الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حسم الصّلح ما اشتهته الأعادي
…
وأذاعته ألسن الحسّاد!
وزالت عنهما الأحقاد والإحن، وباتا في أعزّ مكان وأشرف وطن، وثلّث قرانهما فأسعد، ثم قام منشدهما فأنشد:
لا ينكر الصّلح بين السّيف والقلم
…
فعاقد الصّلح عالي القدر والهمم!
أبو يزيد نظام الملك مالكنا
…
وواصل العلم في علياه بالعلم.
فهو المراد بما أبديه من مدح
…
وغاية القصد من ترتيب ذا الكلم!
وإن جرى مدح سيف أو علا قلم،
…
فذاك وصف لما قد حاز من كرم!
قلت: وسبب إنشائي لهذه الرسالة أن الأمير أبا يزيد الموضوعة له، تغمّده الله تعالى بالرحمة والرضوان، كان من جودة الخطّ وتحرير قواعده في الطّبقة العليا، وعظمت مكانته عند سلطانه الملك الظاهر «برقوق» وعلت رتبته حتى ولّاه وظيفة الدّواداريّة بإمرة تقدمة ألف، ولم يزل مقدّما عنده حتى مات هو متولّيها، وأولاني عند عملها له من الصّلة والبرّ المتوالي ما يقصر عنه الوصف، ويكلّ عنه اللّسان.
الصّنف الرابع
الصّنف الخامس «1» (من الرسائل- الأسئلة والأجوبة؛ وهي على ضربين)
الضرب الأوّل «2» (الأسئلة الامتحانيّة)
قد جرت عادة مشايخ الأدب وفضلاء الكتّاب أنهم يكتبون إلى الأفاضل بالمسائل يسألون عنها: إمّا على سبيل الاستفهام واستماحة ما عند المكتوب إليه في ذلك، وأمّا على سبيل الامتحان والتّعجيز. ثم تارة يجاب
عن تلك الأسئلة بأجوبة فتكتب، وتارة لا يجاب عنها، بحسب ما تقتضيه الحال.
وهذه رسالة كتبها الشيخ جمال الدين بن نباتة المصريّ إلى الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ صاحب ديوان الإنشاء بالمملكة الشّامية، وقد بلغه أن بعض أهل الديوان نال منه، وأن الشيخ شهاب الدّين المذكور ناضل عنه ودافع، فكتب إليه يشكره على ذلك ويسأل كتّاب الدّيوان عن أسئلة بعضها يرجع إلى صنعة الإنشاء، وأكثرها يرجع إلى فنّ التّاريخ. وقد بيّنت بعضها ونبهت عليه في مواضعه في خلال هذا الكتاب، وهي:
لا يخرج الكره منّي غير نائبة «1»
…
ولا ألين لمن لا يبتغي ليني!
الاستفتاح ب «لا» تيمّن ببركة الشّهادة، وهي ههنا مقراض يقطع من العيب المدّة ويحسم المادّة؛ فحسم الله عن سيدنا الإمام العلّامة القدوة، شهاب الدّين، مكمّل الآداب، وملك الشّعراء والكتّاب، شرّ كلّ عين حاسد ولو أنها عين الشّمس، وحماه عن مدّ ألسنة ذوي الاغتياب والارتياب من الهمج والهمس، وهيّأ له أسباب الخير حتى يكون يومه فيه مقصّرا عن الغد زائدا على الأمس، واستخدم له الأقدار حتّى تكون فرائض تقبيل أنامله العشر عندهم كفرائض الخمس، وجعل ما يردّ عنه العين من العيب- بعد شأنه عن المتناول- وقاية عن اللّمس، حتّى يكون المعنيّ بقول القائل:
ولا عيب فيه غير أنّ علاءه «1»
…
إذا حدّدوه كان قد جاوز الحدّا
ولا عيب أيضا في مآثر بيته
…
سوى أنّها تروى بألسنة الأعدا!
وحتّى يؤمّن عليه القائل:
ما كان أحوج ذا الكمال إلى
…
عيب يوقّيه من العين!
ويقبل من الآخر قوله:
شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ
…
من شرّ أعينهم بعيب واحد!
العبد يخدم بسلام ما روضة نقّطها الجوّ بدرّ سحائبه، وأفرغ عليها الأفق سفط كواكبه، وامتدّ نوء الذّراع لتدبيج سمائها، وتأريج أرجائها، وتخميش معاصم أنهارها المنشقّة بأفنائها، وصقال نسماتها السّحرية، ومغازلة عيونها السّحريّة، وهوان الغالية «2» بنفحاتها الشّجريّة، تصرف دنانير أزهارها الصّروف، ويسلّ جدولها على الهموم السّيوف، وتجذب حمائمها القلوب بالأطواق، ويتشفّع دوحها إلى النواظر بالأوراق؛ قد ترقرق في وجناتها ماء الشّباب، وغنّى مطرب حمامها وعنتره «3» في حك من الذّباب، وبحرها رونق السّيف وفي قلب روضته الذّباب.
فما كلّ أرض مثل أرض هي الحمى
…
وما كلّ نبت مثل نبت هو البان!
يوما بأبهج منه أشواقا، وأطيب منه انتشاقا واتّساقا؛ والطّيّبون للطيبات، ولكلّ غيث نبات، وما لذلك الغيث إلا هذا النّبات.
ونعود فنقول: لا أدري أأتعجّب:
على أنّها الأيّام قد صرن كلّها
…
عجائب حتّى ليس فيها عجائب!!
من قوم هم ما هم: شرب مناسب، وطيب مكاسب، قد أمكنتهم المعالي، وطاوعتهم الأيام واللّيالي، وخدمتهم جواري السّعود، وتطامنت لكلّ منهم مراقي الصّعود؛ كابر بسكون الجأش منحدر «1» (؟) وكنت قد استجديت كلّا منهم ولكن بالكلام، واستسقيت ولكن قطرة من غمام الأقلام:
وأيسر ما يعطي الصّديق صديقه
…
من الهيّن الموجود أن يتكلّما!
«وليسعد النّطق إن لم يسعد الحال» فضنّ وظنّ ما ظنّ، واستعطف بنسيم الكلام غصن يراعه فما عطف ولا حنّ؛ وبخل بما رزقه الله فإنّ الفضيلة من الرّزق، وحرمني لذّة ألفاظه فإنها التي إذا أدخلت في رقّ دخل حرّ البلاغة تحت ذلك الرّق؛ وهل هو البحر فكيف شحّ بمدّة من مدّه، والغيث ولا أقول: إن الذي حبسه إلا ما قسمه الله تعالى من الحظّ عند عبده:
وإذا الزّمان جفاك وهو أبو الورى
…
طرّا فلا تعتب على أولاده!
فأعلى الله كلمة سيدنا العلّامة في الدّارين، وشكر غنيّ جود كرمه وكلمه الدّارّين؛ [فهو] صاحب ديوانهم، وحجّة زمانهم؛ فلقد وصفني بما يزيد على الجواب، وشافهني من الشّكر بما لا يتوارى من الرّزق بحجاب، وأمّنني العزّ والزمان حرب، ونصرني والأيام سيوف تتنوّع من الضّرب في كلّ ضرب، وأعطاني كرمه والمحلّ محل، وفي قلب الزّمان ذحل «2» ، ونحلني شهدة إحسانه والأوقات كإبر النّحل، حتى عذرني في حبّه من كان من اللائمين، واهتديت من لفظه وفضله بقمرين لا يميل أحدهما ولا يمين، وصلت من جاهه وماله بيدين إلا أن كلتيهما في الإعراض يمين:
ويلومني في حبّ علوة نسوة
…
جعل الإله خدودهن نعالها!
وحرس الله سيّدنا شهاب زمانهم، كما حرس به سماء ديوانهم؛ فلقد أسمعنى من الشّكر ما أربى على الأرب، وجعلني كحاجب «1» حين دخل على كسرى وهو واحد من العرب خرج وهو سيّد العرب، وهدتني أنواره وأنا أخبط من ليل القريحة في عشواء، وجادت عليّ أنواؤه وناهيك بتلك الأنوار من الأنواء، ورفعتني ألفاظه ولكن على السّماك برغم حسودي العوّاء؛ وهذه قصائده فيّ تتدارسها ألسنة الأقلام، وتكتب بأنقاس اللّيالي على صفحات الأيّام؛ من كلّ بيت هو بيت مال لا ينقصه الإنفاق، ولولا التّقى لقلت: إنّه البيت الذي أمر الله تعالى بحجّه الرّفاق من الآفاق؛ فمتى أتفرّغ لطلب مدحه، وقد شغلني بمنحه؟ ومتى أجاريه بامتداح وإنما مدحي له من فوائد مدحه:
وما هو إلّا من نداه وإنّما
…
معاليه تمليني الذي أنا كاتبه!
أم أتعجّب ممن ثنيت عنان الثّناء إليه، وجلوت عرائس المدائح عليه، وعاديت في تنضيد أو صافه الكرى، وأنضيت بالقلم له في نهار الطّرس وليل النّقس من السّير والسّرى، ومدحته بملء فيّ واجتهدت في وصفه وكان سواء علىّ أن أجهدت، في وصفه أو اجتهدت، فجازاني مجازاة السّنمّار «2» ، وأوقعني من عنت عتبه في النّار، وجعل محاسني التي أدلي بها ذنوبا فكيف يكون الاعتذار؟:
وكان كذئب السّوء إذ قال مرّة
…
لعمروسة «3» والذّئب غرثان مرمل:
أأنت التي من غير سوء شتمتنى؟
…
فقالت: متى ذا؟ قال: ذا عام أوّل
فقالت: ولدت الآن بل رمت غدرة
…
فدونك كلني لا هنالك مأكل!
وحلّ هذا المترجم، وتحقيق هذا الظّنّ المرجّم، أنه بلغني أن جماعة من الذين استفتيتهم استنباطا لفوائدهم، والتقاطا لفرائدهم، لا تكليفا لهم فيما لا يقوم به إلّا الأقوى من الأقوام، ولا يستنجد به في هذا الوقت إلا بأرباب صفحات السّيوف لا أرباب قصبات الأقلام، أرادوا الغضّ منّي، ونفي الإحسان عنّي؛ وهيهات!
أنا أبو النّجم وشعري شعري
هأنا وبضاعتي، وهذه يدي لا أنّي ألقيت بها إلى السّلم ولكن لأعرض صناعتي:
هو الحمى ومغانيه مغانيه
وإنهم اجتمعوا بالميدان على حديثي، وذكروا قديمي وحديثي، وتسابقوا في الغيبة أفراس رهان، وأعجب كلّا منهم أن يقول: هذه الشّقراء في يدي وهذا الميدان؛ ولاموا وعذلوا، وهمّوا بالسّبّ وفعلوا، واستطابوا لحم أخيهم فسلقوه بألسنة حداد وأكلوا، حتى تعدّى ذلك إلى من جاد عليّ بالجواب، وفعله إمّا جزاء للمدح وإمّا للثّواب:
فقلت لها عيثي جعار «1» وجرّري
…
بلحم امريء لم يشهد اليوم ناصره!
وما كان المليح أن يغري بي من سبق مدحه إليّ، ومن انتصر بعزّه لنفسه فما انتصر لديّ «وهذا لعمري جهد من لاله جهد» وما تخلو هذه الأفعال: إمّا
أن تكون مجازاة على مدحهم، فأين الكرام وفضلهم، والمنصفون وعدلهم؟، أو ظنّا أنّي عرّضت بهم فيمن عرّضت، فأين ذكاء الألبّاء وأين عقلهم؟ وهل تظنّ السّماء أن يدا تصل إليها، والنّجوم أن خلقا تحكم عليها؟
والذّهب محروس لا يصدا جرمه، والجوهر معروف لا يجهل حكمه؛ ومن الذي تحدّثه نفسه أن يجحد الشّمس فضلها الطّائل، أو يحسّن له عقله أن يقول: سحبان وائل كباقل «1» ؟؛ [فقلت]«2» أدركني ذلك اليوم ولمّا أمزّق، وأنجدني بكلّ لفظة هي أمضى من السّهم وأرشق، وأضوء من النّجم وأشرق؛ وما أعرف كيف صبري على هذا الحرب في صورة السّلم؟ وما أظنّه أراد إلا أن يعلّم قلبي الذي في يده الحكم، كما علمه للقلم؛ وحيث قضى الحديث ما قضى، ومضى الوقت وما كان إلا سيفا في عرض العبد مضى:
فكرّت تبتغيه فصادفته
…
على دمه ومصرعه السّباعا
فأنا أنشد الله تعالى هؤلاء السادة الغائبين، أو القوم العاتبين، هل يعرفون أنّ الذي عرّضت به منهم قوم قد استولى عليهم العيّ بجريضه «3» ، ونزل فيهم الجهاد بقضّه وقضيضه، وأصبح بابهم لهم كبستان بلا ثمار، وديوانهم على رأي أبي العلاء كديوان أبي مهيار؛ لا يحسن أحدهم في الكتابة غير العمامة المدرّجة، والعذبة المعوّجة، والعباءة الضّيّقة والأثواب المفرّجة، ويتناول السلم باليمين وكتابه إن شاء الله تعالى بالشمال، ومشى هذا على هذا ولكن على الضّلال؛ لو سئل أحدهم عن «البديع» في الكتابة لم يعرف من السؤال غير التّرديد، وعن «عبد الحميد» لزاد في الفكر ونقص:
وعبد الحميد عبد الحميد، و «الصّاحب» لقال: إنه تبرقع بمجلسي، و
«الخوارزميّ» لقال: سرج فرسي، و «الفاضل» لقال: ها هو ذا ذيل ملبسي. فإن كان الأمر كذلك ففيم الملام والتفنيد:
علّقوا اللّحم للبزاة
…
على ذروتي حضن»
ثمّ لاموا البزاة أن
…
قطّعت نحوها الرّسن
لو أرادوا صيانتي
…
حجبوا وجهك الحسن!
والوجه الحسن ههنا وجه المنصب وحجابه عن شين تلك الآثار، وتخميش تلك الألفاظ.
وإن كان غير ذلك فما مثلي مع من ذكرني إلا قول القائل:
سافر بطرفك حيث شئت فلن ترى إلّا بخيلا! فقيل له: بخّلت الناس، فقال: كذّبوني بواحد. وهأنا فلتكذّبوني بواحد ممّن عرّضت، وصحيح ممّن أمرضت، وليبرز إلى مضجعه، وليكن على يقين من مصرعه؛ ولا يترك شيئا من أدواته، ولا يأتي إلّا ومعه نادبته من حمائم همزاته.
وأنا أقترح عليه من مسائل الكتابة بعض ما اقترحه الفضلاء، ونبّه عليه العلماء؛ وإلّا فما أنا أبو عذرته، ومالك إمرته، ولا يلوم إلّا القائل:
من تحلّى بغير ما هو فيه
…
فضحته شواهد الإمتحان!
فإنه الذي نبهّني عليه وإن لم أكن ساهيا، وذكّرني الطّعن وما كنت ناسيا، حتى رميته من هذه المسائل، في مجاهل، لا يهتدى فيها بغير الذّهن الواقد، واقتحمت به في بحار لا يعصم منها جبل الفكر الجامد؛ على أنّها فيما أغفلت كالثّمد من البحار، واللّمحة من النّهار، ولولا الاختصار، لأتيت منها بالجمع الجمّ فلنحمد الله والاختصار، فأقول:
من كتب في الورق واستنبطه؟ ومن ختم الكتاب بالطّين وربطه؟
ومن غيّر طين الكتاب بالنّشا وضبطه؟ ومن قال: أمّا بعد في كتابه؟ ومن جعلها في الخطب وأسقطها في ابتدائه في المكاتبة وجوابه؟، ومن كره الاستشهاد في مكاتبات الملوك بالأشعار؟، وكيف تركها على ما فيها من الاثار، ومن الّذي أراد أن يكتب نثرا فجاء شعرا؟، ومن وضع هذه الطّرّة في التقاليد واخترعها؟، وما حجّته إذ قدّمها على اسم الله ورفعها؟، ومن الّذي باعد بين السّطور ووسّعها؟، وكيف ترك بالتعاظم في كتبه سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله ولم يسعه من التّواضع ما وسعها؟، ومن استغنى بكتابة آية من كتاب الله عن الجواب؟، ومن اكتفى ببيت من الشّعر عما يحتاج من تطويله الكتاب؟، ومن الّذي عانى المترجمات ورتّبها؟ وأخفى ملطّفات الجواسيس وغيّبها؟، ومن الّذي سنّ البرد وبعثها في الملماّت؟، وما أوجز مكاتبة كتب بها عن خليفة في معنى؟، وما أبلغ جواب وأوجزه أجاب به عن خليفة من لا سمّى لا كنّى؟، ولم أرّخ بهجرة النّبي صلّى الله عليه وآله؟ وكيف لم يؤرّخ بمولده أو غير ذلك من الأيام؟، ومن الذي أمره الخليفة بكتابة معنى فارتجّ عليه الكلام ولقّنه في المنام؟، ومن الذي وصف برسالة طويلة شيئا لم يصفه بنثار ولا نظام؟، وكيف جاز للكاتب أن يكتب آية من الكتاب في لفظة يحسبها من لا يحفظ أنّها من عنده لا من حفظه؟، مثل قوله مع الرسول: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
«1» ، وقول الآخر في كتابه: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ
«2» ، وكثير من هذا؟ وهل يؤخذ عليه في مثل ذلك ما أخذ على الحجّاج في أسماء «3» المستغيثين به من أهل السّجن:
اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ
«4» ؟، وما الفرق بينهما؟
وعلام يطوّل الكاتب باء البسمله؟، ولا يثبت إلا قليلا واو الحسبله؟، ولا يحمدل ولا يبسمل على ما ألف، وكيف يعلّم في بعض السّجعات على الأسماء المقصورة بالياء والأصل فيها الألف؟؛ وأسأله كيف يصف القراطيس والأقلام ويستدعيها؟، والسّكّين والدّواة ويستهديها، وكيف يكتب ملك طلب منه عدوّ قطيعة عن جيشه يعطيها؟، وكيف يكتب عن خليفة استسقى ولم يمطر؟، وخليفة صارع فصرع كالمعتصم وكيف يعذر؟، وما الذي يكتب في نار وقعت في حرم النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ وما الّذي يكتب عن المهزوم إلى من هزمه في معنى ركونه إلى الإحجام؟، وكيف يهنّي خليفة خلع فرجع، وغرّب عن السّجن وطلع؟، وأسره العدوّ ثم تخلص واستقام بعد ما نهضه الدّهر بمرض، أو تمرّض فانتهض؟، وكيف يهنّي من زوّج بعد موت أبيه أمّه، ويعزّي والدا قتل ولده وولدا قتل والده ويصوّب حكمه؟، ويكتب عمن حاصر حصنا وتركه بعد تسهيل المسالك، وكيف يكتب في نيل لم يوف لا أحوج الله لذلك؟، ويعزّي كافرا عن بعض الأعزّاء الألزام، وينشيء عهد يهوديّ بوزارة أمير المؤمنين عليه السلام؟، ويكتب تقليدا لثلاثة أو أربعة من الحكّام، ويستنجد بأموال أو مساكين (؟) من عدوّ كافر على كافر؟ ويبشّر عدوّا بأخذ بلاده منه، ويعتذر عن ملك أخذت شوانيه وحجزت عنه؟، ويهنّي خصيّا بزواجه، ويعتذر عمن فرّ وترك ولده تحكم الظّبا في أوداجه؟، ويكتب لملك بنى مباني فاحترقت أو وقعت، أو أجرى خيول رهان فسبقت خيله وانقطعت؟، أو خرج لصيد فلم يجد ما يصاد، أو لبرزة بندق احتفل فيها ولم يصرع شيئا من الواجب المعتاد؟، أو ركب أوّل يوم من تملّكه فتقطّر «1» به الجواد، أو وضعت له أنثى فضّلها بكلام على ما يرجوه من ذكور الأولاد.
ومن ههنا أكفّ القلم عن شوطه، وأرفع عنه ما وضعه اللسان من سوطه، خوفا من الملال والصّخب، وكفى بالغرفة عن معرفة النهر.
فإذا نشط هذا الكاتب من هذا العقال، وتصرّف في فنون هذا المقال، وخرج من هذه الأسئلة خروج السّيف من الصّقال، امتدّت كفّ الثّريّا في هذا النّسيان بمسح جبهته، وجاء بجواب هذا النكث كما يقال: برمّته، وأماط لثامها، وشمّر عن أزهارها أكمامها- انقطعت الأطماع دون غايته، وبسطت أيدي رسائل البلغاء لمبايعة رسالته، بل أتته وحمل قلمه على أقلام فرسان الكلام سوداء رايته، وبان هنالك ظلم العائب وحيفه، فكان كمن سلّ لنحره سيفه، وعذر على توالي التّأنيب مؤنّبه، وكان يومئذ له الويل لا لمن يكذّبه، وامتاز هذا الفاضل بما تحدثه هذه الواقعة من الفخر وتجلبه:
فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله
…
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب!
والمسؤول من إحسان سيّدنا أن يسدّ الخلل كيف ما وجده، ويصلح الخطأ والخطل كما عوّدته منه وكما عوّده؛ فإنّه أمير هذه الصّناعة ونحن الرعايا، وشيخ الفصاحة ونحن الفقراء الذين كم وجدنا في زواياه منها خبايا؛ وما هذه الرسالة إلا يد امتدّت تسأل من الحلم ما يسعها، وهذه السّطور إلا حبائل تتصيّد من عوائده ما ينفعها ويرفعها.
فأرخ عليها ستر معروفك الّذي
…
سترت به قدما عليّ عواري!
والله تعالى العالم أنها وردت عن قلب مذهول عن حسن الإيقان، معدّد عليه نوائب الدّهر بأنامل الخفقان، مرميّ بسهام الأعادي في قسيّ الضّلوع، غائص في بحر الهمّ وكلما رمت أن يلقي إليّ درّ الكلام ألقى درّ الدّموع:
أبكي فتجري مهجتي في عبرتي
…
وكأنّ ما أبكيته أبكاني!
لا يدع لي الفكر في قلّة [مصافاة]«1» الإخوان وقتا أستنبط فيه معنى، ولا
يفسح لي التّعجّب من أبناء الزّمان لنقصهم أن أصحّح نقدا ولا وزنا؛ أجنح لسلم الأيّام فكأنّي لحربها جنحت، وأقدح فكرتي في استعطاف الزّمان فكأنّي فيه قد قدحت؛ فلو قضى الله لي بالمنية من المنيّة لأرحت الزّمان واسترحت:
فالأرض تعلم أنّني متصرّف
…
من فوقها وكأنني من تحتها!
ولا فرق فيما بيننا غير أنّنا
…
بمسّ الأذى ندري ومن مات لا يدري
ولا بدّ لي أن أطلّق هذه الصّناعة طلاقا قطعيّا، لا طلاقا رجعيّا، وأجاهرها جهارا حربيّا لا جهارا عينيّا، وأضع صعدة حملها من أدب عن بدني، وأتولى قوس داله مع سهم بائها فما أصبت غير كبدي؛ «كأنّما القوس منها موضع الوتر» ، و «وقلت اذهبي يا صبوتي بسلام» فماذا لقيت من آفاتها، ومنيت به من الخوف في عرفاتها، ومطرت لا من عوارض قطرها ولكن من عوارض مرجفاتها:
وإنّي رأيت الحبّ في القلب والأذى
…
إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب!
ومع هذا الحديث لم أشكّ أنّ أحدا سينتقد على تشبيهي، وطرقه قديمة في استفتاح المكاتبة، واستنجاح المخاطبة، ويقول: تلك أمّة قد خلت، ودولة فاضليّة أدبرت مثل ما أقبلت؛ فكيف تبعها وترك طريقة فضلاء عصره، وأبناء مصره؛ فالجواب ما قاله القاضي السّعيد بن سناء الملك رحمه الله تعالى، فما كان أسعد خاطره!، وأكثر ذهب لفظه وجواهره!!:
إنّي رأيت الشّمس ثم رأيتها
…
ماذا عليّ إذا عشقت الأحسنا؟!
(وذكرت أن الاس عدره ونسيت أن الاس أفعلها)«1» .
انتهت إلى هذا الموضع، والدّيك قد نعى بعيد الظّلام، وبلّغ عن