المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الصّبح السّلام، والأزهار قد سلبته عينه فقام من كراه يصيح، - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٤

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الرابع عشر]

- ‌[تتمة المقالة التاسعة]

- ‌الباب الرابع من المقالة التاسعة (في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل في أصول تتعيّن على الكاتب معرفتها؛ وفيه ثلاثة أطراف

- ‌الطرف الأوّل (في بيان رتبتها ومعناها، وذكر ما يرادفها من الألفاظ)

- ‌الطرف الثاني (في أصل وضعها)

- ‌الطرف الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن)

- ‌النوع الأوّل (ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر)

- ‌النوع الثاني (ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر والإسلام، وعقود الصّلح الجارية بين زعماء المسلمين؛ وهي ضربان)

- ‌الضرب الأوّل (الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتّفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدّم)

- ‌الضرب الثاني (مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة- تحرير أوضاعها، وترتيب قوانينها، وإحكام معاقدها)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يستبدّ ملوك الإسلام فيه بالكتابة عنهم- وتخلّد منه نسخ بالأبواب السلطانية، وتدفع منه نسخ إلى ملوك الكفر)

- ‌النّمط الأوّل (ما يكتب في طرّة الهدنة من أعلى الدّرج)

- ‌النّمط الثاني (ما يكتب في متن الهدنة، وهو على نوعين)

- ‌النوع الأوّل (ما تكون الهدنة فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذا ما هادن عليه»

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح المهادنة قبل لفظ «هذا» ببعديّة)

- ‌النوع الثاني (من الهدن الواقعة بين ملك مسلم وملك كافر- أن تكون الهدنة من الجانبين جميعا)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذه هدنة» ونحو ذلك)

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «استقرّت الهدنة بين فلان وفلان» ويقدّم فيه ذكر الملك المسلم)

- ‌المذهب الثالث (أن تفتتح المهادنة بخطبة مبتدأة ب «الحمد لله» )

- ‌الطرف الثاني (فيما يشارك فيه ملوك الكفر ملوك الإسلام في كتابة نسخ من دواوينهم)

- ‌الباب الخامس من المقالة التاسعة (في عقود الصّلح الواقعة بين ملكين مسلمين؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (في أصول تعتمد في ذلك)

- ‌الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة (فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول؛ ممّا يكتب في الطّرّة والمتن)

- ‌النوع الأوّل (ما يكون العقد فيه من الجانبين)

- ‌النوع الثاني (ممّا يجري عقد الصّلح فيه بين ملكين مسلمين- ما يكون العقد فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح عقد الصّلح بلفظ: «هذا» كما في النوع السابق)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح عقد الصّلح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» وربّما كرّر فيها التحميد إعلاما بعظيم موقع النّعمة)

- ‌الباب السادس من المقالة التاسعة (في الفسوخ الواردة على العقود السابقة؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (الفسخ؛ وهو ما وقع من أحد الجانبين دون الآخر)

- ‌الفصل الثاني المفاسخة؛ وهي ما يكون من الجانبين جميعا

- ‌المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتّاب وتتنافس في عملها، ليس لها تعلّق بكتابة الدّواوين السلطانية ولا غيرها؛ وفيها بابان

- ‌الفصل الأوّل في المقامات

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الرّسائل)

- ‌الصنف الأوّل (منها الرّسائل الملوكيّة؛ وهي على ضربين)

- ‌الضرب الأوّل (رسائل الغزو؛ وهي أعظمها وأجلّها)

- ‌الضرب الثاني (من الرسائل الملوكية رسائل الصّيد)

- ‌الصنف الثاني (من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتّقريض)

- ‌[الخصلة الاولى] أوّلها: العلم بموقع النّعمة من المنعم عليه

- ‌والخصلة الثانية: الحرّيّة الباعثة على حبّ المكافأة

- ‌والخصلة الثالثة: الدّيانة بالشّكر

- ‌والخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللّسان البيّن

- ‌الصنف الثالث (من الرسائل المفاخرات؛ وهي على أنواع)

- ‌الصّنف الرابع

- ‌[الصّنف الخامس]

- ‌الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في قدمات البندق)

- ‌الفصل الرابع من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الصّدقات؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (في الصّدقات الملوكيّة وما في معناها)

- ‌الطرف الثاني (في صدقات الرّؤساء والأعيان وأولادهم)

- ‌الفصل الخامس من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب مما جرت العادة بمراعاة النّثر المسجوع فيه، ومحاولة الفصاحة والبلاغة؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب؛ ثم هو على صنفين)

- ‌الصنف الأوّل (الإجازات بالفتيا والتّدريس والرّواية وعراضات الكتب ونحوها)

- ‌الصنف الثاني (التّقريضات التي تكتب على المصنّفات المصنّفة والقصائد المنظومة)

- ‌الطرف الثاني (فيما يكتب عن القضاة؛ وهو على أربعة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل (التقاليد الحكميّة؛ وهي على مرتبتين)

- ‌المرتبة الأولى (أن تفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» )

- ‌[المرتبة الثانية]

- ‌الصنف الثاني (إسجالات العدالة)

- ‌الصنف الثالث (الكتب إلى النّوّاب وما في معناها)

- ‌الصنف الرابع (ما يكتب في افتتاحات الكتب)

- ‌الفصل السادس (في العمرات التي تكتب للحاجّ)

- ‌الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليّات

- ‌الخاتمة في ذكر أمور تتعلق بديوان الإنشاء غير أمور الكتابة وفيها أربعة أبواب

- ‌الباب الأوّل في الكلام على البريد؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مقدمات يحتاج الكاتب إلى معرفتها؛ ويتعلّق الغرض من ذلك بثلاثة أمور

- ‌الأمر الأوّل (معرفة معنى لفظ البريد لغة واصطلاحا)

- ‌الأمر الثاني (أوّل من وضع البريد وما آل إليه أمره إلى الآن)

- ‌الأمر الثالث (بيان معالم البريد)

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من الخاتمة في ذكر مراكز البريد

- ‌المقصد الأوّل (في مركز قلعة الجبل المحروسة بالديار المصرية التي هي قاعدة الملك، وما يتفرّع عنه من المراكز، وما تنتهي إليه مراكز كلّ جهة)

- ‌المقصد الثاني (في مراكز غزّة وما يتفرّع عنه من البلاد الشامية)

- ‌المقصد الثالث (في ذكر دمشق وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى حمص وحماة وحلب، وإلى الرّحبة، وإلى طرابلس، وإلى جعبر، ومصياف وبيروت وصيدا وبعلبكّ والكرك وأذرعات)

- ‌المقصد الرابع (من مركز حلب وما يتفرّع عنه من المراكز الواصلة إلى البيرة وبهسنى وما يليهما، وقلعة المسلمين المعروفة بقلعة الرّوم، وآياس، مدينة الفتوحات الجاهانية، وجعبر)

- ‌المقصد الخامس (في مركز طرابلس وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى جهاتها)

- ‌المقصد السادس (في معرفة مراحل الحجاز الموصّلة إلى مكّة المشرّفة والمدينة النّبويّة، على ساكنها سيدنا محمد أفضل الصلاة والسّلام والتحية والإكرام، إذ كانت من تتمّة الطّرق الموصّلة إلى بعض أقطار المملكة)

- ‌الطريق إلى المدينة النّبويّة (على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام)

- ‌الباب الثاني من الخاتمة في مطارات الحمام الرّسائليّ، وذكر أبراجها المقرّرة بطرق الديار المصرية والبلاد الشّاميّة، وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مطاراته

- ‌الفصل الثاني من الباب الثاني من الخاتمة في أبراج الحمام المقرّرة لإطارتها بالديار المصرية والبلاد الشّاميّة

- ‌الأبراج الاخذة من قلعة الجبل المحروسة إلى جهات الديار المصرية

- ‌الأبراج الآخذة من قلعة الجبل إلى غزّة

- ‌الأبراج الآخذة من غزّة وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الآخذة من دمشق وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الاخذة من حلب وما يتفرّع عنها

- ‌الباب الثالث من الخاتمة في ذكر هجن الثّلج والمراكب المعدّة لحمل الثّلج الذي يحمل من الشام إلى الأبواب السلطانية بالديار المصريّة؛ وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل (في نقل الثّلج)

- ‌الفصل الثاني من الباب الثالث من الخاتمة في المراكب المعدّة لنقل الثّلج من الشام

- ‌الفصل الثالث من الباب الثالث من الخاتمة في الهجن المعدّة لنقل ذلك

- ‌الباب الرابع من الخاتمة في المناور والمحرقات؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المناور

- ‌الفصل الثاني من الباب الرابع من الخاتمة: في المحرقات

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في الحواشي

- ‌[فهرس]

الفصل: الصّبح السّلام، والأزهار قد سلبته عينه فقام من كراه يصيح،

الصّبح السّلام، والأزهار قد سلبته عينه فقام من كراه يصيح، وميدان الغصون قد أصخب بمغنى الأطيار وشغب الرّيح، ونسر السّماء قد فرّ من الغداة وبازيها، والنّجوم قد حملت إلى ملحدها من الغرب على نعوش دياجيها، والمجرّة من الجوزاء عاطلة الخصر، وخاقان الصّبح قد حمل على نجاشيّ الظّلام راية النّصر.

لا برح سيّدنا معصوم الرّويّة والارتجال، مسجلا بشجاعة اليراعة والحرب سجال، محمود المواقف والمساعي «والنّقس نقع والطّروس مجال» ، والسّلام.

[الصّنف الخامس]

(الصنف السادس (من الرسائل ما تكتب به الحوادث والماجريات)) ويختلف الحال فيها باختلاف الوقائع: فإذا وقعت للأديب ماجرية وأراد الكتابة بها إلى بعض إخوانه، حكى له تلك الماجرية في كتابه مع تنميق الكلام في ذلك، إما ابتداء وإما جوابا، عند مصادفة ورود كتابه إذ ذاك إليه.

وهذه نسخة رسالة أنشأها الإمام قاضي قضاة المسلمين محيي الدّين، أبو الفضل يحيى، ابن قاضي القضاة الإمام محيي الدّين أبي المعالي محمد، بن عليّ، بن محمد، بن الحسين، بن عليّ، بن عبد العزيز، بن عليّ، بن الحسين، ابن محمد، بن عبد الرحمن، بن القاسم، بن الوليد، بن القاسم، بن عبد الرحمن، بن أبان، بن عثمان، بن عفّان رضي الله عنه، لمّا ورد إلى القاهرة المحروسة في التّاسع من جمادى الأولى من سنة تسع وعشرين وستمائة وتعرف «برسالة النّمس» ؛ وهي:

وردت رقعة سيّدنا أسعده الله بتوفيقه، وأوضح في اكتساب الخيرات

ص: 285

سبل طريقه، فوقفت عليها وقوف السّارّ «1» بورودها، المستسعد بوفودها، المبتهل إلى الله في إبقاء مهجته التي يتشرّف الوجود بوجودها:

وليس بتزويق اللّسان وصوغه

ولكنّه قد مازج اللّحم والدّما!

وفضضتها عن مثل النّور تفتحه الصّبا، وبرود الرّياض تساهمت في اكتساء وشيها الأهضاب والرّبا؛ يكبو جواد البليغ في مضمار وصفها، وينبو عضب لسانه عن مجاراتها في رصفها؛ يخجل محيّا النهار بياض طرسها، ويودّ الليل لو نفضت عليه صبغة نقسها، وتحسد الكواكب رائق معانيها، وتتمنّى لو أعيرت فضل إشراقها وتلاليها، في كلّ فقرة روضة وكلّ معنى كأس مدام، وكلّ ألف ساق وكلّ سين طرّة غلام، وكلّ واو عطفة صدغ وكلّ نون تقويس حاجب، وكلّ لام مشقة عذار وكلّ صاد خطّة شارب؛ تصيب من سامعها أقصى ما يراد بالنّفث في العقد، وتستولي بلفظها على لبّه استيلاء الجواد على الأمد.

فلما اجتليت منها المعاني المسهبة في اللّفظ الموجز، وأجلت طرفي منها ما بين نزهة المطمئنّ وعقلة المستوفز، وأسلمت قيادي إلى سحرها المحلّل وإن جنى قتل العاشق المتحرّز- علمت أن سيّدنا أجرى في حلبة السّباق فحاز قصب سبقها، وذلّلت له البلاغة فتوغّل في شعابها وطرقها، وحكّمت يده في أعنّة الفضائل فسلّمت القوس إلى باريها، ودرجات العلى إلى مستحقّيها؛ فمن وائل؟ ومن سحبان؟ ومن عبد الحميد؟ وابن صوحان، وأيّ خبر يقابل العيان؟ ومن يقاوم ما هو كائن بما كان؟؛ فسألت خاطري الجامد أن يعارض بوابله طلّها، وأن يقابل بجثمانه ظلّها، وأن يجاريها في حلبة المساجلة وإن دعي بالسّكيت، ولقد أسمعت لو ناديت حيّا وكيف بنطق من ميت؛ وأنّى يطمع في مجاراة البحر ولات حين لعلّ أوليت؛ فوجدته أصلد من

ص: 286

الصّخرة مسّا، وألفيت «باقلا» لديه «قسّا» ؛ فما كلّ من طرق قرى، ولا من إذا خلق فرى؛ وهذا المعهود من خاطري إذا كان جامّا فكيف وقد نضب ماؤه وكدّرت الحوادث بحر علمه والغير، فمن دون أن تستخرج منه الدّرر أن يلين لضرس الماضغ الحجر؛ فبذل جهده لما شعّبت الهموم سبله، وتقنّع بالخلق من لا جديد له.

هذا مع واقعة وقعت له فأصبح متشتّتا، وثنى عنانه عن كلّ شيء إليها متلفّتا، وذلك أنّه في بارحته استولى عليه القلق بسلطانه، واستلبت يد الأرق كراه من بين أجفانه، كأنّه ساورته ضئيلة سمّها ناقع «1» ، أو مدّت إليه خطاطيف حجن «2» لها أيدي الخطوب نوازع:

إذا اللّيل ألبسني ثوبه

تقلّب فيه فتى موجع

فتارة فكرته متوجّهة نحو قلّة حظّه، وآونة لا يقع إلّا على ما يقذفه طارف لحظه؛ وإنّ يد الخمول قد استولت عليه، وأزمّة المطالب صرفت عنه وحقّها أن تصرف إليه، والسعادة شاردة عنه وما أجدرها أن تطيف ببابه وتستقرّ بين يديه:

لئن كان أدلى حابل فتعذّرت

عليه وكانت رادة فتخطّت

لما تركته رغبة عن حباله

ولكنّها كانت لآخر خطّت!!

ولقد جهد في سلّم الدّهر وهو يحاربه، «وكيف توقّى ظهر ما أنت راكبه» ؟ فما شام بارقة أمل إلا أخفقت ورجع بخفّي حنين، وقرّت أعين

ص: 287

أعاديه كلّما سخنت منه العين، فلقد أصبح «أفرغ من حجّام ساباط» «1» وإن كان «أشغل من ذات النّحيين» «2» .

وكلما تأمّل جدّه «3» العاثر النّاكص، ونظر رزقه النّاضب النّاقص، وقابله الدّهر بالوجه العابس الكالح، ومنّى نفسه عقبى يوم صالح، ربع عليها فمن لي بالسّانح بعد البارح «4» ؟ وناجى نفسه بإعمال الركائب، والاضطراب في المشارق والمغارب، وأن يرى بالجود طلعة نائر وبالعرمس «5» غرّة آئب، ويصل التّهجير بالسّرى، ويبتّ من قيد الأوطان موثقات العرى؛ وإن كسدت فضيلة من فضائله، أو رثّت وسيلة من وسائله، اكتسب بأخرى من أخواتها، ونفث في عقدها ومتّ بها وقال: أنا ابن بجدتها؛ فإلام وعلام وحتّى متى، أجاور من أنا فيهم أضيع من قمر الشّتا؟ وحالي أظهر من أن يقام عليه دليل، و «إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل» :

وما أنا كالعير المقيم بأهله

على القيد في بحبوحة الدّار يرتع

ثم استهول تقحّم الإغوار والإنجاد، واستفتح لقادح زناد الحظّ

ص: 288

الإكداء والإصلاد، وأقول: أخطأ مستعجل أو كاد، فأثوب مثاب من حلب الدّهر أشطره، وأخذ إذا ارتفع عن الدّنيّة من حظّه أيسره، وبنى كما بنى سلفه وقرّر ما قرّره، فأقول: ارفض الدّنيّة ولا تلو عليها، فتكون «أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها» «1» «فالحرّة تجوع ولا تأكل بثدييها» :

ولسنا بأوّل من فاته

على رفقه بعض ما يطلب

وقد يدرك الأمر غير الأريب

وقد يصرع الحوّل القلّب!

وتارة يخطر أن لو شكوت حالي إلى أصدقائي من ذوي الجاه، وسألتهم بإلحاقي بهم في الابتغاء من فضل الله، وأحضّهم على انتهاز فرصة الإحسان قبل الفوت، وأضرب لهم:«أعن أخاك ولو بالصّوت» فليس على مثلي ممن يخيفه الدّهر في ذلك من جناح، «وهل ينهض البازيّ بغير جناح» ؛ ثم أرى أنهم لو فضل عنهم شيء لجادوا، بل لو زويت «2» الأرض لهم لازدادوا، ولو ملّكوا ظلّ الله لأصبحت لديهم ضاحيا، وما حالي بخاف عليهم وكفى برغائها مناديا، وقبلي بغى «3» عليّ ففاته وأدرك الجدّ السّعيد معاويا؛ وإلى كم أعلّل تعليل الفطيم بالخضاب:

سئمت العيش حين رأيت دهري

يكلّفني التّذلّل للرّجال!

وأخرى يسلّي نفسه عن مصابها ومصائبها، ويمنّيها كرّ الأيام بتعاقبها، ويقصّ عليها تقلّب اللّيالي بالأمم الماضية في قوالبها، وأنها ما قدّمت لأحد سعادة إلا عقّبتها بتغيير، وما سقت صفو الأماني بشرا إلا شابت كأسه بتكدير،

ص: 289

وأنّ سبيل كلّ أحد منها سبيل ذي الأعواد «1» ، وقصاراي ولو اتخذت الأرض مسكنا وأهلها خولا سبيل ربّ القصر من سنداد «2» ، ولو عمّرت عمر نوح كنت كأنّي وآدم وقت الوفاة على ميعاد؛ فإن شئت فارفع عصا التّسيار أوضع؛ فما هو إلّا:«حارب بجدّ أودع» .

فبينا أنا أعوم في هذه الخواطر متفكّرا، وأقرع سنّ النّدم على تقضّي عمري في غير مآربي متحسّرا، وأتسلّى بمصارع الأوّلين أخرى معتبرا:

ولو أنجزتني الأيام مواعيد عرقوب، لأفضت بي إلى أحلى من ميراث العمّة الرّقوب، ولقد تقاعس أملي حتى قنعت بحالي «وشرّ ما ألجأك «3» إلى مخّة عرقوب» ثم يخاطبني حجاي بأن تثبّت واصبر، فالليل طويل وأنت مقمر، فستبلغ بك الأسباب، وينتهي بك إلى المقدور الكتاب؛ فلا تعجل «فجري المذكيات غلاب» «4» .

فاستروحت إلى فتح باب كان مرتجا، وارتدت باستجلاء محيّا السماء من بعض همّي فرجا، وانتشقت من نسيم السّحر ما وجدت به من ضيق فكري مخرجا، ففتحته عن شبّاك كتخطيط الأوفاق، أو كرقعة شطرنج وضعت بين الرّفاق؛ ألبس من صبغة اللّيل شعارا، واتّخذ لاستجلاء وجه الغزالة نهارا؛ جلد على القيام والكدّ، صبور على الحالين في الحرّ والبرد؛ يحوّل

ص: 290

جثمان المرء عما واراه، ويبيخ إنسان الطّرف رعي حماه؛ يديل من ظلمة اللّيل ضوء النهار، وينمّ بما استودعته من الأسرار؛ يشرف إلى غيضة قد التفّت أشجارها، وتهدّلت ثمارها، ورقصت أغصانها إذ غنّت أطيارها، واطّردت بصافي الزّلال أفهارها، ونمّت بعرف العنبر الشّحريّ «1» أزهارها؛ وقد قامت عرائس النّارنج على أرجلها، تختال في حليها وحللها؛ قد ألبست من أوراقها خلعا خضرا، وحلّيت من ثمارها تبرا، ونظّم قداحها في جيادها لؤلؤا رطبا، ورنّحها نسيم السّحر فمالت عجبا؛ وقد مدّت في أرضها من البنفسج مفارش سندس فروزت «2» بالجداول، كبساط أخضر سلّت أيدي القيون «3» عليه صقيلات المعاول، وقد حدّقت عيون الرّقباء من النّرجس قائمة على ساق، ولعبت بها يد النّسيم فتمايلت كعناق المحبّين عند الفراق؛ فاجتلينت محيّا وسيما تتبلّج أسرّته، ومنظرا جسيما تروق بهجته؛ قد مدّ السّماط بساطا أزرقا، بزهر الكواكب مشرقا، وطرّزه بالشّفق طرازا مذهبا، وأبدى تحته للأصباح مفرقا أشيبا:

ورث قميص اللّيل حتّى كأنّه

سليب بأنفاس الصّبا متوشّح

ورقّع منه الذّيل صبح كأنّه

وقد لاح شخص أشقر اللّون أجلح

ولاحت بقيّات النّجوم كأنّها

على كبد الخضراء نور يفتّح!

وجنح البدر للغروب فتداعت الكواكب تتبعه كوكبا فكوكبا، فكأنه ملك اتّخذ المجرّة عليه مضربا، وتوّج بالثّريا إكليلا، وخنست «4» الكواكب بين يديه توقيرا له وتبجيلا، واصطفّت حوله خدما وجنودا، ونشرت من أشعّتها ألوية وبنودا، وأخذت مقاماتها في مراكزها كجيوش عبّئت للقاء مناجزها، ومسابقها أخذ فرصة النّصر ومناهزها:

ص: 291

ولاح سهيل من بعيد كأنّه

شهاب ينحّيه عن الريح قابس!

وانبرى نسيم السّحر عليلا، وجرّ على أعطاف الأزهار ذيلا بليلا، وروى أحاديث الرّياض بلسان نشره، مذيعا لأسرار خزاماه وزهره، وغرّدت خطباء الطّير على منابر الأغصان، واستنبطت من قلوب المحبّين دفائن الأشجان، وحثّ داعي الفلاح، طائفة التّقى والصّلاح، على أن تؤدّي فرضها ونفلها، وترتقي بخضوعها بين يدي مولاها درجات السّعادة التي كانت أحقّ بها وأهلها، وهتف بشير النّجح بمن أحيا ليلته لما تمزّق قميص اللّيل وانفرى:«عند الصّباح يحمد القوم السّرى» .

فبينا أنا أتفكّر في أنّ جملة ما عاينته سيصبح زائلا، وعن تلك الصّبغة العجيبة حائلا، وأتدبّر: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا

«1» إذ أهدت إليّ الأيام إحدى طرفها وغرائبها، وكبرى أوابدها وعجائبها، فطرق سمعي من الشّبّاك نبأة، وتلتها وجبة تتبعها وثبة، فاستعذت من كيد الشّيطان المريد، وقلت: أسعد أم سعيد؛ وإذا بنمس قد فارق وجاره إلى وجاري، واختارني على الصّحراء جارا فارتضيته لجواري، فولج مستأنسا، ومرح بين يديّ آنسا، وأراني أحد كتفيه في الاسترسال ليّنا والآخر بالتّمنّع شامسا، فمدّ له الحرص على جوره حبائل مكره وشباكه، ويد الغبش تحول دون قنصه وإمساكه، وبقايا الظّلام تقضي بتمنّعه، وتصدّ عن جعله من الوثاق في موضعه، وأنا ملازمه ملازمة المعسر لربّ الدّين، حتى يتبيّن الصّبح لذي عينين.

فلما خشيت على صلاتي الفوت عدلت إلى تأدية فرضها، وتوجيهها بين يدي موجبها وعرضها؛ فلما انفتلت من مصلّاي، وانصرفت عن مناجاة مولاي، برقت لي بارقة، خيّل إليّ أنها صاعقة، فقلت: أذرّ قرن الغزالة؟ وإلا فلات حين

ص: 292

ذبالة؛ فقيل: إنّ الغلام نظر إليه شزرا، وهزّ له المهنّد فشقّ له من الظّلماء فجرا، وأبدى له وجها مكفهرّا، ورام أن يمطيه من المنيّة مركبا وعرا، كأنّه قد لاقى أسدا هزبرا، وأترع له كأس الحمام بالوافي، ورماه بثالثة الأثافي، فعطفت عليه باللّائمة منكرا لجهله، وهتفت به زاجرا عن قبح فعله، ثم عذرته:«ومن لك بأخيك كلّه» ؛ وقلت له: ماذا تراك تصنع لو لاقيت أسدا أغلبا؟، لقد خلت أنّك ترتدّ- وإن كنت وليدا- أشيبا؛ أمن هذا بادرت إلى السّيف مخترطا؟، «إنّك لأجبن من المنزوف ضرطا» «1» لقد أظهرت من الفشل ما جاوز قدر الحدّ، ووضعت المزاح في محلّ الجدّ وقابلت الأسهل بالأشدّ؛ فسحقا لك وبعدا، لقد قدح مرجّيك بعدها زنادا صلدا، واستنبع الماء جلمدا جلدا.

فصوّب طرفه فيّ وهتف مناديا، وأظهر وفاء أزرى بالسّموءل بن عاديا: أنج هربا ولا إخالك ناجيا؛ إنّي رميت من الخطوب بأصعبها، ولا ينبّئك بالحروب كمجرّبها، والغاصّ باللّقمة أخبر بها؛ فلقد أوطأني ما لا أستقيل منه العثرة، وما لاقيت في حرب كهذه المرّة، والعوان لا تعلّم الخمرة «2» لقد صرّح لي بالشّرّ ولم يجمجم، وكشر عن أنيابه غير متبسّم، و «حسبك من شرّ سماعه» و «است البائن أعلم» «3» ، تالله إنّه لأجرأ من خاصي الأسد، ولئن سبرته لتعلمنّ ما بين الذّئب والتّقد؛ ولقد رضيت نفسي من الغنيمة أن تؤوب بذمائها «4» ، لما تشبّث بخنصري فخضبها بدمائها،

ص: 293

فقلت: «أجفل عن جنابك الخير وأجلى» «أضرطا وأنت الأعلى» «1» ؟، ثم تضاحكت إليه لمّا شاهدت استعباره، وأويت له إذ رأيت استكثاره الخطب واستكباره، وقلت: من ضاف الأسد قراه أظفاره، ومن حرك الدّهر أراه اقتداره؛ وعدلت إلى الذّلول الشّامس، المستأسد المستأنس، ومددت يدي إليه فانقاد لها طائعا، وخضع لإجابة دعوتي سامعا.

فلمّا حازه في القبضة الإسار، وبطل الإقلال من ذلك اللّفظ والإكثار- وقد كان أعزّ من الأبلق العقوق، وأبعد من بيض الأنوق- استجليت صورته متأمّلا، إذ لم يبق له سوى قبضتي موئلا، فرأيت هامة فحمة، وجثّة ضخمة، وشدقا أهرتا «2» رحبا، ذا مرّة على اختلاف الحوادث صعبا، وأنيابا محدّدة عصلا كالنّصال، وطرفا مخالسا غير غرّ بالمكر والختال، كأنّه شهاب يتوقّد، أو شعلة نار لم تخمد، وسامعتين تتوجّسان ما دار في الأوهام، وتدركان ما يناجي به المرء نفسه ولو في الأحلام؛ قد نيطت بعنق صغرت هامته بالنسبة إليه، إن استدبرته قلت: هو مشرف عليها أو استقبلته قلت: هي مشرفة عليه، يشتمل على نحر خصيب، وصدر رحيب، فيه نزعتا بياض كهلالين قرنا في نسق، أو نجمي ذؤابة ظهرا في غسق، تسرّ نفس الناظر إليها، ويعقد خنصر الاختيار في حسن الشّيات عليها، اتّصل ذلك بمنكب عتيد، وساعد شديد، وبرثن شثن «3» ومخلب حديد:

ذوات أشاف ركّبت في أكفّها

نوافذ في صمّ الصّخور نواشب

معقّفة التّرهيف عوج كأنّها

تعقرب أصداغ الحسان الكواعب

قد جاور جؤجؤا «4» نهدا، وقابل كاهلا ممتدّا؛ يكاد خصره ينعقد

ص: 294

اضطمارا، وهمّته تتسعّر نارا؛ برجلين تسبق في الحضر يديه، وتقدّ بأظفارها أذنيه، وذنب كالرّداء المسبل يجرّه اختيالا ومرحا، ويتيه عجبا وفرحا، إن انساب قلت: انساب أفعوان، أو صال قلت: أسد خفّان «1» ، أو وثب سبق الوهم في انحطاطه، أو طلب أدرك البرق من نشاطه، أو طلب فات الطّرف في انخراطه؛ أنعم مسّا من أرنب، وأزهى من ثعلب، قد كساه الظّلام خلعته، وقبّل الصّباح طلعته؛ حاز من القندس «2» صقاله وبهجته، ومن الفنك لينه ونعمته؛ ألبس رداء الشّباب، ونزّه عن تزوير الخضاب؛ إن اختلس فما تأبّط شرّا، أو خاتل أزرى بالشّنفرى مكرا؛ أحدّ نفسا من عمرو بن معدي، لا يصلد قادح زناد بطشه ولا يكدي؛ أنزق من أبي عبّاد، وأصول من عنترة بن شدّاد؛ أفتك من الحارث بن ظالم، وأنهر فصدا للدّم من حاتم، لا يلين ولا يشكو إلى ذي تصميت، «كأنّه كوكب في إثر عفريت» ؛ يكاد عند المخاتلة في انسيابه، يفوت الخاطر أو يخرج من إهابه، إن قارن طيرا أباحه منسرا كمنسر الأسد، أغلب فيه شغا «3» كأنّه عقد ثمانين في العدد، فينشده: ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي، فلا يحسّ له بعين ولا أثر سجيس «4» اللّيالي؛ فكأنّ قلوبها رطبا ويابسا لدى وكره العنّاب والحشف البالي «5» ؛ اعتاد قنص السانح والبارح «6» ، فما فات ورد المنيّة منه غاد ولا رائح؛ طويل القرا مدمج

ص: 295

الأعظم، له مخاتلة سرحان وهجمة ضيغم؛ أحنّ من نقبة «1» ، «وأظلم من حيّة» ، أطيش من فراشة، وأسبق إلى الغايات من عكّاشة «2» ؛ أخطف من عقاب، وأشجع من ساكن غاب، أسرق من جرذ وأنوم من فهد، وألين من عهن «3» وأخشن من قدّ؛ بأسه قضاء على الطّير منزل، وبطشه ملك بآجالها مرسل.

فلمّا تأملت خلقه، وسبرت بتجربة الفراسة خلقه، عجّلت له جريرا مستحصد المرّة لوثاقه، وأحكمت شدّه في محلّ خناقه، وقلت له: إنّي مجرّبك سحابة هذا النهار، «ومن سلك الجدد أمن من العثار» ، فعل ذي خبرة بمكره، وعلى ثقة من غدره؛ فإنّ اللّئيم ذو صولة بعد الخضوع، وفضح التّطبّع شيمة المطبوع؛ وكيف الثّقة به وإن استقرّ ولم ينبس؟ وأنّى الطّمأنينة إليه وهو الأزرق المتلمّس؟.

ثم انصرفت إلى البلد لبعض شاني، والاجتماع بأخلّائي وأخداني، واستغرقت أديم النهار فيما توجّهت له، وقطعت عمر يوم ما كان أطوله! فلما قضيت نهمتي، من نجعتي، وحانت مع وجوب الشّمس رجعتي، ألفيته عمد إلى الوثاق فقرضه، ووفّاه بالكيل الوافي ما اقترضه، وصال على شيخة نستسعد بدعائها، ونفزع إن دهمنا همّ قبل نداء أولي البطش إلى ندائها؛ ذات خلق عظيم، ومنطق رخيم، وقلب رحيم، ووجه ذي نضرة ونعيم؛ إن قامت أحيت اللّيل بالسّهر، أو قرأت رأيتنا حولها زمرا بعد زمر؛ إن حادثتها نطقت بالسّحر محلّلا، أو تاركتها رأت الصّمت على كثير من النّطق مفضّلا؛ تسرّ نفسك في حالة الصّخب، وتريك وجه الرّضا في صورة الغضب؛ فمدّ إليها يد العدوان، وأطاع بأذاها أمر الشّيطان، ولم يرقب فيها

ص: 296

إلّا «1» ولا ذمّة، وحملها فحمّلنا من أذاها غمّة، ومزّق قشيب أثوابها، وحكّم مخالبه الحديدة في إهابها، فعظم مصاب من حوت داري بمصابها.

فلما وصلت رأيتها باكية ذات قلب مريض، وجناح مهيض، فسلّيتها بأنّ المصائب تلقّاها الأبرار، وترفّقت بها إلى أن رقأت تلك الأدمع الغزار، وأوردت:«إنّ جرح العجماء جبار» «2» ؛ وقلت: إيها لك وآها، لقد ارتكبت خطّة ما أليقها بعذرك وأولاها!!، «فلقد أنصف القارة من راماها» «3» ثم آليت أليّة برّة، لأوطئنّه من الوثاق جمرة، ولأقتصّنّ بهذه المرّة تلك المرّة؛ وأتيته بسلسلة تنبو أنيابه عن عجمها، ولا تثبت شياطين مكره برجمها؛ قد أبدع قينها الصّنعة بإحكامها، وأتى بالعجب في نظامها، فلله هو ممن تحكّم فيما يقطع الجلمد، فجعله من اللّطافة يحلّ ويعقد؛ فاستودعت عنقه منها أمينا لا يخفر وثيق ذمّته، ولا تتطرّق الأوهام إلى تهمته، مستحكم القوّة في الشّد، فتغيّظ تغيّظ الأسير على القدّ «4» ، ونظر إليّ بطرف حديد، وتذلّل بعد بأس شديد، وبصبص «5» بذنبه فقلت:«أمكرا وأنت في الحديد» «6» . فلمّا أيس من الخلاص، تلوت: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ

«7» .

ص: 297

فلما تمّ ما ذكرته، وأبدأته وأعدته، وردت رقعة سيّدنا على عقابيل «1» هذه الوقعة التي وقعت، وصدّت عن الجواب ومنعت، واقتضى بي الحال كتب هذه الخرافة وإن تشبّثت بأذيال الجدّ، فأخرجتها مخرج الهزؤ وإن دلّت على حوز قصبات المجد، ليعلم أن في الزّوايا خبايا، وإذا صحّ أنّ الأصول عليها تنبت الشّجر «فأنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا» .

هذا: وإن أبقى قراع الخطوب في حدّي فلولا، «فالفحل يحمي شوله معقولا» «2» ؛ ولقد تجمّعت الخطوب عليّ من كلّ وجهة وأوب، وطرقت الرّزايا جنابي من كلّ صوب، وجريت مع الخطوب كفرسي الرّهان، وما هممت بمقصد إلا سقط بي العشاء على سرحان؛ وبكل حبل يختنق الشّقيّ، ولعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي؛ والجلد يرى عواقب الأمور فيحمد عند النّجاح عقبى السّير وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ

«3» .

تجوز المصيبات الفتى وهو عاجز

ويلعب صرف الدّهر بالحازم الجلد

فسطّرت هذه الأحرف إلى سيّدنا ليوافق خبري عند أصحابه خبره، و «من يشتري سيفي وهذا أثره» واعلم أنها سيضرب بها في بابها المثل، وقد «أوردها سعد وسعد مشتمل» «4» .

وهذه رسالة في الشّكر على نزول الغيث، من إنشاء أبي عبد الله

ص: 298

محمد «1» بن أبي الخصال الغافقي الأندلسيّ، نقلتها من خطّ الشيخ شمس الدّين محمد بن محمد بن محمد بن سيّد الناس اليعمريّ المصريّ «2» وهي:

الحمد لله الذي لا يكشف السّوء سواه، ولا يدعو المضطرّ إلا إيّاه.

ننزل فقرنا بغناه، ونعوذ من سخطه برضاه، ونستغفره من ذنوبنا: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ

«3» .

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له إلها علا فاقتدر، وأورد عباده وأصدر، وبسط الرّزق وقدر، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي بشّر وأنذر، ورغّب وحذّر، وغلّب البشرى على الإقناط، ودلّ على الصّراط، وأشار إلى السّاعة بالأشراط، ولم يأل أمّته في الذّبّ والاحتياط، صلّى الله عليه وعلى الوزراء الخلفا، والبررة الأتقيا، والأشدّاء الرّحما، والأصحاب الزّعما، صلاة تملأ ما بين الأرض والسّما، وتوافيهم في كلّ الأوقات والآنا، وتضع الثّناء موضع الثّنا «4» .

ولما لقحت «5» حرب الجدب عن حيال، وأشفق ربّ الصّريحة والعيال، وتنادى الجيران للتّفرّق والزّيال، وتناوحت في الهبوب ريحها الجنوب والشّمال، وتراوحت على القلوب راحتا اليمين والشّمال، وأحضرت

ص: 299

أنفس الأغنياء الشّح، وودّوا أن لا تنشأ مزنة ولا تسحّ، وتوهّم خازن البرّ، أنّ صاعه يعدل صاع الدّرّ، وخفّت الأزواد، وماجت الأرض والتقت الرّواد، وانتزعت العازب القصيّ، فألقت العصيّ، وصدرت بحسراتها، وقد أسلمت حزراتها، وأصبحت كلّ قنّة فدعاء «1» ، وهضبة درعاء، (صفاه وها ونقبا وها)«2» ؛ والصّبح في كل أفق قطر أو قطع، والأرض كلّها سيف ونطع، والشّعر يشمر ذيله للنّفاق، ويضمّر خيله للسّباق؛ وجاء الجدّ وراح الهزل، وقلنا: هذه الشّدّة هذا الأزل؛ وللمرجفين في المدينة عجاجة ظنّوها لا تلبد، وقسيّ نحو الغيوب تعطف وتلبّد؛ فما يسقط السّائل منهم إلا على ناب يحرق، وشهاب يبرق؛ حتّى إذا عقدوا الأيمان، وأخذوا بزعمهم الأمان، وقالوا: لا يطمع في الغيث، وزحل في اللّيث، فإذا فارق الأسد، لكدّ ما أفسد «3» :

تخرّصا وأحاديثا ملفّقة

ليست بنبع إذا عدّت ولا غرب!

أنشأ الله العنان «4» ، وقال له: كن فكان؛ فبينما النّجوم دراريّها الأعلام، وأغفالها التي لا تحمد عندهم ولا تلام؛ قد اختلط مرعاها بالهمل، ولم تدر السدّة بالحمل؛ ولا علم الجدي بالرّئبال، ولا أحسّ الثّور بالرّامي ذي الشّمال؛ إذ غشيتها ظلل الغمام، وحجبتها أستار كأجنحة الحمام، وأخذت عليها في الطّروق، مصادر الغروب والشّروق؛ فما منها إلا مقنّع بنصيف، أو مزمّل في نجاد خصيف؛ لم تترك له عين تطرف، ولا ثقبة يطلع منها أو يشرف؛ فباتت بين دور متداركة السّقوط، ودرر متناثرة السّموط، وديم منحلّة الخيوط، وجيوش منصورة الأعلام، ثابتة الأقدام، وكتائب

ص: 300

صادقة الهجوم، صائبة الرّجوم، تطلب المحل ما بين التّخوم والنّجوم، وما زالت ترميه بأحجاره، وتحترشه في أجحاره، وتغزوه في عقر داره، حتّى عفّت على آثاره، وأخذت للحزن والسّهل بثاره.

فيا أيّها المؤمن بالكواكب، انظر إلى الدّيم السّواكب، واسبح في لجج سيولها، وارتح في ممرّ ذيولها، وسبّح باسم ربّك العظيم الذي قذف بالحقّ على الباطل، وأعاد الحلي إلى العاطل؛ فبرود الظواهر مخضرّة، وثغور الأزاهر مفترّة، ومسرّات النّفوس منتشرة، والدّنيا ضاحكة مستبشرة، وأرواح الأدواح حاملة، وأعطاف الأغصان مائلة، وأوراق الأوراق تفصّل، وأجنحة الظّلال تراش وتوصل، وخطباء الطّير تروي وتخبر، وشيوخ المحارب تهلّل وتكبّر، وإن من شيء إلا يخضع لجبروته، ويشهد لملكوته، وتلوح الحكمة ما بين منطقه وسكوته.

فأما الخطاطيف فقد سبق هاديها، ونطق شاديها، وتراجع شكرا لله ناديها؛ فعشّ يرمّ، ولبنة إلى أخرى تزمّ، وشعث يلمّ، وبدأة توفّى وتتم؛ وكأنّها حنّت نحو المشاهد، وسابقت اللّقالق إلى المعاهد، فظلّت اللّقالق بعدها نزّاعا، وسقطت على آطامها أوزاعا، وأجدّت إقطاعا، وأجابت من الخصب أمرا مطاعا، وحازت من الحدائق والبساتين إقطاعا؛ وسيغرّد في روضته المكّاء «1» ، ويضحكه هذا الوابل البكّاء، وترومه فلا تلحظه ذكاء؛ تحته من الأفنان النّاعمة قلاص، وأحصنته من الخضراء التّبّعيّة دلاص؛ فالويل لأهل الأقوال المنكرات، والنّيل لأهل الثّناء والخيرات، والمرعى والسّعدان «2» ، وأرض بكواكب النّور تزدان، وبقاع تدين الغيث كما تدان؛ أذكرها فذكرت، وسكرت من أخلاقه فشكرت، وعرّفها ما أنكرت؛ كأنّما

ص: 301

أعداؤها من أم خارجة نسب أو ملح، قالت لها: خطب فقال: نكح، فمثلت الأزهار بسبيله، ونبتت في مسيله، وثبتت كاللّحظة في شطّي خميله.

فمن نرجس ترنو الرّواني بأحداقه، وتستعير الشّمس بهجة إشراقه، ويودّ المسك نفحة انتشاقه، يحسد السّندس خضرة ساقه، ويتمنّاه الحمام بدلا من أطواقه؛ كحلّة ندى تترقرق، أو غصن بان لا يزال يورق.

ومن عرار تغنّى مطالعه على عرار، وكلفت به السّواري والغوادي كلف عمرو بعرار؛ فجاء كسوالف الغيد ترفّ، وكوميض الثّغور يعبق ويشفّ.

ومن أقحوان جرى على الثّنايا الغرّ، وسبك من ناصع الدّرّ؛ يقبّله النّسيم فيعبق، ويصبح الجوّ بما [

«1» ] ويغبق، ويستقبله ناظرا الشمس فيشرق.

ومن بنفسج كأطواق الورق، أو كاليواقيت الزّرق، تشرّف بأبدع الخلق، وتألّف من الغسق والخلق؛ تلحظه من بين أوراقه نواظر دعج بالأجفان وقيت، وبدموع الكحل سقيت؛ نسيمه ألين من الحرير، ونفسه أعطر من العبير؛ يفاخر به كانون البرد، مفاخرة نيسان بالورد.

وكلّ ربوة قد أخذت زخرفها وازّيّنت، وبيّنت من آيات الله ما بيّنت، كما تتوّج في إيوانه كسرى، واستقبلته وفوده تترى، وانقلبت عن حسن ناديه النّواظر حسرى، وكلّ تلعة مذانب نصولها تسلّ ومضارب فصولها لا تثنى؛ وأراقم تنساب، ولجين يدأب ويذاب؛ على حافاتها نجوم من النّور مشتبكة، وجيوب عن لبّات الغواني منتهكة؛ فلو افتتحت الظّهور والبطون،

ص: 302

ونطقت السّهول والحزون، لقالت: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ

«1» .

فشكرا لربّنا شكرا، وسحقا للذين بدّلوا نعمة الله كفرا؛ اللهمّ باريء النّسم، وداريء القسم، وناشر الرّحمة والنّعم، ومنزل الدّيم، وباعث الرّمم، ومحيي الأمم؛ فإنّا نؤمن بقدرك: خيره وشرّه، ونطوي غيثك على غرّه، ولا نتعرّض لنشره حتّى تأذن بنشره، ونعتقد ربوبيّتك كلّ الاعتقاد، ونبرأ إليك من أهل المروق والإلحاد، ونستزيدك من مصالح العباد ومنافع البلاد؛ رزقنا لديك، ونواصينا بيديك، وتوكّلنا عليك، وتوجّهنا إليك؛ ولا نشرك بك في غيبك أحدا، ولا يجد عبد من دونك ملتحدا؛ تباركت وتعاليت، وأمتّ الحيّ وأحييت الميت؛ لا هادي لمن أضللت ولا مضلّ لمن هديت، فاكفنا فيمن كفيت، وتولّنا فيمن تولّيت، إنّك تقضي ولا يقضى عليك، وتقرأ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً

«2» الآية.

وهذه نسخة رسالة، كتب بها الصاحب فخر الدّين عبد الرّحمن بن مكانس، تغمّده الله برحمته، إلى الشّيخ بدر الدين البشتكي عندما زاد النّيل الزيادة المفرطة، سنة أربع وثمانين وسبعمائة «3» ؛ وهي:

ربّنا اجعلنا في هذا الطّوفان من الآمنين، وسلام على نوح في العالمين.

ص: 303

ما تأخير مولانا بحر العلم وشيخه عن رؤية هذا الما؟، وما قعاده عن زرقة هذا النّيل الذي جعل الناس فيه بالتّوبة كالملائكة لمّا غدا هو أيضا كالسّما؟، وكيف لم ير هذا الطّوفان الذي استحال للزّيادة فما أشبه زيادته بالظّما؛ فهي كزيادة الأصابع الدّالّة في الكفّ على نقصه، وأولى أن ننشد بيت المثل بنصّه:

طفح السّرور عليّ حتّى إنّه

من عظم ما قد سرّني أبكاني!

فإنه قارب أن يمتزج بنهر المجرّة بل وصل وامتزج؛ وأرانا من عجائبه ما حقّق أنه المعنيّ [بقول القائل] : «حدّث عن البحر ولا حرج» ؛ وتجاوز في عشر الثّلاثين الحدّ، وأرانا بالمعاينة في كلّ ساحل منه ما سمعناه عن الجزر والمدّ، وأساء في دفعه فلم يدفع بالتي هي أحسن، وأقعد الماشي عن التّسبّب والحركة حتّى شكا إلى الله في الحالين جور الزمن، وسقى الناس من ماء حياته المعهودة كما شربوا من الموت أصعب كاس، وسئل ابن أبي الرّدّاد «1» عن قياس الزيادة فقال: زاد بلا قياس؛ امتلأ اليباب، وهال العباب، وضاع العدّ واختلط الحساب؛ كال فطفّف، وزار فما خفّف؛ غسل الجسور، وأعاد الإملاق بعزمه إلى البحور، وبرع فكان أولى بقول الحلّي من ابن منصور:

بمكارم تذر السّباسب أبحرا

وعزائم تذر البحار سباسبا!

ص: 304

جمع في صعوده إلى الجبال بين الحادي والملّاح، ودخل النّاس إلى أسواق مصر وخصوصا سوق الرّقيق على كلّ جارية ذات ألواح، وغدا التّيّار ينساب في كلّ يمّ كالأيم، وأصحبت هضاب الموج في سماء البحر وكأنّما هي قطع الغيم، واستحالت الأفلاك فكلّ برج مائيّ، وتغيّرت الألوان فكلّ ما في الأرض سمائيّ، وحكى ماؤه حكاكة الصّندل لمّا مسّه شيطان الرّيح فتخبّط، وزاد فاستحال نفعه فتحقّق ما ينسب إلى الصّندل من الاستحالة إذا أفرط؛ فلقد حكت أمواجه ودوائره الأعكان «1» والسّرر، وغدا كلّ حيّ ميّتا من زيادته لا كما قال المعرّي: حيّا من بني مطر «2» ؛ وتحالى إلى أن أقرف اللّيمون الأخضر، واحمرّت عينه على الناس فأذاقهم الموت الأحمر؛ ولقد صعب سلوكه وكيف لا؟ وهو البحر المديد، وأصبح كلّ جدول منه جعفرا «3» ويزيد:

فلست أرى إلا إفاضة شاخص

إليه بعين أو مشيرا بأصبع!

فلكم قال الهرم للسّارين يا سارية الجبل، وأنشد وقد شمّر ساقه للخوض: أنا الغريق فما خوفي من البلل؟ وكم قال أبو الهول: لا هول إلا هول هذا البحر، وقال المسافرون: ما رأينا مثل هذا النّيل من هنا إلى ماوراء النّهر، وقال المؤرّخون: لم ننقل كهذه الزيادة من عهد النّهروان وإلى هذا الدّهر.

وكيف يسوغ لمولانا في هذه الأيام غير ارتشاف فم الخمور؟ ولم لا يغيّر مذهبه ويطيّب على هذه الخلج بالسّلسل والدّور؟؛ وكيف وكيف؟!!،

ص: 305

ولم لا يتّخذ مولانا حمو النّيل وبرده رحلة الشّتاء والصّيف؟؛ وهو في المبادرة إلى علوّ المعالي وغلوّ المعاني، وانتهاز الفرص في بلاغ الآمال وبلوغ الأماني:

عجب من عجائب البرّ والبحر

ونوع فرد وشكل غريب!

نعم:

من قاسكم بسواكم

قاس البحار إلى الثّماد!

أعلى الأنام في العلوم قدرا، وإمام النّحاة من عهد سيبويه وهلمّ جرّا، وشيخ العروضيين على الحقيقة برّا وبحرا:

وشيخ سيحون والنّيل

والفرات ودجله

وشيخ جيحون أيضا

وشيخ نهر الأبلّه!

أي والله:

أقولها لو بلغت ما عسى:

الطّبل لا يضرب تحت الكسا!

لا مخبأ لعطر بعد عروس، أنت أعوم في بحور الشّعر من ابن قادوس «1» ، وأصلح إذا حدّثت من صالح بن عبد القدّوس، وأشهى إذا هزلت من ابن حجّاج إلى النّفوس:

ولو أنّ بحر النّيل جاراك مازحا

وحقّك ما استحلى له الناس زائدا!

نعود إلى ما كنّا فيه من وصف النيل، وذكر حاله الذي أصبح كما قال ابن عبد الظّاهر: كوجه جميل: فلو رآه مولانا وقد هجم على مصر فجاس خلال الدّيار، ودخل إلى المعشوق فتركه كالعاشق المهجور لم ير منه غير

ص: 306

الآثار، لبكى بعيني «عروة» ، وأوى من الرّصد وقد تفجّرت من صلده عيون النّزّ إلى ربوة، أورنا لروض «الجزيرة» وقد خلع حلاه، وتخلخلت عرائس أشجاره على الحالين بالمياه، والنّخيل وقد قتلت ملّاكها- حين فتك- بالأسف، وجفّ أحمر ثمرها وأصفره قأرانا العنّاب والحشف، و «الجيزة» وقد قلت لها: تبّا لجارك النّيل إذ أفسدك صورة ومعنى، وسكن مغانيك فسقى ديارك بغير استثنا، وقراها الغربيّة وقد قلت لها حين أوت إلى أعالي الأرض هربا من المياه، واعتصمت بالجبل الغربيّ: لا عاصم اليوم من أمر الله- وكلّ سفينة وقد علت على وجه الماء، وارتقت لارتقاء البحر إلى أن اختلطت بالسّماء؛ وقد قالت لها أترابها عند الفراق: إلّا ترجعي، وقلنا لها نحن على سبيل التّفاؤل: يا سماء أقلعي؛ والنّيل تبدو عليه القلوع خافية فكأنّها الخيام بذي طلوح «1» ، وجار على الناس بطغيانه فكأنّما هو أخو فرعون مصر أو ابن طوفان نوح.

فلقد طار النّسر مبلول الجناح، ودنا نهر المجرّة من السّكارى بالشّخاتيت «2» إلى أن كاد يدفعه من قام بالرّاح، ونرجس البساتين وقد ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم، وفارق أحبابه من الرّياحين ولم يبق له غير القلانس صديق وغير الماء حميم، والورد وقد قيل له: مالك من آس، وغصن البان وقد قيل له: طوبى لمن عانقك ولا باس، والأسماك وقد ألجمهم العرق، والقلقاس وقد شكا شكوى ابن قلاقس وابنه من الغرق «3» ،

ص: 307

والقصب بالجيزة وقد شرب ماء النّزّ فهو بئس الشّراب، والقصب ببولاق لم ينجه من مشاهدة الغرق إلا كونه غاب، والفارسيّ بالبساتين وقد ترجّل ووقع فأرانا كيف تكسير الأقصاب؛ وقيل للآس: عالج جيرانك بالغيطان فالنّاس بالنّاس، وبادر إلى جبر ما كسر فالحاجة تدعو المكسور في الحالين إلى الآس.

هذا وأنا مقيم بالروضة «1» إذ زهت على سائر الرّياض، وسلّم جوهر حصبائها من أكثر هذه الأعراض؛ وإن اعتلّت بالاستسقاء فهو عين الصّحّة كما ينسب السّقم إلى العيون المراض، أو كما قال المملوك قديما من قصيدة في بعض الأغراض:

وقائل: في لحاظ الغيد باقية

من السّقام وما ضمّت خصورهم

وفي النّسيم فقلت: الأمر مشتبه

عليك فالزم فأنت الحاذق الفهم

قلت الصّحيح ولكنّي بموجبه

أقول: تلك دواة برؤها السّقم!

قد أحاط بها النّيل إحاطة المراشف باللّما، فأشرقت ضياء بين زرقته فكأنّها البدر في كبد السّما:

بصحن خدّ لم يغض ماؤه

ولم تخضه أعين النّاس!

متعطّش مع هذا الطّوفان لريّاك، متشوّف وإن كنت مغازل النّجوم الأرضية والسّمائيّة يا بدر لرؤياك؛ لكنّي يسليني أني ما نظرت إلى النّيل إلا

ص: 308

رأيتك من سائر الجهات، ولا لمحت بيوت البحر بل البحور إلا رأيتك عمارة الأبيات:

ولا هممت بشرب الماء من عطش

إلا رأيت خيالا منك في الماء!

ولكن للعيان لطيف معنى

له طلب المشاهدة الكليم!

فهلمّ إلى التّمتّع برؤية هذا النّيل الذي لم تر مثله العيون، والنّظر إلى سائر المخلوقات لعمومه وكلّ في فلك يسبحون؛ فليس يطيب للتّلميذ رؤية هذا البحر بغير رؤية شيخه، ولا يلذّ له التّملّي بمشاهدة هذا الفلك ما لم يشرق وجهه وذهنه ببدره ومرّيخه؛ فما هذا الإهمال؟، وليت شعري يا أديب تشاغلك بأيّ الأعمال؟، أبالكتابة؟ فلتكن في هذا النّيل الذي هو كالطّلحيّة «1» بغير مثال، أو بالنّثر والنّظم؟ ففي هذا البحر الذي منه تؤخذ الدّرر وفيه تضرب الأمثال؛ ولقد ولّد فيه الفكر للمملوك، كيف تصادم الأكفاء وقهر الملوك للملوك؛ فإنه لم يسمع في مملكة الإسلام، ولا ورّخ في عام من الأعوام، بمثل هذه الزيادة الزائدة، والجري على خرق العادة التي لا جعل الله بها صلة ولا منها عائدة؛ وغاية ما وصل إليه في الماضي من عشرين:

فضيّق بسعته المسالك، وأوجب المهالك، وتطرّق تطرّق أهل الجرائم والفساد فقطع الطّريق على السّالك، وأحوج مرّات إلى الاستضحاء لا أحوج الله لذلك.

ودليل ما شمل به من الفساد، وما عامل به البلاد وأهل البلاد، ما قاله أدباء كلّ عصر، عندما أبيح للمسافر في مدّ عرضه القصر.

فمن ذلك ما قاله مولانا القاضي الفاضل، وما هو رحمه الله إلا بحر طفح درّه، فلله درّه، من رسالة:

ص: 309

«ورود مثاله يتضمّن نبأ سطوره العظيمة أمر طوفان النّيل التي كأنّها جداوله، وأنّه جاد لمؤمّله بنفسه التي ليس في يده غيرها فليتّق الله سائله

...» .

ومنها: «ولم يزل يجري لمستقرّ له، ويضمّه شيئا فشيئا إلى أن أدرك آخره أوّله؛ حتى إذا تكامل سموّ أمواجه حالا على حال، وتنوّر أقاصي الأرض من بنية المقياس فأدناها النّظر العال، فلم يترك بقعة كانت من قبل فارغة إلا وكلّها عند نظره ماق، وليت هواه المعتلّ كان عدلا فحمّل كلّ غدير ما أطاق؛ وطالما جرى بالصّفا ولكن كدّر صفاه بهذا المسعى، والمرجوّ من الله أن يتلو ما أفسده هذا الماء ما يصلحه خروج المرعى» .

وما قاله القاضي محيي الدّين بن عبد الظاهر، سقى الله تلك الألفاظ النّيليّة صوب الماطر:

«.. وينهي إليه أمر النّيل الذي سرّ في أوائله الأنفس بأنفس بشرى، ويقصّ عليه نبأه العظيم الذي ما يرينا من آية إلا هي أكبر من الأخرى، ويصف له ما ساقه إلى الأرض من كلّ طليعة إذا تنفّس اللّيل تفرّق صبحها وتفرّى؛ فهو وإن كان خصّ الله البلاد المصرية بوفوره ووفائه، وأغنى به قطرها عن القطر فلم يحتج إلى مدّ كافه وفائه، ونزّهه عن منّة الغمام الذي هو إن جاد فلا بدّ من شهقة رعده ودفعة بكائه، فقد وطيء بلادها بعسكره العجّاج، وزاحم ساحتها بأفواج الأمواج، فعمل فيها بذراعه، ودار عليها بخناقه وتخلّلها بنزاعه، وحملها على سواري الصّواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه، وزار زرابيّ الدّور المبثوثة، وجاس خلال الحنايا كأنّ له فيها خبايا موروثة، ومرق كالسّهم من قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من الأقمار والنّجوم أشعّتها المعكوسة، وحمل على بركة الفيل «1» حمل الأسود على الأبطال، وجعل «المجنونة» «2» من تيّاره

ص: 310

المنحدر في السّلاسل والأغلال؛ والمرجوّ من الله أن يزيل أذاه، ويعيد علينا منه ما عهدناه؛ فأنّ له الإياب الأكبر، وفيه العجائب والعبر؛ فها وجود الوفاء، عند عدم الصفاء، وبلوغ الهرم، إذا احتدم واضطّرم؛ وأمن كلّ فريق، إذا قطع الطّريق، وفرح قطّان الأوطان، إذا كسر وهو كما يقال:

سلطان؛ إلى غير ذلك من خصائصه، وبراءته مع الزيادة من نقائصه؛ طالما فتح أبواب الرّحمة بتعليقه، وفاز كلّ أحد عند رؤية مائه المعصفر بتحليقه» .

وما قاله المولى زين الدّين عمر الصّفديّ- تغمّده الله بعفوه- وجمع له بين حلاوة الكوثر وصفوه:

«وأما النّيل فقد أخذ الدّار والسّكّان، وقال ابن الخامل كما قال ابن النّبيه: الأمان الأمان، وبكى الناس عندما رأوه مقبلا عليهم بالطّوفان، وانسابت أراقم غدرانه في الإقليم فابتلعت غدران أراقمه، ومحاسيله المتدفّق معالمه المجهولة فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه، وأحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين السماء بسور، وأخذ الطريق على السّالكين فلا مركب إلا المراكب ولا عاصم إلا البحور» .

وما قاله السديد «ابن كاتب المرج» «1» ، نصرة الأقباط، وأحد عمد

ص: 311

الشّعر المشهورة بالفسطاط؛ فما أطيب مدائحه النّبويّة التي جعلها سورا بينه وبين النار، وما أعجب رثاءه: جعل الله قبره بالرحمة كالرّوض غبّ القطار!!!:

يا نيل يا ملك الأنهار قد شربت

منك البرايا شرابا طيّبا وعذا

وقد دخلت القرى تبغي منافعها

فعمّها بعد فرط النّفع منك أذى

فقال: يذكر عنّي أنّني ملك

وتعتدي ناسيا: إنّ الملوك إذا «1» !

وما قاله شيخنا الشّيخ جمال الدين بن نباتة «2» الذي أطاعته من الآداب جوانح نظمها ونثرها، وسخّرت له بحور الشّعر فقالت له الآداب:

اختر من درّها؛ فسبحان من يسّر له ممتنع الكلام وهوّنه، وجعله من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه؛ فما أشفّ دقيق فكره الجليل، وما أكثر ما يضحك زهر تقاطيعه على زهر مقطّعات النّيل؛ فما كان إلا مخصوصا في الأدب ببحور الهبات، وكلامه في العذوبة والبلاغة يزري بالفرات وابن الفرات «3» ؛ وإن قيل أيّ أصدق كلمة قالها شاعر بعد لبيد، يقال قول ابن نباتة:

فلا عجب للفظي حين يحلو

فهذا الفطر من ذاك النّبات!

وأما النّيل فقد استوى على الأرض فثبتت فيها قدمه، وامتدّ نصل تيّاره كالسّيف الصّقيل فقتل الإقليم وهذا الاحمرار إنّما هو دمه:

حمرتها من دماء ما قتلت

والدّم في النّصل شاهد عجب!

ص: 312

فلم يترك وعدا بل وعيدا إلا وفّاه، ولا وهدا بل جبلا إلا أخفاه؛ أقبل كالأسد الهصور إذا احتدّ واضطّرم، وجاء من سنّ الجنادل فتحدّر وعلا حتى بلغ أقصى الهرم، وعامل البلاد بالحيلاء وكيف لا؟ وهو سلطان جائر أيّد بالنّصر، قائلا: إن كنت بليت بالاحتراق في أرضكم فأنا أفيض بأن أرمي من بروق تيّاري بشرر كالقصر.

هذا وطالما قابلنا قبلها بوجه جميل، وسمعنا عنه كلّ خبر خير ثابت ويزيد كما قال «جميل» ، وكلّ بديع من آثار جود يصبغ الثّرى فيخضرّ بخلاف المشهور عن صبغة اللّيل، وطالما خصصناه بدعاء فكانت الراحة به كمقياسه ذات بسطة، وكمنازل الخصب بقدومه المبارك ذات غبطة، ومنحناه بولاء وثناء هذا يدور من الإخلاص بفلك وهذا يعذب من البحار بنقطة؛ كم ورد إلى البلاد ضيفا ومعه القرى، وكم أتى مرسلا بمعجز آيات الخصب إلى أهل القرى؛ فهو جواد قد خلع الرّسن، ساهر في مصالح الخلق وقد ملأ الأمن أجفانهم بالوسن، جامع لأهل مصر من سقياه ومرعاه ووجهه بين الماء والخضرة والوجه الحسن؛ كم بات سير مقياسه يشمل بظلّه الغائبين والحاضرين، وكم رفع على الوفاء راية صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين، وبلغ وبلّغ بخرير التّيّار سلامه، وبات الناس بوفائه من حذار الغلاء تحت السّتر والسّلامة، وخلّق صدر العمود «1» وكيف لا يخلّق بشير العباد والبلاد، ودعا مصر لأخذ زخرفها فسواء قيل: ذات العمود أو ذات العماد، وبسط يده ببركة الماء فقيل: سلام لك من أصحاب اليمين، وخضّب بنانه وأقسم بحصول الخير فقيل لمخضوب البنان يمين، وأشار إلى وصول المدّ المتتابع، وقبض يده المخلّقة على الماء فوفت وما خابت فروج الأصابع، ونادى رائد

ص: 313

الوفاء ولكن كم حياة في الأرض لمن ينادي، وتمّت أصابع الزيادة ونمت حتّى قال الناس: ما ذي أصابع ذي أيادي.

هذا وقد قرنت زرابيّ الدّور المثوثة بالنّمارق «1» ، وقال المقياس:

تغطّت منها الدّرج فنال الرّجاء وظهرت الدّقائق؛ فهو جمّ المنافع، عذب المنابع، يشار في الحقيقة والمجاز إليه بالأصابع.

فأعاده الله إلى ذلك النّفع المعهود، وأرانا منه الأمان من الطّوفان إلى أن نرد الحوض المورود، وكفى أهل مصر هذه المصيبة التي إذا أصابتهم قالوا: إنّا لله وإنا إليه راجعون، ولا ابتلاهم بمثل ما ابتلى به قوما جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم فإنّما يستغشي ثيابه منهم الفقراء في المطر ويجعل أصابعه في آذانه منهم المؤذّنون؛ اللهمّ إنك وليّ النّعمة، وأولى برحمة خلقك من فيض هذه الرّحمة» .

وما قاله صاحبنا الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة «2» الذي كان أغرب من زرقاء اليمامة، وأعجب إذا ركب بغلته وزرزوره من أبي دلامة، الأديب الذي كان حجّة العرب، والناثر الذي كان بنسبته إلى الطّيور محرّك المناطق وإلى الشّعر صنّاجة الأدب، والنّاظم الذي كان إذا أنشد مقاطيعه في التّشبيب فاق على المواصيل ذوات الطّرب، والصّديق الذي كانت منه عوائد الوفاء مألوفة، وشيخ الصّوفيّة الذي لا عجب إذا كانت له المقامات الموصوفة، أسكنه الله فسيح الجنان، وخصّ ذلك الوجه الجميل بالعارض الهتّان، من مقامته الزّعفرانيّة عن أبي الرّياش:

«فاعتنقته لدى السّلام، وقلت: ما وراءك يا عصام؛ فقد بلغنا أن النّيل

ص: 314

تزايد دفعه، وأدّى إلى الضّرر نفعه، فقال: خذ العفو، ولا تكدّر بذكر النّيل الصّفو؛ فقد امتزج بالمعصرات ثجّاجه، وأعيى طبيب الغيطان علاجه:

وشرّق حتّى ليس للشّرق مشرق

وغرّب حتّى ليس للغرب مغرب!

قلت: فما فعل النّغير «1» ، بجزيرة الطّير، قال: لم يبق بها هاتف يبشّر بالصّباح، ولا ساع يسعى برجل ولا طائر يطير بجناح، إلا اتخذ نفقا في الأرض أو سلّما في السّماء، أو أوى إلى جبل يعصمه من الماء، فأذاق بها الحمام الحمام في المروج، وترك أرضها كسماء ما لها من فروج، وتلا على الحمام: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ

«2» . وكم في سماء مائها من نسر واقع، وبومة تصفّر على ديارها البلاقع:

ومنهل فيه الغراب ميت

سقيت منه القوم واستقيت!

قلت: فمصر؟ قال: زحف عليها بعسكره الجرّار، ونفط مائه الطّيّار.

قلت: فالجيزة؟ قال: طغى الماء حتّى علا على قناطرها وتجسّر، ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسّر، فأصبح بعد اخضرار بزّته شاحب الإهاب، ناصل الخضاب، غارقا في قعر بحر يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب «3» ، وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء، وترك الطّالح كالصّالح يمشي على الماء، فتنادوا مصبحين، ألّا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين، وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص، وغشيهم من اليمّ ما غشيهم ولات حين مناص، وخرّ عليهم السّقف من فوقهم فهدّت قواهم، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصّالحات وقليل ما هم.

ص: 315

قلت: فالرّوضة؟ قال: أحاط بها إحاطة الكمام بزهره، والكأس بحباب خمره:

فكأنّها فيه بساط أخضر

وكأنّه فيها طراز مذهب!

فلم يكن لها بدفع أصابعه يدان، وكم أنشد مرجها حين مرج البحرين يلتقيان:

أعينيّ كفّا عن فؤادي فإنّه

من البغي سعي اثنين في قتل واحد

قلت: فدار النّحاس «1» ؟ قال: أنحس حالها، وأفسد ما عليها وما لها، فدخل من حمّامها الطّهر، وقطع الطريق بالجامع الظّهر؛ فألحق مجاز بابه بالحقيقة، ورقي منه على درجتين في دقيقة؛ كم اغترف ما جاوره من الغرف غرفا، وأطلق من مائه الأحمر النّار بموردة الخلفا.

قلت: فالخليج الحاكميّ «2» ؟ قال: خرج عسكر موجه بعد الكسر على حميّة، ومرق من قسيّ قناطره مروق السّهم من الرّميّة.

قلت: فالمنشاة «3» ؟ قال: أصبحت للبحر مقرّة، بعد أن كانت للعيون قرّة، وقيل لمنشئها: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها قال: يحييها الذي أنشأها

ص: 316

أوّل مرّة؛ قد مال على ما فيها من شون الغلال كلّ الميل، وتركها تتلو بفمها الذي شفتاه مصراعا بابها: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ

«1» .

قلت: فجزيرة أروى «2» ؟ قال: قد أفسد جلّ ثمارها، وأتى على مغانيها فلم يدع شيئا من رديّها وخيارها؛ أخلق ديباجة روضها الأنف، وترك قلقاسها في الجروف على شفا جرف:

بعيني رأيت الماء يوما وقد جرى

على رأسه من شاهق فتكسّرا!

طالما تضرّع بأصابعه إلى ربّه، ولطم برؤوسه الحيطان مما جرى من الماء على قلبه، وتمثّل بقول الأوّل:

وإن سألوك عن قلبي وما قاسى

فقل: قاسى، وقل: قاسى وقل: قاسى،

لم يفده تحصّنه من ورقه بالدّرق والسّتائر، ولا حنّ عليه حين تضرّع بأصابعه فصحّ أن الماء سلطان جائر.

قلت: فحكر ابن الأثير «3» ؟ قال: لم يبق منه غير الثّلث والثلث كثير؛ قد أخمل من دوره خمائلها، وجعل عاليها سافلها؛ فكم دار أعدم صاحبها قراره، ونادى في عرصاتها المتداعية: إيّاك أعني فاسمعي يا جارة؛ فأصبحت بعد نفعها قليلة الجدا، مستولية عليها يد الرّدى، شبيهة بدار الدّنيا لأنها دار متى أضحكت في يومها أبكت غدا.

قلت: فبولاق؟ قال: إملاق، قد التفّت بها من الزّلق السّاق بالسّاق،

ص: 317

فأتى من النّوتية على الصّغير والكبير، ومن المراكب وممرّها على النّقير والقطمير «1» .

هذا بعد أن ترك جامع الخطيريّ «2» على خطر، وحيطانه يانعة الثّمر؛ قد دنا قطافها، وحان تلافها؛ فكأنّي به وقد منع رفده، وتلا على محرابه سورة السّجدة.

قلت: فجزيرة الفيل «3» ؟ قال: اقتلع أشجارها بشروشها، وترك سواقيها خاوية على عروشها.

قلت: فالتاج والسبعة وجوه «4» ؟ قال: هجم على حرمها، وعمّ الوجوه من فرقها إلى قدمها؛ فبلّ ثرى الموتى في التّخوم، وعنت الوجوه للحيّ القيّوم؛ قلت: فما الحيلة؟، قال: ترك الحيلة:

دعها سماويّة تجري على قدر

لا تفسدنها برأي منك راضي «5»

طال الكتاب، وخرجنا عن فصل الخطاب:

ولربّما ساق المحدّث بعض ما

ليس النّديّ إليه بالمحتاج!

وكأنّي بقائل يقول: أليس من الكبر أن يستخدم هذا في رسالته ملوك الكلام، ومن الحمق أن يجلي عرائس أفكاره بما للناس من حلي النّثار

ص: 318

والنّظام، فأقول: مسلّم أنّ كلّ ما أوردته درر وجواهر، وعقود كزهر الرّبيع عيون وجوهها النواضر نواظر، ولكنّها هاهنا أمثل، وجمع شملها على هذي العروس أجمل:

وفي عنق الحسناء يستحسن العقد!

وعلى الجملة فيرجع المملوك إلى التّواضع وهو الأليق بالأدب، فيقول: لا عيب على الفقيرة إذا تجمّلت بحليّ الغنيّة، ولا عار على الجوهريّ إذا نظم سلكا كانت درره على الطّرق مرميّة؛ ونرجع إلى ما ولّده الفكر من عجب البحر، وما ظهر من دفع الملوك لأمثالها عن جريها إلى غاياتها بصور القمر، فأقول: إنما قالت الأدباء ذلك لما جرى من جور النّيل على الأرض، ولما عمّ الناس من الإرجاف بطول أذاه وهرجه فكأنّما هم في يوم العرض؛ وكلّ ذلك وما وصل إلى هذا الارتفاع، وربّما كان أنقص من هذه الزيادة بقريب الذّراع.

وعلى هذا القياس إنّما دفع ضرره، وجمّل في البلاد أثره، وحسّن في السّماء خبره وفي الأرض مخبره، السّريّ الذي اهتمامه بالمعروف معروف، وسيف الدّين الذي سهر في مصالح الرّعايا لمّا تنام ملء أجفانها السّيوف، أتابك العساكر، والملك الذي هو بالإسلام وله منصور وناصر؛ حصّن سائر الكوى بالجسور، وركز على أفواه البحر والخليج الأمراء كما يركز المجاهدون على الثّغور، وقابل البحر من سطواته بما ليس له به قبل، وردّ دفعه بكلّ دفع من الرّأي والتّدبير يغني عن البيض والأسل، وحاربه بجيش عزم إلى أن ولّى هاربا مع التراع والقناطر، وجاهده بجند ركزهم على جوانبه لمّا تحقّق أن البحر سلطان جائر، وحصره بالتّضييق عليه كما تحصر البرك والتراع، وغلّ يده عن التّصرّف فسقاه الموت كما سقى الناس أنواع النّزاع؛ فما هو إلا أن تضاءل بنيران سطواته واحترق، وذلّ خاضعا وكفى به تضرّعا بالأصابع وتوسّلا بالملق، وأطاع لمّا لم تنجه مجاهرته من تيّاره بالسيوف ولا تحصّنه من داراته بالدّرق.

ص: 319

على أنه تطاول ليضاهي بأصابعه جود أياديه فقصّر، وتحسّر فركب خيل خيلائه ليحاكي بأسه فوقع من جسور عجبه وتقطّر، وسمت نفسه كبرا لأن يبلغ قدره فقيل: يا بحر هذا خليفة الله في أرضه والله أكبر؛ نعم:

رأى البحر الخضمّ نداه طام

يفيض على الورى منه بحار

فصار البحر ملتطما وأضحى

على الحالين ليس له قرار!

فلو زدت في أيّام غيره من الملوك المترفين، وفيمن يؤثر ملاذّ نفسه على مصالح المسلمين، كنت أيّها الملك بلغت قصدك، وفعلت في أبناء مصرك جهدك، وكنت من الملوك الّذين إذا دخلوا قرية انتعلوا فيها الأهلّة، وأفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة؛ لكن هبّ قبولك إدبارا، ولاقت ريحك إعصارا؛ فليس لك به قبل، «والسّيل أدرى بالجبل» ؛ فما لك سبيل إلى بلاده، ولا طاقة بإياب الخير على عناده؛ فإنه خادم الحرمين، والمدعوّ له حتّى في مواقف الحرب بين العلمين؛ حامي السّواحل والثّغور، والمخدوم بأيادي السّحائب وأصابع البحور، وإن كنت يا أبا خالد أبا جعفر فلست بمنصور؛ والرّأي أن تقف مستغفرا، وتقول معتذرا؛ لم أفرط بالزيادة في أيامه، ولم أفض على طرف الميدان إلا لأفوز بتقبيل آثار جوادّ خيله ومواطيء أقدامه، ونتّبع نواهيه ونمتثل أوامره، وندعو له كالرّعايا بطول البقاء في الدّنيا وحسن الثواب في الآخرة.

ونحن نسأل الله كما بلّغ بك المنافع، أن يرينا كوكب نؤئك عن قريب راجع؛ وكما أغنى بزيادتك عن الاستسقاء، لا يحوجنا في نقصك إلى الاستضحاء، إنه سميع مجيب الدّعاء، بمنّه وكرمه.

ص: 320