الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليّات
«1»
اعلم أنه ربّما اعتنت الملوك ببعضه، فاقترحت على كتّابها إنشاء شيء من الأمور الهزليّة، فيحتاجون إلى الإتيان بها على وفق غرض ذلك الملك، كما وقع لمعين «2» الدّولة بن بويه الدّيلميّ في اقتراحه على أبي إسحاق الصّابي كتابة عهد بالتّطفّل، لرجل كان عنده اسمه عليكا، ينسب إلى التّطفّل، ويسخر منه السلطان بسبب ذلك.
وهذه نسخة عهد بالتّطفّل، التي أنشأها أبو إسحاق الصّابي لعليكا المذكور:
هذا ما عهد عليّ بن أحمد المعروف بعليكا إلى عليّ بن عرس الموصلّي، حين استخلفه على إحياء سننه، واستنابه في حفظ رسومه، من التّطفّل على أهل مدينة السّلام وما يتّصل بها من أرباضها وأكنافها، ويجري
معها في سوادها وأطرافها، لما توسّمه فيه من قلّة الحياء، وشدّة اللّقاء، وكثرة اللّقم، وجودة الهضم، ورآه أهلا له من سدّ مكانه، والرّفاهة المهملة التي فطن لها، والرّقاعة «1» المطّرحة التي اهتدى إليها، والنّعم العائدة على لا بسيها بملاذّ الطّعوم، وخصب الجسوم، وردّا على من اتسعت حاله، وأقدره الله على غرائب المأكولات، وأظفره ببدائع الطّيّبات، آخذا من ذلك كلّه بنصيب الشّريك المناصف، وضاربا فيه بسهم الخليط المفاوض، ومستعملا للمدخل اللّطيف عليه، والمتولّج العجيب إليه، والأسباب التي ستشرح في مواضعها من أوامر هذا الكتاب، وتستوفى الدّلالة على ما فيها من رشاد وصواب؛ وبالله التّوفيق وعليه التّعويل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز، والحرز الحريز، والرّكن المنيع، والطّود الرّفيع، والعصمة الكالئة، والجنّة الواقية، والزّاد النّافع يوم المعاد، وحيث الأمثلة من الأزواد، وأن يستشعر خيفته في سرّه وجهره، ويراقبه في قوله وفعله، ويجعل رضاه مطلبه، وثوابه مكسبه، والقربة منه أربه، والزّلفى لديه غرضه، ولا يخالفه في مسعاة قدم، ولا يتعرّض عنده لعاقبة ندم، ولا يقدم على ما كره وأنكر، ولا يتقاعس عما أحبّ وأمر.
وأمره أن يتأدّب بأدبه فيما يأتي ويذر، ويقف على حدوده فيما أباح وحظر، فإنه إذا كان ذلك هجّيراه وديدنه «2» ، وجرى عليه منهاجه وسننه، تكفّل الله له بالنّجاح والصّلاح، وأفضى به إلى الرّشاد والفلاح، وأظفره بكلّ بغية، وأوصله إلى كلّ مشية، ولم يخله من الفوز بما يرصد، والحوز بما يقصد؛ بذاك وعد، وكذاك يفعل؛ وما توفيقنا إلا بالله، ولا مرجعنا إلا إليه.
وأمره أن يتأمّل اسم التّطفيل ومعناه، ويعرف مغزاه ومنحاه، ويتصفّحه تصفّح الباحث عن حظّه بمحموده، غير القائل فيه بتسليمه
وتقليده، فإنّ كثيرا من الناس قد استقبحه ممن فعله، وكرهه لمن استعمله، ونسبه فيه إلى الشّره والنّهم، وحمله منه على التّفه والقرم؛ فمنهم من غلط في استدلاله، فأساء في مقاله، ومنهم من شحّ على ماله، فدافع عنه باحتياله؛ وكلّ الفريقين مذموم، وجميعهما ملوم؛ لا يتعلقان بعذر واضح، ولا يعتريان من لباس فاضح؛ ومنهم الطائفة التي ترى فيها شركة العنان: فهي تتدلّه إذا كان لها، وتتدلّى عليه إذا كان لغيرها، وترى أن المنّة في المطعم للهاجم الآكل، وفي المشرب للوارد الواغل؛ وهي أحقّ بالحرّيّة، وأخلق بالخيريّة، وأحرى بالمروّة، وأولى بالفتوة؛ وقد عرفت بالتّطفيل، ولا عار فيه عند ذوي التّحصيل، لأنه مشتقّ من الطّفل وهو وقت المساء، وأوان العشاء، فلما كثر استعمل في صدر النّهار وعجزه، وأوّله وآخره، كما قيل للشّمس والقمر:
قمران وأحدهما القمر، ولأبي بكر وعمر: العمران وأحدهما عمر؛ وقد سبق إمامنا «بيان» رحمة الله عليه إلى هذا الأمر سبقا أوجب له خلود الذّكر، فهو باق بقاء الدّهر، ومتجدّد في كلّ عصر؛ وما نعرف أحدا نال من الدّنيا حظّا من حظوظها فبقي له منه أثر يخلفه، وصيت يستبدّ به إلا هو وحده، فبيان رضوان الله عليه يذكر بتطفيله كما تذكر الملوك بسيرها؛ فمن بلغ إلى نهايته، أو جرى إلى غايته، سعد بغضارة عيشه في يومه، ونباهة ذكره في غده؛ جعلنا الله جميعا من السابقين إلى مداه، والمذكورين كذكراه.
وأمره أن يعتمد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه، وسمط الأمراء والوزراء بسراياه، فإنه يظفر منها بالغنيمة الباردة، ويصل عليها إلى الغريبة النّادرة؛ وإذا استقراها وجد فيها من طرائف الألوان، الملذّة للسان، وبدائع الطّعوم، السّائغة في الحلقوم، ما لا يجده عند غيرهم، ولا يناله إلا لديهم، لحذق صناعتهم، وجودة أدواتهم، وانزياح عللهم، وكثرة ذات بينهم؛ والله يوفّر من ذلك حظّنا، ويسدّد نحوه لحظنا، ويوضّح عليه دليلنا، ويسهّل إليه سبيلنا.
وأمره أن يتّبع ما يعرض لموسري التّجّار، ومجهّزي الأمصار، من
وكيرة «1» الدّار، والعرس والإعذار، فإنهم يوسّعون على نفوسهم في النّوائب، بحسب تضييقهم عليها في الرّاتب؛ وربّما صبروا على تطفيل المتطفّلين، وأغضوا على تهجّم الواغلين، ليتحدّثوا بذلك في محافلهم الرّذلة، ويعدّوه في مكارم أخلاقهم النّذلة؛ ويقول قائلهم الباجح باتّساع طعامه، المباهي بكثرة حطامه: إنّني كنت أرى الوجوه الغريبة فأطعمها، والأيدي الممتدّة فأملؤها. وهذه طائفة لم ترد بما فعلته الكرم والسّعة، وإنما أرادت المنّ والسّمعة؛ فإذا اهتدى الأريب إلى طرائقها وصل إلى بغيته من إعلان قضيّتها، وفاز بمراده من ذخائر حسنتها، إن شاء الله.
وأمره أن يصادق قهارمة «2» الدّور ومدبّريها، ويرافق وكلاء المطابخ وحمّاليها، فإنّهم يملكون من أصحابهم أزمّة مطاعمهم ومشاربهم، ويضعونها بحيث يحبّون من أهل مودّاتهم ومعارفهم؛ وإذا عدّت هذه الطائفة أحدا من الناس خليلا من خلّانها، واتّخذته أخا من إخوانها، سعد بمرافقتها، ووصل إلى محابّه من جهاتها، ومآربه في جنباتها.
وأمره أن يتعهّد أسواق المسوّقين، ومواسم المتبايعين؛ فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها، وأطعمة قد احتشد مشتريها، اتّبعها إلى المقصد بها، وشيّعها إلى المنزل الحاوي لها، واستعلم ميقات الدّعوة، ومن يحضرها من أهل النّسيان والمروّة، فإنه لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه، ويكمن له ليصحبه ويدخل معه؛ وإن خلا من ذلك اختلط بزمر الدّاخلين، وعصب الرّاحلين؛ فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب، ويخرج من سلطان البوّابين والحجّاب، حتّى يحصل حصولا قلّ ما حصل [عليه]«3» أحد قبله فانصرف عنه إلا ضليعا من الطّعام، بريقا من المدام، إن شاء الله.
وأمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنّيات والمغنّين، ومواطن الأبليات «1» والمخنّثين؛ فإذا أتاه خبر لجمع يضمّهم، ومأدبة تعمّهم، ضرب إليها أعناق إبله، وأنضى نحوها مطايا خيله، وحمل عليها حملة الحوت الملتقم، والثّعبان الملتهم، واللّيث الهاصر، والعقاب الكاسر، إن شاء الله.
وأمره أن يتجنّب مجامع العوامّ المقلّين، ومحافل الرّعاع المقترين، وأن لا ينقل إليها قدما، ولا يعفّر لمأكلها فما، ولا يلقى في عتب دورها كيسانا «2» ، ولا يعدّ الرّجل منها إنسانا، فإنها عصابة يجتمع لها ضيق النّفوس والأحلام، وقلّة الإحكام والأموال؛ وفي التّطفيل عليها إجحاف بها يوسم، وإزراؤه بمروءة المتطفّل يوصم؛ والتّجنّب لها أحرى، والأزورار عنها أحجى، إن شاء الله.
وأمره أن يحزر الخوان إذا وضع، والطعام إذا نقل، حتى يعرف بالحدس والتّقريب، والبحث والتّنقيب، عدد الألوان في الكثرة والقلّة، وافتنانها في الطيّب واللّذّة، فيقدّر لنفسه أن يشبع مع آخرها، وينتهي منها عند انتهائها، ولا يفوته النّصيب من كثيرها وقليلها، ولا يخطئه الحظّ من دقيقها وجليلها. ومتى أحسّ بقلّة الطّعام، وعجزه عن الأقوام، أمعن في أوّله إمعان الكيّس من سعته، الرّشيد في أمره، الماليء لبطنه، من كلّ حارّ وبارد، وخبيث وطيّب؛ فإنه إذا فعل ذلك سلّم من عواقب الأغمار الذين يكفّون تطرّفا، ويقلّون تأدّبا، ويظنّون أن المادّة تبلغهم في آخر أمرهم، وتنتهي بهم إلى غاية سعيهم، فلا يلبثوا أن يخجلوا خجلة الواثق، وينقلبوا بحسرة الخائب، أعاذنا الله من مثل مقامهم، وعصمنا من شقاء جدودهم، إن شاء الله.
وأمره أن يروض نفسه، ويغالط حسّه، ويضرب عن كثير مما يلحقه صفحا، ويطوي دونه كشحا، ويستحسن الصّمم عن الفحشا؛ وإن أتته اللّكزة في حلقه، صبر عليها في الوصول إلى حقّه، وإن وقعت به الصّفعة في رأسه، صبر عليها لموقع أضراسه، وإن لقيه لاق بالجفاء، قابله باللّطف والصّفاء، إذ كان قد ولج الأبواب، وخالط الأسباب؛ وجلس مع الحضور، وامتزج بالجمهور، فلا بدّ أن يلقاه المنكر لأمره، ويمرّ به المستغرب لوجهه؛ فإن كان حرّا حييّا أمسك وتذمّم، وإن كان فظّا غليظا همهم وتكلّم، وتجنّب عند ذلك المخاشنة، واستعمل مع المخاطب له الملاينة، ليبرّد غيظه، ويفلّ حدّه، ويكفّ غربه، ويأمن شغبه؛ ثم إذا طال المدى تكررت الألحاظ عليه فعرف، وأنست النّفوس به فألف، ونال من المحالّ المجتمع عليها، منال من حشم وسئل الذّهاب إليها.
وقد بلغنا أن رجلا من العصابة كان ذا فهم ودراية، وعقل وحصافة، طفّل على وليمة، لرجل ذي حال عظيمة، فرمقته فيها من القوم العيون، وصرفت بهم فيه الظّنّون، فقال له قائل منهم: من تكون أعزّك الله؟ فقال: أنا أوّل من دعي إلى هذا الحقّ. قيل له: وكيف ذاك ونحن لا نعرفك؟ فقال:
إذا رأيت صاحب الدّار عرفني وعرّفته نفسي؛ فجيء به إليه، فلما رآه بدأه بأن قال له: هل قلت لطبّاخك: أن يصنع طعامك زائدا على عدد الحاضرين، ومقدار حاجة المدعوّين؟ قال: نعم! قال: فإنّما تلك الزيادة لي ولأمثالي، وبها يستظهر لمن جرى مجراي، وهي رزق لنا أنزله الله على يدك وبك، فقال له:
كرامة ورحبا، وأهلا وقربا؛ والله لا جلست إلا مع علية الناس ووجوه الجلساء، إذ أطرفت في قولك، وتفنّنت في فعلك. فليكن ذلك الرجل إماما يقتدى به، ويقتفى طريقه، إن شاء الله.
وأمره بأن يكثر من تعاهد «الجوارشنات» «1» المنفّذة للسّدد، المقوّية
للمعد، المشهّية للطعام، المسهّلة لسبل الانهضام، فإنها عماد أمره وقوامه، وبها انتظامه والتئامه؛ إذ كانت تعين على عمل الدّعوتين، وتنهض في اليوم الواحد الأكلتين؛ وهو يتناولها كذا كالكاتب الذي يقطّ أقلامه، والجنديّ الذي يصقل حسامه، والصّانع الذي يحدّد آلته، والماهر الذي يصلح أدواته، إن شاء الله.
هذا عهد عليكا بن أحمد إليك، وحجّته لك وعليك؛ لم يألك فيه إرشادا وتوقيفا، وتهذيبا وتثقيفا، وبعثا وتبصيرا، وحثّا وتذكيرا؛ فكن بأوامره مؤتمرا، وبزواجره مزدجرا، ولرسومه متّبعا، وبحفظها مضطّلعا، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.