المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الضرب الأول (رسائل الغزو؛ وهي أعظمها وأجلها) - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٤

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الرابع عشر]

- ‌[تتمة المقالة التاسعة]

- ‌الباب الرابع من المقالة التاسعة (في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل في أصول تتعيّن على الكاتب معرفتها؛ وفيه ثلاثة أطراف

- ‌الطرف الأوّل (في بيان رتبتها ومعناها، وذكر ما يرادفها من الألفاظ)

- ‌الطرف الثاني (في أصل وضعها)

- ‌الطرف الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن)

- ‌النوع الأوّل (ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر)

- ‌النوع الثاني (ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر والإسلام، وعقود الصّلح الجارية بين زعماء المسلمين؛ وهي ضربان)

- ‌الضرب الأوّل (الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتّفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدّم)

- ‌الضرب الثاني (مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة- تحرير أوضاعها، وترتيب قوانينها، وإحكام معاقدها)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يستبدّ ملوك الإسلام فيه بالكتابة عنهم- وتخلّد منه نسخ بالأبواب السلطانية، وتدفع منه نسخ إلى ملوك الكفر)

- ‌النّمط الأوّل (ما يكتب في طرّة الهدنة من أعلى الدّرج)

- ‌النّمط الثاني (ما يكتب في متن الهدنة، وهو على نوعين)

- ‌النوع الأوّل (ما تكون الهدنة فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذا ما هادن عليه»

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح المهادنة قبل لفظ «هذا» ببعديّة)

- ‌النوع الثاني (من الهدن الواقعة بين ملك مسلم وملك كافر- أن تكون الهدنة من الجانبين جميعا)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذه هدنة» ونحو ذلك)

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «استقرّت الهدنة بين فلان وفلان» ويقدّم فيه ذكر الملك المسلم)

- ‌المذهب الثالث (أن تفتتح المهادنة بخطبة مبتدأة ب «الحمد لله» )

- ‌الطرف الثاني (فيما يشارك فيه ملوك الكفر ملوك الإسلام في كتابة نسخ من دواوينهم)

- ‌الباب الخامس من المقالة التاسعة (في عقود الصّلح الواقعة بين ملكين مسلمين؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (في أصول تعتمد في ذلك)

- ‌الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة (فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول؛ ممّا يكتب في الطّرّة والمتن)

- ‌النوع الأوّل (ما يكون العقد فيه من الجانبين)

- ‌النوع الثاني (ممّا يجري عقد الصّلح فيه بين ملكين مسلمين- ما يكون العقد فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح عقد الصّلح بلفظ: «هذا» كما في النوع السابق)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح عقد الصّلح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» وربّما كرّر فيها التحميد إعلاما بعظيم موقع النّعمة)

- ‌الباب السادس من المقالة التاسعة (في الفسوخ الواردة على العقود السابقة؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (الفسخ؛ وهو ما وقع من أحد الجانبين دون الآخر)

- ‌الفصل الثاني المفاسخة؛ وهي ما يكون من الجانبين جميعا

- ‌المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتّاب وتتنافس في عملها، ليس لها تعلّق بكتابة الدّواوين السلطانية ولا غيرها؛ وفيها بابان

- ‌الفصل الأوّل في المقامات

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الرّسائل)

- ‌الصنف الأوّل (منها الرّسائل الملوكيّة؛ وهي على ضربين)

- ‌الضرب الأوّل (رسائل الغزو؛ وهي أعظمها وأجلّها)

- ‌الضرب الثاني (من الرسائل الملوكية رسائل الصّيد)

- ‌الصنف الثاني (من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتّقريض)

- ‌[الخصلة الاولى] أوّلها: العلم بموقع النّعمة من المنعم عليه

- ‌والخصلة الثانية: الحرّيّة الباعثة على حبّ المكافأة

- ‌والخصلة الثالثة: الدّيانة بالشّكر

- ‌والخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللّسان البيّن

- ‌الصنف الثالث (من الرسائل المفاخرات؛ وهي على أنواع)

- ‌الصّنف الرابع

- ‌[الصّنف الخامس]

- ‌الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في قدمات البندق)

- ‌الفصل الرابع من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الصّدقات؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (في الصّدقات الملوكيّة وما في معناها)

- ‌الطرف الثاني (في صدقات الرّؤساء والأعيان وأولادهم)

- ‌الفصل الخامس من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب مما جرت العادة بمراعاة النّثر المسجوع فيه، ومحاولة الفصاحة والبلاغة؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب؛ ثم هو على صنفين)

- ‌الصنف الأوّل (الإجازات بالفتيا والتّدريس والرّواية وعراضات الكتب ونحوها)

- ‌الصنف الثاني (التّقريضات التي تكتب على المصنّفات المصنّفة والقصائد المنظومة)

- ‌الطرف الثاني (فيما يكتب عن القضاة؛ وهو على أربعة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل (التقاليد الحكميّة؛ وهي على مرتبتين)

- ‌المرتبة الأولى (أن تفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» )

- ‌[المرتبة الثانية]

- ‌الصنف الثاني (إسجالات العدالة)

- ‌الصنف الثالث (الكتب إلى النّوّاب وما في معناها)

- ‌الصنف الرابع (ما يكتب في افتتاحات الكتب)

- ‌الفصل السادس (في العمرات التي تكتب للحاجّ)

- ‌الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليّات

- ‌الخاتمة في ذكر أمور تتعلق بديوان الإنشاء غير أمور الكتابة وفيها أربعة أبواب

- ‌الباب الأوّل في الكلام على البريد؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مقدمات يحتاج الكاتب إلى معرفتها؛ ويتعلّق الغرض من ذلك بثلاثة أمور

- ‌الأمر الأوّل (معرفة معنى لفظ البريد لغة واصطلاحا)

- ‌الأمر الثاني (أوّل من وضع البريد وما آل إليه أمره إلى الآن)

- ‌الأمر الثالث (بيان معالم البريد)

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من الخاتمة في ذكر مراكز البريد

- ‌المقصد الأوّل (في مركز قلعة الجبل المحروسة بالديار المصرية التي هي قاعدة الملك، وما يتفرّع عنه من المراكز، وما تنتهي إليه مراكز كلّ جهة)

- ‌المقصد الثاني (في مراكز غزّة وما يتفرّع عنه من البلاد الشامية)

- ‌المقصد الثالث (في ذكر دمشق وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى حمص وحماة وحلب، وإلى الرّحبة، وإلى طرابلس، وإلى جعبر، ومصياف وبيروت وصيدا وبعلبكّ والكرك وأذرعات)

- ‌المقصد الرابع (من مركز حلب وما يتفرّع عنه من المراكز الواصلة إلى البيرة وبهسنى وما يليهما، وقلعة المسلمين المعروفة بقلعة الرّوم، وآياس، مدينة الفتوحات الجاهانية، وجعبر)

- ‌المقصد الخامس (في مركز طرابلس وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى جهاتها)

- ‌المقصد السادس (في معرفة مراحل الحجاز الموصّلة إلى مكّة المشرّفة والمدينة النّبويّة، على ساكنها سيدنا محمد أفضل الصلاة والسّلام والتحية والإكرام، إذ كانت من تتمّة الطّرق الموصّلة إلى بعض أقطار المملكة)

- ‌الطريق إلى المدينة النّبويّة (على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام)

- ‌الباب الثاني من الخاتمة في مطارات الحمام الرّسائليّ، وذكر أبراجها المقرّرة بطرق الديار المصرية والبلاد الشّاميّة، وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مطاراته

- ‌الفصل الثاني من الباب الثاني من الخاتمة في أبراج الحمام المقرّرة لإطارتها بالديار المصرية والبلاد الشّاميّة

- ‌الأبراج الاخذة من قلعة الجبل المحروسة إلى جهات الديار المصرية

- ‌الأبراج الآخذة من قلعة الجبل إلى غزّة

- ‌الأبراج الآخذة من غزّة وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الآخذة من دمشق وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الاخذة من حلب وما يتفرّع عنها

- ‌الباب الثالث من الخاتمة في ذكر هجن الثّلج والمراكب المعدّة لحمل الثّلج الذي يحمل من الشام إلى الأبواب السلطانية بالديار المصريّة؛ وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل (في نقل الثّلج)

- ‌الفصل الثاني من الباب الثالث من الخاتمة في المراكب المعدّة لنقل الثّلج من الشام

- ‌الفصل الثالث من الباب الثالث من الخاتمة في الهجن المعدّة لنقل ذلك

- ‌الباب الرابع من الخاتمة في المناور والمحرقات؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المناور

- ‌الفصل الثاني من الباب الرابع من الخاتمة: في المحرقات

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في الحواشي

- ‌[فهرس]

الفصل: ‌الضرب الأول (رسائل الغزو؛ وهي أعظمها وأجلها)

‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الرّسائل)

وهي جمع رسالة، والمراد فيها أمور يرتّبها الكاتب: من حكاية حال من عدوّ أو صيد، أو مدح وتقريض، أو مفاخرة بين شيئين، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وسمّيت رسائل من حيث إنّ الأديب المنشيء لها ربّما كتب بها إلى غيره مخبرا فيها بصورة الحال، مفتتحة بما تفتتح به المكاتبات، ثم توسّع فيها فافتتحت بالخطب وغيرها.

ثم الرّسائل على أصناف:

‌الصنف الأوّل (منها الرّسائل الملوكيّة؛ وهي على ضربين)

‌الضرب الأوّل (رسائل الغزو؛ وهي أعظمها وأجلّها)

وهذه نسخة رسالة أنشأها القاضي محيي الدّين بن عبد الظّاهر، رحمه الله بفتح [الملك الظّاهر]«1» لقيساريّة من بلاد الروم، واقتلاعها من أيدي

ص: 157

التّتار، واستيلائه على ملكها، وجلوسه على تخت بني سلجوق، ثم العود منها إلى مملكة الدّيار المصرية؛ كتب بها إلى الصّاحب بهاء الدّين بن حنّا، وزير السلطان الملك الظاهر، ومعرفة ما كان في تلك الغزوة، وما اشتملت عليه حال تلك السّفرة؛ وهي:

يقبّل الأرض بساحات الأبواب الشريفة السّيّديّة، الصّاحبية البهائيّة- لا زالت ركائب السّير تحثّ إلى أرجائها السّير، وصروف الزّمن تسالم خدّامها وتحلّ الغير بالغير، ولا برحت موطن البرّ ومعدن الجود وبحر الكرم وعكاظ الخير- وينهي بعد رفع أدعيته التي لا تزال من الإجابة محوطة، ولا تبرح يداه بها مبسوطة، أنّ العبيد من شأنهم إتحاف مواليهم بما يشاهدونه في سفراتهم من عجائب، وإطلاعهم على ما يرونه في غزواتهم من غرائب؛ ليقضوا بذلك حقوق الاسترقاق، وتكون نعم ساداتهم قد أحسنت لأفواههم الاستنطاق، ويتعرّضوا لما عساه يعنّ من مراحمهم التي ما عندهم غيرها ينفد وما عندها باق.

ولمّا كان المملوك قد انتظم في سلك الخدم والعبيد، وأصبح كم له قصيد في مدح هذا البيت الشّريف كلّ بيت منها بقصيد بيت القصيد، وأنّ في مآثره الرّسائل التي قد شاعت، وضاعت نفحاتها في الوجود وكم رسالة غيرها في غيره ضاعت- رأى أن يتحف الخواطر الشّريفة من هذه الغزوة بلمح يختار منها من يؤلّف، ويسند إليها من يؤرّخ أو يصنّف؛ وإنّما قصد أن يتحف بها أبواب مولانا مع بسط القول واتّساع كلماته، لأن الله قد شرّف المملوك بعبوديّة مولانا: واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ

«1» . فإن كان المملوك قد طوّل في المطارحة، فمولانا يتطوّل في المسامحة؛ وإن قال أحد: هذا هذى، فما زال شرح الوقائع مطوّلا كذا؛ وتالله ما ورّخ مثلها في التواريخ

ص: 158

الأوّل، ولعمري إنّ خيرا من سيرة ذلك البطّال سيرة هذا البطل، والأمر أعلى في قراءتها واستماعها، والتّمهّل في حجلها حتّى تسفر حسن نقابها وترفع مسدول قناعها،....... «1» .....

قد أحاطت العلوم الشريفة بالعزمات الشّريفة السّلطانية، وأنها استصحبت ذلك، حتى تصفّحت المهالك؛ وسرنا لا يستقرّ بنا في شيء منها قرار، ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار، ولا نمرّ على مدينة إلا مرور الرّياح على الخمائل في الأصائل والأبكار، ولا نقيم إلا بمقدار ما يتزيّد الزّائر من الأهبة، أو يتزوّد الطائر من النّغبة؛ نسبق وفد الرّيح من حيث ننتحي، وتكاد مواطيء خيلنا بما تسحبه أذيال الصّوافن تمتحي، تحمل همنا الخيل العتاق، ويكبو البرق خلفنا إذا حاول بنا اللّحاق، وكلّ يقول لسلطاننا نصره الله:

أين أزمعت أيّهذا الهمام؟

نحن نبت الرّبا وأنت الغمام!

ومرّ لا يفعل السّيف أفعاله، ولا يسير في مهمه إلا عمّه ولا جبل إلا طاله: تسايره السّواري والغوادي، ولا ينفكّ الغيث من انسكاب في كلّ ناد ووادي:

فباشر وجها طالما باشر القنا

وبلّ ثيابا طالما بلّها الدّمّ!

وكان مولانا السّلطان من حلب قد أمر جميع عساكره بادّراع لامات حربهم، وحمل آلات طعنهم وضربهم:

فجاز له حتّى على الشّمس حكمه

وبان له حتّى على البدر ميسم

يمدّ يديه في المفاضة ضيغم

وعينيه من تحت التّريكة أرقم!

ورحلوا من حلب في يوم الخميس ثاني ذي القعدة جرائد على الأمر

ص: 159

المعهود، قد خففوا كلّ شيء حتّى البنود والعمود، فسرنا في جبال نشتهي به سلوك الأرض، وأودية تهلك الأشواط فيها إذا ملئت الفروج من الرّكض.

نزور ديارا ما نحبّ مغناها، ولا نعرف أقصاها من أدناها، واستقبلنا الدّرب فكان كما قال المتنبّي:

رمى الدّرب بالخيل العتاق «1» إلى العدا

وما علموا أنّ السّهام خيول

شوائل تشوال العقارب بالقنا

لها مرح من تحته وصهيل

فلمّا تجلّى من دلوك وصنجة

علت كلّ طود راية ورعيل

على طرق فيها على الطّرق رفعة

وفي ذكرها عند الأنيس خمول!

ومررنا على مدينة دلوك، وهي رسوم سكّانها، ضاحكة عن تبسّم أزهارها وقهقهة غدرانها، ذات بروج مشيّدة، وأركان موطّدة، ونيران تزاويق موقدة، في عمد من كنائسها ممدّدة؛ وسرنا منها إلى مرج الدّيباج نتعادى، وذلك في ليلة ذات أندية وإن لم تكن من جمادى؛ ظلماتها مدلهمّة، وطرقاتها قد أصبح أمرها علينا غمّة؛ لا يثبت تربها تحت قدم المارّ، وكأنّما سالكها يمشي على شفا جرف هار؛ فبتنا هنالك ليلة نستحقر بالنّسبة إلى شدّتها ليلة الملسوع، وتتمنّى العين بها هجعة «2» هجوع؛ وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفي الرّفيق عن رفيقه، وتشغله عن اقتفاء طريقه، ينبري منها كلّ غصن يرسله المتقدّم إلى وجه رفيقه، كما يخرج السّهم بقوّة من منجنيقه؛ حولها معاثر أحجار كأنّها قبور بعثرت، أو جبال تفطّرت، بينها مخائض، لا بل مغائض، كأنّها بحار فجّرت؛ ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول وتعمّمت بالثّلوج، وعمّيت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ

«3» أو إلى سبيل من خروج؛ تضيق مناهجها بمشي

ص: 160

الواحد، وتلتفّ شجراتها التفاف الأكمام على السّاعد؛ ذات أوعار زلقة، وصدور شرقة، وأودية بالمزدحمين مختنقة؛ بينما يقول منتحيها: قد نلت السّماء بسلّم من هذه الشّواهق، إذا هو متضائل «1» قد هبط في مأزق متضايق؛ لم تزل هذه الجبال تأخذنا وترمينا، وتلك المسارب تضمّنا وتلك المشارب تظمينا:

تسوّد الشّمس منّا بيض أوجهنا

و [لا]«2» تسوّد بيض العذر واللّمم

ونترك الماء لا ينفكّ من سفر

ما سار في الغيم منه سار في الأدم!

حتى وصلنا الحدث الحمراء المسمّاة الآن بكينوك، ومعناها المحرقة، (كان الملك قسطنطين والد صاحب سيس قد أخذها من أصحاب الرّوم وأحرقها، وتملّكها وعمرها، بقصد الضّرر لبلاد الإسلام والتّجّار، فلما كان في سنة اثنتين وسبعين «3» وسبعمائة سيّر مولانا السلطان إليها عسكر حلب فافتتحها بالسّيف وقتل من كان بها من الرّجال وسبى الحريم والذّرّيّة، وخربت من ذلك الحين، وما بقي بها من يكاد يبين، فشاهدنا ما بنى سيف الدّولة بن حمدان منها والقنا تقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم، وقيل حقيقة هناك: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وهي التي عناها أبو الطّيّب بقوله:

غصب الدّهر والملوك عليها

فبناها في وجنة الدّهر خالا

فهي تمشي مشي العروس اختيالا

وتثنّى على الزّمان دلالا!) «4»

ص: 161

فبتنا بها [وانثنينا]«1» وخيلنا مبثوثة فوق «الأحيدب» كما نثرت الدّراهم فوق العروس، [وحوافرها على الوكور في أعلى القنن تدوس]«2» ؛ إذا زلقت [تمشي على صلد الصفا]«3» كالأراقم على البطون، وإن تكاسلت جرّ بعضها بعضا بالصّهيل:«والحديث شجون» ؛ وخضنا في أثناء ذلك مخائض سوافح، كأنّها لأجل عوم الخيل بها سمّي كلّ منها لأجل ذلك سابح «4» ؛ كلّما قلنا: هذا بحر قد قطعناه اعترض لنا جبل، وكلّما قلنا:

هذا جبل طلعناه بان لنا واد يستهان دون الهويّ فيه نفاد الأجل؛ لم نزل كذلك حتّى وصلنا كوكصوا «5» وهو النّهر الأزرق، وهو الذي ردّ الملك الكامل منه سنة الدّربندات لما قصد التّوجّه إلى الرّوم، وهذا النّهر بين [جبال هو]«6» مهوى رجامها، ومثوى غمامها، وملوى زمامها، ومأوى قتامها، فللوقت عبرناه ركضا، وأعجلت الخيل فما درت هل خاضت لجّة أم قطعت أرضا؛ [وسارت العساكر متسلّلة في تلك الجبال الشّم]«7» ووقع السّنابك يسمع من تلك الجبال الصّم؛ حتّى وصلوا إلى أقجا دربند «8» فما ثبتت يد فرس لمصافحة صفاها، ولا نعله لمكافحة رحاها، ولا رجله لمطارحة قواها؛ وتمرّنت الخيل على الاقتحام والازدحام في التّطرّق، وتعوّدت ما تعوّدته الأوعال من التّسرّب والتّسلّق، فصارت تنحطّ انحطاط الهيدب، وترتفع

ص: 162

ارتفاع الكوكب، وتسري سريان الخيال، وتمكّن حوافرها الجياد فتزول منها الجبال؛ حتّى حصل الخروج من منتهى أقجا دربند، وهو خناق ذلك المأزق الذي كم أمسك على طارق، وفم ذلك الدّرب الذي كم عضّت أنيابه على مساوق ومسابق، وذلك في يوم الأربعاء ثامن ذي القعدة، وبات السلطان والناس في وطأة هناك، وسمحت السّحب بما شاءت من برد وبرد، وجاءت الرّياح بما آلمت الجلد واستنفدت الجلد؛ وانتشرت العساكر في وطأة هناك حتّى ملأت المفاوز، وملكت الطّرق على المارّ وأخذتها على الجائز، وقدّم مولانا السلطان الأمير شمس الدّين سنقرا الأشقر في الجاليش «1» في جماعة من العساكر، فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التّتار مقدّمهم كراي، فانهزموا من بين يديه، وأخذ منهم من قدّم للسّيف السلطانيّ فأكل نهمته وأسأر «2» ، واستمرّت تلك سنّة فيمن يؤخذ من التّتار ويؤسر؛ وذلك في يوم الخميس تاسع ذي القعدة.

وبات التّتار على أجمل ترتيب لأنفسهم وأجمل منظر، وبات المسلمون على أتمّ تيقّظ وأعظم حذر «3» ، ولم يتحقّقوا قدوم مولانا السلطان في جيوش الإسلام، ولا أنّه حضر بنفسه النّفيسة ليقوم في نصرة دين الله «4» هذا المقام. فلمّا كان يوم الجمعة عاشر ذي القعدة تتابع الخبر بعد الخبر بأن القوم قد قربوا، وأنهم ثابوا وثبوا:

وقد تمنّوا غداة الدّرب «5» في لجب

أن يبصروه فلمّا أبصروه عموا!

(وشرع مولانا السلطان فوصّى جنوده بالتّثبّت عند المصدمة،

ص: 163

والاجتماع عند المصادمة) «1» ورتّب جيش الإسلام اللّجب، على ما يجب، وأراهم من نور رأيه ما لا على بصر ولا بصيرة يحتجب، فطلعت العساكر مشرفة على صخرات «2» هوني من بلد أبلستين، وكان العدوّ ليلته تلك بائتا على نهر زمان، وهو أصل نهر جهان «3» ، وهو نهر جيحان المذكور في الحديث النّبويّ، وإنّما الأرمن لا تنطق بالهاء «4» .

فلما أقبل الناس «5» من علو الجبل شاهدوا المغل قد ترتّبوا أحد عشر طلبا كلّ طلب يزيد على ألف فارس حقيقة، وعزلوا عسكر الرّوم عنهم خيفة منهم، وجعلوا عسكر الكرج «6» طلبا واحدا بمفرده، ولمّا شاهدوا سناجق مولانا السلطان المنصورة ومن حولها من المماليك الظاهرية، وعليهم الخود الصّفر المقترحة «7» ، وكأنّها في شعاع الشّمس نيران مقتدحة، رجعوا إلى ما كانوا عقدوا من العزائم فحلّوا، وسقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد ضلّوا، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ*

«8» وعلى الموت يتراسلون؛ فانصبّت الخيل إليهم من أعلى الجبل انصباب السّيل، وبطلت الحيلة منهم ونفي الحيل؛ فشمّروا عن السّواعد، ووقفوا وقفة رجل واحد؛ وهؤلاء المغل كان طاغية التّتار آبغا- أهلكه الله- قد اختارهم من كلّ ألف مائة، ومن كل مائة عشرة، ومن كلّ عشرة واحدا لأجل هذا اليوم، وعرفهم بسيما الشّجاعة وعرضهم لهذا السّوم؛ وكان فيهم من المقدّمين الكبار «تدلون» ؛ ومعنى هذا الاسم النفّاذ يعني أنه ما كان في عسكر قطّ إلا نفّذة، والمقدّم الآخر

ص: 164

(نفوا)«1» وإليه أمر بلاد الروم وعساكر المغل بها، وأرختوا أخو تدلون، وبهادر بخشى، ومن مقدّمي الألوف دنرك، وصهر آبغا، وقرالق وخواصّه:

بيض العوارض طعّانون من لحقوا

من الفوارس شلّالون للنّعم!

قد بلّغوا بفناهم فوق طاقته

وليس يبلغ ما فيهم من الهمم

في الجاهليّة إلّا أنّ أنفسهم

من طيبهنّ به في الأشهر الحرم!

فعندما شاهدوا نجد الملائكة، وتحقّقوا أن نفوسهم هالكة، أخلدت فرقة منهم إلى الأرض فقاتلت، وعاجت المنايا على نفوسهم وعاجلت، وباعت نفوس المسلمين لهم وتاجرت، وكسرت وما كاسرت، وجاء الموت للعدوّ من كلّ مكان، وأصبح ما هناك «2» منهم وقد هان؛ وللوقت خذلوا وجدّلوا، ولبطون السّباع وحواصل الطّيور حصّلوا، وصاروا مع عدم ذكر الله بأفواههم وقلوبهم، يقاتلون قياما وقعودا وعلى جنوبهم، فكم من شجاع ألصق ظهره إلى ظهر صاحبه وحامى، وناضل ورامى، وكم فيهم من شهم، ما سلّم قوسه حتّى لم يبق في كنانته سهم، وذي سنّ طارح به فما طرحه حتّى تثلّم، وذي سيف حادثه بالصّقال فما جلى محادثة حتى تكلّم؛ وأبانوا عن نفوس في الحرب أبيّة، وقلوب كافرة ونخوة عربيّة، واشتدّت فرقة من العدوّ من جهة الميسرة معرّجين على السناجق الشريفة من خلفها، منقلبين بصفوفهم على صفّها:

فلزّهم الطّراد إلى قتال

أحدّ سلاحهم فيه الفرار!

فثاب مولانا إليهم، ووثب عليهم، فضحّى كلّ منهم بكلّ أشمط «3» وأفرى الأجساد فأفرط؛ ولحق مولانا السلطان منهم من قصد التّحصين

ص: 165

بالجبال فأخذهم الأخذة الرّابية، وقتلهم فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ

«1» .

وما الفرار إلى الأجبال «2» من أسد

تمشي النّعام به في معقل الوعل؟

وانهزمت جماعة يسيرة طمع فيها من العوامّ من كان لا يدفع عن نفسه، وأخذتهم المهاوي فما نجا منهم إلا آيس من حياة غده في أمسه.

مضوا متسابقي الأعضاء فيه

لأرؤسهم بأرجلهم عثار «3»

إذا فاتوا الرّماح تناولتهم

بأرماح من العطش القفار!

وقصدت ميمنة عسكرنا جماعة من المغل ذوو بأس شديد، فقاتلهم المسلمون حتّى ضجر الحديد من الحديد؛ (وكان مولانا الصاحب زين الدّين- حرس الله جلاله- لما دعيت نزال أوّل مسابق، وأسرع راشق، وأقرب مطاعن، وأعظم معاون؛ فذكر من شاهده أنه أحسن في معركته، وأجمل في كرّته، وأجاد في طعنته، وزأر زئير اللّيث، وسابق حتّى لم يبق حيث، ووقف دريئة للرّماح من عن يمينه وشماله، وخضّب بما تحدّر من دم عدوّه أكناف سرجه وعنان لجامه، وكانت عليه من الله باقية واقية في تقدّمه وإقدامه، وشاهدناه وقد خرج من وسط المعركة وهو شاكي السّلاح، وقد أخذ نصيبه ونصيب فرسه من سالم الجراح؛ وأراد الله أن لا يخليه من إسالة دم يعظّم الله الأجر بسائله- فجعله- والمنّة لله- من بعض أطراف أنامله.

ولقد ذكر الأمير عزّ الدّين أيدمر الدّوادار الظّاهريّ، قال: لقيتني وقد تكسّر رمحي، وعاد- لولا لطف الله- إلى الخسارة ربحي، فأعطاني المولى الصاحب زين الدّين رمحه فإذا فيه نصول، وبسنّه من قراع الدّارعين فلول؛ ورأيت دبّوس المولى الصاحب زين الدّين وقد تثلّم، وكان الخوف

ص: 166

عليه في ذلك اليوم شديدا ولكنّ الله سلّم؛ ولقد بلغ مولانا السلطان خبره فسأله فما أجابه بغير أن قال: سيف مولانا السلطان هو الذي سفك، وعزمه هو الذي فتك.

ومن يك محفوظا من الله فلتكن

سلامته ممّن يحاذر هكذا

ويخرج من بين الصّفوف مسلّما

ولا منّ يبديه ولا ناله أذى!!) «1»

وأما العدوّ فتقاسمت الأيدي ما يمتطونه من الصّواهل والصّوافن، وما يصولون به من سيوف وقسيّ وكنائن، وما يلبسونه من خود ودروع وجواشن، وما يتموّلونه من جميع أصناف المعادن؛ فغنم ما هنالك، وتسلّم من استشهد من المسلمين رضوان وتسلّم من قتل من الكفّار مالك.

وكان الذين استشهدوا في هذه الوقعة من المقدّمين: شرف الدّين قيران العلائيّ [أحد مقدّمي الحلقة]«2» وعزّ الدّين أخو الأمير جمال الدّين المحمّديّ، ومن المماليك السلطانية: شرف الدّين (فلحق)«3» الجاشنكير الظّاهريّ، وأيبك الشّقيفيّ الذي كان وزير الشّقيف. وكان المجروحون عدّة لطيفة لم يعلم عددها لقلّتها، بل لخفّتها؛ وأورث الله المسلمين منازلهم فنزلوها، ووطاقاتهم وخركاواتهم «4» فتموّلوها، وكان مولانا السلطان وكان أعداؤه كما قيل:

فمسّاهم وبسطهم حرير

وصبّحهم وبسطهم تراب!!

ص: 167

(وأصبح الأعداء لا ترى إلا أشلاؤهم، ولا تبصر إلا أعياؤهم؛ كأنّما جزر أجسادهم جزائر يتخلّلها من الدّماء السّيل، وكأنّما رؤوسهم المجموعة لدى الدّهليز المنصور أكر تلعب بها صوالجة من الأيدي والأرجل من الخيل)«1» :

ألقت إلينا دماء المغل طاعتها

فلو دعونا بلا حرب أجاب دم «2» !

فكم شاهد مولانا السلطان منهم مهيب الهامة، حسن الوسامة، تتفرّس في جهامة وجهه الفخامة، قد فضّ الرّمح فاه فقرع السّنّ على الحقيقة ندامة:

ووجوها أخافها منك وجه

تركت حسنها له والجمالا!

أو كما قيل:

لا رحم «3» الله أرؤسا لهم

أطرن عن هامهنّ أقحافا!

وأقبل بعض الأحياء من الأسارى على الأموات يتعارفون، ولأخبار شجاعتهم يتواصفون؛ فكم من قائل: هذا فلان وهذا فلان، وهذا كان وهذا كان؛ وهذا كان يحدّث نفسه بأنه يهزم الألوف، وهذا يقرّر في ذهنه أنه لا تقف بين يديه الصّفوف؛ وكثرت الأسارى من المغل فاختار السلطان من كبرائهم البعض، وعمل فيهم بقول الله عز وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ

«4» . فجعلهم للسّيوف طعمة، وأحضرت الأسارى من الرّوم فترقّب مولانا السّلطان فيهم الإلّ والذّمّة:

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم

ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا!

ص: 168

وكان في جملة الأسارى الرّوميّين مهذّب الدين بكلارنكي «1» ، يعني أمير الأمراء ولد البرواناه، ونور الدّين جاجا «2» أكبر الأمراء، وجماعة كثيرة من أمراء الرّوم ومقدّمي عساكره «3» ، فكان البرواناه أحقّ بقول أبي الطّيّب:

نجوت بإحدى مقلتيك جريحة

وخلّفت إحدى مهجتيك تسيل!

أتسلم للخطّيّة ابنك هاربا

ويسكن في الدّنيا إليك خليل؟

لأنه شمّر الذّيل، وامتطى- هربا- أشهب الصّبح وأحمر الشّفق وأصفر الأصيل وأدهم اللّيل؛ وثمّ يخبر من خلفه بما تمّ، وهمّ قلبه رفيقه حين همّ «4» :

فنحن في جذل والرّوم في وجل

والبرّ في شغل والبحر في خجل

ودخل البرواناه مدينة قيصريّة «5» في تاريخ يوم الأحد ثاني عشر الشّهر

ص: 169

المذكور، فأفهم غياث الدّين سلطانها، والصاحب فخر الدّين [وزيرها]«1» ، والأتابك مجد الدّين، والأمير جلال الدّين المستوفي، والأمير بدر الدّين ميكائيل النّائب، والأمير فلان الدين الطّغرائي، وهو ولد عزّ الدّين أخي البرواناه، وهو الذي يكتب طرر المناشير- أنّ المسلمين [أسروا]«2» بعض المغل وبقيتهم منهزمون، ويخشى منهم دخول قيصريّة وإتلاف ما يكون بها في طرائقهم حنقا على الإسلام؛ فأخذهم جرائد، وأخذ زوجته كرجي خاتون بنت غياث الدّين صاحب أرزن الرّوم، فاستصحبت معها أربعمائة جارية لها، وكان لها مالا كان لصاحب الرّوم من البخاتيّ «3» والخيام والآلات، وتوجهوا كلهم إلى حرنه «4» توقات، وهو مكان حصين مسيرة أربعة أيام من قيصريّة، ولما خرجوا من قيصرية حملهم على سرعة الهرب، وأنذرهم عذابا قد اقترب، وهوّل على بقيّة أمراء الرّوم فاتّبعوه إلا قليلا منهم، وأخفى البرواناه أمره وأمر من معه حتّى ولا مخبر يخبر عنهم.

وكان مولانا السلطان قد جرّد الأمير شمس الدّين سنقرا الأشقر في عدد مستظهرا به لإدراك من فات من المغل [والتوجّه لقيسارية، وأمّن أهلها]«5» ، فمرّوا في طريقهم بفرقة [من التتار]«6» معها بيوتهم فأخذ منها جانبا، ودخل عليهم اللّيل فمرّ كلّ في سربه ذاهلا ذاهبا. ورحل مولانا السلطان في بكرة السّبت حادي عشر ذي القعدة من مكان المعركة، فنزل

ص: 170

قريب القرية المعروفة بريّان «1» ، وهذه القرية قريب الكهف والرّقيم حقيقة، لا ما يقال: إنه قريب حسبان من بلاد البلقاء، وقريبا منه صلد من الصّفا عليه كتابة بالرّوميّة أو غيرها من الخطّ القديم، وأما القرية المذكورة المسماة بريّان فإنّ بيوتها بنيت حول سنّ جبل قائم كالهرم إلا أنّه ملموم، وعمّرت البيوت في سفحه حوله بيتا فوق بيت فبدت كأنّها مجرّة النّجوم، وما من بيت منها إلا وبه مقاعد ذوات درابزينات منجورة، ورواشن «2» قد بدت في أكمل صورة، يختمها من أعلاها أحسن بنيان، ويعلوها من رأسها منزل مسنّم الرأس كما يعلو الصّعدة السّنان، وتطوف بهذه القرية جبال كأنّها أسوار بل سوار، وكأنّها في وسطها إناء فيه جذوة نار؛ ويتفرّع منها أنهار، هي في تلك الأودية كأنّها بهبوطها كثيب قد انهار؛ ذوات قناطر لا تسع غير راكب، ومضايق لا يلفى عبرها لناكب؛ قدّر الله أنّ العساكر خلصت منها ولكن بعد مقاساة الجهد، وخرجت وقد رقّ لها قلب كلّ وهد؛ ونزلنا قريبا منها حتّى تخلّص من تخلّص، وحضر من كان في المضايق قد تربّص، وقال: كلّ الأرض حصحص «3» .

ورحلنا من هناك في يوم الأحد ثاني عشر شهر ذي القعدة وكانت السماء قد حيّت الأرض بتيجان أمطارها، وأغرقت الهوامّ في أحجارها، والفتخ «4» في أوكارها؛ وأصبحت الأرض لا تتماسك حتّى ولا لمرور الأراقم، والجبال لا تتماسك أن تكون للعصم عواصم؛ تضع بها من الدّواب كلّ [ذات]«5» حمل، وتزلق في صقيلها أرجل النّمل؛ وسرنا على هذه الحالة نهارنا كلّه إلى

ص: 171

قريب الغروب، وقطعناه بتسلّمنا أيدي الدّروب من أيدي الدّؤوب، ونزلنا عشاء في منتقع أرض تطوف بها جبال شاهقة، ومياه دافقة، تعرف قاعة تلك الأرض بوطأة (قشلا وسار)«1» من أعمال أصاروس العتيق؛ ويقرب من تلك الجهة معدن الفضّة.

وبينما نحن قد شرعنا في أهبة المبيت، ولم نقض الشّمل الشّتيت «2» ؛ وإذا بالصّادح قد صدح، والنّذير قد سنح، رافعا عقيرته بأن فوجا من التّتار في فجوة هنالك قد استتروا، وفي نجوة لغرّة قد انتظروا؛ فركب مولانا السلطان وركب الناس في السّلاح، وعزموا على المطار فعاقهم تتابع الغيث وكيف يطير مبلول الجناح؟؛ ثم لطف الله وعاد مولانا السلطان وهو يقول للناس:

لا بأس؛ فنمنا نومة السّليم «3» ، وصدرت أفكارنا شاغرة في كلّ واد تهيم، وأصبحنا فسلكنا جبالا لا يحيط بها الوصف، وتنبسط عذراء الطّرف فيها حين يكبو فيها الطّرف؛ ننحطّ منها إلى جنادل، يضعف عن الهويّ إليها قويّ الأجادل؛ بينا نقول: قد أحسن الله لها نفادا ومنها نفاذا؛ وإذا بعد الأودية أودية وبعد الجبال جبال نشكر عند ذاك هذه وذاك عند هذا؛ ومررنا على قرية «أوتراك» ، وتحتها قناطر وخان من حجر منحوت، ثم خان آخر للسّبيل على رأس رابية هناك تعرف باشيبدي «4» ، قريبا من حصن سمندو، التي عرّض بها أبو الطّيّب في قوله:

فإن يقدم فقد زرنا سمندو

وإن يحجم فموعده الخليج!

وكان مولانا السلطان قد سيّر إليها خواصّه بكتاب إلى نائبها فقبله

ص: 172

وقبّله، وأذعن لتسليم حصنها المنيع وللنّزول لأمر السلطان عنها إن استنزله؛ فشكر مولانا السلطان له تلك الإجابة، ووفّاه من الشّكر حسابه. وكذلك [والي]«1» قلعة دوندا [ووالي]«2» دوالوا، فكلّهم أجابوا وأطاعوا ولكلمة الإذعان قالوا؛ ونزلنا في وطأة قريب قرية تعرف بحمرها، وكان الناس قد فرغت علوفات خيلهم أو كادت، والخيل قد باتت ليالي بلا عليق فما استفادت، وشاركتها خيول الكسوب (؟) في عليقها، وما ساعدتها في طروقها ولا في طريقها، فضعفت عن حمل نفوسها فما ظنّك براكبيها؛ وكاد الفارط- لولا لطف الله عز وجل أن يفرط فيها؛ فصادفنا في هذه اللّيلة بعض أتبان أمسكت أرماقها، وأحسنت إرفادها وإرفاقها.

وأصبحنا في يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة راحلين في جبال كأنها تلك الأول، وهابطين في أودية يتمنّى سالكها من شدّة مضايقها أن لو عاد إلى ترقّي أعلى جبل؛ وما زلنا كذلك حتّى أشرفنا على خان هناك يعرف بقرطاي يدلّ على شرف همّة بانيه «3» ، وطلب ثواب الله فيه؛ وذلك أنه من أكبر الأبنية سعة وارتفاعا، وأحسنها شكلا وأوضاعا؛ كلّه مبنيّ بالحجر المنحوت المصقول الأحمر الذي كأنّه رخام، ومن ظاهر أسواره وأركانه نقوش لا يتمكن أن يرسم مثلها بالأقلام؛ وله خارج بابه مثل الرّبض ببابين بأسوار حصينة، مبلّط الأرض، فيه حوانيت. وأبواب الخان حديد من أحسن ما يمكن استعماله، وداخله أواوين صيفيّة، وأمكنة شتويّة، وإصطبلات على هذه الصورة لا يحسن الإنسان أن يعبّر عنها بكيف، وما منها إلا ما يجده الإنسان رحلة للشّتاء والصّيف؛ وفيه الحمّام والبيمارستان والأدوية والفرش والأواني والضّيافة لكلّ طارق على قدره، حمل لمولانا السلطان من ضيافته

ص: 173

لمّا مرّ عليه، وكثر الناس فما وصل أحد إليها ولا إليه؛ وعليه أوقاف عظيمة، وضياع كثيرة حوله وفي غيره من البلاد، وله دواوين وكتّاب ومباشرون يتولّون استخراج أمواله والإنفاق فيه؛ ولم يتعرّض التّتار إلى إبطال شيء من رسومه، وأبقوه على عوائد تكريمه؛ وأهل الرّوم يبالغون في تبجيل بانيه- رحمه الله وتعظيمه؛ ونزلنا تلك اللّيلة قريب قرية تقرب من قيصريّة من حقوق وادي صلعومة شرقيّ الجبل المعروف بعسيب، وفيه قبر امريء القيس الشاعر، [وهو الذي يقول فيه] :

أجارتنا «1» إن الخطوب تنوب

وإنّي مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنّا غريبان ها هنا

وكلّ غريب للغريب نسيب!!

وهذا الجبل يعلوه جبل «أرجاس» ، وهو الذي يضرب الرّوم الأمثال بتساميه، وتتضاءل الجبال في جميع الدّنيا لتعاليه؛ لا تسحب ذيول السّحائب إلا دون سفحه، ولا يعرف من ثلوجه شتاء وصيفا ومن مثال الأبخرة المتصعّدة منه عشاؤه من صبحه.

ولما كان يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة، وهو يوم شرف الزّهرة ركبت العساكر المنصورة مترتبة، وملأت الفضاء متسرّبة؛ وركب مولانا السلطان في زمرته، وذوي أمره وإمرته، يختال جواده في أفسح ميدان، ويصيح به فرحا ومرحا كأنّه نشوان درى أنه سلطان:

تظلّ ملوك الأرض خاشعة «2» له

تفارقه هلكى وتلقاه سجّدا!

وخرج أهل قيصرية وأكابرها، وعلماؤها وزهّادها وتجّارها، ورعاياه ونساؤها وصغارها، فأكرم مولانا السلطان ممشاهم، وشكر مسعاهم، وتلقّى قضاتهم وعلماءهم ركبانا، وحادثهم إنسانا فإنسانا؛ وحصلت لجماعة من

ص: 174

الفقراء والناس حالات وجد مطربة، وصدحات ذكر معجبة. وكان دهليز السلطان غياث الدّين صاحب الرّوم وخيامه وشعار سلطنة الرّوم قد بني جميع ذلك في وطأة قريب الجوسق والبستان المعروف بكيخسرو، وترجّل النّاس على اختلاف طبقاتهم في الرّكاب الشّريف من ملك وأمة ومأمور وأمير، وارتفعت الأصوات بالتّهليل والتّكبير:

رجا الرّوم من ترجى النّوافل كلّها

لديه ولا ترجى لديه الطّوائل!

ونزل مولانا السلطان في تلك المضارب المعدّة لكرم الوفادة، وضربت نوبة سلجوق على باب دهليزه على العادة؛ وأذن مولانا السلطان للناس في التقرّب إلى شريف فسطاطه، وشملهم بنظره واحتياطه؛ وحضر أصحاب الملاهي، فما ظفروا بغير النّواهي، وقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا، واذهبوا إلى واد غير هذا الوادي فاقتبسوا؛ فهذه الهناة لا تنفق هنا، وما هذا موضع الغناء بل هذا موضع الغنى؛ وشرع مولانا السلطان في إنفاق اللهى «1» ، وعيّن لكلّ جهة شخصا وقال: أنت لها؛ وحكم وحكّم، وعلم وعلّم؛ واعتمد على الأمير سيف الدّين جاليش في النّيابة، وأعطى كلّا بيمينه كتابه، [وكتب إلى أولاد قرمان، أمراء التركمان، وهم ألوف، وما فيهم للتتار ألوف، وأكّد عليهم في الحضور]«2» ، وأقام الحجّة على من انتزح بالاستعطاف، وتأمين من خاف، فما خرج كبيرهم «3» عن المخاتلة، ولا زعيمهم عن المطاولة؛ فلمّا علم مولانا السلطان أنهم لا يفلحون، ولغير التّتار لا يصلحون، وأنّهم إن أصبحوا على الطاعة لا يمسون وإن أمسوا لا يصبحون، عاد عن تلك الوعود، واختار أن ما بدأ إليه يعود، وأن يبعث نفسه إلى ما بعثه الله إليه من المقام المحمود، فركب يوم الجمعة سابع عشر ذي

ص: 175

القعدة مستقبلا من الله كلّ الخير، ونصب «جتر» «1» بني سلجوق على رأسه فشاهد الناس منه صاحب القبّة والسّبع وصاحب القبّة والطّير؛ ودخل قيصريّة في بكرة هذا اليوم وكانت دار السلطنة قد فرشت لنزوله، وتخت بني سلجوق وقد هيّيء لحلوله؛ وهي دار تزهو، ومنازل من يتعبّد أو منازه من يلهو، أنيقة المبتنى، تحفّ بها بساتين عذبة الجنى؛ جدارنها بأحسن أصناف القاشانيّ مصفّحة، وبأجمل نقوشه مصرّحة؛ فجلس مولانا السلطان في مرتبة الملك في أسعد وقت، ونال التّخت بحلوله أسعد البخت:

وما كان هذا التّخت من حين نصبه

لغير المليك الظّاهر النّدب يصلح

مليك على اسم الله ما فتحت له

صوارمه البيض المواضي وتفتح

أتته وفود الرّوم والكلّ قائل

«رأيناك تعفو عن كثير وتصفح»

فأوسعهم حلما وجاد لهم ندى

وأمسوا على منّ وأمن وأصبحوا

ولو أنّهم لم يجنحوا لمنكّب

عن الحقّ والنهج القويم لأفلحوا

ولكنّهم أعطوا يدا فوقها يد

تصافح كفّا زندها النار يقدح!! «2»

وأقبل الناس على مولانا السلطان يهنّؤّونه، وعلى كفّه الشريف يقبّلونه «3» ؛ وبعد ذلك حضرت القضاة والفقهاء والعلماء والصّوفيّة وذوو المراتب من أصحاب العمائم على عادة بني سلجوق في كلّ جمعة، ووقف أمير المحفل وهو كبير المقدار عندهم، له وسامة وفخامة، وله أكبر كمّ وأوسع عمامة، وأخذ في ترتيب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي مولانا

ص: 176

السلطان منتظرا ما إليه به يشار؛ وشرع القرّاء يقرأون جميعا وفرادى بأحسن تلحين، وأجمل تحسين، فأتت أصواتهم بكلّ عجيب، وعدلوا عن التّرتيل إلى الترتيب. ولما فرغوا شرع أمير المحفل صارخا، وبكور فمه نافخا، فأنشد وأورد بالفارسيّة «1» ما يعجب مدلوله، ويهول مقوله؛ وأطال وما أطاب، واستصوب من يعرف مقاله قوله، والله أعلم بالصواب.

ولما «2» انقضى ذلك مدّ سماط ليس يناسب همم الملوك، فأكل الناس منه للشّرف لا للسّرف، ثم عاد كلّ منهم إلى مقامه فوقف؛ وقام مولانا السلطان إلى مكان الاستراحة فأقام ساعة أو ساعتين، ثم خرج إلى مخيّمه قرير العين؛ وكان بدار الملك حرم السّلجوقية قد أصبحوا لا ترى إلا مسكنتهم ومساكنهم، قد نبت بهم مواطئهم ومواطنهم؛ على أبوابهم أسمال ستور من حرير، ومشايخ خدّام يستحقّ كلّ منهم- لكبر سنّه- أن يدعى بالكبير؛ عليهم ذلّة الانكسار، وأماير الأفتقار؛ فجبرهم مولانا السلطان وآنسهم، وأحسن إليهم؛ وتوجّه من توجّه إلى صلاة الجمعة في قيصريّة وبها سبع جمع تقام، وبها خطباء إن هم إلا كالأنعام؛ فصلّينا في جامع السّلطان وهو جامع عليّ يدلّ على احتفال ملوكها ببيوت عباداتهم، ورأينا فيه من دلائل الخير ما يقضي بحسن إراداتهم؛ فحضر أهل المدينة وأكابرها، وجلسوا حلقا لا صفوفا، وأجروا من البحث بالعجميّة صنوفا، واجتمعت جماعة من حفظة الكتاب العزيز فتخارجوا القراءة آية آية، وهي قراءة بعيدة عن الدّراية؛ بل إنها تبرزها أصوات مترنّمة، وألحان لتفريق الكلمات مقسّمة، ينطقون بالحروف كيف اتّفقت، ولا يتوقّفون على مخارج الحروف أنها بها نطقت أو لا نطقت.

فلما آن وقت الأذان قام صبيّ عليه قباء من وسط جماعة عليهم أقبية قعود على دكّة المؤذّنين، فابتدأ بالتّكبير أوّلا وثانيا بمفرده من غير إعانة ولا

ص: 177

إبانة. ولما تشهّد ساعدوه جميعهم بأصوات محمحمة ملعلعة، ونغمات متنوّعة؛ يمسكون له النّغم بأحسن تلحين، ويترنّمون بالأصوات إلى آخر التّأذين؛ وفرغ الأذان وكلّهم قعود ما منهم أحد غير الصّبيّ وقف، وما منّا أحد لكلمة من الأذان عرف؛ ولما فرغ الأذان طلع شيخ كبير السّنّ يعرف بأمير محفل المنبر، وشرع في دعاء لا نعرفه، وادعاء لا نألفه: كأنّه مخاصم، أو وكيل شرع أحضره لمشادّة خصمه محاكم بين يدي حاكم؛ وطلع الخطيب بعد ذلك فخطب ودعا لمولانا السلطان بغير مشاركة، ودعا الناس بما تلقّته من الأفواه الملائكة؛ وانقضت الجمعة على هذه الصّورة المسطورة؛ وضربت السّكّة باسم مولانا السلطان، وأحضرت الدّراهم إليه في هذا اليوم، فشاهدها فرأى أوجهها باسمة باسمه الميمون، وأقرّت الألسنة بهذه النعمة وقرّت العيون؛ وشاهدت بقيساريّة مدارس وخوانق وربطا تدلّ على اهتمام بانيها، ورغبتهم في العلوم الشّرعية والدّينية، مشيدة بأحسن الحجار الحمر المصقولة المنقوشة، وأراضيها بأجمل تلك مفروشة، وأواوينها وصففها مؤزّرة بالقاشانيّ الأجمل صورة، وجميعها مفروشة بالبسط الكرجيّة والعالية، وفيها المياه الجارية، ولها الشّبابيك على البساتين الحسنة، وسوق قيصريّة طائف بها من حولها، وليس داخل المدينة دكّان ولا سوق.

والوزير في بلاد الرّوم جميعها يعرف بالصّاحب «فخر الدّين خواجا عليّ» ولا يحسن الكتابة ولا الخطّ، وخلعته من مماليكه خاصّة مائتا مملوك، ودخله في كلّ يوم- غير دخل أولاده وغير الإقطاعات التي له ولأولاده وخواصّه- سبعة آلاف درهم سلطانية. ولقد شاهدت في مدرسته من خيامه وخركاواته شيئا لا يكون لأكبر الملوك، وله برّ ومعروف، وهو بالخير موصوف:

والمسمّون بالوزير كثير

والوزير الذي لنا المأمول!

وعليّ هذا وذاك عليّ

وعليّ هذا له التّفضيل!

ص: 178

الذي زلت عنه شرقا وغربا

ونداه مقابلي لا يزول!

ومعي أينما سلكت كأنّي

كلّ وجه له بوجهي كفيل!

وأمّا معين الدّين سليمان البرواناه وزوجته كرجي خاتون، فظهر لهما بن الموجود البادي للعيون كلّ نفيس، وبحمد الله استولى مولانا السلطان مماليكه من موجوده ودار زوجته المذكورة على ملك سليمان وصرح لقيس.

ولما أقام مولانا السلطان بقيصريّة هذه المدّة، فكّر في أمر عساكره مصالحه بما لا يعرفه سواه، ونظر في حالهم بما أراه الله، وذلك لأن لأقوات قلّت، [وقيسارية ألقت ما فيها من المؤن وتخلّت]«1» والسّيوف من لمصارعة ملّت، والسّواعد من المصادمة كلّت، وأنّه ما بقي في الرّوم من الكفّار من يغزى، ولا بجزاء السّوء يجزى؛ ولا بقي في البلاد غير رعايا كالسّوائم الهاملة، ولا دية- للكفر منهم- على عاقل وعاقلة؛ وأنّه إن أقام فالبلاد لا تحمله، وموادّ بلاده لا تصله، وأعشاب الرّوم بالدّوس قد اضمحلّت، وعلوفاتها قد قلّت، وزروعها لا ترتجى لكفاية، ولا ترضى خيول العساكر المنصورة بما ترضى به خيول الرّوم من الرّعي والرّعاية، وأن الحسام الصّقيل الذي قتل التّتار به في يد القاتل، وأنّهم إن كان أعجبهم عامهم فيعودون إلى الرّوم في قابل.

ورحل في يوم الاثنين عشرين «2» من ذي القعدة بعد أن أعطى أمراءه وخواصّه كلّ ما أحضر إليه من الأعنّة والأزمّة، وكلّ ما يطلق على تولّيه اسم النّعمة؛ فنزل بمنزلة تعرف بعترلوا «3» ؛ وفي هذه المنزلة ورد إلى السلطان رسول من جهة غياث الدّين سلطان الرّوم، ومن جهة البرواناه والكبراء الذين

ص: 179

معه، يسمّى ظهير الدّين التّرجمان- وفي الحقيقة هو من عند البرواناه- يستوقف مولانا السلطان عن الحركة وما علموا إلى أين، بل كان الأمر شائعا بين الناس أن الحركة إلى جهة سيواس؛ فعدّد مولانا السلطان عليه حسن وفائه بعهده، وأنه أجاب دعاءهم مرّة بعد مرّة من أقصى ملكه مع بعده، وأنهم ما وقفوا عند الشّروط المقرّرة، ولا وفوا بمضمون الرّسائل المسيّرة، وأنهم لما جاء الحقّ وزهق الباطل طلبوا نظرة إلى ميسرة، وأن أعنّتهم للكفر مسلّمة، وأنّهم منذ استيلاء التّتار [على الروم]«1» هم أصحاب المشأمة؛ وعلم مولانا السلطان أن بلاد الرّوم ما بها عسكر يستخلصه لنفسه، ولا من يقابل المغل في غده خوفا ممّا شاهده كلّ منهم في أمسه، وأنهم أهل التذاذ، لا أهل نفاذ، وأهل طرب، لا أهل حرب [وغلب]«2» ؛ وأهل طيبة عيش، لا قوّاد جيش؛ فردّ السلطان إلى سليمان البرواناه مدّيده «3» ، وقال: قل له: إنّني قد عرفت الروم وطرقاتها، وأخذت أمّه أسيرة وابن بنته وولده، ويكفينا ما جرى من النّصر الوجيز، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

«4» وما كلّ من قضى فريضة الحجّ يجب عليه المجاورة، ولا بعد هذه المناصرة مناصرة، ولا بعد هذه المحاورة محاورة، ونحن فقد ابتغينا فيما آتانا الله:

من حقن دماء أهل الرّوم وعدم نهب أموالهم الدّار الآخرة، وتنزّهنا عن أموال كنتم للتّتار تستحبّونها، ومغارم كثيرة هي لهم من الجنّات مغانم يأخذونها حين يأخذونها؛ وما كان جلوسنا في تخت سلطنتكم لزيادة بتخت آل سلجوق «5» ، [بل]«6» لنعلمكم أنّه لا عائق لنا عن أمر من الأمور يعوق؛

ص: 180

وأنّ أحدا لا ينبغي له أن يأمن لنا سطوة، وليتحقّق كلّ أنّ كلّ مسافة جمعة لنا خطوة، وسروجنا- بحمد الله- أعظم من ذلك التّخت جلالا، وأرفع منالا، وكم في ممالكنا كراسيّ ملك نحن آية ذلك الكرسيّ، وكم لنا فتح كلّه- والحمد لله- في الإنافة الفتح القدسيّ.

من كان فوق محلّ الشّمس موضعه

فليس يرفعه شيء ولا يضع «1» !

واستصحب السلطان معه تحت الرّضا والعفو من أكابر الرّوميين- الأمير سيف الدّين جاليش النّائب بالرّوم، وهو رجل شيخ نبيه له اشتغال بعلم؛ وكان له في الرّوم صورة، وهو أمير دار يعني أمير المظالم. واستصحب ظهير الدّين [متوّج] مشرّف الممالك، ومرتبته دون الوزارة وفيه فضل، ونسخ كثيرا من العلوم بخطّه، مثل الصّحاح في مجلّد واحد، وغير ذلك.

واستصحب الأمير نظام الدّين أوحد بن شرف الدّين بن الخطير، وإخوته وجماعته وجماعة والده، وأولاد عمّه ضياء الدّين بن الخطير المستشهد رحمه الله.

واستصحب من الأمراء: الأمير مظفّر الدّين محاف «2» (؟) والأمير سيف الدّين كجكيا «3» الجاشنكير، والأمير نور الدّين المنجنيقيّ، وأصحاب ملطية أولاد رشيد الدّين أمير عارض، وهم: كمال الدّين وإخوته، وأمير عليّ صاحب كركر.

واستصحب قاضي القضاة بملطية، وهو القاضي حسام الدّين ابن قاضي العسكر، ووالده الذي كان يترسّل عن السلطان علاء الدّين إلى الملوك، وهو رجل عالم فاضل. وأكثر هؤلاء حضروا ببيوتهم ونسائهم وغلمانهم وحفدتهم.

ص: 181

والذين حضروا تحت الغضب- ولد البرواناه المذكور، وولد خواجا يونس، وهو ابن بنت البرواناه، ووالدة البرواناه، والأمير نور الدّين جاجا «1» ، وهو أكبر أمراء الرّوم أصحاب النّعمة والنّعم، والأمير قطب الدّين أحمد أخو الأتابك، والأمير سيف الدّين سنقر حاه الروناسيّ «2» ، والأمير سراج الدّين إسماعيل بن جاجا، والأمير نصرة الدّين صاحب سيواس، والأمير كمال الدّين عارض الجيش، والأمير حسام الدّين ركاوك «3» قريب البرواناه، والأمير سيف الدّين الجاويش «4» ، والأمير سراج الدّين أخو حسام الدّين، والأمير شهاب الدين غازي بن علي شير التّركمانيّ «5» .

ومن المغل: مقدّمي الألوف والمئات- زيرك «6» وسرطلق»

، وحنوكه «8» ، وسركده «9» ، وتماديه «10» .

ثمّ رحل السلطان في اليوم الثاني ونزل بمنزلة قريب خان السلطان علاء الدّين كيقباذ، ويعرف بكرواني صراي، وهذا الخان بنية عظيمة من نسبة خان قرطاي، وله أوقاف عظيمة. ومن جملة ما وجد قريبا منه أذواد كثيرة من الأغنام عبثت فيها العساكر المنصورة، سألت عنها فقيل: إنها وقف على هذا الخان يذبح نتاجها للواردين على هذا الخان، وهذه الأغنام له من جملة

ص: 182

الوقوف، قدّر الله استيفادها جملة لمّا كثرت على هذا الخان من الجيوش المنصورة الضّيوف.

ورحلنا في اليوم الثالث وهو يوم الأربعاء ثاني عشرين من الشّهر، ونزلنا في وطأة عادة التّتار ينزلون بها تسمّى روران «1» كودلوا، وكودلوا اسم جبال تلك الوطأة.

ورحلنا في يوم الخميس ثالث عشرين من ذي القعدة، فعارضنا بها- في وطأة خلف حصن «سمندو» من طريق غير الطريق التي كنّا توجّهنا منها- نهر يعرف بنهر قزل صو، قريب كودلوا الصغير. ومعنى قزل صو النّهر الأحمر؛ وهذا النّهر صعب المخاض، واسع الاعتراض، عالي المهبط، زلق المسقط، مرتفع المرتقى، بعيد المستقى، لا يجد السّالك من أو حال حافتيه إلا صعيدا زلقا؛ فوقف مولانا السلطان بنفسه، وجرّد سيفه بيده، وباشر العمل بنفسه هو وجميع خواصّه، حتّى تهيّأ المكان جميعه، ووقف راجلا يعبّر الناس أوّلا فأوّلا: من كبير وصغير وغلام، وهو في أثناء ذلك يكرّ على من يزدحم، يكرّر التّأديب لمن يطلب بأذيّة رفيقه ويقتحم؛ وما زال من رابعة هذا النهار لى الساعة الثامنة حتّى عبرت الناس سالمين. ولمّا خفّت البرور، ولم يبق لا المرور، ركب فرسه وعبر الماء والألسنة له داعية، وعليه من الله واقية باقية، فنزل في واد هناك به «مرعى ولا كالسّعدان» ، «ومرأى ولا كشعب وّان» «2» .

ثم رحل في يوم الجمعة فنزل عند صحرات قراجار «3» حصار، وهي قرية

ص: 183

كانت عامرة فيما مضى، قريبة من «هدر رجال» «1» قبالة بازار بلّو، وهذا البازار هو الذي كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض، ويباع فيه كلّ شيء يجلب من الأقاليم، ويقرب من كودلوا الكبير.

وسرنا في يوم السّبت سوقا طول النّهار، حتّى نزلنا في وطأة الأبلستين، وفي هذا النهار عبر مولانا السلطان- نصره الله- على مكان المعركة لمشاهدة أمم التّتار، وكيف تعاقبت عليهم من العقبان كواسرها، وكفّ بأسهم من النّسور مناسرها «2» ، وكيف أصبحوا لا يندبهم إلا البوم، وتحقّقوا أن الّتي أهلكتهم زرق الأسنّة لا زرق الرّوم، فرآهم لمن بقي عبرة، وعرضوا على ربّهم صفّا وجاؤوه كما خلقوا أوّل مرّة، وأبصر الرّياح لأشلائهم متخطّفة، والهوامّ في أجسادهم متصرّفة، وشاهدهم وقد هذأهم «3» كلّ شيء حتّى الوحوش والرّياح: فهذه من صديدهم متكرّعة وهذه عليهم متقصّفة.

قد سوّدت شجر الجبال شعورهم

فكأنّ فيه مسفّة الغربان!

ولمّا عاينهم مولانا السلطان وعاينهم الناس، أكثروا شكر الله على هذه النّعم التي أمست لكافّة الكفر كافّة وشالّة ودارزة، وأثنوا على مننه التي سنّت «4» إليهم خيار العساكر المنصورة حتّى أصبحت تلك الأرض بهم بارزة، وحضرت من أهل الأبلستين هنالك جماعة من أهل التّقى والدّين، واستخبرهم مولانا السلطان عن عدّة قتلى المغل فقالوا: فَسْئَلِ

ص: 184

الْعادِّينَ

«1» ، فاستفهم من كبيرهم عن عدّة المغل كم من قتيل، فقال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ

«2» وقال بعضهم ممن عدّهم وممّن عنده علم من الكتاب «3» : أنا عددت ستّة آلاف وسبعمائة وسبعين نفرا وضاع الحساب؛ هذا: غير من آوى إلى جبل يعصمه من ماء السّيوف فما عصمه، وغير من اعتقد أن فرسه تسلّمه «4» فأسلمه:

[فلقد غدوا خلل الرماح كأنما

غضبت رؤوسهم على الأجسام

أحجار ناس فوق أرض من دم

ونجوم بيض في سماء قتام] «5»

فتركهم مولانا السلطان ومضى والفلوات مزرعة لجسومهم، والدّود- لأنّها مؤمنة وهم كفّار- وقد أثّرت كالنواسر في لحومهم، فرسم مولانا السلطان بتقدّم الأثقال والحرّاس والدّهليز «6» المنصور صحبة الأمير بدر الدّين الخزندار، والدّخول في «أقجه دربند» ، وأقام مولانا السلطان في ساقة العسكر المنصور بقيّة يوم السّبت ويوم الأحد:

فهو يوم الطّراد أوّل سابق

وهو يوم القفول آخر سائق!

وانتظر في هذين اليومين صيدا من العدوّ يعنّ، وما من دماءهم إلى السّيف يحنّ؛ فلمّا لم يجد أحدا رحل في يوم الاثنين فنزل قريبا من الخان الذي في الدّربند، وركب يوم الاثنين من طريق غير التي حضر منها، فسلك طريقا من الأوعار يبسا، وسلك من قلل الجبال في هضاب كأنّ كلّا منها ألف حملت من الأنجم قبسا؛ فقاسى العالم في هذا اليوم من الشّدّة ما لا يدخل في

ص: 185

قياس، وكادوا يهلكون لولا أن الله عز وجل تدارك النّاس، فتسابقوا ولكن على مثل حدّ السّيف، وتسلّلوا ولكن سلّ حوافر الخيل كيف؟ وهبطوا من جبال يستصعبها كلّ شيء حتّى طارق الطّيف؛ يستصعب الحجر المحلّق من شاهق وقوعه في عقابها، ويستهول النّجم الثّاقب ترفّع شعابها، بالقرب منها جبل شاهق يعرف «بسقر» وما أدراك ما سقر، لا يبقي على شيء من الدّوابّ ولا يذر؛ له عقبة لوّاحة للبشر «1» ، أعان الله على الهبوط منها، وفاز بمشيئة الله وبسعادة مولانا السلطان من زحزح عنها؛ وعدّينا كوكصوا وهو النّهر الأزرق، وبات مولانا السلطان هناك، وكان قضيم البغال تلك اللّيلة ورق البلّوط، إلا من أمست عناية الله أن تيسّر في شعير بخمسة عشر درهما كلّ مدّ يحوط.

ورحل مولانا السلطان في يوم الأربعاء تاسع عشرين من ذي القعدة فنزل قريب كسول (؟) المقدّم ذكرها، وعدل إلى طريق مرعش فزال بحمد الله «2» الداعي، وقالوا للشّعير: ما فينا لك مخاطب ولا منّا فيك بماله مخاطر، وللخيول قد حصل لك في مصر الرّبيع الأوّل في شعبان وفي الشّام في ذي

ص: 186

الحجّة الرّبيع الآخر، فأرتعت لا يروعها أصحاب الموازين في تلك المساجد، واستمرّت في مروج يتأسف عليها ابن المساجد (؟) ؛ وقسّم مولانا السلطان تلك الأعشاب كما تقسّمت في آفاق السماء النّجوم، وأوقف كلّ أحد في مقام حتّى قال: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ

«1» ؛ فكم هنالك من مروج أعشبت فأعجبت، وانجابت السماء عنها فأنجبت، وأربت على زهر النّجوم فاهتزّت وربت:

يصدّ الشّمس أنّى واجهتنا

فيحجبها ويأذن للنّسيم «2» !

يتخلّلها هنالك أترع الحياض، ويلهو بها كلّ شيء فكم قصف العاصي بها في تلك الرّياض.

هذا كلّه: وخير من أرزنجان، حارة برجوان؛ وخير من أراضي توريز، قطعة من إيليز، وكوم من كيمان سفط ميدوم، خير من قصر في قيصريّة الرّوم؛ ونظرة إلى المقياس، خير من سيواس؛ ومناظر اللّوق، خير من كيقباذ آل سلجوق؛ وتربة من ترب القرافة، خير من مروج العرافة؛ وشبر من شبرا، خير من سطا ومرا:

وجلوس في باب دارك خير

من جلوس في [باب]«3» إيوان كسرى

والتماحي لنور وجهك خير

لي من أنّني أشاهد بدرا!

يا وليّا يولي الأيادي سرّا

ووزيرا فليس يكسب وزرا

ما رأينا والله فيمن رأينا

لك مثلا من البريّة طرّا

كم خبرنا الرّجال في كلّ أرض

فإذا أنت أعظم الخلق قدرا!

ص: 187