق مجرى.
ومن أحمر: كأنّما صبغ بدم الأعداء أديمه، وكأنّما هو شقيق الشّقيق وقسيمه؛ كرمت غرره وحجوله، وحسنت أعراقه وذيوله، مكرّ مفرّ كجلمود صخر حطّته من عليّ سيوله»
؛ حكى لونه محمرّ الرّحيق، وله كلّ يوم ظفر جديد مع أنه عتيق.
ومن أدهم: مدرك كاللّيل، منصبّ كالسّيل، كريم النّاصية، جوّاب قاصية، كأنّ غرّته صبح تنفّس في الدّجى الحالك، وكأنّه من اللّيل باق بين عينيه كوكب يضيء المسالك، وكأنّ حجوله بروق تفرّقت في جوانب الغسق فحسن منظرا لذلك؛ سنابكه يوري قدحها «1» ، وغرّته ينير صبحها، وجوارحه مسودّ جنحها، وصهوته كمن فيها العزّ فلا يزال ظاهرا نجحها.
وممّا سوى ذلك من الجياد المختبرة، والصّافنات المعتبرة:
إذا ما صرفت اللّحظ نحو شياتها
…
وألوانها فالحسن عنك مغيّب «2» !
وإنما هي بصبرها على الظّما، وشدّة عدوها في النّور والظّلما، وسبقها إلى غايات رهانها، وثباتها تحت رايات فرسانها.
وتليها الفهود الحسن منظرها، الجميل ظفرها، الكاسب نابها وظفرها؛ تفرّق اللّيل في أهبها المجتمعة، وأدركت العواصم في هضابها المرتفعة، وجوهها كوجوه اللّيوث الخادرة، ووثباتها على الطّريدة وثبات الفئة المؤمنة على الفئة الكافرة، مقلّصة الخواصر، عزماتها على الوحش حواصر؛ ما أطلقت على صيد إلا قنصته سريعا، ولا بصرت بعانة من حمر إلا أخذتها جميعا.
ثم الحوامي المعلّمة، والضّواري التي أضحت بالنّجح متوسّمة، ما منها إلّا طاوي الخاصرة، وثباته طائلة غير قاصرة، بنيوب كالأسنّة،
وساعدين مفتولين تسبق بهما ذوات الأعنّة، لو رآه عديّ بن حاتم رضي الله عنه لضمّه إلى ما لديه، وأكل مما أمسك عليه.
وتضرب العساكر حلقة ما يلتقي طرفاها إلا إلى اللّيل في اتّساعها، تحوي سائر الأوابد على اختلاف أنواعها.
فمن نعام: خضّب ظليمها «1» لمّا أكل ربيعا، وأحمرّت أطراف ريشه فكأنّها سهام أصابت نجيعا، طالت أعناقها النّاحلة فكأنّها خطّيّة، واشتدّت قوائمها الحاملة فكأنّها مطيّة، شاركت الطّير في وجود الجناح، وفارقتها في كثافة الاشباح، وأشبهت الوحش في مسكن القفار، وشدّة النّفار، قد اجتمع في ظاهرها اللّونان من الوحش والطّير وائتلف في باطنها الضّدّان من ماء ونار.
ومن ظباء: مسودّة الأحداق، حكت الحبائب في كحل المقل وحسن سوالف الأعناق؛ ابيضّت بطونها، واحمرّت متونها، وراقت أوراقها، وحلكت آماقها؛ نافرة في صحرائها، طيّب مرعاها فالمسك من دمائها.
ومن بقر وحشية: عفر الإهاب، ساكنة الهضاب؛ لها في حقاف الرّمل مرابض، حذرا من قانص قابض؛ كم في
…
«2»
…
من لوّى يتهادى، كأنّ إبرة روقه قلم أصاب من الدّواة مدادا.
ومن حمر إهابها أقمر منسوبة إلى أحد «3» ولم تركّب متونها، وقد حكى الجزع «4» الذي لم يثقّب في دجى اللّيل عيونها.
وعندما تلتقي حلقة العساكر يلحقها- خلّد الله سلطانه- ومعه الجوارح الصائدة، والحوامي الصائلة، والأسهم النّافذة، والفهود الآخذة، فتموج الوحش ذعرا، وترى مسالكها قد سدّت عليها سهلا ووعرا، وضرب دون نجاتها بسور من الجياد والفرسان، وحيل بينها وبين خلاصها بنبال وخرصان؛ فحينئذ تفرّ النّعام عن رمالها، والظّباء عن ظلالها، والبقر عن جآذرها، والحمر عن بولها؛ ويقبض- خلّد الله سلطانه- من جنس الوحش كلّ نوع، ولو يمسكها بجارح لأمسكها كما تمسك عداة الإسلام بالرّوع؛ وتجزل منها المكاسب، وتملأ منها الحقائب؛ فإذا أخذ حظّه من القبض ولذّة اكتسابه، رسم لأمرائه بالصّيد عند صدور ركابه؛ فيصيدون ويقنصون، زادهم الله من فضله- فإنهم في طاعته مخلصون؛ فيكثر عند ذلك كلّ قنص ذبيح، ويأتي كلّ بما اقتنصه ليظهر التّرجيح؛ فإذا استكمل أوقات الصّيد من الطّير والوحش ثنى ركابه الشّريف إلى جهة القلعة المحروسة والقفار قد شرفت بمرور مواكبه، والوحش والطّير قد افتخرت بكونها أصبحت من مكاسبه.
هذا كلّه وإن كانت النفس تراه لهوا، وتبلغ به كلّ ما تهوى، ففي طيّه من تمرين الجنود على الحرب ما تشدّ به العزمات وتقوى؛ فيؤمّ الركاب الشّريف عائدا إلى سرير ملكه بالقلعة المحروسة، والسّلامة قد قضت ما يجب عليها من حراسته، والأقدار قد وفت ما ينبغي من كلاءته؛ فلم يك إلا وهو صاعد إلى القلعة المحروسة وألسنة السّعادة تخاطبه، وسريره قد اهتزت فرحا بمقدمه جوانبه، والصّيد المبارك قد سعدت مباديه وحمدت عواقبه؛ فيلقي أهبة السّفر، ويأخذ فيما بطن من المصالح الإسلامية وظهر، وتنشده ألسنة السلامة ما أملى عليها العزّ والتّأييد والظّفر:
ملك البسيطة آب من سفره
…
والنّصر والتّأييد في أثره
فكأنّه في عزّ موكبه
…
بدر تألّق في سنا خفره
ما في البريّة مثله ملك
…
أوتي الذي أوتيه من ظفره!