الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما في الشّرع فعبارة عن صلح يقع بين زعيمين في زمن معلوم بشروط مخصوصة، على ما سيأتي بيانه فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
والأصل فيها أن تكون بين ملكين مسلم وكافر، أو بين نائبيهما، أو بين أحدهما ونائب الآخر. وعلى ذلك رتّب الفقهاء رحمهم الله باب الهدنة في كتبهم. قال صاحب «موادّ البيان» «1» : وقد يتعاقد عظماء أهل الإسلام على التّوادع والتّسالم واعتقاد المودّة والتّصافي، والتّوازر والتّعاون، والتّعاضد والتّناصر، ويشترط الأضعف منهم للأقوى تسليم بعض ما في يده والتّفادي عنه بمعاطفته والانقياد إلى اتّباعه، والطاعة والاحترام في المخاطبة، والمجاملة في المعاملة، أو الإمداد بجيش، أو امتثال الأوامر والنواهي وغيرها مما لا يحصى.
قلت: وقد يكون الملكان متساويين في الرّتبة أو متقاربين، فيقع التّعاقد بينهما على المسالمة والمصافاة، والموازرة والمعاونة، وكفّ الأذيّة والإضرار وما في معنى ذلك، دون أن يلتزم أحدهما للآخر شيئا يقوم به أو إتاوة يحملها إليه؛ ولكلّ مقام مقال، والكاتب الماهر يوفّي كلّ مقام حقّه، ويعطي كلّ فصل من الفصول مستحقّه.
الطرف الثاني (في أصل وضعها)
أمّا مهادنة أهل الكفر فالأصل فيها قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
«2» الآية، وقوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
«3» .
وما ثبت في صحيح البخاريّ من حديث عروة بن الزّبير رضي الله عنه،
أنّ قريشا وجّهت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية «1» - حين صدّه قريش عن البيت- سهيل بن عمرو، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:«هات [اكتب] «2» بيننا وبينك كتابا «3» ، فدعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم الكاتب «4» ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال سهيل: «أما الرّحمن فو الله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب:
باسمك اللهمّ، كما كنت تكتب «5» ، فقال المسلمون: «والله لا نكتب إلّا:
بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«اكتب: باسمك اللهم» - ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» - فقال سهيل: «والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك؛ ولكن اكتب:
محمد بن عبد الله» ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«والله إني لرسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمد بن عبد الله» : ثم قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به» - فقال سهيل: «والله لا تتحدّث العرب أنّا قد أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب- قال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا- قال المسلمون:
سبحان الله! كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما! فبينما هم كذلك، إذ جاء أبو جندل يرسف في قيوده، وقد خرج من مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين- فقال سهيل: هذا يا محمد أوّل ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ-
فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نقض الكتاب بعد» - قال: فو الله [إذا]«1» لا أصالحك على شيء أبدا- قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي» - قال: ما أنا بمجيزه لك- قال: «بلى فافعل» - قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز بن حفص: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين: أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا في الله تعالى. قال عمر بن الخطّاب: فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت:
ألست نبيّ الله حقّا؟ قال بلى! قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟
قال بلى! قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري» .
قلت: هذا ما أورده البخاريّ في حديث طويل. والذي أورده أصحاب السّير أن الكاتب كان عليّ بن أبي طالب، وأن نسخة الكتاب:
«هذا ما قاضى «2» عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، [اصطلحا] على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وأنه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه» .
وأشهد في الكتاب على الصّلح رجالا من المسلمين والمشركين «3» .