الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يريد سيرها في البريد. وقد قدّره الفقهاء وعلماء المسالك والممالك بأنه أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف ذراع بالهاشميّ، وهو أربعة وعشرون أصبعا، كلّ أصبع ستّ شعيرات معترضات، ظهر إحداها لبطن الأخرى، والشّعيرة سبع شعرات معترضات من ذنب بغل أو برذون «1» .
قال الجوهريّ: ويقال أيضا على البريد: المرتّب؛ يقال: حمل فلان على البريد. قال: ويطلق أيضا على الرّسول: بريد.
ثم اختلف فيه فقيل: إنه عربيّ. وعلى هذا ذهب «الخليل» إلى أنه مشتقّ من بردت الحديد إذا أرسلت ما يخرج منه. وقيل: من أبردته إذا أرسلته. وقيل: من برد إذا ثبت، لأنه يأتي بما تستقرّ عليه الأخبار، يقال:
اليوم يوم بارد سمومه
أي ثابت.
وذهب آخرون إلى أنّه فارسيّ معرّب. قال أبو السعادات بن الأثير في كتابه «النّهاية في غريب الحديث» : وأصله بالفارسيّة «بريده دم» ، ومعناه مقصوص الذّنب. وذلك أن ملوك الفرس كانت من عادتهم أنهم إذا أقاموا بغلا في البريد قصّوا ذنبه، ليكون ذلك علامة لكونه من بغال البريد. وأنشد الجوهريّ لامريء القيس:
على كلّ مقصوص الذّنابى معاود
…
بريد السّرى باللّيل من خيل بربرا
الأمر الثاني (أوّل من وضع البريد وما آل إليه أمره إلى الآن)
أما في الجاهليّة، فقد ذكر في «التعريف» : أنّ البريد كان موجودا في عهد الأكاسرة من ملوك الفرس، والقياصرة ملوك الرّوم. قال: ولكن لا أعرف
هل كان على البريد المحرّر أو كانت مقاديره متفاوتة كما هو الآن؟. ثم قال:
ولا أظنّه إلا على القدر المحرّر، إذ كانت حكمتهم تأبى إلّا ذلك.
وأمّا في الإسلام فقد ذكر أبو هلال العسكريّ في كتابه «الأوائل» : أنّ أوّل من وضعه في الإسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. قال في «التعريف» : وذلك حين استقرّت له الخلافة، ومات أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، وسلّم له ابنه الحسن عليه السلام، وخلا من المنازع، فوضع البريد لتسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها، فأمر بإحضار رجال من دهاقين الفرس وأهل أعمال الرّوم وعرّفهم ما يريد، فوضعوا له البريد. قال:
وقيل: إنما فعل ذلك زمن عبد الملك بن مروان حين خلا وجهه من الخوارج عليه: كعمرو بن سعيد الأشدق، وعبد الله بن الزّبير، ومصعب بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد.
والذي ذكره العسكريّ: أن عبد الملك إنما أحكمه. وذكر عنه أنه قال لابن الدغيدغة: ولّيتك ما حضر بابي إلا أربعة: المؤذّن، فإنه داعي الله تعالى فلا حجاب عليه، وطارق اللّيل، فشرّ ما أتى به ولو وجد خيرا لنام، والبريد، فمتى جاء من ليل أو نهار فلا تحجبه، فربّما أفسد على القوم سنة حبسهم البريد ساعة، والطّعام إذا أدرك، فافتح الباب وارفع الحجاب وخلّ بين الناس وبين الدخول. ثم قال: ويذكر هذا الكلام عن زياد أيضا.
قال في «التعريف» : وكان الوليد بن عبد الملك يحمل عليه الفسيفساء وهي الفصّ المذهب من القسطنطينيّة إلى دمشق، حتى صفّح منه حيطان المسجد الجامع بها، ومساجد مكّة والمدينة والقدس.
قال: ثم لم يزل البريد قائما، والعمل عليه دائما، حتى آن لبناء الدّولة المروانيّة أن ينتقض، ولحبلها أن ينتكث، فانقطع ما بين خراسان والعراق، لانصراف الوجوه إلى الشّيعة القائمة بالدّولة العبّاسيّة. ودام الأمر على ذلك حتّى انقضت أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة، وملك السّفّاح، ثم
المنصور، ثم المهديّ، والبريد لا يشدّ له سرج، ولا تلجم له دابّة. ثم إن المهديّ أغزى ابنه هارون الرشيد الرّوم، وأحبّ أن لا يزال على علم قريب من خبره، فرتّب فيما بينه وبين معسكر ابنه بردا كانت تأتيه بأخباره، وتريه متجدّدات أيّامه. فلما قفل الرشيد قطع المهديّ تلك البرد؛ ودام الأمر على هذا باقي مدّته ومدّة خلافة موسى الهادي بعده. فلما كانت خلافة هارون الرّشيد، ذكر يوما حسن صنيع أبيه في البرد التي جعلها بينهما، فقال له يحيى ابن خالد: لو أمر أمير المؤمنين بإجراء البريد على ما كان عليه، كان صلاحا لملكه، فأمره به، فقرّره يحيى بن خالد، ورتّبه على ما كان عليه أيام بني أميّة، وجعل البغال في المراكز؛ وكان لا يجهّز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر، ثم استمرّ على هذا؛ فلما دخل المأمون بلاد الرّوم ونزل على نهر البرذون «1» وكان الزمان حرّا، والفصل صيفا، قعد على النّهر ودلّى رجليه فيه وشرب ماءه، فاستعذبه واستبرده واستطابه، وقال لمن كان معه: ما أطيب ما شرب عليه هذا الماء؟، فقال كلّ رجل برأيه. فقال هو: أطيب ما شرب عليه هذا الماء رطب «إزاز» ، فقالوا له: يعيش أمير المؤمنين حتّى يأتي العراق ويأكل من رطبها الإزاز، فما استتمّوا كلامهم حتى أقبلت بغال البريد تحمل ألطافا فيها رطب إزاز، فأتي المأمون بها فأكل منها وأمعن وشرب من ذلك الماء، فكثر تعجّب الحاضرين منه لسعادته في أنه لم يقم من مقامه حتّى بلغ أمنيّته، على ما كان يظنّ من تعذّرها؛ فلم يقم المأمون من مقامه حتّى حمّ حمّى حادّة كانت فيها منيّته.
ثم قطع بنو بويه البريد حين علوا على الخلافة وغلبوا عليها، ليخفى على الخليفة ما يكون من أخبارهم وحركاتهم أحيان قصدهم بغداد، وكان الخليفة لا يزال يأخذ بهم على بغتة.
ثم جاءت ملوك السّلاجقة على هذا؛ وأهمّ ملوك الإسلام اختلاف
ذات بينهم وتنازعهم، فلم يكن بينهم إلا الرّسل على الخيل والبغال، في كلّ أرض بحسبها.
فلما جاءت الدّولة الزّنكيّة أقامت لذلك النّجّابة «1» ، وأعدّت له النّجب المنتخبة. ودام ذلك مدّة زمانها ثم زمان بني أيّوب إلى انقراض دولتهم.
وتبعها على ذلك أوائل الدّولة التّركية، حتّى صار الملك إلى الملك الظاهر بيبرس رحمه الله، واجتمع له ملك مصر والشام وحلب إلى الفرات، وأراد تجهيز دولته إلى دمشق فعيّن لها نائبا، ووزيرا، وقاضيا، وكاتبا للإنشاء.
قال: وكان عمّي الصاحب شرف الدّين أبو محمد عبد الوهّاب رحمه الله هو كاتب الإنشاء، فلما مثل إليه ليودّعه، أوصاه وصايا كثيرة، آكدها مواصلته بالأخبار وما يتجدّد من أخبار التّتار والفرنج، وقال له: إن قدرت أن لا تبيّتني كلّ ليلة إلا على خبر [ولا تصبّحني إلا على خبر]«2» فافعل، فعرّض له بما كان عليه البريد في الزّمان الأوّل وأيام الخلفاء، وعرضه عليه فحسن موقعه منه وأمر به. قال عمّي: فكنت أنا المقرّر له قدّامه وبين يديه. ثم ذكر أنه لم يزل باقيا على ذلك إلى أيّامه. ثم قال: وهو جناح الإسلام الذي لا يحصّ «3» ، وطرف قادمته التي لا تقصّ.
قلت: ولم يزل البريد بعد ذلك مستقرّا بالديار المصريّة والممالك الشّاميّة إلى أن غشي البلاد الشامية تمرلنك صاحب ما وراء النّهر، وفتح دمشق وخرّبها وحرّقها في سنة أربع وثمانمائة، فكان ذلك سببا لحصّ جناح البريد وبطلانه من سائر الممالك الشامية. ثم سرى هذا السّمّ إلى الدّيار المصرية فألحقها بالهمل، ورماها بعد الحلي بالعطل، فذهبت معالم البريد من مصر والشام، وعفت آثاره، وصار إذا عرض أمر من الأمور السلطانية في