الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني من الخاتمة في مطارات الحمام الرّسائليّ، وذكر أبراجها المقرّرة بطرق الديار المصرية والبلاد الشّاميّة، وفيه فصلان
الفصل الأوّل في مطاراته
قد تقدّم في الكلام على أوصاف الحمام- عند ذكر ما يحتاج إلى وصفه في أواخر مقاصد المكاتبات من المقالة الرّابعة- أنّ الحمام اسم جنس يقع على هذا الحمام المتعارف بين الناس، وعلى اليمام والدّباسيّ والقماريّ والفواخت وغيرها، وأنّ المتبادر إلى فهم السامع عند ذكر الحمام هو هذا النّوع المخصوص، وأن أغلاه قيمة وأعلاه رتبة الحمام الرسائليّ، وهو الذي يتّخذه الملوك لحمل المكاتبات، ويعبّر عنه ب «الهدي» . وتقدّم هناك الكلام على ذكر ألوانها على اختلافها، وعدد الرّياش المعتبرة فيها، وهي رياشّ أجنحتها وأذنابها، وبيان الفرق بين الذّكر والأنثى، وصفة الطائر الفاره، والفراسة في نجابته في حال صغره، والزّمان والمكان اللائقين بالإفراخ، وما يجري مجرى ذلك مما يحتاج إليه الكاتب عند وصفه لبيان النّجيب منه من غيره، فأغنى عن ذكره هنا.
والمختصّ منه بهذا المكان ذكر الاعتناء بهذا الحمام، وأوّل من اهتمّ
بشأنه، واعتنى بأمره، ومن قام به من الملوك، ومسافات طيرانه، وما يجري هذا المجرى.
فأما الاعتناء به والاهتمام بشأنه- فقد اعتنى به في القديم خلفاء بني العبّاس: كالمهديّ ثالث خلفائهم، والنّاصر منهم، وتنافس فيه رؤساء الناس في العراق لا سيّما بالبصرة. فقد ذكر صاحب «الروض المعطار» «1» أنهم تنافسوا في اقتنائه، ولهجوا بذكره، وبالغوا في أثمانه، حتّى بلغ ثمن الطائر الفاره منها سبعمائة دينار، ثم قال: ويقال: إنّه بلغ ثمن طائر منها جاء من خليج القسطنطينيّة ألف دينار. قال: وكانت تباع بيضتا الطّائر المشهور بالفراهة بعشرين دينارا، وأنه كان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب، وأنه كان لا يمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه ولا العدل من اتّخاذ الحمام، والمنافسة فيه، والإخبار عنها، والوصف لأثرها، والنّعت لمشهورها، حتى وجّه أهل البصرة إلى بكّار بن شيبة البكرانيّ قاضي مصر، (وكان في فضله وعقله ودينه وورعه على ما لم يكن عليه قاض) بحمامات لهم مع ثقات، وكتبوا إليه يسألونه أن يتولّى إرسالها بنفسه، ففعل.
وكان الحمام عندهم متجرا من المتاجر، لا يرون بذلك بأسا.
وذكر المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التّعريف» أن الحمام أوّل ما نشأ بالديار المصرية والبلاد الشّاميّة من الموصل، وأنّ أوّل من اعتنى به من الملوك [ونقله]«2» من الموصل الشّهيد نور الدّين بن زنكي صاحب الشّام رحمه الله، في سنة خمس وستين وخمسمائة، وحافظ عليه الخلفاء الفاطميّون بمصر، وبالغوا حتّى أفردوا له ديوانا وجرائد بأنساب الحمام، وصنّف فيه الفاضل محيي الدّين بن عبد الظاهر كتابا سماه:«تمائم الحمائم» .
قلت: وقد سبقه إلى التّصنيف في ذلك- أبو الحسن بن ملاعب
الفوارس البغداديّ، فصنف فيه كتابا للنّاصر لدين الله الخليفة العباسيّ ببغداد، وذكر فيه أسماء أعضاء الطّائر ورياشه، والوشوم التي توسم في كلّ عضو، وألوان الطّيور وما يستحسن من صفاتها، وكيفية إفراخها، وبعد المسافات التي أرسلت فيها، وذكر شيء من نوادرها وحكاياتها، وما يجري هذا المجرى. وأظنّ أنّ كتاب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر نتيجة عن مقدّمته.
وأما مسافات طيرانه، فقد تقدّم أن الطائر الذي بيع بألف دينار طار من القسطنطينيّة إلى البصرة، وأن الحمام أرسل من مصر إلى البصرة بحضرة القاضي بكّار قاضي مصر.
وذكر ابن سعيد في كتابه «حيا المحل وجنى النّحل» أنّ العزيز، ثاني خلفاء الفاطميّين بمصر، ذكر لوزيره يعقوب بن كلّس أنه ما رأى القراصية «1» البعلبكّية، وأنه يحبّ أن يراها. وكان بدمشق حمام من مصر وبمصر حمام من دمشق، فكتب الوزير لوقته بطاقة يأمر فيها من هو تحت أمره بدمشق أن يجمع ما بها من الحمام المصريّ، ويعلّق في كلّ طائر حبّات من القراصية البعلبكّية، ويرسلها إلى مصر، ففعل ذلك، فلم يمض النّهار حتّى حضرت تلك الحمائم بما علّق عليها من القراصية، فجمعه الوزير يعقوب بن كلّس وطلع به إلى العزيز في يومه، فكان ذلك من أغرب الغرائب لديه.
وذكر أيضا في كتابه «المغرب في حلى المغرب» أن الوزير اليازوريّ «2» المغربيّ، وزير المستنصر بالله الفاطميّ وجّه الحمام من تونس من أفريقية من بلاد المغرب فجاء إلى مصر، والعهدة عليه في ذلك.