المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول في المقامات - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٤

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الرابع عشر]

- ‌[تتمة المقالة التاسعة]

- ‌الباب الرابع من المقالة التاسعة (في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل في أصول تتعيّن على الكاتب معرفتها؛ وفيه ثلاثة أطراف

- ‌الطرف الأوّل (في بيان رتبتها ومعناها، وذكر ما يرادفها من الألفاظ)

- ‌الطرف الثاني (في أصل وضعها)

- ‌الطرف الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن)

- ‌النوع الأوّل (ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر)

- ‌النوع الثاني (ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر والإسلام، وعقود الصّلح الجارية بين زعماء المسلمين؛ وهي ضربان)

- ‌الضرب الأوّل (الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتّفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدّم)

- ‌الضرب الثاني (مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة- تحرير أوضاعها، وترتيب قوانينها، وإحكام معاقدها)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يستبدّ ملوك الإسلام فيه بالكتابة عنهم- وتخلّد منه نسخ بالأبواب السلطانية، وتدفع منه نسخ إلى ملوك الكفر)

- ‌النّمط الأوّل (ما يكتب في طرّة الهدنة من أعلى الدّرج)

- ‌النّمط الثاني (ما يكتب في متن الهدنة، وهو على نوعين)

- ‌النوع الأوّل (ما تكون الهدنة فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذا ما هادن عليه»

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح المهادنة قبل لفظ «هذا» ببعديّة)

- ‌النوع الثاني (من الهدن الواقعة بين ملك مسلم وملك كافر- أن تكون الهدنة من الجانبين جميعا)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذه هدنة» ونحو ذلك)

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «استقرّت الهدنة بين فلان وفلان» ويقدّم فيه ذكر الملك المسلم)

- ‌المذهب الثالث (أن تفتتح المهادنة بخطبة مبتدأة ب «الحمد لله» )

- ‌الطرف الثاني (فيما يشارك فيه ملوك الكفر ملوك الإسلام في كتابة نسخ من دواوينهم)

- ‌الباب الخامس من المقالة التاسعة (في عقود الصّلح الواقعة بين ملكين مسلمين؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (في أصول تعتمد في ذلك)

- ‌الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة (فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول؛ ممّا يكتب في الطّرّة والمتن)

- ‌النوع الأوّل (ما يكون العقد فيه من الجانبين)

- ‌النوع الثاني (ممّا يجري عقد الصّلح فيه بين ملكين مسلمين- ما يكون العقد فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح عقد الصّلح بلفظ: «هذا» كما في النوع السابق)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح عقد الصّلح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» وربّما كرّر فيها التحميد إعلاما بعظيم موقع النّعمة)

- ‌الباب السادس من المقالة التاسعة (في الفسوخ الواردة على العقود السابقة؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (الفسخ؛ وهو ما وقع من أحد الجانبين دون الآخر)

- ‌الفصل الثاني المفاسخة؛ وهي ما يكون من الجانبين جميعا

- ‌المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتّاب وتتنافس في عملها، ليس لها تعلّق بكتابة الدّواوين السلطانية ولا غيرها؛ وفيها بابان

- ‌الفصل الأوّل في المقامات

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الرّسائل)

- ‌الصنف الأوّل (منها الرّسائل الملوكيّة؛ وهي على ضربين)

- ‌الضرب الأوّل (رسائل الغزو؛ وهي أعظمها وأجلّها)

- ‌الضرب الثاني (من الرسائل الملوكية رسائل الصّيد)

- ‌الصنف الثاني (من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتّقريض)

- ‌[الخصلة الاولى] أوّلها: العلم بموقع النّعمة من المنعم عليه

- ‌والخصلة الثانية: الحرّيّة الباعثة على حبّ المكافأة

- ‌والخصلة الثالثة: الدّيانة بالشّكر

- ‌والخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللّسان البيّن

- ‌الصنف الثالث (من الرسائل المفاخرات؛ وهي على أنواع)

- ‌الصّنف الرابع

- ‌[الصّنف الخامس]

- ‌الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في قدمات البندق)

- ‌الفصل الرابع من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الصّدقات؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (في الصّدقات الملوكيّة وما في معناها)

- ‌الطرف الثاني (في صدقات الرّؤساء والأعيان وأولادهم)

- ‌الفصل الخامس من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب مما جرت العادة بمراعاة النّثر المسجوع فيه، ومحاولة الفصاحة والبلاغة؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب؛ ثم هو على صنفين)

- ‌الصنف الأوّل (الإجازات بالفتيا والتّدريس والرّواية وعراضات الكتب ونحوها)

- ‌الصنف الثاني (التّقريضات التي تكتب على المصنّفات المصنّفة والقصائد المنظومة)

- ‌الطرف الثاني (فيما يكتب عن القضاة؛ وهو على أربعة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل (التقاليد الحكميّة؛ وهي على مرتبتين)

- ‌المرتبة الأولى (أن تفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» )

- ‌[المرتبة الثانية]

- ‌الصنف الثاني (إسجالات العدالة)

- ‌الصنف الثالث (الكتب إلى النّوّاب وما في معناها)

- ‌الصنف الرابع (ما يكتب في افتتاحات الكتب)

- ‌الفصل السادس (في العمرات التي تكتب للحاجّ)

- ‌الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليّات

- ‌الخاتمة في ذكر أمور تتعلق بديوان الإنشاء غير أمور الكتابة وفيها أربعة أبواب

- ‌الباب الأوّل في الكلام على البريد؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مقدمات يحتاج الكاتب إلى معرفتها؛ ويتعلّق الغرض من ذلك بثلاثة أمور

- ‌الأمر الأوّل (معرفة معنى لفظ البريد لغة واصطلاحا)

- ‌الأمر الثاني (أوّل من وضع البريد وما آل إليه أمره إلى الآن)

- ‌الأمر الثالث (بيان معالم البريد)

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من الخاتمة في ذكر مراكز البريد

- ‌المقصد الأوّل (في مركز قلعة الجبل المحروسة بالديار المصرية التي هي قاعدة الملك، وما يتفرّع عنه من المراكز، وما تنتهي إليه مراكز كلّ جهة)

- ‌المقصد الثاني (في مراكز غزّة وما يتفرّع عنه من البلاد الشامية)

- ‌المقصد الثالث (في ذكر دمشق وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى حمص وحماة وحلب، وإلى الرّحبة، وإلى طرابلس، وإلى جعبر، ومصياف وبيروت وصيدا وبعلبكّ والكرك وأذرعات)

- ‌المقصد الرابع (من مركز حلب وما يتفرّع عنه من المراكز الواصلة إلى البيرة وبهسنى وما يليهما، وقلعة المسلمين المعروفة بقلعة الرّوم، وآياس، مدينة الفتوحات الجاهانية، وجعبر)

- ‌المقصد الخامس (في مركز طرابلس وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى جهاتها)

- ‌المقصد السادس (في معرفة مراحل الحجاز الموصّلة إلى مكّة المشرّفة والمدينة النّبويّة، على ساكنها سيدنا محمد أفضل الصلاة والسّلام والتحية والإكرام، إذ كانت من تتمّة الطّرق الموصّلة إلى بعض أقطار المملكة)

- ‌الطريق إلى المدينة النّبويّة (على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام)

- ‌الباب الثاني من الخاتمة في مطارات الحمام الرّسائليّ، وذكر أبراجها المقرّرة بطرق الديار المصرية والبلاد الشّاميّة، وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مطاراته

- ‌الفصل الثاني من الباب الثاني من الخاتمة في أبراج الحمام المقرّرة لإطارتها بالديار المصرية والبلاد الشّاميّة

- ‌الأبراج الاخذة من قلعة الجبل المحروسة إلى جهات الديار المصرية

- ‌الأبراج الآخذة من قلعة الجبل إلى غزّة

- ‌الأبراج الآخذة من غزّة وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الآخذة من دمشق وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الاخذة من حلب وما يتفرّع عنها

- ‌الباب الثالث من الخاتمة في ذكر هجن الثّلج والمراكب المعدّة لحمل الثّلج الذي يحمل من الشام إلى الأبواب السلطانية بالديار المصريّة؛ وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل (في نقل الثّلج)

- ‌الفصل الثاني من الباب الثالث من الخاتمة في المراكب المعدّة لنقل الثّلج من الشام

- ‌الفصل الثالث من الباب الثالث من الخاتمة في الهجن المعدّة لنقل ذلك

- ‌الباب الرابع من الخاتمة في المناور والمحرقات؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المناور

- ‌الفصل الثاني من الباب الرابع من الخاتمة: في المحرقات

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في الحواشي

- ‌[فهرس]

الفصل: ‌الفصل الأول في المقامات

‌المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتّاب وتتنافس في عملها، ليس لها تعلّق بكتابة الدّواوين السلطانية ولا غيرها؛ وفيها بابان

الباب الأوّل في الجدّيّات؛ وفيه [ستة]«1» فصول.

‌الفصل الأوّل في المقامات

وهي جمع مقامة بفتح الميم؛ وهي في أصل اللّغة اسم للمجلس والجماعة من الناس. وسمّيت الأحدوثة من الكلام مقامة، كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها. أما المقامة بالضّم، فبمعنى الإقامة، ومنه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنّة: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ

«2» .

واعلم أن أوّل من فتح باب عمل المقامات، علّامة الدّهر، وإمام الأدب، البديع الهمذانيّ «3» : فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه، وهي

ص: 124

في غاية من البلاغة، وعلوّ الرّتبة في الصّنعة. ثم تلاه الإمام أبو محمد القاسم الحريريّ «1» ، فعمل مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت نهاية في الحسن، وأتت على الجزء الوافر من الحظّ، وأقبل عليها الخاصّ والعامّ، حتّى أنست مقامات البديع وصيرّتها كالمرفوضة. على أن الوزير ضياء الدّين بن الأثير في «المثل السّائر» لم يوفّه حقّه، ولا عامله بالإنصاف، ولا أجمل معه القول، فإنه قد ذكر أنه ليس له يد في غير المقامات، حتّى ذكر عن الشيخ أبي محمد أحمد بن الخشّاب أنه كان يقول: إن الحريريّ رجل مقامات، أي إنّه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، فإن أتى بغيرها فلا يقول شيئا. وذكر أنه لما حضر بغداد، ووقف على مقاماته، قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه، فأحضر وكلّف كتابة كتاب فأفحم، ولم يجر لسانه في طويله ولا قصيره، حتّى قال فيه بعضهم:

شيخ لنا من ربيعة الفرس

ينتف عثنونه من الهوس

أنطقه الله بالمشان وفي

بغداد أضحى الملجوم بالخرس

«2» !

ص: 125

واعتذر عنه بأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص، بخلاف المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له، من حيث أن المعاني تتجدّد فيها بتجدّد حوادث الأيام، وهي متجدّدة على عدد الأنفاس.

وهذه المقامة التي قدّمت الإشارة إليها في خطبة هذا الكتاب، إلى أنّي كنت أنشأتها في حدود سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، عند استقراري في ديوان الإنشاء بالأبواب الشريفة، وأنها اشتملت- مع الاختصار- على جملة جمّة من صناعة الإنشاء، ووسمتها ب «الكواكب الدّرّيّة، في المناقب البدريّة» ووجّهت القول فيها لتقريظ المقرّ البدريّ، بن المقرّ العلائيّ، بن المقرّ المحيويّ، بن فضل الله، صاحب ديوان الإنشاء «1» بالأبواب السلطانية بالدّيار المصرية يومئذ، جعلت مبناها على أنه لا بدّ للإنسان من حرفة يتعلّق بها، ومعيشة يتمسّك بسببها، وأن الكتابة هي الحرفة التي لا يليق بطالب العلم سواها، ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها، مع الجنوح فيها إلى تفضيل كتابة الإنشاء وترجيحها، وتقديمها على كتابة الدّيونة «2» وترشيحها.

ص: 126

وقد اشتملت على بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من الموادّ، وما ينبغي أن يسلكه من الجوادّ، مع التّنبيه على جملة من المصطلح بيّنت مقاصده، ومهّدت قواعده، على ما ستقف عليه في خلال مطاويها إن شاء الله تعالى؛ وهي:

حكى النّاثر ابن نظّام، قال: لم أزل من قبل أن يبلغ بريد عمري مركز التّكليف، ويتفرّق جمع خاطري بالكلف بعد التّأليف؛ أنصب لاقتناص العلم أشراك التّحصيل، وأنزّه توحيد الاشتغال عن إشراك التّعطيل، مشمّرا عن ساق الجدّ ذيل الاجتهاد، مستمرّا على الوحدة وملازمة الانفراد، أنتهز فرصة الشّباب قبل تولّيها، وأغتنم حالة الصّحّة قبل تجافيها؛ قد حالف جفني السّهاد، وخالف طيب الرّقاد، أمرّن النّفس على الاشتغال كي لا تملّ فتنفر عن الطّلب وتجمح، مميلا جانب قصدها عن ركوب الأهواء والميل إليها، صارفا وجه غايتها عن المطالب الدّنيويّة والرّكون إليها، متخيّرا أليق الأماكن وأوفق الأوقات، قانعا بأدنى العيش راضيا بأيسر الأقوات، أونس من شوارد العقول وحشيّها، وأشرّد عن روابض المنقول حوشيّها، وألتقط ضالّة الحكمة حيث وجدتها، وأقيّد نادرة العلم حيث أصبتها، مقدّما من العلوم أشرفها، ومؤثرا من الفنون ألطفها، معتمدا من ذلك ما تألفه النفس ويقبله الطّبع، مقبلا منه على ما يستجلي حسنه النّظر ويستحلي ذكره السّمع، منتقيا من الكتب أمتعها تصنيفا، وأتمّها تحريرا وأحسنها تأليفا، منتخبا من أشياخ الإفادة أوسعهم علما وأكثرهم تحقيقا، ومن أقران المذاكرة أروضهم بحثا وألطفهم تدقيقا، عارفا لكلّ عالم حقّه، وموفّيا لكلّ علم مستحقّه؛ قد استغنيت بكتابي عن خلّي ورفيقي، وآثرت بيت خلوتي على شفيقي وشقيقي؛ أجوب فيافي الفنون لتظهر لي طلائع الفوائد فأشهدها عيانا، وأجول في ميدان الأفكار لتلوح لي كمائن المعاني فلا أثني عنها عنانا، وأشنّ غارات المطالعة على كتائب الكتب فأرجع بالغنيمة، وأهجم على حصون الدّفاتر ثم لا أولّي عن هزيمة، بل كلّما لاحت لي فئة من البحث تحيّزت إليها، أو ظهرت لي

ص: 127

كتيبة من المعاني حملت عليها، إلى أن أتيح لي من الفتح ما أفاضته النّعمة، وحصلت من الغنيمة على ما اقتضته القسمة.

فبينا أنا أرتع في رياض ما نفّلت، وأجتني ثمار ما خوّلت، إذ طلع عليّ جيش التّكليف فحصرني، وخرج عليّ كمين التّكليف فأسرني، فأمسيت في أضيق خناق، وأشدّ وثاق، قد عاقني قيد الاكتساب عن الاشتغال، وصدّني كلّ الكدّ عن الاهتمام بالطّلب والاحتفال، فغشيني من القبض ما غشيني، وأخذني من الوحشة ما أخذني، وتعارض فيّ حكم العقل بين الكسب وطلب العلم، وتساويا في التّرجيح فلم تجنح واحدة منهما إلى السّلم، فصرت مدهوشا لا أحسن صنعا، وبقيت متحيّرا لا أدري أيّ الأمرين أقرب إليّ نفعا:

إن طلبت العلم للكسب فقد أفحشت رجوعا، وإن تركت الكسب للعلم هلكت ضيعة ومتّ جوعا.

فلما علمت أنّ كلّا منهما لا يقوم إلا بصاحبه، ولا يتمّ الواجب في أحدهما ما لم يقم في الآخر بواجبه، التمست كسبا يكون للعلم موافقا، وبحملته لائقا، ليكون ذلك الكسب للعلم موضوعا والعلم عليه محمولا، والجمع ولو بوجه أولى، فجعلت أسبر المعايش سبر متقصّد وأسير في فلوات الصّنائع سير متعهّد، لكي أجد حرفة تطابق أربي، أو صنعة تجانس طلبي.

فبينما أنا أسير في معاهدها، وأردّد طرفي في مشاهدها، إذ رفع لي صوت قرع سمعي برنّته، وأخذ قلبي بحنّته، فقفوت أثره متّبعا، وملت إليه مستمعا، فإذا رجل من أحسن الناس شكلا، وأرجحهم عقلا، وهو يترنّم وينشد:

إن كنت تقصدني بظلمك عامدا

فحرمت نفع صداقة الكتّاب

السّائقين إلى الصّديق ثرى الغنى

والنّاعشين لعثرة الأصحاب

والنّاهضين بكلّ عبء مثقل

والنّاطقين بفصل كلّ خطاب

ص: 128

والعاطفين على الصّديق بفضلهم

والطّيّبين روائح الأثواب

ولئن جحدتهم الثّناء فطالما

جحد العبيد تفضّل الأرباب!

فلما سمعت منه ذلك، وأعجبني من الوصف ما هنالك، دنوت منه دنوّ الواجل، وجلست بين يديه جلوس السّائل، وقلت: هذه وأبيك صفات الملوك بل ملوك الصّفات، وأكرم الفضائل بل أفضل المكرمات؛ ولم أك أظنّ أنّ للكتابة هذا الخطر الجسيم، وللكتّاب هذا الحظّ العظيم؛ فأعرض مغضبا، ثم فوّق بصره إليّ معجبا، وقال: هيهات فاتك الحزم، وأخطأك العزم؛ إنها لمن أعظم الصّنائع قدرا، وأرفعها ذكرا؛ نطق القرآن الكريم بفضلها، وجاءت السّنّة الغرّاء بتقديم أهلها، فقال تعالى جلّ ثناؤه، وتباركت أسماؤه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ

«1» فأخبر تعالى أنه علّم بالقلم، حيث وصف نفسه بالكرم، إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه، وإيذانا بأن منحها من فائض ديمه؛ وقال جلّت قدرته: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ

«2» فأقسم بالقلم وما سطّرته الأقلام، وأتى بذلك في آكد قسم فكان من أعظم الأقسام. وقال تقدّست عظمته: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ

«3» فجعل الكتابة من وصف الكرام، كما قد جاء فعلها عن جماعة من الأنبياء عليهم السلام؛ وإنما منعها النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، معجزة قد بيّن تعالى سببها، حيث ذكر إلحادهم بقوله: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها

«4» .

هذا: وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كثرة الكتّاب راغبا؛ فقد روي أنه كان له عليه أفضل الصّلاة والسّلام نيّف وثلاثون كاتبا، هم نخبة أصحابه، وخلاصة

ص: 129

أترابه؛ ومن ائتمنهم على أسرار الوحي والتّنزيل، وخاطب بألسنة أقلامهم ملوك الأرض فأجابوا بالإذعان على البعد والمدى الطّويل؛ وكتب الملوك أيضا إليه ابتداء وجوابا، وكاتب أصحابه وكاتبوه فأحسن استماعا وأفحم خطابا، وبذلك جرت سنّة الخلفاء الراشدين فمن تلاهم، وعلى نهجه مشت ملوك الإسلام ومن ضاهاهم.

فالكتابة قانون السّياسة، ورتبتها غاية رتب الرّياسة؛ عندها تقف الإنافة، وإليها تنتهي مناصب الدّنيا بعد الخلافة؛ والكتّاب عيون الملوك المبصرة وآذانهم الواعية، وألسنتهم النّاطقة وعقولهم الحاوية، بل محض الحقّ الذي لا تدخله الشّكوك؛ وإن الملوك إلى الكتّاب أحوج من الكتّاب إلى الملوك؛ وناهيك بالكتابة شرفا، وأعل بذلك رتبة وكفى، أنّ صاحب السّيف والعلم يزاحم الكاتب في قلمه، ولا يزاحم الكاتب صاحب السّيف والعلم في سيفه وعلمه.

وعلى الجملة فهم الحاوون لكلّ وصف جميل، وشأن نبيل؛ الكرم شعارهم، والحلم دثارهم، والجود جادّتهم، والخير عادتهم، والأدب مركبهم، واللّطف مذهبهم؛ ولله القائل:

وشمول كأنّما اعتصروها

من معاني شمائل الكتّاب!

فلما انقضى قيله، وبانت سبيله، قلت: لقد ذكرت قوما راقني وصفهم، وشاقني لطفهم، ودعاني طيب حديثهم، وحسن أوصافهم، وجميل نعوتهم، إلى أن أحلّ بناديهم وأنزل بواديهم، فأجعل حرفتهم كسبي، وصنعتهم دأبي، ليجتمع بالعلم شملي، ويتّصل بالاشتغال حبلي، فأكون قد ظفرت بمنيتي، وفزت ببغيتي، فأي قبيل من الكتّاب أردت؟ وإلى أيّ نوع من الكتابة أشرت؟ أكتابة الأموال؟ أم كتابة الإنشاء والخطابة؟، أم غيرهما من أنواع الكتابة؟ فنظر إليّ متبسّما، وأنشد مترنّما:

قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب

ثم استمدّوا بها ماء المنيّات

ص: 130

نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا

ما لم ينالوا بحدّ المشرفيّات!

فقلت: كأنّك تريد كتابة الإنشاء دون سائر الكتابات، وهي التي تقصدها بالتّصريح وتشير إليها بالكنايات؛ فقال: وهل في أنواع الكتابة جملة نوع يساويها، أو في سائر الصّنائع على الإطلاق صنعة تضاهيها؟ إنّ لها للقدح المعلّى، والجيد المحلّى، والذّروة المنيفة، والرّتبة الشّريفة؛ كتّابها أسّ الملك وعماده، وأركان الملك وأطواده، ولسان المملكة النّاطق، وسهمها المفوّق الرّاشق؛ ولله حبيب بن أوس الطّائيّ «1» حيث يقول:

ولضربة من كاتب ببنانه

أمضى وأقطع من رقيق حسام!

قوم إذا عزموا عداوة حاسد

سفكوا الدّما بأسنّة الأقلام!

قلمها يبلّغ الأمل، ويغني عن البيض والأسل؛ به تصان المعاقل، وتفرّق الجحافل:

فلكم يفلّ الجيش وهو عرمرم

والبيض ما سلّت من الأغماد!

فقلت: إن كتّاب الأموال يزعمون أن لهم في ذلك المقام الأعلى، والطّريقة المثلى، ويستشهدون لفضلها، وتقدّم أهلها، بقول الإمام أبي محمد القاسم الحريريّ، رحمه الله، في مقاماته «2» :

«إنّ صناعة الحساب مبنيّة «3» على التّحقيق، وصناعة الإنشاء مبنيّة على التّلفيق، وقلم الحاسب ضابط، وقلم المنشيء خابط «4» ؛ وبين إتاوة توظيف المعاملات، وتلاوة طوامير السّجلّات، بون لا يدركه قياس، ولا يعتوره التباس؛ إذ الإتاوة تملأ الأكياس، والتّلاوة تفرّغ الرّاس، وخراج

ص: 131

الأوارج «1» ، يغني النّاظر، واستخراج المدارج، يعنّي الخاطر؛ والحسبة «2» حفظة الأموال، وحملة الأثقال؛ والنّقلة الأثبات، والسفرة الثّقات؛ وأعلام الإنصاف والانتصاف، والشّهود المقانع في الاختلاف «3» ؛ ومنهم المستوفي الذي هو يد السّلطان، وقطب الدّيوان؛ وقسطاس الأعمال، والمهيمن على العمّال؛ وإليه المآب في السّلم والهرج، وعليه المدار في الدّخل والخرج؛ وبه مناط الضّرّ والنّفع، وفي يده رباط الإعطاء والمنع؛ ولولا قلم الحسّاب، لأودت ثمرة الاكتساب، ولاتّصل التّغابن إلى يوم الحساب؛ ولكان نظام المعاملات محلولا، وجرح الظّلامات مطلولا، [وجيد التّناصف مغلولا]«4» ، وسيف التّظالم مسلولا؛ على أنّ يراع الإنشاء متقوّل، ويراع الحساب متأوّل، والمحاسب مناقش، والمنشيء أبو براقش» «5» .

فوصف كتابة الأموال بأتمّ الصّفات، ونبّه من شيم أهلها وشياتهم على أكرم الشّيم وأحسن الشّيات.

فقال: هذه الحجّة معارضة بمثلها، بل باطلة من أصلها؛ وأين ذلك من قوله في صدر كلامه؟:

ص: 132

«اعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع، وصناعة الحساب أنفع؛ وقلم المكاتبة خاطب، وقلم المحاسبة حاطب «1» ؛ وأساطير البلاغات تنسخ لتدرس، ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس «2» ؛ والمنشيء جهينة الأخبار «3» ، وحقيبة الأسرار، ونجيّ العظماء، وكبير النّدماء؛ وقلمه لسان أسرار «4» الدّولة، وفارس الجولة، ولقمان الحكمة، وترجمان الهمّة؛ وهو البشير والنّذير، والشّفيع والسّفير، به تستخلص الصّياصي «5» ، وتملك النّواصي، ويقتاد العاصي، ويستدنى القاصي؛ وصاحبه بريء من التّبعات، آمن كيد السّعاة، مقرّظ بين الجماعات، غير معرّض لنظم الجماعات» «6» .

فهذه أرفع المراتب، وأشرف المناقب، التي لا يعتورها شين، ولا يشوبها مين؛ وصدر الكلام يقتضي التّرجيح، ويؤذن بالتّرشيح؛ والرّفع، أبلغ في الوصف من النّفع؛ فقد ينتفع بالنّزر اليسير، ولا يرتفع إلا بالأمر الكبير، على أنّه لو اعتبر نفع كتابة الإنشاء لكان أبلغ، وإقامة الدّليل عليه أسوغ؛ وأنّى لكتّاب الأموال، من التأثير في فلّ الجيوش من غير قتال، وفتح الحصون من غير نزال؛ فهذه هي الخصّيصى»

التي لا تساوى، والمنقبة التي لا تناوى:

ص: 133

تلك المكارم لا قعبان «1» من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا!

فقلت: الآن قد انقطعت الحجّة، وبانت المحجّة، فما الذي يحتاج كاتب الإنشاء إلى ممارسته؟ فقال: إذا قد تعلّقت من الصّنعة بأسبابها، وأتيت البيوت من أبوابها.

اعلم أن كاتب الإنشاء لا تظهر فصاحته، وتبين بلاغته، وتقوى يراعته، وتجلّ براعته، إلا بعد تحصيل جملة من العلوم، ومعرفة الاصطلاح والإحاطة بالرّسوم؛ ثم أهمّ ما يبدأ بتحصيله، ويعتمد عليه في جملة الأمر وتفصيله، حفظ كتاب الله العزيز الذي هو معدن الفصاحة، وعنصر البلاغة، وإدامة قراءته وتكرير مثانيه، مع العلم بتفسيره وتدبّر معانيه، حتّى لا يزال دائرا على لسانه حاضرا في ذكره، ولا يبرح معناه ممثّلا في قلبه مصوّرا في فكره، ليكون مستحضرا له في الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها، ويضطرّ إلى إقامة الأدلّة القاطعة عليها، فلله الحجّة البالغة، ولآياته الأجوبة الدّامغة؛ خصوصا السّير والأحكام، وما يتعلّق بذلك من مهمّات الدّين وقواعد الإسلام، وما اشتمل عليه كلام النّبوّة من الألفاظ البديعة التي أبكمت الفصحاء، والمعاني الدّقيقة التي أعيت البلغاء؛ مع النّظر في معانيها ومعرفة غريبها، والاطّلاع على ما للعلماء في ذلك من الأقوال بعيدها وقريبها، لتكون أبدا حجّته ظاهرة، وأدلّته قويّة متظاهرة؛ فإنّ الدّليل إذا استند إلى النّصّ انقطع النّزاع وسلّم المدّعى ولزم؛ والفصاحة والبلاغة غايتهما- بعد كتاب الله تعالى- في كلام من أوتي جوامع الكلم؛ والعلم بالأحكام السّلطانيّة وفروعها، وخصوصها وشيوعها، والتّوغّل في أشعار العرب والمولّدين، وأهل الصّناعة من المحدثين، وما ورد عن كلّ فريق منهم من الأمثال نثرا ونظما، وما جرى بينهم من المحاورات والمناقضات حربا وسلما؛ والتّعويل من ذلك على الأشعار البديعة التي اختارها العلماء بها،

ص: 134

فتمسّكوا بأوتادها وتعلّقوا بسببها، والأمثال الغريبة التي انتقوها، ودوّنوها ورووها، واستيضاح القسمين واستكشاف غوامضهما، واستظهار النّوعين واستمطار عوارضهما، والاطّلاع على خطب البلغاء، ورسائل الفصحاء، وما وقع لهم في مخاطباتهم، ومكاتباتهم، والعلم بأيّام العرب وحروبهم، وما كان من الوقائع بين قبائلهم وشعوبهم، والنّظر في التّواريخ وأخبار الدّول الماضية، والقرون الخالية، وسير الملوك وأحوال الممالك، ومعرفة مكايدهم في الحرب المنقذة من المهاوي والمنجية من المهالك، مع سعة الباع في اللّغة التي هي رأس ماله، وأسّ مقاله، وكنزه المعدّ للإنفاق، ومعينه بل مغيثه وقت الضّرورة على الإطلاق، والنّحو الذي هو ملح كلامه، ومسك ختامه، والتّصريف الذي تعرف به أصول أبنية الكلمة وأحوالها، وكيفيّة التّصرّف في أسمائها وأفعالها، وعلوم المعاني والبيان والبديع التي هي حلية لسانه، وآية بيانه، ومعرفة أبوابها وفصولها، وتحقيق فروعها وأصولها: من الفصاحة وطرائقها، والبلاغة ودقائقها، واختيار المعاني وترتيبها، ونظم الألفاظ وتركيبها، والفصل والوصل ومواقعهما، والتّقديم والتّأخير ومواضعهما؛ ومواطن الحذف والإضمار، وحكم الرّوابط والأخبار، وغير ذلك من الحقيقة والمجاز، والبسط والإيجاز، والحلّ والعقد، وتمييز الكلام جيّده من رديّه بصحّة النّقد، مع معرفة أنواع البديع وطرائقها، والاطّلاع على غوامض أسرارها وفرائد دقائقها.

على أن آكد شيء يجب تحصيله قبل كلّ حاصل، ويستوي في الاحتياج إلى معرفته المفضول من الكتّاب والفاضل، العلم بالخطّ وقوانينه: من الهجاء والنّقط والشّكل، والفرق بين الضّاد والطّاء المتخالفين في الصّورة والشّكل، مع المعرفة بآلات الكتابة وصفاتها، وتباين أنواعها واختلاف صفاتها.

هذه أصوله التي يبنى عليها، وقواعده التي يرجع إليها؛ فإذا أحاط بهذه الفنون علما، وأتقنها فهما، غزرت عنده الموادّ، واتّضحت له الجوادّ،

ص: 135

فأخذ في الاستعداد، وسهل عليه الاستشهاد؛ فقال عن علم وتصرّف عن معرفة واستحسن ببرهان، وانتقد بحجّة وتخيّر بدليل وصاغ بترتيب وبنى على أركان، واتّسع في العبارة مجاله، وفتح له من باب الأوصاف أقفاله، وتلقّى كلّ واقعة بما يماثلها، وقابل كلّ قضيّة بما يشاكلها، وعلم المجيد فنسج على منواله، وظهر له القاصر فأعرض عن أقواله، وحصل له القوّة على فهم الخطاب، وأنشأ الجواب بحسب الوقائع والأعراض، على طبق المقاصد والأغراض؛ ومتى أخلّ بشيء من ذلك فاتته الفضائل، وعلقت به الرذائل، وقلّت بضاعته، ونقصت صناعته، وساءت آثاره، وقبحت أخباره؛ وخلط الغرر بالعرر، ولم يميّز بين الصّدف والدّرر، فأخرج الصّنعة عن أماكنها، وطمس من الكتابة وجوه محاسنها، فجرّ اللّوم إلى نفسه، وأمسى مهزأة لأبناء جنسه.

ووراء ذلك علوم هي كالنافلة للكاتب، والزّيادة للرّاغب:

منها ما تكمل به صناعته، وتعظم به مكانته: كعلم الكلام، وأصول الفقه وسائر الأحكام، والمنطق والجدل، وأحوال الفرق والنّحل والملل، وعلم العروض والميزان المحكم، وعلم القوافي وحلّ المترجم؛ والحساب المفتوح وما يترتّب عليه من المعاملة، وما تستخرج به المجهولات: من حساب الخطأين والدّرهم والدّينار والجبر والمقابلة، وحساب الدّور والوصايا، والتّخت والميل وما لأعماله على غيرها من المزايا، والعلم بالفلاحة، وأحوال المساحة، وعلم عقود الأبنية والمناظر المحقّقة، ومراكز الأثقال والمرايا المحرقة، وعلم جرّ الأثقال الأبيّة، والعلم بالآلات الحربيّة، وعلم المواقيت والبنكامات «1» ، والتّقاويم

ص: 136

والزّيجات، وعلم تسطيح الكرة والتّوصّل بها إلى استخراج المطالب الفلكيّة، وكيفية الأرصاد وأحكام النّجوم والآلات الظّلّيّة، وعلم الطّبّ والبيطرة، وأحوال سائر الحيوان وعلم البيزرة «1» .

ومنها ما تكمل به ذاته، وتتمّ به أدواته، كعلم التّعبير وعلم الأخلاق وعلم السّياسة، وعلم تدبير المنزل وعلم الفراسة، وغير ذلك من العلوم التي أضربنا عن ذكرها خشية الإطالة، وأعرضنا عن إيرادها خوف الملالة؛ فهذه علوم فضلة يعظم بعلمها أمره، وفضيلة يرتفع بتحصيلها ذكره؛ بل لا يستغني عن العلم برؤوس مسائلها، وإشارات أربابها الآخذة من بحارها بأطراف سواحلها؛ على أنّه قد ترد عليه أوقات لا يسعه جهل ذلك فيها، وتمرّ عليه أزمان يودّ لو تشترى فيشتريها.

قلت: قد بانت لي علومها، فما رسومها؟ قال: إن أعباءها لباهظة حملا، وإنها لكبيرة إلّا «2» ؛ ولكن سأحدث لك مما سألت ذكرا، وأنبّئك بما لم تحط به خبرا.

فمن ذلك: المعرفة بالولايات ولواحقها، على اختلاف مقاصدها وتباين طرائقها، من البيعات وأحكامها، والعهود وأقسامها، والتّقاليد وصفاتها، والتّفاويض ومضاهاتها، والمراسيم وأوضاعها، والتّواقيع

ص: 137

وأنواعها، والخطب ومناسباتها، والوصايا ومطابقاتها، ثم العلم بالمناشير ومراتبها، والمربّعات الجيشيّة «1» ومعايبها، ومعرفة رتب المكاتبات وطبقاتها، ومن يستحقّ من الرّتب أدناها أو يستوجب الرّفع إلى أعلى درجاتها: من المكاتبات الصادرة عن الأبواب الشريفة الخليفتيّة، والمكاتبات الواردة عليها وعلى أرباب المناصب من سائر الآل والعترة النّبويّة، وملوك المسلمين والقانات، وملوك الكفر وأرباب الدّيانات، وأهل المملكة من النّوّاب والكشّاف والولاة، والأمراء والوزراء والعربان والقضاة، وسائر حملة الأقلام، وأهل الصّلاح وبقيّة الأعلام، ونساء الملوك والخوندات «2» ، ومكاتبات التّجّار وما عساه يطرأ من المكاتبات المستجدّات، وكتب البشرى بوفاء النّيل والقدوم من الغزو والسّفر، واسترهاف العزائم، والبطائق المحمولة على أجنحة الحمائم، والملطّفات التي يضطرّ إليها، ويعوّل في الأمور الباطنة عليها، وأوراق الجواز في الطّرقات، والإطلاقات في التّسفير والمثالات المطلقات، ومعرفة الأوصاف التي يكثر في المكاتبات تكرارها، ويتّسق في جيد المراسلات إيرادها وإصدارها: كوصف الأنواء والكواكب، والأفلاك العليّة المراتب، والآلات الملوكية الجليلة المقدار، والسّلاح وآلات الحصار، والخيل المسوّمة، والجوارح المعلّمة، وجليل الوحش وسباعه، وطير الواجب «3» وأتباعه، والأمكنة والرّياض، والمياه والغياض، وغير ذلك مما يعزّ ويغلو، ويرتفع ويعلو؛ وإخوانيّات المكاتبات وطبقاتها، وتميز كلّ طبقة منها عن أخواتها، وما تشتمل عليه من الابتداء والجواب، والتّشوّق والعتاب، والتّرفّق والاعتذار، والشّفاعة وطلب

ص: 138

الصّفح والعفو عند الاقتدار، والتّهاني والتّعازي، وما يكتب مع الهديّة ويجاب عنها من المجازيّ وغير المجازي.

وغير ذلك من مقاصد المكاتبات التي يتعذّر حصرها، ويمتنع على المستقصي ذكرها؛ ومعرفة الطّغراة «1» والطّرّة والعنوان والتّعريف، والعلامة في الكتب على أماكنها الفارقة بين انحطاط القدر والتّشريف، وتتريب الكتاب وطيّه وختمه، وتعمية ما في الكتب بضرب من الحيلة وإخفاء ذلك وكتمه، ونسخ الأيمان التي يستحلف بها، ويتمسّك للوفاء بسببها، كيمين البيعة العامّة للموافق والمخالف، وما يختصّ من ذلك بالنّوّاب وأرباب الوظائف، وأيمان أصحاب البدع والأهواء، وأهل الملل والحكماء، وكتابة الهدن والمواصفات، والأمانات والدّفن والمفاسخات، ومعرفة الأسماء والكنى والألقاب، وبيان المستندات ومحلّها المصطلح عليه بين الكتّاب؛ وكتابة التّاريخ وما أخذت به كلّ طائفة وثابت إليه تمسّكا، وما يفتتح به في الكتابة تيمّنا ويختتم به تبرّكا؛ ومعرفة قطع الورق: من كامل البغداديّ والشّاميّ والثّلثين والنّصف والثّلث والمنصوريّ والعادة، ومن يستحقّ من هذه المقادير أعلاها أو يوقف به مع أدنى رتبها من غير زيادة؛ والأقلام المناسبة لهذه الأقدار، من الرّقاع والتّواقيع والثّلث ومختصر الطّومار؛ والعلم بالأوضاع وكيفية الترتيب، ومقادير البياض ومباعدة ما بين السّطور والتقريب؛ ومعرفة الرّزاديق «2» وقطّانها، والنّواحي والبلدان وسكّانها،

ص: 139

والأمم وممالكها، وطرق الأقاليم ومسالكها، ومراكز البريد ومسافاتها، وأبراج الحمام ومطاراتها، وهجن الثّلج والسّفن المعدّة لنقله، والمحرقات المؤدّية إلى اجتياح العدوّ وتفريق شمله، والمناور وأماكنها، والقصّاد ومكامنها.

هذه رسومها على سبيل الإجمال، والإشارة إلى مصطلحاتها بأخصر الأقوال.

واعلم أنّ حسن الخطّ من الكتابة واسطة عقدها، وقوّة الملكة على السّجع والازدواج ملاك حلّها وعقدها، على أنّ خير الخطّ ما قري، وأحسن السّجع ما سلّم من التّكلّف وبري؛ وللكتّاب في بحر الكتابة سبح طويل، وتفنّن يسفر عن كلّ وجه جميل.

قلت: فهل لهذه الرّتبة الرّئيسة، والمنقبة النّفيسة، سمط يلمّها، أو سلك يضمّها؟ فقال: سبحان الله: إن بيتها لأشهر من «قفانبك» «1» ، وأظهر للعيان من شامخات جبال النّبك «2» ؛ أيخفى من البدر ضوءه الباهر، ونوره الزّاهر؟ إن ذلك لقاصر على «آل فضل الله» «3» حقّا، ومنحصر في المقرّ

ص: 140

البدريّ صدقا؛ فهو قطبها الذي تدور عليه، وابن بجدتها التي ترجع في علومها ورسومها وسائر أمورها إليه، فلو رآه «الفاضل عبد الرحيم» «1» لم ير لنفسه فضلا ولا رضي لفيه مقالا، أو عاينه «عبد الحميد الكاتب» لقال: هكذا هكذا وإلّا فلا لا، أو عاصره «قدامة» «2» لجلس قدّامه، أو أدركه «ابن قتيبة» لاتّخذه في «أدب الكاتب» شيخه وإمامه، أو بصر به «الصّابيّ» «3» لصبا إليه ومال، أو قارن زمانه «الحسن بن سهل» بل «الفضل» أخوه لأقام ببابه وما زال، أو جنح «ابن العديم» «4» إلى مناوأته لأدركه العدم، أو جرى «الصاحب ابن عبّاد» في مضمار فضله لكبا وزلّت به القدم، أو اطّلع «ابن مقلة» «5» على حسن خطّه لقال: هذا هو الجوهر الثّمين، أو نظر «ابن هلال» «6» إلى بهجة رونقه لقال: إنّ هذا لهو الفضل المبين؛ إن تكلّم نفث سحرا، أو كتب خلت زهرا أو تخيّلت درّا.

يؤلّف اللّؤلؤ المنثور منطقه

وينظم الدّرّ بالأقلام في الكتب!

قد علا نسبا، وفاق حسبا، وورث الفضل لا عن كلالة، واستحقّ الرّتبة بنفسه وإن كانت له بالأصالة:

فحيّهلا بالمكرمات وبالعلى

وحيّهلا بالفضل والسّؤدد المحض!

ص: 141

فلما سمعت ذلك زال عنّي الإلباس، وقلت: ذلك من فضل الله علينا وعلى النّاس. ثم قلت: أقسمت عليك بالذي تشير إليه، إلا تدلّني عليه، فقال: إنّه صفيّ الملك ونجيّه، وكاتب سرّه ووليّه، والقريب منه إذا بعدوا، والمخصوص بالمقام إذا طردوا، والموجّه إليه الخطاب إذا حضروا، والمستأثر بالورود إذا صدروا، والمتكلّم بلسان الملك إذا سكتوا، والناطق بفصل الخطاب إذا بهتوا، والصّائل بحسام لسانه وخطّيّ «1» قلمه، والحامي الممالك بجيوش سطوره وجند كلمه، والمشتّت شمل العدوّ ببديع ألفاظه ودقيق حكمه، والحائز قصب السّبق بكرم فضله وفضل كرمه، والمروي ظمأ الوافدين إليه بواكف وبله وفائض ديمه، والمجلي غياهب الظّلم بنيّر بدره ومضيء أنجمه:

فما زال بدرا في سماء سيادة

يشار إليه في الورى بالأنامل

بسيط مساعي المجد يركب نجدة

من الشّرف الأعلى وبذل الفواضل

إذا سال أعيى السّامعين جوابه

وإن قال لم يترك مقالا لقائل

قلت: حسبك! قد دلّني عليه عرفه، وأرشدني إليه وصفه، وبان لي محتده الفاخر وحسبه الصّميم، وعرفت أصله الزّاكي وفرعه الكريم، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*

«2» .

ثم عرّجت إلى حماه، وملت إلى حيّه كي أراه، فإذا به قد برز تتلألأ أنواره، وتشرق بالجلالة أقماره؛ قد علته الهيبة وغشيته السّكينة وحفّته الرياسة وجلّلته السعادة، وحكمت بعزّ منال قدره الأقدار كما اقتضته الإرادة.

ص: 142

فلما رأيته استصغرت الرّتبة مع شرفها الباذخ في جانبه، وعلمت أن ما تقدّم من المدح لم يوفّ حقّه ولم يقم ببعض واجبه؛ فغلبت هيبته إقدامي، وحالت حرمته بيني وبين مرامي، فقلت: إنا لله! قد فاتتني مآربي، ورجعت من فوري إلى صاحبي، فأظهرت له الأسف، وقصصت عليه القصّة قال: لا تخف؛ إنها لمنقبة عمريّة، وأثرة عدويّة؛ فالفاروق جدّه، وبنو عديّ قبيله وجنده «1» .

هذا وإنّه لألطف وأرقّ من النّسيم السّاري، والماء الجاري، وأحيى من العذراء في خدرها، وأشفق من الوالدة إذا ضمّت ولدها إلى صدرها، وأحلم من «معن بن زائدة» ، وإن كان أفصح من «قسّ بن ساعدة» .

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فلا يكلّم إلا حين يبتسم!

بالعزائم الفاروقيّة فتحت الأمصار، وبالهيبة العمريّة أقرّ المهاجرون والأنصار؛ ويشهد لذلك قصّة «ابن عبّاس» في العول «2» وسكوته في خلافة عمر وصمته، وجوابه بعد ذلك للقائل له: هلّا قلت ذلك في زمن عمر؟

بقوله: إنّه كان مهيبا فهبته؛ كيف؟ وما سلك فجّا إلا وسلك الشّيطان فجّا غير فجّه وضاقت عليه الفجاج، ولم تماثل هيبته بهيبة غيره وإن عظمت سطوته حتى قال الشّعبيّ: إن درّة «3» عمر لأهيب من سيف الحجّاج؛ وهو مع ذلك يلطف بالأرامل والمساكين، ويعين الفقراء والمحتاجين؛ فقد اتضحت لك القضيّة، وتحقّقت أنها سمات إرثيّة.

ص: 143

فعند ذلك ذهب روعي، وقوي روعي «1» ؛ وقلت: فهل له أتباع من الكتّاب فأتعلق بحبالهم، وأتأسّى بهم في أقوالهم وأفعالهم؟ لكي أتّسم بسمة الكتّاب، وأثبت في جملة غلمان الباب، قال: أجل! رأس الدّست الشريف صنوه الكريم، وقسيمه في حسبه الصّميم؛ به شدّ عضده، وقوي كتده «2» ، فاجتمع الفضل له ولأخيه، وورثا سرّ أبيهما «والولد سرّ أبيه» ؛ ثم كتّاب ديوان الإنشاء جنده وأتباعه، وأولياؤه وأشياعه؛ وكتّاب الدّست منهم أرفع في المقام «3» ، وكتّاب الدّرج أجدر بالكتابة وصنعة الكلام.

قلت: القسم الثاني أليق بمقداري، وأقرب إلى أوطاري؛ ثم ودّعت صاحبي شاكرا له على صنيعه وحامدا له على أدبه، وتركته ومضيت وكان ذلك آخر العهد به؛ ثم عدت إليه هو فرفعت إليه قصّتي، وسألته الإسعاف بإجابة دعوتي، فقابلها بالقبول، وأنعم بالمسؤول، وقرّرني في كتابة الدّرج الشّريف، واكتفى بالعرف عن التّعريف؛ وطابق الخبر الخبر، واستغنيت بالعيان عن الأثر؛ ثم قمت عجلا، وأنشدت مرتجلا:

إذا ما بنو الفاروق في المجد أعرقوا،

ونالوا بفضل الله ما لا كمثله

وجلّت دجى الظّلماء أنوار بدرهم،

وعمّت بقاع الأرض أنواء فضله

تعالت ذرى العلياء فيهم وأنشدت:

أبى الفضل إلّا أن يكون لمثله!

ثم تشرفت بتقبيل يده، ومضيت إلى ما أنا بصدده؛ قد منعتني هيبتي من اللّياذ به والقرب إليه، وصيّرت عاطر مدحي وخالص أدعيتي وقفا عليه؛

ص: 144

وصرت إلى الدّيوان، فوجدت قوما قد حفّهم الحسن وزانهم الإحسان؛ فقلت: الحمد لله! هؤلاء فتية ذاك الكهف بلا امتراء، وأشبال ذاك الأسد من غير افتراء؛ فجلست جلوس الغريب، وأطرقت إطراق الكئيب؛ إذ كنت في هذه الصّنعة عصاميّا لا عظاميّا «1» ، ومتهما لا تهاميّا؛ غير أني تعلقت منها بحبال القمر، واستوقدت نارها من أصغر الشّرر؛ فتلقّوني بالرّحب، وأحلّوني من ديوانهم بالمكان الرّحب، وقابلوني بالجميل قبل المعرفة، وعاملوني بالإحسان والنّصفة.

فلما رأيت ذلك منهم حمدت مسراي، وشكرت مسعاي، ودعوت لصاحبي أوّلا إذ حبّب صنعتهم إليّ وشاقني، ودلّني عليهم وساقني.

ولما تحققت أني قد أثبتّ في ديوانه، وكتبت من جملة غلمانه، رجعت القهقرى عن طلب الكسب، واستوى عندي المحل والخصب، واكتفيت بنظري إليه عن الطّعام والشّراب، وتيقّنت أن نظرة منه إليّ ترقّيني إلى السّحاب، وتلوت بلسان الصّدق على الملإ وهم يسمعون: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ

«2» .

وفيما تضمّنته هذه المقامة من فضل الكتابة وشرف الكتّاب مقنع من غيرها، ومغن عن سواها، والحمد لله والمنّة.

وهذه نسخة مقامة أنشأها أبو القاسم الخوارزميّ في لقائه لأديب يعرف بالهيتيّ، وانقطاعه في البحث، وغلبة الخوارزميّ له. أوردها ابن حمدون في «تذكرته» وهي:

وصيّة لكلّ لبيب، متيقّظ أريب، عالم أديب، يكره مواقف السّقطات،

ص: 145

ويتحفّظ من مصادف الغلطات، ويتلطّف من مخزيات الفرطات، أن يدّعي دون مقامه، ويقتصر من تمامه، ويغضّ من سهامه، ويظهر بعض شكيمته، ويساوم بأيسر قيمته، ويستر كثيرا من بضاعته، ويكتم دقيق صناعته، ولا يبلغ دقيق غاية استطاعته، وأن يعاشر الناس بصدق المناصحة، وجميل المسامحة، وأن لا يحمله الإعجال بما يحسنه، على الازدراء بمن يستقرنه، والافتراء على من يعترضه ويلسنه، ليكون خبره أكثر من خبره، ونظرته أروع من منظره، ويكون أقرب من الاعتذار، وأبعد من الخجلة والانكسار.

فليس الفتى من قال: إنّي أنا الفتى

ولكنّه من قيل: أنت كذلكا

وكم مدّع ملكا بغير شهادة

له خجلة إن قيل: أن لست مالكا!

ولقد نصرت بالاتّضاع، على ذي نباهة وارتفاع؛ وذلك أني أصعدت في بعض الأعوام، مع جماعة من العوام؛ بين تاجر وزائر، إلى العزل والحائر «1» ، حتّى انتهينا إلى قرية شارعة، آهلة زارعة، وما منّا إلا من أملّته السّمريّة «2» فاعترضته، وأسقمته وأمرضته، وفتّرته فقبضته، وكثر منا الجؤار، واستولى علينا الدّوار، فخرجنا منها خروج المسجون، وقد تقوّسنا تقوّس العرجون، فاسترحنا بالصّعود، من طول القعود:

كأنّنا الطّير من الأقفاص

ناجية من أحبل القنّاص

طيّبة الأنفس بالخلاص

منفضات الرّيش والنّواصي!

فما استتمّت الرّاحة، ولا استقرّت بنا الرّاحة، حتى وقف علينا واقف، وهتف بنا هاتف: أيّكم الخوارزميّ؟ فقالوا له: ذلك الغلام المنفرد، والشّابّ المستند؛ فأقبل إليّ، وسلّم عليّ، وقال: إن النّاظر يستزيرك، فليعجّل إليه مصيرك؛ فقمت معه، يتقدّمني وأتبعه، حتّى انتهى بي إلى جلّة من

ص: 146

الرجال، ذوي بهاء وجلال، وزينة وجمال، من أشراف الأمصار، وأعيان ذوي الأخطار؛ من أهل واسط وبغداد، والبصرة والسّواد.

ترى كلّ مرهوب العمامة لاثما

على وجه بدر تحته قلب ضيغم!

فقام إليّ ذو المعرفة لإكرامه، وساعده الباقون على قيامه، وأطال في سؤاله وسلامه؛ وجذبوني إلى صدر المجلس فأبيت، ولزمت ذناباه واحتبيت؛ وأخذوا يستخبروني عن الحال، والمعيشة والمال، وداعية الارتجال، وعن النّيّة والمقصد، والأهل والولد، والجيران والبلد.

وما منهم إلا حفيّ مسائل

وواصف أشواق ومثن بصالح

ومستشفع في أن أقيم لياليا

أروح وأغدو عنده غير بارح

ثم قال قائلهم: هل لقيت عين الزّمان وقلبه، ومالك الفضل وربّه، وقليب الأدب وغربه، إمام العراق، وشمس الآفاق؟. فقلت: ومن صاحب هذه الصّفة المهولة، والكناية المجهولة، فقالوا: أو ما سمعت بكامل هيت، ذي الصّوت والصّيت؟:

ذاك الذي لو عاش [دهرا]«1» إلى

زمانه ذا وابن صوحان

وابن دريد وأبو حاتم

وسيبويه وابن سعدان

وعامر الشّعبيّ وابن العلا

وابن كريز وابن صفوان

قالوا مجاب كلّهم: إنّه

سيّدنا، أو قال: غلماني.

فقلت لهم: قد قلّدتّم المنّة، وهيّجتم الجنّة، إلى لقاء العالم المذكور، والسّيّد المشهور، وقد كانت الرياح تأتيني بنفحات هذا الطّيب، وهدر هذا

ص: 147

الخطيب؛ فالآن لا أثر بعد عين، سأصبّح لأجله عن سرى القين، اغتناما للفائدة، والنّعم الباردة، ووجدانا للضّالّة الشّاردة.

أين أمضي وما الذي أنا أبغي

بعد إدراكي المنى والطّلابا؟

فإذا ما وجدت عندكم العلم

قريبا فما أريد الثّوابا

اذهبوا أنتم فزوروا عليّا:

لأزور الهنيتيّ «1» والآدابا

لن أبالي إن قيل الخوارز

ميّ أخطا فعله أو أصابا!

فقالت الجماعة: بل أصبت، ووجدت ما طلبت؛ وقديما كنا ننشر أعلاقك، ونتمنّى اتّفاقك، ونتداول أوصافك، ونحب مضافك؛ ونكبر لديه ذكرك، ونعظّم لديه قدرك، فيتحرّك منك ساكنه، وتتقلقل بك أماكنه، ونسأل الله سبحانه أن يجمع بينك وبينه بمحضرنا، وتلامح عينك عينه بمنظرنا، ويلتفّ غبارك بغباره، ويمتزج تيّارك بتيّاره، ويختلط مضمارك بمضماره، فيعرف منكما السّابق والسّكيت، والسّوذانق والكعيت «2» ، ويتبيّن من الذي يحوي القصب؛ فإنكما كما قال الشاعر:

هما رمحان خطّيّان كانا

من السّمر المثقّفة الصّعاد

تهال الأرض أن يطا عليها

بمثلهما نسالم أو نعادي!

فقال [بعض الجماعة]«3» لقد تنكّبتم الإنصاف، وأخطأتم الاعتراف، وأبعدتم القياس، وأوقعتم الالتباس؛ أين ابن ثلاثين، إلى ابن ثمانين؟ وابن اللّبون، من البازل الأمون «4» ؟ والرّمح الرّازح، من الجواد القارح، والكودن المبروض «5» ، من المجرّب المروض.

ص: 148

وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

«1» ! كم لديهم بطائح وسباخ، وساكن صرائف وأكواخ، بين يديه سوادية أنباط، وعلوج أشراط، ورعاع أخلاط، وسفل سقّاط، في بلدة إن رأيت سورها، وعبرت جسورها، صحت: واغربتاه، وإن رأيت وجها غريبا ناديت: واأبتاه؛ لا أعرف غير النّبطيّة كلاما، ولا ألقى سوى والدي إماما، في معشر ما عرفوا التّرحال، ولا ركبوا السّروج والرّحال، ولا فارقوا الجدار والطّلال.

أولئك معشر كبنات نعش «2»

خوالف لا تغور مع النّجوم!

[فأنّى له]«3» بمصاولة رجل جوّال، رحّال حلّال، بهيت وضع، وبالكوفة أرضع، وببغداد أثغر، وبواسط أحفر، وبالحجاز وتهامة فطامه، وبمصر والمغرب كان احتلامه، وبنجد والشّام بقل عارضه، وباليمن وعمان قويت نواهضه، وبخراسان بلغ أشدّه، وببخارى وسمرقند تناهى جدّه، وبغزنة والهند شاب واكتهل، ومن سيحون وجيحون علّ ونهل، وبميسان والبصرة عوّد وقرح، وبالجبال جله وجلح «4» ؛ فهو يعدّ «المازنيّ» إمامه، وابن «جنّيّ» غلامه، و «المتنبّي» من رواته، و «المعرّي» حامل دواته، و «الصّابي» باري قلمه، و «الصّاحب» رافع علمه، و «ابن مقلة» من ناقلي غاشيته، «وبني أبي حفصة» بعض حاشيته، وقد قرأ الكتب وتلاها، وحفظ العلوم ورواها، ودرس الآداب ووعاها، ودوّن الدّواوين وألّفها، وأنشأ

ص: 149

الحكم وصنّفها، وفصّل المشكلات وشرحها، وارتجل الخطب ونقّحها؛ فهو البحر المورود، والإمام المقصود، والعلم المصمود، هذا بون ومرتقى شديد.

أتلقون بالأعزل الرّامحا

وبالأكشف الحاسر الدّارعا

وبالكودن السّابق السّابحا

وبالمنجل الصّارم القاطعا؟

فما استتم كلامه حتى أقبل: فإذا نحن به قد طلع مهرولا، وأقبل مستعجلا، فرأيت رجلا أجلح، أهتم أفلح، أفلح أردح، طويلا عنطنط، يحكي ذئبا أمعط، أجمع أحبط «1» ، فتلقّوه معظّمين، وله مفخّمين، فقصد في المجلس صدره، وأسند إلى المخدّة ظهره؛ فما استقرّ به المكان، حتى قيل له: هذا فلان؛ فقبض من أنفه، ونظر إليّ بشطر من طرفه، وقال ببعض فيه؛ هلمّوا ما كنتم فيه، تعسا للشّوهاء وجالبيها، والقرعاء وحالبيها:

جاء زيد مجرّرا رسنه

فحل لا يمنعه سننه «2» (؟)

أحبّه قومه على شوق

إن القرنبى في عين أمّها حسنة «3»

! كان لنا شيخ بالأنبار، كثير الأخبار، قد بلغ من العمر أملاه، ومن السّنّ أعلاه، قرأت عليه جميع الكتاب، وعلم الأنساب، و «مسائل ابن السّرّاج» ، و «ديوان ابن العجّاج» ، و «كتاب الإصلاح» ، و «مشروح الإيضاح» ، وشعر الطّرمّاح، و «العين» للفرهودي، و «الجمهرة» للأزدي؛ وأكثر من المصنّفات، المجهولات والمعروفات؛ ينفخ في شقاشقه، ويزبد في بقابقه،

ص: 150

ويتعاظم في مخارقه؛ وجعل القوم يقسمون بيننا الألحاظ، ويحسبون الألفاظ؛ وما منهم إلا من اغتاظ لسكوتي وكلامه، وتأخّري وإقدامه.

ثم هذى الشيخ إذ وصف له رجل على الغيب ثم رآه، فاحتقره وازدراه؛ وأنشد متمثّلا:

لعمر أبيك تسمع بالمعيدي «1»

بعيد الدّار خير أن تراه

فقال: هذا المعيديّ هو ضمرة، بن ضمرة بن جابر، بن قطن، بن نهشل، بن دارم، بن مالك، بن حنظلة، بن مالك، بن زيد مناة، بن تميم، ابن مرّة، بن أدّ، بن طابخة، بن اليأس، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان. والمعيديّ تصغير معديّ؛ وهو الذي قالت فيه نادبته:

أنعى الكريم النّهشليّ المصطفى

أكرم من خامر أو تخندفا!

فقلت: ما بعد هذا المقال، وجه للاحتمال، وما يجب لي بعد هذه المواقحة، غير المكافحة، ولم يبق لي بعد المغالبة، من مراقبة:

ما علّتي وأنا جلد نابل «2»

والقوس فيه وتر عنابل

تزل عن صفحته المعابل!

ما علتي وأنا [رجل] جلد

والقوس فيه وتر عردّ

ص: 151

مثل ذراع البكر أو أشدّ «1»

فعطفت عليه عطف الثّائر العاسف، والتفتّ إليه التفات الطّائر الخاطف، فقلت له: يا أخاهيت، قد قلت ما شيت، فأجب الآن إذا دعيت، والزم مكانك، وغضّ عنانك، وقصّر لسانك؛ إنّ نادبة ضمرة خندفته، لمّا وصفته، وما سمعت في نسبتك إياه لخندف ذكرا، فأبن عن ذلك عذرا؛ فقال: إن خندف هي امرأة اليأس بن مضر، غلبت على بنيها فنسبوا إليها، كطهيّة ومزينة، وبلعدويّة وعرينة، والسّلكة وجهينة، وندبة وأذينة، وكشبيب ابن البرصاء وابن الدّعماء. فقلت له: سئلت، فأجبت وأصبت؛ فأخبرني عن خندف هل هو اسم موضوع، أو لقب مصنوع؟؛ فوقف عند ذلك حماره، وخمدت ناره، وركد جريانه، وسكن هذيانه، وفتر غليانه، وظهر حرانه، وذلّ وانقمع، وانطوى واجتمع، فاضطّرّه الحياء، وألجأه الاستجداء، إلى أن قال وهو يخفي لفظه، ويطرق لحظه: أظنّه لقبا. فقلت: هو كما ظننت فما معناه وما سببه؟ وكيف كان موجبه؟ فلم يجد بدّا من أن يقول: لا أدري، فقال وقد أذقته مرّ الإماتة، وأحسّ من القوم بتظاهر الشّماتة:

وودّ بجدع الأنف لو أنّ صحبه

تنادوا وقالوا في المناخ له: نم!

ثم أقبلوا إليّ، وعكفوا عليّ، بأوجه متهلّلة، وألسنة متوسّلة؛ في شرح الحال، والقيام بجواب السّؤال، فقلت: هذا بديع عجيب، أنا أسأل وأنا أجيب؛ إن اليأس بن مضر تزوّج ليلى بنت ثعلبة «2» ، بن حلوان، بن إلحاف «3» ، بن قضاعة، بن معدّ، (في بعض النّسب)، فولد له منها: عمرو وعامر وعمير؛ ففقدتهم ذات يوم، فألحى على ليلى باللّوم، فقال: اخرجي

ص: 152

في أثرهم، وأتيني بخبرهم؛ فمعنت في طلبهم، وعادت بهم، فقالت: ما زلت أخندف في اتّباعهم، حتى ظفرت بلقائهم، فقال لها اليأس: أنت خندف.

والخندفة في الاتّباع، تقارب الخطو في إسراع؛ وقال عمرو: يا أبتي أنا أدركت الصّيد فلويته، فقال له: أنت مدركة إذ حويته. وقال عامر أنا طبحته وشويته. فقال له: أنت طابخة إذ شويته. فقال عمير: أنا انقمعت في الخباء، فقال له: أنت قمعة للاختباء؛ فلصقت بها وبهم هذه الألقاب، وجرت بها إليهم الأنساب.

فقال حينئذ: هذا علم استفدته، وفضل استزدته؛ وقد قال الحكيم:

مذاكرة ذوي الألباب؛ نماء في الآداب؛ فقلت له متمثّلا.

أقول له والرّمح يأطر متنه

تأمّل خفافا: إنّني أنا ذلكا!

ثم لم يحتبس إلا قليلا، ولم يمسك طويلا، حتى عاد إلى هديره، وأخذ في تهذيره، طمعا بأن يأخذ بالثّار، ويعود الفيض له في القمار، فعدل عن العلوم النّسبيّة، وجال في ميدان العربيّة، ولم يحسّ أن باعه فيها أقصر، وطرفه دون حقائقها أحسر، فقال: حضرت يوما حلبة من حلبات العلوم، وموسما من مواسم المنثور والمنظوم، وقد غصّ بكلّ خطيب مصقع، وحكم مقنّع، وعالم مصدع، ومليء من كلّ عتيق صهّال، وفتيق صوّال، ومنطيق جوّال؛ فأخذوا في فنون المعارضات، وصنوف المناقضات، وسلكوا في معاني القريض، كلّ طويل عريض، حتّى أخذ السّائل منهم بالمخنّق، ببيت [الفرزدق]«1» .

وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحتا أو مجلّف «2» !

فكثر فيه الجدال، وطال المقال؛ وما منهم إلا من أجاد القياس،

ص: 153

وأصاب القرطاس، ووقع على الطّريق، وأتى بالتّحقيق؛ فلمّا رأيتهم في غمرتهم ساهون، وفي ضلالتهم يعمهون، «1» فناديتهم: إليّ فسارعوا، ومنّي فاسمعوا؛ فإنّي أنا ابن بجدتها، وعالم ما تحت جلدتها؛ ثم إنّي أبديت لهم سراره، وأبقيت ناره، وحللت عقده، ومخضت زبده، وأطرت لبده، وبجست حجره، وأبثثتهم عجره وبجره، فقالوا: لله أبوك! فإنّك أسبقنا إلى غاية، وأكشفنا لغياية، وأجلانا لشبهة، وأضوأنا في بدهة؛ وما أعلم اليوم على ظهرها من يقوم بعلم ما فيه، ويطّلع على خافيه.

فأدركني الامتعاض، وأخذني الانتفاض، فأنشدته:

من ظنّ أنّ عقول النّاس ناقصة

وعقله زائد أزرى به الطّمع!

وقلت له: ادّعيت، فوق ما وعيت؛ فأخبرني عن أوّل هذ البيت، يا مجري الكميت، وكيف ننشده: وعضّ بالفتح أو وعضّ بالضم؟ فقال:

كلاهما مرويّ، فقلت: نبتديء بالفعل ثم نعود إلى الاسم ياذا الإعجاب، تهيّأ للسّائل في الجواب، وأخبرني لم فتحت آخر الماضي؟ فأسرع من غير التغاضي، وقال: لأنّه مبنيّ عليه، لا يضاف سواه إليه. فقلت: هذا جواب نعلمه، ومن صبيان المكتب لا نعدمه؛ وإنما ألتمس منك الفائدة فيها، وأطلب كشف خافيها. فقال: ما جاء عن أمّة النّحاة، وسائر الرّواة، في هذا غير ما شرحته، ولا زاد على ما أوضحته. فقلت: دع عنك هذا وأخبرني عن هذا البناء، ألعلّة أم لغيرها؟ فأقبل يتردّد ويتزحزح، ويتثاءب تارة ويتنحنح.

فلما سدّ عليه من طريقه، وحصل في مضيقه، وغصّ بريقه، قال: لا أعلم!.

فقالت الجماعة: أعذر إليك من ألقى سلاحه، وغضّ جماحه، ومن أدبر بعد إقباله، عدل عن قتاله:

والحقّ أبلج لا يحدّ سبيله

والحقّ يعرفه ذوو الألباب!

ص: 154

والآن فقد فازت قداحك، وبانت غررك وأوضاحك، وأجدت النّضال، وأدركت الخصال، فأوضح لنا عمّا سألت، وأرشدنا إلى ما دللت، لئلّا يقال: هذا بهت، ومحال بحت؛ فقلت حبّا وكرامة، اسمع أنت يا طغامة «1» ؛ إنّ الفعل من فاعله، كالولد من ناجله، لا يخلو الفعل من علامة الفاعل، في لفظ كلّ قائل، وهي الفتحة من ماضيه وواقعه، والزّوائد في مستقبله ومضارعه. وبيان ذلك: أن الفتحة لا تكون مع التاء والنون

«2»

فتثبت الفتحة، ثم تقول: أخرجت وأخرجنا، فتسقط ما ذكرنا، وعلامتان لمعنى محال، لا يوجبهما الحال؛ فإن كانت النون التي مع الألف ضمير المفعول عادت الفتحة، فتقول: أخرجنا الأمير، فهذا بيّن؛ فصفّقت الجماعة وسمحت، وحسنت وبحبحت؛ وجعل الأديب يضطرب اضطّراب العصفور، ويتقلّب تقلّب الصّقور، متيقّنا أن أسده صار جرذا، وبازيه عاد صردا «3» ؛ ودوره انقلبت مخشلبا «4» ، وزيتونه تحوّل عربا، وقناه تغيّر قصبا، وأن مستقيمه تعوّج؛ وجيّده تبهرج، وصحيحه تدحرج، وجديده تكرّج؛ فقال منشدهم:

ترى الرّجل النّحيف فتزدريه

وتحت ثيابه أسد مزير،

ويعجبك الطّرير فتبتليه

فيخلف ظنّك الرجل الطّرير.

فما عظم الرّجال لهم بفخر

ولكن فخرهم كرم وخير! «5»

فأخذه الإبلاس «6» ، وضاقت به الأنفاس، وسكنت منه الحواسّ،

ص: 155

ورفضه الناس، وجعل ينكت الأرض، ويواصل بكفّه العضّ، ويتشاءم بيومه، ويعود على نفسه بلومه؛ يمسح جبينه، ويكثر أنينه؛ فقمت فقامت معي الجماعة وتركته، واستهانت به وفركته؛ فلما بقي وحده، تمنّى لحده، وأسبل دمعته، وودّ أنّ الأرض بلعته.

وكان كمثل البوّ «1» ما بين روّم

تلوذ بحقويه السّراة الأكابر

فأصبح مثل الأجرب الجلد مفردا

طريدا فما تدنو إليه الأباعر!

فقام فتبعني، ووقف وودّعني، وأطال الاعتذار، وأظهر التّوبة والاستغفار، وقال: مثلك من ستر الخلل، وأقال العثرة والزّلل؛ فقد اغتررت من سنّك بالحداثة، ومن أخلاقك بالدّماثة؛ فقلت: كلّ ذلك مفهوم معلوم، وأنت فيه معذور لا ملوم؛ وما جرى بيننا فهو منسيّ غير مذكور، ومطويّ غير منشور، ومخفيّ غير مشهور:

و [جدال]«2» أهل العلم ليس بقادح

ما بين غالبهم إلى المغلوب!

ثم سكت فما أعاد، ونزلت وعاد، وكان ذلك أوّل عهد به وآخره، وباطن لقاء وظاهره، وكلّ اجتماع وسائره.

ص: 156