المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصنف الثالث (من الرسائل المفاخرات؛ وهي على أنواع) - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٤

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الرابع عشر]

- ‌[تتمة المقالة التاسعة]

- ‌الباب الرابع من المقالة التاسعة (في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل في أصول تتعيّن على الكاتب معرفتها؛ وفيه ثلاثة أطراف

- ‌الطرف الأوّل (في بيان رتبتها ومعناها، وذكر ما يرادفها من الألفاظ)

- ‌الطرف الثاني (في أصل وضعها)

- ‌الطرف الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن)

- ‌النوع الأوّل (ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر)

- ‌النوع الثاني (ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر والإسلام، وعقود الصّلح الجارية بين زعماء المسلمين؛ وهي ضربان)

- ‌الضرب الأوّل (الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتّفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدّم)

- ‌الضرب الثاني (مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة- تحرير أوضاعها، وترتيب قوانينها، وإحكام معاقدها)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يستبدّ ملوك الإسلام فيه بالكتابة عنهم- وتخلّد منه نسخ بالأبواب السلطانية، وتدفع منه نسخ إلى ملوك الكفر)

- ‌النّمط الأوّل (ما يكتب في طرّة الهدنة من أعلى الدّرج)

- ‌النّمط الثاني (ما يكتب في متن الهدنة، وهو على نوعين)

- ‌النوع الأوّل (ما تكون الهدنة فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذا ما هادن عليه»

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح المهادنة قبل لفظ «هذا» ببعديّة)

- ‌النوع الثاني (من الهدن الواقعة بين ملك مسلم وملك كافر- أن تكون الهدنة من الجانبين جميعا)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذه هدنة» ونحو ذلك)

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «استقرّت الهدنة بين فلان وفلان» ويقدّم فيه ذكر الملك المسلم)

- ‌المذهب الثالث (أن تفتتح المهادنة بخطبة مبتدأة ب «الحمد لله» )

- ‌الطرف الثاني (فيما يشارك فيه ملوك الكفر ملوك الإسلام في كتابة نسخ من دواوينهم)

- ‌الباب الخامس من المقالة التاسعة (في عقود الصّلح الواقعة بين ملكين مسلمين؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (في أصول تعتمد في ذلك)

- ‌الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة (فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول؛ ممّا يكتب في الطّرّة والمتن)

- ‌النوع الأوّل (ما يكون العقد فيه من الجانبين)

- ‌النوع الثاني (ممّا يجري عقد الصّلح فيه بين ملكين مسلمين- ما يكون العقد فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح عقد الصّلح بلفظ: «هذا» كما في النوع السابق)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح عقد الصّلح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» وربّما كرّر فيها التحميد إعلاما بعظيم موقع النّعمة)

- ‌الباب السادس من المقالة التاسعة (في الفسوخ الواردة على العقود السابقة؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (الفسخ؛ وهو ما وقع من أحد الجانبين دون الآخر)

- ‌الفصل الثاني المفاسخة؛ وهي ما يكون من الجانبين جميعا

- ‌المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتّاب وتتنافس في عملها، ليس لها تعلّق بكتابة الدّواوين السلطانية ولا غيرها؛ وفيها بابان

- ‌الفصل الأوّل في المقامات

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الرّسائل)

- ‌الصنف الأوّل (منها الرّسائل الملوكيّة؛ وهي على ضربين)

- ‌الضرب الأوّل (رسائل الغزو؛ وهي أعظمها وأجلّها)

- ‌الضرب الثاني (من الرسائل الملوكية رسائل الصّيد)

- ‌الصنف الثاني (من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتّقريض)

- ‌[الخصلة الاولى] أوّلها: العلم بموقع النّعمة من المنعم عليه

- ‌والخصلة الثانية: الحرّيّة الباعثة على حبّ المكافأة

- ‌والخصلة الثالثة: الدّيانة بالشّكر

- ‌والخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللّسان البيّن

- ‌الصنف الثالث (من الرسائل المفاخرات؛ وهي على أنواع)

- ‌الصّنف الرابع

- ‌[الصّنف الخامس]

- ‌الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في قدمات البندق)

- ‌الفصل الرابع من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الصّدقات؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (في الصّدقات الملوكيّة وما في معناها)

- ‌الطرف الثاني (في صدقات الرّؤساء والأعيان وأولادهم)

- ‌الفصل الخامس من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب مما جرت العادة بمراعاة النّثر المسجوع فيه، ومحاولة الفصاحة والبلاغة؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب؛ ثم هو على صنفين)

- ‌الصنف الأوّل (الإجازات بالفتيا والتّدريس والرّواية وعراضات الكتب ونحوها)

- ‌الصنف الثاني (التّقريضات التي تكتب على المصنّفات المصنّفة والقصائد المنظومة)

- ‌الطرف الثاني (فيما يكتب عن القضاة؛ وهو على أربعة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل (التقاليد الحكميّة؛ وهي على مرتبتين)

- ‌المرتبة الأولى (أن تفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» )

- ‌[المرتبة الثانية]

- ‌الصنف الثاني (إسجالات العدالة)

- ‌الصنف الثالث (الكتب إلى النّوّاب وما في معناها)

- ‌الصنف الرابع (ما يكتب في افتتاحات الكتب)

- ‌الفصل السادس (في العمرات التي تكتب للحاجّ)

- ‌الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليّات

- ‌الخاتمة في ذكر أمور تتعلق بديوان الإنشاء غير أمور الكتابة وفيها أربعة أبواب

- ‌الباب الأوّل في الكلام على البريد؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مقدمات يحتاج الكاتب إلى معرفتها؛ ويتعلّق الغرض من ذلك بثلاثة أمور

- ‌الأمر الأوّل (معرفة معنى لفظ البريد لغة واصطلاحا)

- ‌الأمر الثاني (أوّل من وضع البريد وما آل إليه أمره إلى الآن)

- ‌الأمر الثالث (بيان معالم البريد)

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من الخاتمة في ذكر مراكز البريد

- ‌المقصد الأوّل (في مركز قلعة الجبل المحروسة بالديار المصرية التي هي قاعدة الملك، وما يتفرّع عنه من المراكز، وما تنتهي إليه مراكز كلّ جهة)

- ‌المقصد الثاني (في مراكز غزّة وما يتفرّع عنه من البلاد الشامية)

- ‌المقصد الثالث (في ذكر دمشق وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى حمص وحماة وحلب، وإلى الرّحبة، وإلى طرابلس، وإلى جعبر، ومصياف وبيروت وصيدا وبعلبكّ والكرك وأذرعات)

- ‌المقصد الرابع (من مركز حلب وما يتفرّع عنه من المراكز الواصلة إلى البيرة وبهسنى وما يليهما، وقلعة المسلمين المعروفة بقلعة الرّوم، وآياس، مدينة الفتوحات الجاهانية، وجعبر)

- ‌المقصد الخامس (في مركز طرابلس وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى جهاتها)

- ‌المقصد السادس (في معرفة مراحل الحجاز الموصّلة إلى مكّة المشرّفة والمدينة النّبويّة، على ساكنها سيدنا محمد أفضل الصلاة والسّلام والتحية والإكرام، إذ كانت من تتمّة الطّرق الموصّلة إلى بعض أقطار المملكة)

- ‌الطريق إلى المدينة النّبويّة (على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام)

- ‌الباب الثاني من الخاتمة في مطارات الحمام الرّسائليّ، وذكر أبراجها المقرّرة بطرق الديار المصرية والبلاد الشّاميّة، وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مطاراته

- ‌الفصل الثاني من الباب الثاني من الخاتمة في أبراج الحمام المقرّرة لإطارتها بالديار المصرية والبلاد الشّاميّة

- ‌الأبراج الاخذة من قلعة الجبل المحروسة إلى جهات الديار المصرية

- ‌الأبراج الآخذة من قلعة الجبل إلى غزّة

- ‌الأبراج الآخذة من غزّة وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الآخذة من دمشق وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الاخذة من حلب وما يتفرّع عنها

- ‌الباب الثالث من الخاتمة في ذكر هجن الثّلج والمراكب المعدّة لحمل الثّلج الذي يحمل من الشام إلى الأبواب السلطانية بالديار المصريّة؛ وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل (في نقل الثّلج)

- ‌الفصل الثاني من الباب الثالث من الخاتمة في المراكب المعدّة لنقل الثّلج من الشام

- ‌الفصل الثالث من الباب الثالث من الخاتمة في الهجن المعدّة لنقل ذلك

- ‌الباب الرابع من الخاتمة في المناور والمحرقات؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المناور

- ‌الفصل الثاني من الباب الرابع من الخاتمة: في المحرقات

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في الحواشي

- ‌[فهرس]

الفصل: ‌الصنف الثالث (من الرسائل المفاخرات؛ وهي على أنواع)

‌الصنف الثالث (من الرسائل المفاخرات؛ وهي على أنواع)

منها: المفاخرة بين العلوم.

وهذه نسخة رسالة في المفاخرة بين العلوم، أنشأتها في شهور سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، لقاضي القضاة شيخ الإسلام، علّامة الزمان، جلال الدّين «1» ، عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام، بقيّة المجتهدين، أبي حفص عمر البلقينيّ الكنانيّ، الشّافعيّ،- أمتع الله تعالى المسلمين ببقائه- ذكرت فيها نيّفا وسبعين علما، ابتدأتها بعلم اللّغة، وختمتها بفنّ التاريخ؛ ذاكرا فخر كلّ علم على الذي قبله، محتجّا عليه بفضائل موجودة فيه دون الآخر؛ وجعلت مصبّ القول فيها إلى اشتماله على جميعها، وإحاطته بكلّها، مع الإشارة إلى فضل والده، شيخ الإسلام، ومساهمته له في الفضل، على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى؛ وهي:

الحمد لله الذي جعل للعلم جلالا تودّ جلائل الفضائل أن تكون له أتباعا، وأطلق ألسنة الأقلام من جميل ثنائه بما أنطق به ألسنة العالم ليكون الحكم بما ثبت من مأثور فضله إجماعا، وأجرى من قاموس فكره جداول أنهار العلوم الزّكيّة فنعّش قلوبا ونزّه أبصارا وشنّف أسماعا.

أحمده على أن أفاض نتائج الأفكار على الأذهان السّليمة لذي النّظر الصحيح، وبثّ جياد الألسنة في ميدان الجدال فحاز قصب السّبق منها كلّ لسان ذلق فصيح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي قهرت بيّنات دلائله الملحد المعاند، وبهرت قواطع براهينه الألدّ الخصيم والجدل

ص: 237

المكايد، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أظهر من واضح الحجج الجليّة ما سقط بحجّيّته دعوى المعارض، وأتى من فصل الخطاب بما أفحم به الخصوم فلم يستطع أشدّهم في البلاغة شكيمة أن يأتي له بمناقض، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من جليل المناقب بكل وصف جميل، واشتهرت في الوجود مفاخرهم فلم يحتج في إثباتها إلى إقامة دليل، صلاة يتمسّك في دعوى الشّرف بمتين حبلها، وتتّفق أدلّة العقل والنّقل على القطع بعلوّ شأنها وتوفّر فضلها.

وبعد، فلما كانت العلوم مشتركة في أصل التّفضيل، متّفقة الفضل في الجملة وإن تفاوتت في التفصيل، مسلّما أصل الشّرف فيها من غير منازع، مجمعا على أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضّارّ ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع، مع اختلافها في التّفاضل باختلاف موضوعاتها، وتفاوتها في الشّرف بحسب الحاجة إليها أو وثاقة حججها أو نفاسة غاياتها؛ عطس كلّ منها بأنف شامخ غير مسلّم للآخر ولا مسالم، ومدّ إلى العلياء يد المطاولة فتناول الثّريّا قاعدا غير قائم، وادعى كلّ منها أن بحره الطّامي، وفضله النّامي، وجواده الطّامح، وسماكه الرّامح، زاعما أن حسامه القاطع وعضبه القاضب، وقدحه المعلّى وسهمه الصّائب، ونجمه الساري وشهابه الثّاقب، وأنّ نشر الثناء على مجامره موقوف، وخطيب المحامد بمنابره معروف، وفلك الفضل على قطبه دائر، وكلّ شرف عليه محبّس وكلّ فخر عليه قاصر؛ فماس بعطفه ومال، وبسط في الكلام لسانه فقال وطال.

هذا: وإنّها اجتمعت يوما اجتماع معنى لا صورة، وقامت لها سوق بالبحث معروفة وعلى الجدال مقصورة، وتفاوضت بلسان الحال وتخاطبت، وتحاورت في دعوى الشّرف وتجاوبت، وألمّت بالمنافرة فتنافرت، وتسابقت في ميدان الافتخار فتفاخرت، وأخذ كلّ منها في نصرة مذهبه، وتحقيق مطلبه، بأنواع الحجج والاستدلالات، وإقامة البراهين والأمارات، وما

ص: 238

يتوجّه على ذلك من الأسئلة والاعتراضات. فكان أوّل باديء بدأ منها بالكلام وفتح باب الجدال والخصام، «علم اللّغة» فقال:

قد علمتم معشر العلوم أنّي أعمّكم نفعا، وأوسعكم مجالا وأكثركم جمعا؛ على قطب فلكي تدور الدوائر، وبواسطتي تدرك المقاصد ويستعلم ما في الضمائر، وبدلالتي تعلم المعاني المفردات، ويتميّز ما يدلّ على الذوات مما يدلّ على الأدوات، وتتبيّن دلالات العامّ والخاص، ويتعرف ما يرشد إلى الأنواع والأجناس وما يختصّ بالأشخاص؛ على أن كلّكم كلّ عليّ، ومحتاج في ترجمة مقصوده إليّ؛ فلفظي «المحكم» وأقوالي «الصّحاح» ، وكلامي «الجامع» وسيف لساني «المجرّد» ناهيك من سلاح، وفضلي «المجمل» لا يحتاج إلى بيان. استأثر الله تعالى بتعليمي لآدم عليه السلام، وآثره بي معرفة على الملائكة فكان خصيصة له على الملائكة الكرام.

فلما انقضى قيله، وبانت للمستبين سبيله، ثاب إليه «علم التّصريف» مبتدرا، ولنفسه ولسائر العلوم منتصرا، فقال: رويدك أيّها المساجل، وعلى رسلك يا ذا المناضل؛ فقد ذلّ من ليس له ناصر، وحطّ قدر من ترفّع على أبناء جنسه ولو عقدت عليه الخناصر، وما يجدي البازي بغير جناح، أو يغني السّاعي إلى الحرب بغير سلاح؛ وأنّى يطعن رمح بغير سنان، أو يقطع سيف لم يؤيّد بقائم ولم تقبض عليه بنان؛ إنّك وإن حويت فضلا، وأعرقت أصلا، وكنت للكلام نظاما، وإلى بيان المقاصد إماما، فأنت غير مستقلّ بنفسك، ولا قائم برأسك؛ بل أنا المتكفّل بتأسيس مبانيك، والملتزم بتحرير ألفاظك وتقرير معانيك، بي تعرف أصول أبنية الكلمة في جميع أحوالها، وكيفية التّصرّف في أسمائها وأفعالها، وما يتّصل بذلك من أحوال الحروف البسيطة وترتيبها، واختلاف مخارجها، وبيان تركيبها، والأصليّ منها والمزيد، والمهموس والرّخو والشّديد؛ و.. «1» تقديره، والصحيح والمعتلّ

ص: 239

وتحريره، وكيفية التّثنية والجمع، والفصل والوصل والابتداء والقطع، وأنواع الأبنية وتغيّرها عند اللّواحق، وكيفية تصريف الفعل عند تجرّده عن العوائق، وأمثلة الألفاظ المفردة في الزنة والهيئة وما يختصّ من ذلك بالأسماء والأفعال، وتمييز الجامد منها والمشتقّ وأصناف الاشتقاق، وكيف هو على التّفصيل والإجمال.

على أنّك لو خلّيت ومجرّد التعريف، وبيان المقاصد بالاصطلاح أو التّوقيف، لكان «علم الخطّ» يقوم مقامك في الدّلالة الحاليّة لدى الملتقى، ويترجّح عليك ببعد المسافة مع طول البقا؛ مع ما فيه من زيادة ترتيب الأحوال، وضبط الأموال، وحفظ العلوم في الأدوار، واستمرارها على الأكوار، وانتقال الأخبار من زمان إلى زمان، وحملها سرّا من مكان إلى مكان؛ بل ربّما اكتفي عنك بالإشارة والتّلويح، وقامت الكناية منها مقام التصريح.

فعندها غضب علم النّحو واكفهرّ، وزمجر واشمخرّ، وقال: يا لله! «استنّت الفصال حتّى القرعا» «1» ، و «استنسرت البغاث» فكان أشدّ ثلمة وأعظم صدعا، لقد ادّعيت ما ليس لك ففاتك الحبور، و «من تشبّع بما لم ينل فهو كلابس ثوبي زور» ؛ وهل أنت إلا بضعة منّي؟، تسند إليّ وتنقل عنّي، لم يزل علمك بابا من أبوابي، وجملتك داخلة في حسابي، حتّى ميّزك «المازنيّ» فأفردك بالتّصنيف، وتلاه «ابن جنّي» فتبعه في التأليف؛ واقتصر «ابن مالك» منك في تعريفه على الضروريّ الراجب، وأحسن بك «ابن الحاجب» في شافيته فرفع عنك الحاجب، وأنت مع ذلك كلّه مطويّ ضمن كتبي، نسبتك متّصلة بنسبتي وحسبك لا حق بحسبي، أنا ملح الكلام، ومسك الختام، لا يستغني عنّي متكلم، ولا يليق جهلي بعالم ولا متعلم؛ بي

ص: 240

تتبين أحوال الألفاظ المركّبة في دلالتها على المقاصد، ويرتفع اللّبس عن سامعها فيرجع من فهمها بالصّلة والعائد؛ فلو أتى المتكلّم في لفظه بأجلّ معنى ولحن لذهبت حلاوته، وزالت طلاوته، وعيب على قائله وتغيرت دلالته، وقد كانت الخلفاء تحثّ على النّحو وترشد إليه، وتحذر اللّحن وتعاقب عليه:

وإذا طلبت من العلوم أجلها

فأجلّها عندي مقيم الألسن!

فبينما هو كذلك إذ برزت «علوم المعاني والبيان والبديع» جملة، وحملت عليه بصدق العزم في اللّقاء حملة، وقالت: جعجعة رحا من غير طحن، وتصويت رعد من غير مزن؛ لقد أتيت بغير معرب، وأعربت عن لحن ليس بمطرب، الحقّ أبلج، والباطل لجلج؛ إنّ الفوز لقدحنا، والوري لقد حنا؛ نحن لبّ العربيّة وخلاصتها، والمعترف لنا بالفضل عامّتها وخاصّتها؛ وهل أنت إلا شيء جرى عليك الاصطلاح، وساعدك الاستعمال فأمنت الاطّراح؛ فلو اصطلح على نصب الفاعل ورفع المفعول لم يخلّ بالتّفاهم في المقاصد، وها كلام العامّة لذلك أقوم دليل وأعظم شاهد.

فقال «علم الشعر» : أراكم قد نسيتم فضلي الذي به فضلتم، وصرمتم حبلي الذي من أجله وصلتم؛ أنا حجّة الأدب، وديوان العرب؛ عليّ تردون، وعنّي تصدرون؛ وإليّ تنتسبون، وبي تشتهرون، مع ما اشتملت عليه من المدح الذي كم رفع وضعا، وجلب نفعا، ووصل قطعا، وجبر صدعا؛ والهجو الذي كم حطّ قدرا، وأخمد ذكرا، وجعل بين الرّفيع والوضيع في حطيطة القدر نسبا وصهرا؛ إلى غير ذلك من أنواعي الشّعرية التي شاع ذكرها، وأضواعي العطرية التي فاح نشرها؛ بل لا يكاد علم من العلوم الأدبيّة يستغني عن شواهدي، ولا يخرج في أصوله عن قوانيني وقواعدي، حتّى «علم النّثر» الذي هو شقيقي في النّسب، وعديلي في لسان العرب، لم يزل أهله يتطفّلون عليّ في بيت يحلّونه، ويقفون من بديع محاسني عند حدّ لا يتعدّونه.

ص: 241

فقال «علم القافية» : إنّك وإن تألّق برق مباسمك، وطابت أيّام مواسمك، فأنت موقوف على مقاصدي، ومغترف من رويّ مواردي؛ أنا عدّة الشّاعر، وعمدة الناثر؛ لا يستغني عني شعر ولا خطابة، ولا يستنكف عن الوقوف على أبوابي ذو ترسّل ولا كتابة؛ طالما عثر الفحول في ميداني، وتشعّبت عليهم طرقي فضلّوا السّبيل واختلفت عليهم المباني؛ فلم يفرّقوا بين التّكاوس «1» والتّراكب في التّعارف، ولم يميّزوا بين التّدارك والتّواتر والتّرادف.

فقال «علم العروض» : لقد أسمعت القول في الدّعوى من غير توجيه فدخل عليك الدّخيل، وأوقعك الوصل دون تأسيس في هوّة النّقص: فهل إلى خروج من سبيل؟؛ أنا معيار القريض وميزانه، وعليّ تبنى قواعده وأركانه؛ لم يزل الشّعر في علوّ رتبته بفضلي معترفا ولحقّي متحقّقا، ومن بحوري مغترفا، وبأسبابي متعلّقا؛ فأبياته بميزاني محرّرة، وأجزاؤه بقسطاس تفاعيلي مقدّرة، وبفواصلي متّصلة، وبأوتادي مرتبطة غير منفصلة.

فقال «علم الموسيقى» : لقد أسرفت في الافتخار فضللت الطّريق وبنت عنها، وورّطت نفسك فيما لا فائدة فيه فلزمت دائرة لا تنفكّ عنها، وأتيت من طويل الكلام بما لا طائل تحته فثقل قولا، وجئت من بسيط القول بما لو اقتصرت منه على المتقارب لكان بك أولى؛ فأنت بين ذي طبع وزّان لا يحتاج إلى معيارك في نظم قريضه، وآخر نبت طباعه عن الوزن فلم ينتفع من علمك بضربه ولا عروضه؛ فإذا لا فائدة فيك ولا حاجة إليك، ولا عبرة

ص: 242

بك ولا معوّل عليك؛ وكفى بك هضما، ونقيصة وذمّا، واستدلالا على دحض حجّتك، وضعف أدلّتك، قول ابن حجّاج:

مستفعلن فاعلن فعول

مسائل كلّها فضول

قد كان شعر الورى صحيحا

من قبل أن يخلق الخليل!

على أنه إن ثبتت لك فائدة، وعاد منك على الشّعر أو الشّعراء عائدة، فإنّما تفاعيلك مقدّمة لألحاني، وأوزانك وسيلة إلى أوزاني؛ نعم أنا غذاء الأرواح، وقاعدة عمود الأفراح، والمتكفّل ببسط النّفوس وقبضها، والقائم من تعديلها وتقويتها بنفلها وفرضها؛ أحرّك النّفس عن مبدئها فيحدث لها السّرور وتظهر عنها الشّجاعة والكرم، وأبعثها إلى مبدئها فيحدث لها الفكر في العواقب وتزايد الهموم والنّدم؛ فتارة أستعمل في الأفراح وزوال الكروب، وتارة في علاج المرضى وأخرى في ميادين الحروب، وآونة في محلّ الأحزان واجتماع المآتم، ومرّة يستعملني قوم في بيوت العبادات فأبعثهم على طلب الطاعات واجتناب المحارم؛ وآتي من غريب الألحان، بما يشبع به الجائع ويروى به الظّمآن، ويأنس به المستوحش وينشط به الكسلان، وتدنو لسماعه السّباع، ويعنو له بعد الشّدّة الشّجاع، مع ما يتفرّع عني من «علم الآلات الرّوحانيّة» التي تنعش الأرواح، وتجلب الأفراح، وتنفي الأتراح، وتؤثر في البخيل السّماح، وتفعل في الألباب ما لا تفعل في اللّبّات «1» بيض الصّفاح.

فقال «علم الطّب» : لقد أضعت الزّمان في اللهو، وملت مع الأريحية فماس بك العجب وزاد بك الزّهو، وداخلك الطّيش فقنعت بالإطراب، وعنيت بمعرفة اللّحن ففاتك الإعراب؛ تذكّر العشّاق أحوال النّوى فيسلمها الهوى إلى الهوان، وتتنقّل في نواحي الإيقاع تنقّل الهائم

ص: 243

فتمسي في حجاز وتصبح في أصبهان؛ وأنت وإن ادّعيت أنك العلم الرّوحانيّ، والمستولي بتحريك الطبائع الأربع على النّوع الإنسانيّ وغير الإنسانيّ، فأنت غير مستغن عني، ولا فنّك في الحقيقة منفكّ عن فنّي؛ بل قواعدك مرتّبة على قواعدي، وفوائدك مستفادة من فوائدي، وأهل صناعتك يتطفّلون في معرفة الملائم والمنافي على ساقط لباب موائدي؛ وأنّى تنبسط بك الروح مع وجود السّقم، أو يستريح إليك القلب مع شدّة مقاساة الألم؟؛ بل أنا قوام الأبدان، وغاية ملاك الإنسان؛ بي تحفظ صحّة الأجسام، وتتمكّن النفس من استكمال قوّتيها النظرية والعملية بواسطة زوال الأسقام وانتفاء الآلام، مع ما يتّضح بالنظر في التّشريح الذي هو أحد أنواعي من سرّ قوله تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ

«1» ، وما يظهر من حال الصّحة والمرض وسرّ الموت من أنه تعالى بدأ الخلق أوّل مرّة وإليه يحشرون- مع ما يلتحق بي من «علم خواصّ العقاقير» الغريبة، والأحجار التي تؤثّر بتمزيجها الصّناعيّ التآثير العجيبة، وتأتي من نوادر الأفعال بالأعمال الغريبة؛ على أنّي لست بمختصّ في الحقيقة ببدن الإنسان، ولا قاصر على نوع من أنواع الحيوان، وإنما أفردت بنوع البشر اهتماما بشانه، وتنبيها على جلالة قدره وعلوّ مكانه.

ثم ألحق بالإنسان في الاعتناء به الخيول فاشتقّ لها منّي «علم البيطرة» ، وتلاها في الاعتناء جوارح الطيور لاهتمام الملوك بشأنها فاستنبط لها من أجزائي «علم البيزرة» ، وأهمل ما سوى ذلك من جنس الحيوان، فلم يعتن بأمره ولم يهتمّ له بشان.

فقال علم القيافة «2» : لقد ارتقيت مرتقى صعبا، وولجت مولجا صلبا،

ص: 244

وأتيت من مشكلات القضايا بما ضاقت مطالبه، وعرّضت نفسك لمغالبة الموت والموت لا شيء يغالبه، واقتصرت في تشريحك الأعضاء على ذكر منافعها وصفاتها، وأضربت عما تدلّ عليه بصورها وكيفياتها؛ أين أنت من إلحاق الابن بالأب بالصّفات المتماثلة، والحكم بثبوت النّسب بدلائل الأعضاء كما يحكم بالبيّنة العادلة؟؛ فهذه هي الفضيلة التي لا تساوى، والمنقبة التي لا تعادل ولا تناوى؛ وكفاك لذلك شاهدا، وعلى ثبوته في الشّريعة المطهّرة مساعدا؛ وأنه لا يعتور ذلك معارضة ولا نقض، استبشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقول مذحج المدلجيّ:«إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض» .

فقال «علم قصّ الأثر» «1» : نعم إنّ شأنك لغريب، وإنّ اجتهادك لمصيب؛ غير أنّي أنا أغرب منك شأنا، وأدقّ في الإدراك معنى؛ إذ أنت إنما تلحق المحقّق بالمشاهدة بمثله، وتقيس فرعا على أصل ثم تلحق الفرع بأصله؛ وأنا فأدرك المؤثّر من الأثر، وأستدلّ على الغائب بما يظهر من اللّوائح في الرّمل والمدر؛ وربّما ميّزت أثر البعير الشّارد من المراتع، وفرّقت بالنّظر فيه بين الصحيح والظّالع «2» ، فأدركت من الأمر الخفيّ ما تدركه أنت من الظّاهر، وقضيت على الغائب بما تقضي به على الحاضر.

فقال «علم غضون الكفّ والجبهة» : ما الذي أتيت به من الغريب، أو أظهرته بعلمك من العجيب؟؛ فلو ابتليت بأرض صلبة لوقفت آمالك، أو محت الرّيح معالم الأثر لبطلت أعمالك، أو ولج من تقفّي أثره الماء لفات حدسك الصائب، أو جعل الماشي مقدّم نعله مؤخّره لقلت: إنّ الذّاهب قادم والقادم ذاهب؛ لكن أنا كاشف الأسرار الخفيّة، والمستدلّ على لوازم

ص: 245

الإنسان بما ركّب فيه من الدلائل الخلقيّة؛ أستخرج من أسارير الجبهة وغضون الكفّ أمورا قد أرشدت الحكمة الإلهيّة إليها، وجعلت تلك العلامة في الإنسان دلالة عليها.

فقال «علم الكتف» : إنه ليس في الاستدلال على الشّيء بلازمه أمر مستغرب، ولا ما يقال فيه: هذا من ذاك أعجب، وإنما الشّأن أن يقع الاستدلال على الشّيء بما هو أجنبيّ منه، وخارج عنه، كما أستدل أنا بالخطوط الموجودة في كتف الذّبيحة على الحوادث الغريبة، والأسرار العجيبة، مما أجرى الله به العادة في ذلك، وجعله علامة دالة على ما هنالك.

فقال «علم خطّ الرّمل» : لقد علمت أنك لست بمحقّق لما أنت له متوسّم، ولا واثق بالإصابة فيما أنت عنه تترجم؛ وغايتك الوقوف مع التجارب، والرّجوع فيما تحاوله إلى التقارب، مع ما أنت عليه من الرّفض والإهمال، وما رميت به من القطيعة وقلّة الاستعمال؛ أما أنا ففارس هذا الميدان، ومالك زمام هذا الشان؛ فكم من ضمير أبرزته، وأمر خفيّ أظهرته، ومكان عيّنته فوافق، وأمد قدّرته فطابق؛ على أنه ليس لك أصل ترجع إليه، ولا دليل تعتمد عليه؛ فأنا أثبت منك قواعد، وأوضح عند الاعتبار في الدلالة على المقاصد؛ فإن عدوت طورك، أو جزت في الاحتجاج خصمك، فمداك، أنه كان نبيّ يخطّ فمن وافق خطّه فذاك.

فقال «علم تعبير الرّؤيا» «1» : إنّك وإن أظهرت السّرائر، وأبرزت الضمائر، فإنّ أمرك موقوف في حدسك على الدّلالة الحاليّة، ومقصور في تخمينك على الأمور الاحتمالية؛ أين أنت منّي حين أعبّر عما شاهدته النفس في النّوم من عالم الغيب؟ وكيف أكشف عنه الحجب بالتّأويل فيقع كفلق

ص: 246

الصّبح من غير شكّ ولا ريب، فأخبر بحوادث تقع في العالم قبل وجودها، وآتي من حقائق النّذارة والبشارة بما ينبّه على التحذير من نحوسها والتّرقّب لموافاة سعودها.

فقال «علم أحكام النّجوم» : حقيق ما أوّلت، وصحيح ما عنه عبّرت وعليه عوّلت؛ إلا أنك قاصر على وقائع مخصوصة ترشد إليها، وأمور محدودة تنبّه عليها؛ على أنه ربّما نشأت الرؤيا عن فكرة وقعت في اليقظة فاتّصلت بالمنام، أو حدثت عن سوء مزاج أو رداءة مطعم ونحو ذلك فكانت أضغاث أحلام؛ أما أنا فإني أدلّ بما أجراه الله تعالى من العادة، على الحوادث العامّة مصاحبا لمقتضيات الإرادة، ليظهر ما في الحكمة الإلهيّة من قضايا التّدبير، ويتبيّن ما اشتملت عليه الأفلاك العلويّة من تقدير التّرتيب وترتيب التّقدير، مع ما يترتّب على ذلك من الأعمال العجيبة، والأحوال الغريبة، التي تبهر العقول، ويمتنع إليها من غير طريقي الوصول: من «علم السّحر» على الإطلاق، و «علم الطّلّسمات» «1» الغريبة و «علم الأوفاق» ، وكذلك «علم النيرنجيات» و «علم السّيمياء» الأخذ بالأحداق.

فقال «علم الهيئة» : مالك ولأباطيل تنمّقها، وأكاذيب تزخرفها وتزبرقها «2» وأماثيل يعتمدها المعتمد فتخيب، وأقاويل تارة تخطيء وتارة تصيب؛ ولقد وردت الشريعة المطهّرة بالنّهي عن اعتبارك، وجاءت السّنّة الغرّاء بمحو أخبارك وإعفاء آثارك؛ وناهيك بفساد هذا الاعتقاد وردّ هذا

ص: 247

المذهب، ما ثبت في الصحيح من أنه من قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب؛ على أنك في الحقيقة نوع من أنواعي، معدود من جندي ومحسوب من أتباعي؛ نعم أنا القائم من دليل الاعتبار في القدرة بتمام الفرض، والقائد بزمام العقل إلى التّفكّر في خلق السموات والأرض؛ عنّي يتفرّع علم الزيجات والتقاويم الذي به يعرف موضع كلّ واحد من الكواكب السّيّارة ومدّة إقامتها، وزمن تشريقها وتغريبها ومقدار رجوعها واستقامتها، وحال ظهورها واختفائها في كلّ زمان، وما يتّصل بذلك من الاتّصال والانفصال والخسوف والكسوف واختصاص ذلك بمكان دون مكان.

فقال «علم كيفيّة الأرصاد» : ما علم الزّيجات والتّقاويم الذي تقدّمه في الذّكر عليّ، وتؤثره من الفضل بما لديّ؛ إذ بي تتعرّف كيفية تحصيل مقادير الحركات الفلكيّة، والتوصّل إليها بالآلات الرّصدية، التي عليها يترتب علم الزّيجات، ويعرف في التقويم الاتّصالات والانفصالات والامتزاجات، مع ما يلتحق بي من «علم الكرة» الذي منه تعرف كيفية اتخاذ الآلات الشّعاعيّة، ويتوصّل به إلى استخراج المطالب الفلكيّة.

فقال «علم المواقيت» : كيف وأنا سيّد علوم الهيئة وزعيمها، وشريفها في الشريعة وكريمها؛ بي تعرف أوقات العبادات، وتستخرج جهة القبلة بل سائر الجهات، وتعلم أحوال البلدان ومحلّها من المعمور في الطّول والعرض، ومقادير أبعادها وانحراف بعضها عن بعض، مع ما ينخرط في هذا السّلك من معرفة السماوات وارتفاع الكواكب، ومطالعها من أجزاء البروج والطّالع منها والغارب، وغير ذلك من الشّعاعات المخروطة، والظّلال القائمة والمبسوطة، إلى غير ذلك مما يلتحق بي، وينسب إليّ ويتعلّق بسببي:

من علم «الآلات الظّلّيّة» التي تعرف بها ساعات النهار، ويظهر منها الماضي والباقي بأقرب ملتمس وألطف اعتبار، من نحو الرّخامات القائمات، والمبسوطات منها والمائلات.

ص: 248

فقال «علم الهندسة» : إن فضلك لمشهور، ومقامك في الشّرف غير منكور؛ إلا أن آلاتك بي مقدّرة، وأشكالك بأوضاعي محرّرة؛ فأنا إمامك الذي به تقتدي، ونجمك الذي به تهتدي؛ بل جميع علوم الهيئة في الحقيقة موقوفة علي، وراجعة في قواعدها إليّ؛ لولاي لم يعرف السّطح والكرة، ولم يميّز بين الخطوط والقسيّ والدّوائر المقدّرة، مع ما ينشأ عني، ويستملى من صحابي ويقتبس منّي، من أحوال المقادير ولواحقها، ومعرفة ظواهرها الواضحة ودقائقها، وأوضاع بعضها عند بعض ونسبها، وخواصّ أشكالها والطّرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل لها، واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينيّة القاطعة، وإظهارها إلى الحسّ بالأشكال البيّنة والحدود الجامعة المانعة.

فقال «علم عقود الأبنية» : نعم، إلا أنّي أنا أجلّ مقاصدك، وأعذب مواردك، ونور عيونك، وعروس فنونك؛ منّي يستفاد بناء الحصون والأسوار، ويتعرّف شقّ الأقنية وحفر الأنهار، وعمارة المدن وعقد القواصر، وسدّ البثوق وبناء القناطر، وتنضيد المساكن ووضع المنازل، ونصب الأشجار وترتيب الرّياض ذوات الخمائل.

فقال علم «جرّ الأثقال» : صدقت ولكنّي أنا أساس مبانيك وقاعدة سنادك، وحامل أثقالك وعمود اعتمادك؛ بي تعرف كيفية نقل الثّقل العظيم بالقوّة اليسيرة، حتّى تنقل مائة ألف رطل بقوّة خمسمائة وذلك من الأسرار النّفيسة والأعمال الخطيرة.

فقال «علم مراكز الأثقال» : إلا أنّك محتاج إليّ في أعمالك، ومتوقّف عليّ في جميع أحوالك، من حيث استخراج مراكز الأجسام المحمولة، وبيان معادلة الجسم العظيم بما هو دونه لتوسّط المسافة بالآلات المعمولة.

فقال «علم المساحة» : أراك قد غفلت عن معرفة المقادير

ص: 249

والمسافات التي هي مقدّمة عليك في وضع المباني، ومنفردة عنك بكثير من المعاني؛ من [أنواع] الخراج والزراعات، وتقدير الرّساتيق والبياعات، وكيفيّة ذرع المثلّثات، والمربّعات، والمدوّرات، والمستطيلات، وغير ذلك من دقائق الأعمال، وإدراك كمّيات المقادير على التفصيل والإجمال.

فقال «علم الفلاحة» : فإذا قد اعترفت أنّك من جملة لواحقي، مندرج في حقوقي وداخل تحت مرافقي؛ فأنا في الحقيقة المقصود منك في الوضع بالقياس، والمتّحد بك دون غيري من غير التباس، مع ما أنا عليه من معرفة كيفية تدبير النّبات من بدء كونه إلى تمام تدبيره، وتنمية الحبوب والثّمار بإصلاح الأرض وما تخلّلها من المعفّنات كالسّماد وغيره، وما أبديه من اللّطائف في إيجاد بعض الفواكه في غير فصله، وتركيب بعض الأشجار على بعض واستخراج بعضها من غير أصله.

فقال علم «إنباط المياه» : إلا أنّي أنا بداية عملك، وغاية منتهى أملك؛ لا يتم لك أمر بدوني، ولا تنبت لك خضراء ما لم تسق من بئاري وعيوني؛ فأنا الكفيل بإحياء الأرض الميّتة وإفلاحها، والقائم بتلطيف مزاجها وإصلاحها.

فقال «علم المناظر» : ما الذي تجدي أنت وطرفي عنك مرتدّ، ونظري إليك غير ممتدّ؛ وأنّى تستطيع مياهك التّرقي من الأغوار إلى النّجود، وتتنقّل عيونك وأنهارك بين الهبوط والصّعود، إذا لم أكن لك ملاحظا، وعلى الاعتناء بأمرك محافظا، مع ما أشتمل عليه غير ذلك من تحقيق المبصرات في القرب والبعد على اختلاف معانيها، وما يغلط فيه البصر كالأشجار القائمة على شطوط المياه حيث ترى وأسافلها أعاليها.

فقال علم «المرايا «1» المحرقة» : إنّك وإن دقّقت النّظر، وحقّقت كلّ

ص: 250

ما وقع عليه حاسّة البصر، فأنا مقصدك الأعظم، ومهمّك المقدّم؛ طالما أحرقت القلاع بشعاعي، وحصّنت الجيوش بدفاعي، وقمت بما لم يقم به الجيش العرمرم والعسكر الجرّار، وأغنيت مع انفرادي عن كثرة الأعوان ومعاضدة الأنصار.

فقال «علم الآلات الحربيّة» : وإنّ حدّك لكليل، وإنّ جداك لقليل، وإنّ المستنصر بك لذليل؛ وماذا عسى تصل في الإحراق إليه، أو تسلّط في الحروب عليه؟؛ أنا باع الحرب المديد، والمحصّن من كلّ بأس شديد، والتّالي بلسان الصّدق على الأعداء: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ

«1» . فأنا نفس المقصود وعين المراد، وعمود الحقّ وقاعدة الجهاد.

فقال «علم الكيماء» : ما أنت والقتال، ومواقعة الحروب وقوارع النّزال؛ وهل أنت إلا آلة من الآلات، لا تستقلّ بنفسك في حالة من الحالات؛ وأنّي يغني السّلاح عن الجبان مع خور الطّباع، أو يحتاج إليه البطل الصّنديد والمجرّب الشّجاع؛ فالعبرة بالمقاتل، لا بالذّوابل، والعمدة على الرّجال، لا ببوارق السّيوف عند النّزال؛ وبكلّ حال فالعمدة في الحروب وجمع العساكر على النّقدين دون ما عداهما، والاستناد إلى الذّهب والفضّة بخلاف ما سواهما؛ وإليّ هذا الحديث يساق وعليّ فيه يعتمد، وعنّي يؤخذ وإليّ في مثله يستند، أحاول بحسن التدبير، ما طبخته الطبيعة على ممرّ الدّهور «2» ، فآتي بمثله في الزّمن القريب، وأجانس بين المعادن في ممازجتها فيظهر عنها كلّ معنى غريب، وأبرز من خصائص الإكسير ما يقلب المرّيخ قمرا من غير لبس، ويحيل الزّهرة شمسا وناهيك بإحالة الزّهرة إلى الشّمس؛ فصاحبي أبدا عزيز المنال، شريف النّفس عن الطّلب عفيف اللسان عن السّؤال.

ص: 251

فقال «علم الحساب المفتوح» : إنّك وإن دفعت عنا، وجلبت غنى، فأموالك الجمّة، وحواصلك الضّخمة، محتاجة إلى حسّابي، غير غنيّة عن كتّابي؛ أنا جامع الأموال وضابط أصولها، والمتكفّل بحفظ جملتها وتفصيلها، مع احتياج كثير من العلوم إليّ في الضّرب والقسمة والإسقاط. قد أخذت من «علم الارتماطيقي» الذي هو أصل علوم الحساب بجوانبه، وتعلّقت منه بأسهل طرقه وأقرب مذاهبه؛ وناهيك بشرف قدري، ورفعة ذكري، قول أبي محمد الحريريّ في بعض مقاماته، منبّها على شرف قلمي وسنيّ حالاته:

«ولولا قلم الحسّاب لأودت ثمرة الاكتساب، ولا تّصل التّغابن إلى يوم الحساب» «1» .

فقال «علم حساب التّخت والميل» : مه! فما أنت إلا علم العامّة في الأسواق، تدور بين الكافّة على العموم وتتداول بينهم على الإطلاق؛ تكاد أن تكون بديهيّا حتّى للأطفال، وضروريّا للنساء والعبيد في جميع الأحوال؛ يتّسع عليك مجال الضّرب فتقصر عنه همّتك المقصّرة، وتتشعّب عليك مدارك القسمة فتأتي بها على التّقريب غير محرّرة؛ أين أنت من سعة باعي، وامتداد ذراعي، وتحرير أوضاعي؟؛ لا يعتمد أهل الهيئة في مساحة الأفلاك والكواكب غير حقائق أموري، ولا يعوّلون فيها- على سعة فضائها- إلا على صحاحي وكسوري.

فقال «علم حساب الخطأين» : مالي ولعلم لا يوصّل إلى المقصود إلا بعد عمل طويل؟ ويحتاج صاحبه مع زيادة العناء إلى استصحاب تخت وميل، وقد قيل: كلّ علم لا يدخل مع صاحبه مع الحمّام فجداه قاصر ونفعه قليل؛ على أنّ غيرك يشاركك فيما أنت فيه، ويوصل إلى مقصودك بطريق لا يدخله الغلط ولا يعتريه؛ وإنما الشّأن في استكشاف غامض أو إظهار غريب،

ص: 252

ولا أعجب من أن تصيب إخراج المجهول من الأعداد بخطأين فيقال: أتى بخطأين وهو مصيب.

فقال «علم الجبر والمقابلة» : حسبك! فإنّما أنت في استخراج المجهولات كنقطة من قطر، أو نغبة من بحر؛ تقتصر منها بطرقك القاصرة وأعمالك النّاكبة، على ما أمكن صيرورته من العدد في أربعة أعداد متناسبة؛ نعم أنا أبو عذرتها، وابن بجدتها، وأخو نجدتها؛ أستخرج جميع المجهولات، من مسائل المعاملات، والوصايا والتّركات، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، وينحو هذا النّحو ويسري هذا المسرى، مما يدخل تحت الأموال والجذور، والأعداد المطلقة من الصّحاح والكسور.

فقال «علم حساب الدّرهم والدّينار» : مالك ولادّعاء التّعميم في استخراج المجهولات وكشف الغوامض؟ وإنّما أنت قاصر على استعلام المجهولات العدديّة المعلومة العوارض، دون ما تزيد عدّته على المعادلات الجبريّة، فقد فاتك حينئذ الدّعاوى الحصرية؛ لكنّي أنا كاشف هذه الحقائق، ومبيّن سبلها بألطف الطّرائق؛ فبي إليها يتوصّل، وعلى قواعدي لاستخراج مقاصدها يجمل ويفصّل.

فقال «علم حساب الدّور والوصايا» : إنّ استخراج المجهولات وإن عظم نفعا، وحسن وضعا، فأنا أعظم منه فائدة، وأجلّ منه عائدة؛ أبيّن مقدار ما يتعلّق بالدّور من الوصايا، حتى يتّضح لمن يتأمّل، وأقطع الدّور فتعود المسألة من أظهر القضايا، ولولا ذلك لدار أو تسلسل.

فقال «علم الفقه» : وهل أنت إلا نبذة من الوصايا التي هي بارقة من بوارقي، تتعلّق بأطنابي وتدخل تحت سرادقي؛ بي تتميّز معالم الأحكام، ويتبيّن الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، ويتعرّف ما يتقرّب به إلى الله تعالى من العبادات، وسائر أنواع التّكاليف الشّرعيّة العملية مما تدعو إليه الضرورات وتجري به العادات؛ فأنا إمام العلوم الذي به يقتدى،

ص: 253

وعميدها الذي عليه يعتمد ونجمها الذي به يهتدى؛ فلولا إرشادي لضلّ سعي المكلّفين، ولأمسوا في ديجاء مدلهمّة فأصبحوا عن ركائب الخير مخلّفين.

وناهيك أن من جملة أفرادي، وآحاد أعدادي:- «علم الفرائض» الذي حضّ الشارع على تعلّمه وتعليمه، وأخبر بأنّه نصف العلم منبّها على تعظيم شأنه وتفخيمه، وبالغ في إثبات قواعده وإحكام أسّه، فقال:«إنّ الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل بل تولّاها فقسمها بنفسه» .

فقال «علم أصول الفقه» : إن مقالك لعال، وإنّ جيدك لحال؛ غير أنّي أنا المتكفّل بتقرير أصولك، وتوجيه المسائل الواقعة في خلال أبوابك وفصولك؛ بي تعرف مطالب الأحكام الشّرعيّة العملية وطرق استنباطها، ومواد حججها واستخراجها بدقيق النّظر وتحقيق مناطها؛ فبأصولي فروعك مقرّرة، وبمحاسن استدلالي حججك منقّحة محرّرة؛ قد مهّدت طرقك حتى زال عنها الإلباس، وبنيت على أعظم الأصول فروعك فاسندتها للكتاب والسّنّة والإجماع والقياس.

فقال «علم الجدل» : قد علمت أن الدّليل لا يقوم برأسه، ولا يستقلّ بنفسه، بل لا بدّ في تقريره من النّظر في معرفة كيفيّة الاستدلال، والطّريق الموصّل إلى المطلوب على التّفصيل والإجمال؛ وأنا المتكفّل بذلك، والموصّل بكشف حقائق البحث إلى هذه المدارك؛ بي تعرف كيفيّة تقرير الحجج الشّرعيّة، وقوادح الأدلة وترتيب النّكت الخلافيّة؛ فموضوعك عليّ محمول، ونظرك إلى نظري بكلّ حال موكول.

فقال «علم المنطق» : خفّض عليك! فهل أنت إلا نوع من قياساتي المنطقيّة أفردت بالتّصنيف، وخصصت بالمباحث الدّينية فخالطت أصول الفقه في التأليف؟؛ فأنت إذا فرد من أفرادي، وواحد من أعدادي، مع ما اشتمل عليه سواك من القياسات البرهانيّة القاطعة في المناظرات،

ص: 254

والقياسات الخطابيّة والبلاغات النّافعة في مخاطبات الجمهور على سبيل المخاصمات والمساورات؛ وكذلك حال القياسات الشّعريّة، وكيف يستعمل التّشبيه المفيد للتّخيّل الموجب للانفعالات النّفسانيّة: كالإغراء والتّحذير، والتّرغيب والتّرهيب والتّعظيم والتّحقير، وغير ذلك من معرفة الألفاظ والمعاني المفردة من حيث هي عامّة كلّيّة، وتركيب المعاني المفردة بالنسبة إلى الإيجابية والسّلبية؛ تعصم مراعاتي الفكر عن الخطإ فلا يزلّ، وتهديه سواء السّبيل فلا يحيد عن الصّراط السّويّ ولا يضلّ، وأسري في جميع المعقولات فأتصرّف فيما يدقّ منها ويجلّ.

فقال علم «دراية الحديث» : قد علمت بما ثبتت به الأدلّة بالتّلويح والتّصريح، أنه لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح؛ وحينئذ فلا بدّ من نصّ شرعيّ تعتمد عليه، وتستند في مقدّماتك إليه؛ ولا أقوى حجّة، وأوضح محجّة، من كلام الرّسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى إذا تكلّم؛ فإذا استندت إلى نصوصه، واعتمدت عليه في عمومه وخصوصه، فقد حسن منك المقدّم والتّالي، وكانت مقدّماتك في البحث أمضى من المرهفات ونتائجك أنفع من العوالي؛ وقد تحققت أنّي إمام هذا المقام، ومالك قياد هذا الزّمام.

فقال «علم رواية الحديث» : لقد ذكرت من الصّحيح المتّفق عليه بما لا طعن فيه لمريب، وتعلّقت من كلام النّبوّة بأوثق سبب فأتيت بكل لفظ حسن ومعنى غريب؛ إلا أن الدّراية، موقوفة على الرّواية؛ وكيف يقع نظر الناظر في حديث قبل وصوله إليه، أو يتأتّى العلم بمعناه قبل الوقوف عليه؟؛ وهل يثبت فرع على غير أصل في مقتضى القياس، أو يرقى من غير سلّم أو يبنى على غير أساس؟؛ فعلى المحدّث تقديم العلم بالرواية بشرطها، ومعرفة أقواله صلى الله عليه وسلم بالسّماع المتّصل وتحريرها وضبطها.

فقال «علم التّفسير» : قد تبيّن لدى العلماء بالشّريعة أن حكم الكتاب والسّنّة واحد، وإن اختلفت في الأسماء فلم تختلف في المقاصد؛ إلا أنهما

ص: 255

وإن اتّفقا في الدّلالة والإرشاد، فقد اختصّ الكتاب في النّقل بالتّواتر وجاء أكثر السّنّة بالآحاد.

فقال «علم القراآت» : إلا أنه لا ينبغي للمفسّر أن يقدم على التّفسير ما لم يكن بقراءة السّبع والشّاذّ عالما، وبلغاتها عارفا وللنّظر في معانيها ملازما؛ مع ما يلتحق بذلك من علم قوانين القراءة المتعلّق من المصاحف بخطّها، والأشكال والعلامات المتكفّلة بتحريرها وضبطها.

فقال «علم النّواميس» : (وهو العلم بمتعلّقات النّبوةّ) : إنّك لفرع من فروع الكتاب المبين، وما نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين؛ وإليّ النّظر في أحوال النّبوة وحقيقتها، ومسيس الحاجة إليها في بيان الشّريعة وطريقتها، والفرق بين النّبوة الحقّة، والدّعاوى الباطلة غير المحقّة، ومعرفة المعجزات المختصّة بالأنبياء والرّسل عليهم السلام، والكرامات الصّادرة عن الصّدّيقين الأبرار والأولياء الكرام؛ فأنا المقدّم على سائر العلوم الشّرعية، وإمام الأصليّة منها والفرعيّة.

فقال «العلم الإلهي» : لقد تحقّقت أنّ اللازم المحتّم، والواجب تقديمه على كلّ مقدّم، العلم بمعرفة الله تعالى والطّريق الموصّل إليها، وأثبات صفاته المقدّسة وما يجب لها ويستحيل عليها، وأنه الواجب الوجود لذاته، وباعث الرّسل لإقامة الحجّة على خلقه بمحكم آياته؛ وأنا الزّعيم بإقامة الأدلّة على ذلك من المعقول والمنقول، والمتكفّل بتصحيح مقدّماته البرهانيّة بتحرير المقدّم والتّالي والموضوع والمحمول.

فقال «علم أصول الدّين» : فحينئذ قد فزت من جمعكما بالشّرفين، وجمع لي منكما الفضل بطرفيه فصرت بكما معلم الطّرفين، وميّزت بين صحيح الاعتقاد وفاسده فكان لي منهما أحسن الاختيارين، وبيّنت طريق الحقّ لسالكها فكنت سببا للفوز والنّجاة في الدّارين؛ فانا المقصود للإنسان بالذّات في كمال ذاته، وكلّ علم يستمدّ منّي في مباديه ويفتقر إليّ في مقدّماته.

ص: 256

فقال «علم التّصوّف» : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، إذ كان كلّ امريء بما عمل مجازى وبما كسب رهينا؛ إنّه يجب على كلّ من كان بمعتقد الحقّ جازما، أن يكون عن دار الغرور متجافيا ولأعمال البرّ ملازما؛ فإنّما الدّنيا مزرعة للآخرة، إن حصلت النّجاة فتلك التّجارة الرّابحة وإن كانت الأخرى فتلك إذا كرّة خاسرة؛ فمن لزم طريقتي في الإعراض عن الدّنيا والزّهد فيها سلّم، ومن اغترّ بزخرفها الفاني فقد خاب في القيامة وندم.

فلما كثرت الدّعاوى والمعارضات، وتتابعت الحجج والمناقضات، نهض «علم السياسة» قائما، وقصد حسم مادّة الجدال وطالما، وقال: أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب «1» ، وسائسها الكافي وحاكمها المهذّب؛ لقد ذكر كلّ منكم من فضله ما يشوّق السّامع، وأظهر من جليل قدره ما تنقطع دونه المطامع، وأتى من واضح كلامه بما لا يحتاج في إثباته إلى دليل ظنّيّ ولا برهان قاطع؛ غير أنه لا يليق بالمنصف أن يتخطّى قدره المحدود ولا يتعدّى جزءه المقسوم، ولكلّ أحد حدّ يقف عنده وما منّا إلّا له مقام معلوم؛ فلو سلك كلّ منكم سبيل المعدلة، وأنصف من نفسه فوقف عند ما حدّ له، لكان به أليق، ولمقام العلم أرفق.

فقال «علم تدبير المنزل» : لقد تحرّيت الصّواب، ونطقت بالحكمة وفصل الخطاب؛ لكنّه لا بدّ لكم من حبر عالم، وإمام حاكم، يكون لشملكم جامعا، ولمواقع الشّكّ في محلّ التفاضل بينكم رافعا، محيط من كلّ علم بمقصوده ومراده، عارف بما تشمل عليه مباديه من حدّه وموضوعه وفائدته واستمداده، ليبلغ به من الفضل منتهاه، ويقف به من الشّرف عند حدّ لا يتعدّاه؛ فلا يدّعي مدّع بغير مستحقّ، ولا يطالب طالب ما ليس له بحقّ؛ إلا أنّ المحيط بكلكم علما، والقائم بجميعكم فهما، أعزّ من الجوهر الفرد

ص: 257

والكبريت الأحمر، وأقلّ وجودا من بيض الأنوق «1» بل بيض الأنوق في الوجدان أكثر.

فقال «علم الفراسة» : على الخبير سقطت، وبابن بجدتها حططت؛ أنا بذلكم زعيم، وبمظنّته عليم؛ فللعلم عرف ينمّ على صاحبه، وتلوح عليه بوارقه وإن أكنّه بين جوانبه؛ فحامل المسك لا تخفى ريحه على غير ذي زكام، والنّهار لا يخفى ضوءه على ذي بصر وإن تسترت شمسه بأذيال الغمام؛ ولقد تصفّحت وجوه العلماء الكملة، الذين طواياهم على أجمل العلوم منطوية وعلى تفاصيلها مشتملة، وسبرت وقسّمت، وتفرّست وتوسّمت، فلم أجد من يليق لهذا المقام، ويصلح لقطع الجدال والخصام، ويعرف بلغة كلّ علم فيجيب بلسانه، ويحكم فلا ينقض حكمه غيره لانحطاطه عن بلوغ مكانه، إلا البحر الزّاخر، و [الفاضل]«2» الذي لا يعلم لفضله أوّل ولا يدرك لمداه آخر؛ حبر الأمة، وعلّامة الأئمة، وناصر السّنة وحاميها، وقامع البدعة وقاميها «3» ، نجل شيخ الإسلام، وخلاصة غرر الأيّام، جلال الدّين، بقيّة المجتهدين، أبو الفضل عبد الرحمن البلقينيّ الشّافعيّ، النّاظر في الحكم العزيز بالديار المصرية، وسائر الممالك الإسلامية وما أضيف إلى ذلك من الوظائف الدّينية، لا زالت فواضل الفضائل معروفة: فهو العالم الذي إذا قال لا يعارض، والحاكم الذي إذا حكم لا يناقض، والإمام الذي لا يتخلّل اجتهاده خلل، والمناظر الذي ما حاول قطع خصم إلا كان لسانه أمضى من السّيف أذا يقال:«سبق السّيف العذل» :

ص: 258

إذا قال بذّ القائلين ولم يدع

لملتمس في القول جدّا ولا هزلا

إن تكلّم في الفقه فكأنما بلسان «الشّافعيّ» تكلّم، و «الرّبيع» عنه يروي و «المزنيّ» منه يتعلّم، أو خاض في أصول الفقه، قال «الغزاليّ» : هذا هو الإمام باتفاق، وقطع السّيف «الآمديّ» بأنه المقدّم في هذا الفنّ على الإطلاق، أو جرى في التّفسير، قال «الواحديّ» : هذا هو العالم الأوحد، وأعطاه «ابن عطيّة» صفقة يده بأن مثله في التّفسير لا يوجد، واعترف له «صاحب الكشّاف» بالكشف عن الغوامض، وقال الإمام «فخر الدّين» :«هذه مفاتيح الغيب وأسرار التّنزيل» فارتفع الخلاف واندفع المعارض، أو أخذ في القراءات والرّسم أزرى بأبي «عمرو الدّاني» ، وعدا شأو «الشّاطبيّ» في «الرّائية» وتقدّمه في «حرز الأماني» ، أو تحدّث في الحديث شهد له «السّفيانان» بعلوّ الرتبة في الرّواية، واعترف له «ابن معين» بالتّبريز والتّقدّم في الدّراية، وهتف «الخطيب البغداديّ» بذكره على المنابر، وقال «ابن الصّلاح» : لمثل هذه الفوائد تتعيّن الرّحلة وفي تحصيلها تنفد المحابر، أو أبدى في أصول الدّين نظرا تعلّق منه «أبو الحسن الأشعريّ» بأوفى زمام، وسدّ باب الكلام على المعتزلة حتّى يقول «عمرو بن عبيد» و «واصل بن عطاء» ليتنا لم نفتح بابا في الكلام، أو دقّق النظر في المنطق بهر «الأبهريّ» في مناظرته، وكتب «الكاتبيّ» على نفسه وثيقة بالعجز عن مقاومته، أو ألمّ بالجدل رمى «الأرمويّ» نفسه بين يديه، وجعل «العميديّ» عمدته في آداب البحث عليه، أو بسط في اللغة لسانه اعترف له «ابن سيده» بالسّيادة، وأقرّ بالعجز لديه «الجوهريّ» وجلس «ابن فارس» بين يديه مجلس الاستفادة، أو نحا إلى النّحو والتّصريف أربى فيه على «سيبويه» ، وصرف «الكسائيّ» له عزمه فسار من البعد إليه، أو وضع أنموذجا في علوم البلاغة وقف عنده «الجرجانيّ» ، ولم يتعدّ حدّه «ابن أبي الاصبع» ولم يجاوز وضعه «الرّمانيّ» ، أو روى أشعار العرب أزرى ب «الأصمعيّ» في حفظه، وفاق

ص: 259

«أبا عبيدة» في كثرة روايته وغزير لفظه، أو تعرّض للعروض والقوافي استحقّها على «الخليل» ، وقال «الأخفش» : عنه أخذت «المتدارك» واعترف «الجوهريّ» بأنه ليس له في هذا الفن مثيل، أو أصّل في الطّبّ أصلا قال «ابن سينا» : هذا هو القانون المعتبر في الأصول، وأقسم «الرازيّ» بمحيي الموتى إن «بقراط» لو سمعه لما صنّف «الفصول» ، أو جنح إلى غيره من العلوم الطبيعية فكأنما طبع عليه، أو جذب له ذلك العلم بزمام فانقاد إليه، أو سلك في علوم الهندسة طريقا لقال «أو قليدس» : هذا هو الخطّ المستقيم، وأعرض «ابن الهيثم» عن حلّ الشكوك وولّى وهو كظيم، وحمد «المؤتمن بن هود» عدم إكمال كتابه «الاستكمال» وقال: عرفت قدر نفسي: وفوق كلّ ذي علم عليم، أو عرّج على علوم الهيئة لا عترف «أبو الرّيحان البيرونيّ» أنه الأعجوبة النادرة، وقال «ابن أفلح» : هذا العالم قطب هذه الدائرة، أو صرف إلى علم الحساب نظره لقال «السّموأل بن يحيى» : لقد أحيا هذا الفنّ الدّارس، ونادى «ابن مجلي الموصليّ» : قد انجلت عن هذا العلم غياهبه حتى لم يبق فيه عمه لعامه ولا غمّة على ممارس.

وقد وجدت مكان القول ذا سعة

فإن وجدت لسانا قائلا فقل!

وكيف لا تلقي إليه العلوم مقاليدها، وتصل به الفضائل أسانيدها، وهو ابن شيخ الإسلام وإمامه، وواحد الدّهر وعلّامه، وجامع العلوم المنفرد، ومن حقّق وجوده في أواخر الأعصار أنّ الزّمان لا يخلو من مجتهد، ومن لم يزل موضوع الأوضاع المعتبرة عليه محمولا، ومن كان على رأس المائة الثّامنة مضاهيا لعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى؛ فالخناصر عليه وعلى ولده تعقد، ولا غرو إن قام منشدهما فأنشد:

إن المائة الأولى على رأسها أتى

لها عمر الثّاني لذا الدّين صائنه

ووالى رجال بعد ذاك كمثله

فها عمر وافى على رأس ثامنه

ص: 260

يظاهره نجل سعيد غدت به

معاقل علم في ذرا الحقّ آمنه

إذا شيخ إسلام أضاء سراجه

رأيت جلالا من سنا الفضل قارنه!

فلا يعدم الإسلام جمع علاهما

ولن يبرحا للدّين دأبا ميامنه!

فقال «علم الأخلاق» : أصبت سواء الثّغرة وجئت بالرّأي الأكمل، وعرفت من أين تؤكل الكتف فطبّقت المفصل بالمفصل؛ إلا أنّ من محاسن الأخلاق، ومعالم الإرفاق، أن تعودوا بفضلكم، وترجعوا بمعروفكم وبرّكم، إلى من جرى بكم في التّفاخر مجرى الإنصاف، وبسط لسان كلمه بما اشتمل عليه كلّ منكم من جميل الأوصاف؛ ثم كان من شأنه أن وصل بالاتّفاق والالتئام حبلكم، وجمع بالمحلّ الكريم بعد التباعد شملكم، وذكركم بحسن المصافاة أصل الوداد القديم، وتلا بلسان الألفة فيكم: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ

«1» ، بأن ينتصب كلّ منكم له شفيعا إلى هذا السّيّد الجليل، ويكون له وسيلة إلى هذا الإمام الحفيل، أن يصرف إليه وجه العناية، وينظر إليه بعين الإقبال والرّعاية، ليعزّ في الناس جانبه، ويطلع في أفق السّعد بعد الأفول غاربه، ويبلغ من منتهى أمله ما له جهد، ويسعد بالنّظر السعيد جدّه فقد قيل:«من وقع عليه نظر السّعيد سعد» .

على أنه- أمتع الله الإسلام ببقائه وبقاء والده، وجمع بينهما في دار الكرامة كما جمع لهما بين طارف المجد وتالده- قد فتح له من التّرقّي أوّل باب، ولا شكّ أنّ نظرة منه إليه بعد ذلك ترقّيه إلى السّحاب.

فأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه

وأوّل الغيث قطر ثم ينسكب!

فقال «علم التاريخ» : اهبطوا مصرا فإنّ لكم ما سألتم، وقرّوا عينا فإلى القصد الجليل وصلتم، وعلى غاية الأمل- ولله الحمد- حصلتم؛ فقد بلوت الأوائل والأواخر، وخبرت حال المتقدّم والمعاصر، فلم أر فيمن مضى

ص: 261

وغبر، وشاع ذكره واشتهر، من ذوي المراتب العليّة، والمناصب السّنيّة، من يساوي هذا السّيّد الجليل فضلا! أو يدانيه في المعروف قولا وفعلا؛ قد لبس شرفا لا تطمع الأيام في خلعه، ولا يتطلّع الزمان إلى نزعه، وانتهى إليه المجد فوقف، وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف، وحلّت الرّآسة بفنائه فاستغنت به عن السّوى، وأناخت السّيادة بأفنائه فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى، فقصرت عنه خطا من يجاريه، وضاق عنه باع من يناويه، واجتمعت الألسن على تقريضه فمدح بكلّ لسان، وتوافقت القلوب على حبّه فكان له بكلّ قلب مكان:

ولم يخل من إحسانه لفظ مخبر

ولم يخل من تقريظه بطن دفتر!

فهو الحريّ بأن يكتب بأقلام الذّهب جميل مناقبه، وأن يرقم على صفحات الأيام حميد مطالبه؛ فلا يذهب على ممرّ الزمان ذكرها، ولا يزول على توالي الدّهور فخرها.

ولما تمّ للعلوم هذا الاجتماع الذي قارن السّعد جلاله، وتفجّرت ينابيع الفضل خلاله، أقبلوا بوجوههم على الشّعر معاتبين، وبما يلزمه من تقريض هذا الحبر ومدحه مطالبين، وقالوا: قد أتى النّثر من مدحه بقدر طاقته، وإن لم يوف بجليل قدره ورفيع مكانته، فلا بدّ من أن تختم هذه الرسالة بأبيات بالمقام لائقة، ولما نحن فيه من القضيّة الواقعة مطابقة، قائمة من مدحه بالواجب، سالكة من ذلك أحسن المسالك وأجمل المذاهب، لتكمل هذه الرسالة نظما ونثرا، وتفتنّ في صناعة الأدب خطابة وشعرا، فقال: سمعا وطاعة، واستكانة وضراعة؛ ثم لم يلبث أن قام عجلا، وأنشد مرتجلا:

بشراكم معاشر العلوم أن

جمعتم بصدر حبر كامل!

فنونه لم تجتمع لعالم

وفضله لم يكتمل لفاضل!

يشفي الصّدور إن غدا مناظرا

وبحثه فزينة المحافل!

كم عمّرت دروسه من دارس

وزيّنت بحليها من عاطل!

ص: 262

وو أوضحت أقواله من مشكل

لمّا أتى بأوضح الدّلائل!

وكم غدت آراؤه حميدة

ونبّهت بجدّها من خامل.

وحكمه فكم أقال عثرة

وجوده ففوق قصد الآمل!

هذا: وقد فاق الورى رآسة

محفوفة بألطف الشّمائل!

من ذا يروم أن ينال شأوه؟

أنّى له بأمثل الأماثل؟

مولى علا فوق السّماك رتبة

قد زيّنت بأفضل الفواضل!

فما له في فضله من مشبه،

وما لبحر جوده من ساحل!

حاشى لراج فضله أن ينثني

صفر اليدين أو ممنّى الآجل!

قلت ولم أرمن تعرّض للمفاخرة بين العلوم سوى القاضي الرّشيد أبي الحسين بن الزبير في مقالته المقدّم ذكرها «1» ؛ على أنّها لم تكن جارية على هذا النّمط، ولا مرتّبة على هذا التّرتيب، مع الاقتصار فيها على علوم قليلة، أشار إلى المفاضلة بينها على ما تقدّم ذكره. ولكنّ الله تعالى قد هدى بفضله إلى وجوه التّرجيح التي يرجح بها كلّ علم على خصمه، ويفلج به على غيره؛ والمنصف يعرف لذلك حقّه. والذي أعانني على ذلك جلالة قدر من صنّفت له وعلوّ رتبته، واتساع فضله، وكثرة علومه، وتعداد فنونه، إذ صفات الممدوح تهدي المادح وترشده.

ومنها المفاخرة بين السّيف والقلم؛ وقد أكثر الناس منها: فمن عال وهابط، وصاعد وساقط.

وهذه رسالة في المفاخرة بين السّيف والقلم، أنشأتها للمقرّ الزّيني أبي يزيد «2» الدّوادار الظّاهريّ، في شهور سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وسمّيتها:

«حلية الفضل وزينة الكرم، في المفاخرة بين السّيف والقلم» ؛ وهي:

ص: 263

الحمد لله الذي أعزّ السّيف وشرّف القلم، وأفردهما برتب العلياء فقرن لهما بين المجد والكرم، وساوى بينهما في القسمة فهذا للحكم وهذا للحكم.

أحمده على أن جمع بخير أمير بعد التّفرّق شملهما، ووصل بأعزّ مليك بعد التّقاطع حبلهما، وأرغب إليه بشكر يكاثر النجوم في عديدها، ويكون للنّعمة على ممرّ الزّمان أبا يزيدها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يأتمّ الإخلاص بمذهبها، ولا ينجو من سيفها إلا من أجاب داعيها وأقرّبها، وأن محمدا عبده ورسوله الذي خصّ بأشرف المناقب وأفضل المآثر، واستأثر بالسؤدد في الدّارين فحاز أفخر المعالي ونال أعلى المفاخر، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الإسلام فسمت بهم على سائر الدّول، وكرعت في دماء الكفر سيوفهم فعادت بخلوق النّصر لا بحمرة الخجل، صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام، وتكلّ ألسنة الأقلام عن وصفها ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام.

وبعد، فإنّه ما تقارب اثنان في الرّتبة إلا تحاسدا، ولا اجتمعا في مقام رفعة إلا ازدحما على المجد وتواردا، ورام كلّ منهما أن يكون هو الفائز بالقدح المعلّى، وأن يكون مفرقه هو المتوّج وجيده هو المحلّى، وادّعى كلّ منهما أن جواده هو السابق في حلبة السّباق، والفائز بقصب السّبق بالاتّفاق، وأن نجمه هو الطالع الذي لا يأفل، وسؤدده هو الحاكم الذي لا يعزل، وأن المسك دون عبيره، والبحر لا يجيء نقطة في غديره، والدّرّ لا يصلح له صدفا، ونفيس الجوهر لا يعادله شرفا، وأن منابر المعالي موقوفة على قدمه، ومجامر المفاخر فائحة بنشر كرمه.

ولمّا كان السّيف والقلم قد تدانيا في المجد وتقاربا، وأخذا بطرفي الشّرف وتجاذبا؛ إذ كانا قطبين تدور عليهما دوائر الكمال، وسعدين يجتمعان في دائرة الاعتدال، ونجمين يهديان إلى المعالي، ومصباحين

ص: 264

يستضاء بهما في حنادس اللّيالي، وقاعدتين تبنى الدّول على أركانهما، وشجرتين يجتنى العزّ من أغصانهما؛ جرّ كلّ منهما ثوب الخيلاء فخرا فمشى وتبختر، وأسبل رداء العجب تيها فما تخبّل ولا تعثّر، واتسع له المجال في الدّعوى فجال، وطاوعته يد المقال فقال وطال، وتطرّقت إليهما عقارب الشّحناء ودبّت، وتوقّدت بينهما نار المنافسة وشبّت، وأظهر كلّ منهما ما كان يخفيه فكتب وأملى، وباح بما يكنّه صدره والمؤمن لا يكون حبلى؛ وبدأ القلم فتكلم، ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم، فقال:

باسم الله تعالى أستفتح، وبحمده أتيمّن وأستنجح؛ إذ من شأني الكتابة، ومن فنّي الخطابة؛ وكلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أجذم، وكلّ كلام لا يفتتح بحمده فأساسه غير محكم ورداؤه غير معلم؛ والعاقل من أتى الأمر من فصّه، وأخذ الحديث بنصّه؛ والحقّ أحقّ أن يتّبع، والباطل أجدر أن يترك فلا يصغى إليه ولا يستمع؛ إني لأوّل مخلوق بالنّص الثابت والحجّة القاطعة، والمستحقّ لفضل السّبق من غير منازعة؛ أقسم الله تعالى بي في كتابه، وشرّفني بالذّكر في كلامه لرسوله وخطابه، فقال جلّ من قائل: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ

»

، وقال جلّت قدرته: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ

«2» ، فكان لي من الفضل وافر القسمة، وخصصت بكمال المعرفة فجمعت شوارد العلوم وكنت قيّم الحكمة.

فقال السّيف: بسم الله والله أكبر: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ

«3» .

لكلّ باغ مصرع، وللصّائل بالعدوان مهلك لا ينجو منه ولا ينجع؛ وفاتح باب

ص: 265

الشّرّ يغلق به، وقادح زند الحرب يحرق بلهبه؛ أقول بموجب استدلالك، وأوجب الاعتراض عليك في مقالك:

نعم أقسم الله تعالى بالقلم ولست بذلك، وكان أوّل مخلوق ولست المعنيّ بما هنالك؛ إنّ ذلك لمعنى يكلّ فهمك عن إدراكه، ويضلّ نجمك أن يسري في أفلاكه؛ وأنت وإن ذكرت في التنزيل، وتمسكت من الامتنان بك في قوله: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ

بشبهة التّفضيل؛ فقد حرّم الله تعالى تعلّم خطّك على رسوله، وحرمك من مسّ أنامله الشريفة ما يؤسى على فوته ويسرّ بحصوله؛ لكنّي قد نلت في هذه الرتبة أسنى المقاصد، فشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد، وحلّاني من كفه شرفا لا يزول حليه أبدا، وقمت بنصره في كلّ معترك: وسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا!!!؛ ذكر الله تعالى في القرآن الكريم جنسي الذي أنا نوعه الأكبر، ونبّه على ما فيه من المنافع التي هي من نفعك أعمّ وأشهر، وما اجتمع فيه من عظيمي الشّدّة والباس، فقال تقدّست عظمته: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ

«1» . على أنك لو اعتبرت جنسي القصب والحديد، وعرفت الكليل منهما والجليد، لتحققت تسلط الحديد عليك قطّا وبريا، وتحكّمه فيك أمرا ونهيا.

فقال القلم: فررت من الشريعة وعدلها، وعوّلت على الطبيعة وجهلها، فافتخرت بحيفك وعدوانك، واعتمدت في الفضل على تعدّيك وطغيانك، فملت إلى الظّلم الذي هو إليك أقرب، وغلب عليك طبعك في الجور:

و «الطّبع أغلب» ؛ فلا فتنة إلا وأنت أساسها، ولا غارة إلا وأنت رأسها، ولا شرّ إلا وأنت فاتح بابه، ولا حرب إلا وأنت واصل أسبابه؛ تؤكّد مواقع الجفاء، وتكدّر أوقات الصّفاء، وتؤثّر القساوة، وتؤثر العدواة؛ أما أنا فالحقّ مذهبي، والصّدق مركبي، والعدل شيمتي، وحلية الفضل زينتي؛ إن حكمت أقسطت، وإن استحفظت حفظت وما فرّطت؛ لا أفشي سرّا يريد صاحبه

ص: 266

كتمه، ولا أكتم علما يبتغي متعلّمه علمه؛ مع عموم الحاجة إليّ، والافتقار إلى علمي والاكتساب مما لديّ؛ أدير في القرطاس كاسات خمري فأزري بالمزامير وأهزأ بالمزاهر، وأنفث فيه سحر بياني فألعب بالألباب وأستجلب الخواطر، وأنفذ جيوش سطوري على بعد فأهزم العساكر:

فلكم يفلّ الجيش وهو عرمرم

والبيض ما سلّت من الأغماد!

فقال السّيف: أطلت الغيبة، وجئت بالخيبة، وسكتّ ألفا، ونطقت خلفا.

السّيف أصدق أنباء «1» من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب

إنّ نجادي لحلية للعواتق، ومصاحبتي آمنة من البوائق؛ ما تقلّدني عاتق إلا بات عزيزا، ولا توسّدني ساعد إلا كنت له حرزا حريزا؛ أمري المطاع وقولي المستمع، ورأيي المصوّب وحكمي المتّبع؛ لم أزل للنّصر مفتاحا، وللظلام مصباحا، وللعزّ قائدا، وللعداة ذائدا؛ فأنّى لك بمساجلتي، ومقاومتي في الفخر ومنافرتي؟؛ مع عري [جسمك]«2» ونحافة بدنك، وإسراع تلافك وقصر زمنك، وبخس أثمانك على بعد وطنك، وما أنت عليه من جري دمعك، وضيق ذرعك، وتفرّق جمعك، وقصر باعك، وقلّة أتباعك.

فقال القلم: مهلا أيّها المساجل، وعلى رسلك أيها المغالب والمناضل؛ لقد أفحشت مقالا، ونمّقت محالا، فغادرتك سبل الإصابة، وخرجت عن جادّة الإنابة، وسؤت سمعا فأسأت جابة «3» ؛ إنّي لمبارك الطّلعة

ص: 267

وسيمها، شريف النّفس كريمها، آخذ بالفضائل من جميع جهاتها، مستوف للممادح بسائر صفاتها؛ فطائري ميمون، وغولي مأمون، وعطائي غير ممنون؛ أصل وتقطع، وأعطي وتمنع، وتفرّق وأجمع؛ وإنّ ازدراءك بي من الكبر المنهيّ عنه، وغضّك عنّي من العجب المستعاذ منه؛ ومن حقّر شيئا قتله، ومن استهان بفاضل فضله؛ وإنّي وإن صغر جرمي فإني لكبير الفعال، وإن نحف بدني فإني لشديد البأس عند النّزال؛ وإن عري جسمي فكم كسوت عاريا، وإن جرى دمعي فكم أرويت ظاميا، وإن ضاق ذرعي فإني بسعة المجال مشهور، وإن قصر باعي فكم أطلقت أسيرا وأنا في سجن الدّواة مأسور؛ إذا امتطيت طرسي، وتدرّعت نقسي، وتقلدت خمسي، وجاشت على الأعداء نفسي:-

رأيت جليلا شأنه وهو مرهف

ضنّى وسمينا خطبه وهو ناحل!

أنسيت إذ أنت في المعدن تراب تداس بالأقدام؟ وتنسفك الرّياح وتزري بك الأيام؟ ثم صرت إلى القين «1» تقعد لك السّنادين بالمراصد، وتدمغك المقامع وتسطو بك المبارد؛ ثم لولا صقالك لأذهبك الجرب وأكلك الصّدى، مع قلّة صبرك على المطر والنّدى.

فقال السّيف: إنّا لله! لقد استأسدت الثّعالب، واستنسرت البغاث فعدّ العصفور نفسه من طير الواجب «2» ، وجاء الغراب إلى البازيّ يهدّده، ورجع ابن آوى على الأسد يشرّده؛ فلو عرفت قدر نفسك، ولزمت في السّكينة طريق أبناء جنسك، ووقفت عند ما حدّ لك، وذكرت عجزك وكسلك، لكان أجدر بك، وأحمد لعاقبتك، وأليق بأدبك.

إن الملوك لتعدّني لمهمّاتها، وتستنجد بي في ملمّاتها، وتتعالى في

ص: 268

نسبي، وتتغالى في حسبي، وتتنافس في قنيتي وتتحاسد، وتجعلني عرضة لأيمانها فتتعاقد بالحلف عليّ وتتعاهد، وتدّخرني في خزائنها ادّخار الأعلاق، وتعدّني أنفس ذخائرها على الإطلاق، فتكلّلني الجواهر، وتحلّيني العقود فأظهر في أحسن المظاهر؛ أبرز للشّجعان خدّي الأسيل فأنسيهم الخدود ذوات السّوالف، وأزهو بقدّي فأسلبهم هيف القدود مع لين المعاطف، وأوهم الظّمآن من قرب أن بأنهاري ماء يسيل، وأخيّل للمقرور من بعد أنّي جذوة نار فيطلبني على المدى الطّويل؛ ويخالني متوقّع الغيث برقا لامعا، ويظنّني الجائز في الشّرق نجما طالعا؛ فالشّمس من شعاعي في خجل، واللّيل من ضوئي في وجل، وما أسرعت في طلب ثار إلا قيل:«فات ما ذبح» و «سبق السّيف العذل» .

فقال القلم: برّق لمن لا عرفك، وروّج على غير الجوهريّ صدفك؛ فما أنت من بزّي ولا عطري، ولست بمساو حدّك القاطع بقلامة ظفري؛ إنّ برقك لخلّب، وإن ريحك لأزيب «1» ، وإن ماءك لجامد، وإن نارك لخامد؛ ومن ادّعى ما ليس له فقد باء بالفجور، ومن تشبّع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور.

ومن قال: إنّ النّجم أكبرها السّهى

بغير دليل كذّبته ذكاء «2» !

أنا جذيلها المحكّك، وعذيقها المرجّب، وكريمها المبجّل وعالمها المهذّب؛ يختلف حالي في الأفعال السّنية باختلاف الأعراض، وأمشي مع المقاصد الشريفة بحسب الأغراض، وأتزيّا بكلّ زيّ جميل، فأنزل في كلّ حيّ وأسير في كلّ قبيل؛ فتارة أرى إماما عالما، وتارة لدرّ الكلام ناثرا وأخرى

ص: 269

لعقود الشّعر ناظما، وطورا تلفيني جوادا سابقا، ومرّة تجدني رمحا طاعنا وسهما راشقا، وآونة تخالني نجما مشرقا، وحينا تحسبني أفعوانا مطرقا؛ قد فقت الشّبّابة في الطّرب، وبرّزت عليها في كلّ معنى وإن جمع بيننا جنس القصب؛ فكانت للأغاني، وكنت للمعاني، وجاءت بغريب النّغم، وجئت ببديع الحكم، ولعبت بالأسماع طربا، وولعت بالألباب فاتّخذت لدهرها مما عراها عجبا.

فقال السّيف: ذكّرتني الطّعن وكنت ناسيا، وطلبت التّكثّر فازددت قلّة وعدت خاسيا، فكنت كطالب الصّيد في عرّيسة «1» الأسد إن لقيه أهلكه، وخالفت النّصّ فألقيت بيديك إلى التّهلكة؛ فاقنع من الغنيمة بالإياب، وعدّ الهزيمة مع السّلامة من أربح الأكساب؛ فلست ممن يشقّ غباري، ولا يقابل في الهيجاء ضرمي ولا يصطلي بناري؛ فكم من بطل أبطلت حراكه، وكم من شجاع عجلت هلاكه، وكم صنديد أرقت دمه، وكم ثابت الجأش زلزلت قدمه.

وأراد القلم أن يأخذ في الكلام، ويرجع إلى الجدال والخصام، فغلب عليه رقّة طبعه وحسن موارده، وسلاسة قياده وجميل مقاصده، فمال إلى الصّلح وجنح إلى السّلم، وأعرض عن الجهل وتمسّك بالحلم، وأقبل على السّيف بقلب صاف، ولسان رطب غير جاف، فقال: قد طالت بيننا المجادلة، وكثرت المراجعة والمقاولة، مع ما بيننا من قرابة الشّرف، وأخذ كلّ منّا من الفضل بطرف؛ فنحن في الكرم شقيقان، وفي المجد رفيقان؛ لا يستقلّ أحدنا بنفسه، ولا يأنس بغير صاحبه وإن كان من غير جنسه؛ وقد حلبت الدّهر أشطره، وعلمت أصفاه وأكدره، وقلّبته ظهرا وبطنا، وجبت فيافيه سهلا وحزنا؛ وإنّ معاداة الرّفيق، ومباينة الشّقيق، توجب شماتة العدوّ وتغمّ الصديق؛ فهل لك أن تعقد للصلح عقدا لا يتعدّى حدّه، ولا يحلّ على طول

ص: 270

الزّمان عقده؟ لنكون أبدا متآلفين، وعلى السّرّاء والضّرّاء متصاحبين، حتى لا يضرب بنديمي جذيمة «1» مع اصطحابنا مثل، ولا يتشبّه بنا الفرقدان إلا باءا بالخطل.

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث، أيّ الرّجال المهذّب «2»

فقال السّيف: لقد رأيت صوابا، ورفعت عن وجه المحجّة نقابا، وسريت أحسن مسرى وسرت أجمل سير، وصحبك التّوفيق فأشرت بالصّلح:

والصّلح خير.

وقد يجمع الله الشّتيتين بعدما

يظنّان كلّ الظّنّ أن لا تلاقيا!

ثم قالا: لا بدّ من حكم يكون الصّلح على يديه، وحاكم نرجع في ذلك إليه، لنحظى بزيادة الشّرف، ونظفر من كمال الرّفعة بغرف من فوقها غرف؛ ولسنا بفائزين بطلبتنا، وظافرين ببغيتنا، إلا لدى السّيّد الأكمل، والمالك الأفضل، الماجد السّريّ، والبطل الكميّ، والبحر الخضمّ، والغيث الأعمّ، مولى المعالي ومولي النّعم، وممتطي جواد العزّ ورافع أعلام الكرم، جامع أشتات الفضائل ومالك زمامها، وضابط أمر الدّولة الظاهرية وحافظ نظامها، المقرّ الكريم، العاليّ، المولويّ، الزّينيّ، أبي يزيد الدّوادار الظّاهريّ: ضاعف الله تعالى حسناته المتكاثرة، وزاده رفعة في الدّارين ليجمع له الارتقاء بين منازل الدّنيا والآخرة؛ فهو قطب المملكة الذي عليه تدور، وفارسها الأروع وأسدها الهصور، وبطلها السّميدع وليثها

ص: 271

الشهير، وأبو عذرتها حقّا من غير نكر وابن بجدتها السّاقطة منه على الخبير، ومعقلها الأمنع وحرزها الحصين، وعقدها الأنفس وجوهرها الثّمين، وتلادها العليم بأحوالها، والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها، وترجمانها المتكلّم بلسانها، وعالمها المتفنّن في أفنانها، وطبيبها العارف بطبّها، ومنجدها الكاشف لكربها.

هذا: وإنّه لمالك أمرنا، ورافع قدرنا، والصّائل منا بالحدّين، والجامع منا بين الضّدّين؛ فلو لقيه «فارس عبس» لولّى عابسا، أو طرق حمى «كليب» لبات من حماه آيسا، أو قارعه «ربيعة بن مكدّم» «1» لعلا بالسّيف مفرقه، أو نازله «بسطام» «2» لبدّد جمعه وفرّقه؛ كما أنه لو قرن خطّه بنفيس الجوهر لعلاه قيمة، أو قاسمه «ابن مقلة» في الكتابة لما رضي أن يكون قسيمه، أو فاخره «ابن هلال» لرأى انه سبقه إلى كلّ كريمة.

وبالجملة فعزّه الظاهر وفضله الأكمل، وسماكه الرّامح وسماك غيره الأعزل؛ فلا يسمح الزمان أن يأتي له بنظير، ولا أراد مدّع بلوغ شأوه إلا قيل: اتّئد فلقد حاولت الانتهاض بجناح كسير:

فحيّهلا بالمكرمات وبالعلى

وحيّهلا بالفضل والسّؤدد المحض

فالحمد لله الذي جمعنا بأكرم محلّ وأفضل، وأحسن مقام وأجمل؛ فهلمّ إليه يعقد بيننا عقد الصّلح، ونبايعه على ملازمة الخدمة والنّصح.

ثم لم يلبثا أن كتبا بينهما كتابا بالصّلح والمصافاة، وتعاهدا على الودّ والموافاة، وأعلن بعقد الصّلح مناديهما، وحدا بذكر التّعاضد والتّناصر حاديهما، وراح ينشد:

ص: 272