الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب مما جرت العادة بمراعاة النّثر المسجوع فيه، ومحاولة الفصاحة والبلاغة؛ وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب؛ ثم هو على صنفين)
الصنف الأوّل (الإجازات بالفتيا والتّدريس والرّواية وعراضات الكتب ونحوها)
أما الإجازة بالفتيا، فقد جرت العادة أنه إذا تأهّل بعض أهل العلم للفتيا والتّدريس- أن يأذن له شيخه في أن يفتي ويدرّس، ويكتب له بذلك.
وجرت العادة أن يكون ما يكتب في الغالب في قطع عريض، إما في فرخة الشّاميّ أو نحوها من البلديّ، وتكون الكتابة بقلم الرّقاع أسطرا متوالية، بين كلّ سطرين نحو أصبع عريض.
وهذه نسخة إجازة بالفتيا والتّدريس على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه وأرضاه، كتبت لي حين أجازني شيخنا العلّامة سراج الدّين أبو حفص عمر بن أبي الحسن الشهير بابن الملقّن «1» ، سقى الله تعالى عهده،
عند قدومه ثغر الإسكندرية، وأنا مقيم به في شهور سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وكتب لي بذلك القاضي تاج الدّين بن غنوم موقّع الحكم العزيز بالإسكندرية في درج ورق شاميّ في قطع الشاميّ الكامل، وسنّي يومئذ إحدى وعشرون سنة، فضلا من الله ونعمة.
ونسختها بعد البسملة الشريفة:
الحمد لله الذي رفع للعلماء مقدارا، وأجزل نعمه عليهم إذ أعلى لهم منارا، ووفّق بسواء الطّريق من اقتدى بهم إيرادا وإصدارا؛ أشرعت هممهم العليّة في حلبة السّباق فهي لا تجارى، وتحلّوا بالمفاخر جهرا وقد عجز غيرهم أن يتحلّى بها إسرارا؛ أبرز بهم في هالات المفاخر أقمارا، وأزال بضياء علومهم ريب الشّكّ حتّى عاد ليل الجهالة نهارا؛ جعلهم لدينه أنصارا، وصيّرهم نخبة أصفيائه إذ أودعهم من المعارف أسرارا، واختصّهم بكونهم ورثة أنبيائه: وناهيك بها فخارا.
أحمده حمد من هدي إلى الحقّ فجعله شعارا، واستضاء بنور الهدى فلجأ إلى مولاه في حالتي سرّه وجهره افتقارا، وعجز عن شكر ما أسدى إليه من النّعم لمّا توالى عليه وبلها مدرارا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تصديقا وإقرارا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله والأصنام قد عبدت جهارا، والكفّار قد أعرضوا عن الحقّ استكبارا، فقام بأمر الله انتصارا، وقهر من أعرض عن الله اغترارا، وأخمد بضياء نوره الباطل وأهدره إهدارا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تزيدنا في ديننا استبصارا، وتحطّ عنّا من ثقل الذّنوب أوزارا، وتبوّؤنا إن شاء الله تعالى في دار الخلود قرارا.
أما بعد، فقد وضح لذوي الأبصار والبصائر، واتّضح عند ذوي
الأسرار والسّرائر، واستقرّ عند ذوي القلوب السّليمة، والعقول الرّاجحة المستقيمة، أنّ منزلة علم الشّريعة عند الله تعالى أعلى المنازل، وفضله أفضل المآثر وآثر الفضائل، وخصوصا معرفة تفاصيل أحكام أفعال المكلّفين بالشّريعة المحمّديّة، التي من علمها وعمل بها وعلّمها فقد سعد السّعادة الأبدية؛ إذ هي الشريعة الجامعة لمصالح الدّنيا والآخرة، النّاسخة لما خالفها من الشّرائع الغابرة، الباقية إلى أن يأتي وعيد الله وكلّ شريعة سواها داثرة؛ فقد أعظم الله تعالى على من حفظها على عباده المنّة، إذ جعله وقاية لهم من مهالك الجهل وجنّة، ووعده أن ينزل في أعلى منازل الجنّة، لما شهدت به نصوص الكتاب والسّنّة؛ قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً
«1» ، فنبّهه على أنّ العلم أقوى أسباب العبادة، إذ خصّه به وحضّه على أن يطلب منه الزّيادة، وقال تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
«2» ، فثنّى بذكرهم بعده، لكونهم أفضل الخلائق عنده، وقال تبارك وتعالى اسمه، وتقدّس علمه: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
«3» ؛ فأوضح بذلك أنّ أولياءه من خلقه العلماء؛ إذ وصفهم وخصّهم بأنهم الخائفون منه الأتقياء. وقال عليه السلام: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» ، وقال أيضا:«من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له طريقا إلى الجنّة» ، وقال أيضا:«ألا إنّ الدّنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه، وعالم ومتعلّم» .
ولما كان فلان- أدام الله تعالى تسديده وتوفيقه، ويسّر إلى الخيرات طريقه- ممّن شبّ ونشأ في طلب العلم والفضيلة، وتخلّق بالأخلاق المرضيّة الجميلة الجليلة، وصحب السّادة من المشايخ والفقهاء، والقادة من الأكابر
والفضلاء، واشتغل عليهم بالعلم الشريف اشتغالا يرضي، وإلى نيل السعادة- إن شاء الله تعالى- يفضي- استخار الله تعالى سيّدنا وشيخنا وبركتنا العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الإمام العلّامة، الحبر الفهّامة، فريد دهره، ونسيج وحده، جمال العلماء، أوحد الفضلاء، عمدة الفقهاء والصّلحاء، سراج الدّين، مفتي الإسلام والمسلمين، أبو حفص عمر ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الإمام العالم، العامل، الأوحد، الكامل، القدوة، المرحوم نور الدين أبي الحسن عليّ، ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الصالح، الزاهد، العابد، الخاشع، الناسك، القدوة، المرحوم شهاب الدّين بركة الصالحين، أبي العبّاس أحمد، ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الصالح، القدوة العارف، المرحوم، شمس الدّين، أبي عبد الله محمد الأنصاريّ الشافعيّ، أدام الله تعالى النّفع به وببركته، وأشركنا والمسلمين في صالح أدعيته، بمحمد وآله وصحبه وعترته.
وأذن وأجاز لفلان المسمّى فيه، أدام الله تعالى معاليه، أن يدرّس مذهب الإمام المجتهد المطلق العالم الرّبّاني، أبي عبد الله محمد بن إدريس المطّلبيّ، الشافعيّ، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنّة متقلّبه ومثواه، وأن يقرأ ما شاء من الكتب المصنّفة فيه، وأن يفيد ذلك لطالبيه، حيث حلّ وأقام، كيف ما شاء متى شاء وأين شاء، وأن يفتي من قصد استفتاءه خطّا ولفظا، على مقتضى مذهبه الشريف المشار إليه: لعلمه بديانته وأمانته، ومعرفته ودرايته، وأهليّته لذلك وكفايته.
فليتلقّ أيده الله تعالى هذه الحلّة الشريفة، وليترقّ بفضل الله تعالى ذروة هذه المرتبة المنيفة، وليعلم قدر ما أنعم الله تعالى عليه، وأسدى من الإحسان الوافر إليه، وليراقبه مراقبة من يعلم اطّلاعه على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وليعامله معاملة من يتحقّق أنه يعلم ما يخفيه العبد وما يبديه في الورود والصّدور، ولا يستنكف أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم: فذاك
قول سعد قائله. وقد جاء: «جنّة العالم «لا أدري» فإن أخطأها أصيبت مقاتله» ؛ فالله تعالى يرزقنا وإياه التّوفيق والتحقيق، ويسلك بنا وبه أقرب طريق، ويهدينا إلى سواء السبيل، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
وكتب في تاريخ كذا.
وكتب شيخنا الشيخ سراج الدين المشار إليه تحت ذلك بعد حمد الله تعالى ما صورته:
«ما نسب إليّ في هذه الإجازة المباركة من الإذن لفلان- أدام الله تعالى النّفع به، وأجرى كلّ خير بسببه، بتدريس مذهب الإمام المطّلبيّ، محمد بن إدريس الشافعيّ، قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه، والإفتاء به لفظا وخطّا- صحيح. فإنه ممن فاق أقران عصره بذكائه، وبرع عليهم بالاستحضار وتحرير المنقول ووفائه.
وقد اعتنى وفّقه الله تعالى وإيّاي من جملة محفوظاته ب «مختصر الجوامع» لشيخنا العلّامة كمال الدّين النشائيّ، تغمده الله تعالى بغفرانه، فاستحضر بحضرتي مواضع منه جمّة، وأزال ببديع فصاحته جملة مدلهمّة، وأظهر من مشكلاته ما يعجز عنه اللبيب، ومن أغاريبه ما يقف عنده البارع الأريب.
فليتّق الله حينئذ فيما يبديه، وليتحرّ الصواب في لفظه وخطّه وليراقب الله فيه؛ فإنه موقّع عن الله تعالى فليحذر الزّلل، ومحاولة الخطإ والخطل، ويستحضر ما اشتملت عليه من الجلالة، فإن الله تعالى تولّاها بنفسه حيث قال: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ
«1» .
وأجزت له مع ذلك أن يروي عنّي مالي من التآليف، ومنها «جامع الجوامع» أعان الله على إكماله، وكذا شرح «صحيح الإمام أبي عبد الله
محمد بن إسماعيل البخاريّ» ، ومنها «البدر المنير، في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشّرح الكبير» للإمام أبي القاسم الرّافعيّ، وبه تكمل معرفة الفقيه ويصير محدّثا فقيها.
وأجزت له مع ذلك ما جاز لي وعنّي روايته بشرطه عند أهله، زاده الله وإيّاي من فضله؛ ومنها الكتب الستة:«البخاريّ» و «مسلم» و «أبو داود» و «التّرمذيّ» و «النّسائيّ» و «ابن ماجه» ، والمسانيد:«مسند أحمد» و «مسند الشافعي» وغير ذلك.
وكان ذلك في تاريخ كذا. وكتب عمر بن عليّ بن أحمد الأنصاريّ الشّافعيّ، غفر الله لهم: حامدا ومصلّيا ومسلّما وأشهد عليه جماعة من أهل العلم بآخره» .
قلت: وتكون ألقاب المجاز على قدر رتبته، مثل أن يكتب له:«الفقير إلى الله تعالى، الشيخ، الإمام، العالم العامل، الأوحد، الفاضل، المفيد، البارع، علم المفيدين، رحلة القاصدين، فلان الدين، أبو فلان فلان بن فلان» (بحسب رتب آبائه) . وإنما أهملت ذكر الألقاب في هذه الإجازة، من حيث إنه لا يليق بأحد أن يذكر ألقاب نفسه في مصنّف له، لأنه يصير كأنّه أثنى على نفسه.
وأمّا الإجازة بعراضة الكتب، فقد جرت العادة أن بعض الطّلبة إذا حفظ كتابا في الفقه، أو أصول الفقه، أو النّحو، أو غير ذلك من الفنون، يعرضه على مشايخ العصر، فيقطع الشيخ المعروض عليه ذلك الكتاب، ويفتح منه أبوابا ومواضع، يستقرئه إيّاها من أيّ مكان اتّفق، فإن مضى فيها من غير توقّف ولا تلعثم، استدلّ بحفظه تلك المواضع على حفظه لجميع الكتاب، وكتب له بذلك كلّ من عرض عليه، في ورق مربّع صغير، يأتي كلّ منهم بقدر ما عنده من الملكة في الإنشاء، وما يناسب ذلك المقام من براعة الاستهلال ونحوها: فمن عال، ومن هابط. وربّما خفّف بعضهم فكتب:
«وكذلك عرض عليّ فلان» ، أو:«عرض عليّ وكتبه فلان» : إما رياسة وتأبّيا عن شغل فكره وكدّ نفسه فيما يكتبه، وإما عجزا عن مضاهاة من يكتب معه.
وقد اخترت أن أضع في هذا المحلّ ما وافق الصنعة، وجرى على أسلوب البلاغة.
فمن ذلك ما كتب به الشيخ الإمام العلّامة، لسان العرب، وحجّة الأدب، بدر الدين محمد بن أبي بكر المخزوميّ المالكيّ «1» للنّجل النبيل الذي تنتهي الألقاب ولا نهاية لمناقبه، شهاب الدّين أبي العباس أحمد ابن سيدنا الفقير إلى الله تعالى، ذي الأوصاف التي تكلّ شبا الألسن عن حدّها، شمس الدّين أبي عبد الله محمد العمريّ الشافعي، حين عرض عليه «عمدة الأحكام» «2» للحافظ عبد الغنيّ، و «شذور الذّهب» للشيخ جمال الدّين بن هشام، في رمضان سنة سبع عشرة وثمانمائة؛ وهو:
أما بعد حمد الله على كرمه الذي هو عمدتنا في النّجاة يوم العرض وناهيك بها عمدة، وسندنا الذي لا يزال لسان الذّوق يروي حديث حلاوته عن «صفوان بن عسّال» من طريق «شهدة» «3» والصلاة والسّلام على سيدنا محمد الذي أحيا بروح سنّته الشريفة كلّ من جاء ومن ذهب، وأعربت كلماته النّفيسة عن عقود الجوهر و «شذور الذّهب» وعلى آله وصحبه الذين
أحسنوا الرواية والدّراية، وبنوا الأمر على أساس التقوى وأعربوا عن طرق الهداية، ما انهلّ من أفق الكرم المحمديّ كلّ عارض صيّب، وتحلّت الاسماع والأفواه من أخباره بنفائس الشّذور البديعة وحلاوة الكلم الطّيّب- فقد عرض عليّ الجناب العاليّ البارعيّ، الأوحديّ، الألمعيّ، اللّوذعيّ، الشّهابيّ، شهاب الدين، نخبة النّجباء، أوحد الألبّاء، نجل السّادة العظماء، سلالة الأعيان العلماء، أبو العبّاس أحمد ابن سيدنا المقرّ الكريم العاليّ، المولويّ، العالميّ، الفاضليّ، البليغيّ، المفيديّ، الفريديّ، المفوّهيّ، الشّمسيّ، العمريّ، أطاب الله حديثه، وجمع له بالإعراب عن علوّ الهمّة قديم الفضل وحديثه- طائفة متفرّقة من «عمدة الأحكام» للحافظ عبد الغنيّ المقدسيّ، و «شذور الذّهب» للعلامة جمال الدّين بن هشام رحمة الله عليهما- عرضا قصرت دونه القرائح على طول جهدها، وكانت الألفاظ الموردة فيه لأمة حرب الفئة الباغية عليه فأحسن عند العرض في سردها، وزيّن- أبقاه الله- تلك الأماكن بطيّب لحنه وإعراب لفظه، وآذن امتحانه فيها بأنّ جواهر الكتابين قد حصلت بمجموعها في خزانة حفظه.
فحبّذا هو من حافظ روى حديث فضله عاليا، وتلا على الأسماع ما اقتضى تقديمه على الأقران فلله درّه مقدّما وتاليا، وسار في حكم العرض على أعدل طريق وناهيك بالسّيرة العمريّة، وصان منطقه عن خلل المعاني وكيف لا؟ وقد تمسّك بطريقة والده وهي «المقدّمة الشّمسيّة» ، وسابق أقرانه فكانت له زبدة التّفضيل في حلبة السّباق، وطابق بين رفع شأنه وخفض شانيه ولا ينكر لمن هو من هذا البيت حسن الطّباق، واشتغل فلم يقع التنازع في حسن دخوله من باب الاشتغال، ونصب فكره لتحصيل العلم فتعيّن تمييزه على كلّ حال، وتوقّدت نار ذهنه فتلظّى حاسده بالالتهاب، ورويت أحاديثه بالغة في العلوّ إلى سماء الفضل ولا بدع إذا رويت أحاديث الشّهاب، وافتخر من والده بالفاضل الذي ارتفع في ديوان الإنشاء خبره، وهزّ المعاطف بتوقيعه الذي لا يزال يحرّره ويحبّره، ووشّى المهارق فكأنّما هي رياض قد غرّد فيها
بسجعه، ونحاها بإنشائه الذي هو عمدة المتأدّبين فلا عجب في رفعه، ونظم ببيانه نفائس الدّرر ففدتها بالعين «صحاح الجوهريّ» ، وفتح بجيش بلاغته معاقل المعاني الممتنعة وحسبك بالفتح العمريّ:
بيانه السّحر قد أخفى معاقده
…
لكن أرانا لسرّ الفضل إنشاء
إذا أراد أدار الرّاح منطقه
…
نظما ويطربنا بالنّثر إن شاء!
والله تعالى يبهج نفسه بما يصبح به الحاسد وهو مكمد، ويقرّ عينه بهذا الولد النّجيب حتى لا يبرح يقول: أشكر الله وأحمد، بمحمد وآله.
ومن ذلك ما كتب به الشيخ شمس الدّين محمد بن عبد الدائم، لولدي نجم الدّين أبي الفتح محمد، حين عرض عليه «المنهاج» في الفقه للنّوويّ، في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة؛ وهو:
الحمد لله الذي أوضح بنجم الدّين منهاج الفقه وأناره، وأفصح لسانه بكتاب من عند الله وأثاره، فسطعت أنوار شهابه لمن استنبطه وأثاره- من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين ويرفع مناره- والصلاة والسّلام على سيدنا محمد المخصوص بعموم الرّسالة، والمنصوص فضله بجميع أنواع الدّلالة، وعلى آله وصحبه نجوم الهدى، وشهب التّأسّي والاقتدا.
وبعد، فقد عرض عليّ الفقيه الفاضل نجل الأفاضل، وسليل الأماثل، ذو الهمّة العليّة، والفطنة الذّكيّة، والفطرة الزّكية، نجم الدّين، أبو عبد الله محمد بن فلان: نفع الله به كما نفع بوالده، وجمع له بين طارف العلم وتالده- مواضع متعدّدة من «المنهاج» في فقه الإمام الشافعيّ المطّلبيّ- رضي الله عنه وعنّا به- تأليف الحبر العلّامة وليّ الله أبي زكريا بن شرف بن مري النّوويّ، سقى الله تعالى ثراه، وجعل الجنّة مأواه، دلّ حفظه لها على
حفظ الكتاب، كما فتح الله له مناهج الخير دقّه وجلّه، وكان العرض في يوم كذا.
وكتب علّامة العصر الشيخ عزّ الدّين بن جماعة «1» ما صورته:
كذلك عرض عليّ المذكور باطنها عرضا حسنا، محرّرا مهذّبا مجادا متقنا؛ عرض من أتقن حفظه، وزيّن بحسن الأداء لفظه، وأجزل له من عين العناية حظّه، مرّ فيه مرور الهملاج الوساع «2» ، في فسيح ذي السّباع. وقد دلّني ذلك منه- نفعه الله تعالى ونفع به، ووصل أسباب الخير بسببه، على علوّ همّته، ووفور أريحيّته، وتوقّد فكرته، واتّقاد فطنته؛ وأصله في ذلك كلّه عريق:
سجيّة تلك منهم غير محدثة
…
إنّ الخلائق- فاعلم- شرّها البدع!
وقد أذنت له أن يروي عنّي الكتاب المذكور، وجميع ما يجوز لي وعنّي روايته من مصنّفاتي وغيرها من منظوم ومنثور، ومنقول ومعقول ومأثور، بشرطه المعتبر، عند أهل الأثر. وكتب فلان في تاريخ كذا.
ومن ذلك ما كتبته لمن اسمه «محمد» ولقبه «شمس الدين» من أبناء بعض الإخوان: وقد عرض عليّ «الأربعين حديثا» للشيخ محيي الدّين النّوويّ رحمه الله، و «الورقات» في الأصول لإمام الحرمين، و «اللّمحة
البدريّة» في النّحو للشيخ أثير الدّين أبي حيّان دفعة واحدة، وهو لدون عشر سنين؛ وهو:
الحمد لله الذي أطلع من دراريّ الأفاضل في أفق النّجابة شمسا، وأظهر من أفاضل الذّراري ما يغضّ به المخالف طرفا ويرفع به المحالف رأسا، وألحق بالأصل الكريم فرعه في النجابة فطاب جنّى وأعرق أصلا وزكا غرسا، وأبرز من ذوي الفطر السليمة من فاق بذكائه الأقران فأدرك العربيّة في لمحة، وسما بفهمه الثاقب على الأمثال فأمسى وفهم «الورقات» لديه كالصّفحة، وخرق بكرم بدايته العادة فجاز الأربعين لدون العشر وأتى على ذلك بما يشهد له بالصّحّة، والصلاة والسّلام على سيدنا محمد الذي عمّت بركة اسمه الشريف سميّه ففاز منها بأوفر نصيب، وخصّ بإلهام التّسمية به أولو الفضل والنّهى فما سمّي به إلا نجيب، وعلى آله وصحبه الذين أينعت بهم روضة العلم وأزهرت، وأورقت شجرة المعارف وأثمرت.
وبعد، فقد عرض عليّ فلان مواضع من كتاب كذا وكتاب كذا، فمرّ فيها مرور الصّبا، وجرى في ميدانها جري الجواد فما حاد عن سنن الطريق ولا كبا «1» .
وأما الإجازة بالمرويّات على الاستدعاءات:- فمن ذلك ما كتب به الشّيخ صلاح الدين الصّفديّ رحمه الله على استدعاء كتب له به القاضي شهاب الدين أحمد الحنبلي خطيب بيت الآلهة، وكاتب الدّست بالشّأم، يطلب منه فيه الإجازة لنفسه؛ وهو:
الحمد لله الذي إذا دعي أجاب، وإذا أنعم على الأديب بذوق أتى في نظمه ونثره بالعجاب، وإذا وهب البليغ فطرة سليمة لم يكن على حجاه حجاب.
نحمده على نعمه التي منها البلاغة، وأتقان ما لصناعة الإنشاء من حسن الصّياغة، وصيد أوابد المعاني التي من أعمل فكره في اقتناصها أو روّى [أمن]«1» رواغه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة فطر الضمير على إخلاصها، وجبل الفكر على افتناء أدلّتها القاطعة واقتناصها، وجعلت وقاية لقائلها يوم يضيق على الخلائق فسيح عراصها، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفصح من نطق بهذا اللسان، وجاء من هذه اللغة العربيّة بالنّكت الحسان، وحثّ على الخير وحضّ على الإحسان، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رووا أقواله، وبلّغوا لمن لم يره سننه وأفعاله، وعلموا أنّ هذه الشّرعة المطهّرة أذخرها الله تعالى له فلم تكن تصلح إلا له، صلاة هامية الغفران، نامية الرّضوان، ما أجاب مجيب لمن استدعى، وعملت إنّ في المبتدإ نصبا ولم تغيّر على الخبر رفعا، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإن [علم]«2» الرّواية من محاسن الإسلام، وخصائص الفضلاء الذين تخفق لهم ذوائب الطروس وتنتصب رماح الأقلام، ولم تزل رغبة السّلف تتوفّر عليه، وتشير أنامل إرشادهم للأنام بالحثّ إليه. قيل للإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه ما يشتهي؟ فقال: سند عال، وبيت خال.
وما برح الأئمّة الكبار يرتحلون إلى أقاصي الأقاليم في طلبه، ويتحملون المشاقّ والمتاعب فيه ويتجمّلون بسببه؛ فقد ارتحل الإمام الشافعيّ رضي الله عنه وغيره إلى عبد الرّزّاق باليمن، وكان فيمن أخذ عنه ممن هو أحقّ بالتفضيل عليه قمن؛ ولكنه فنّ يحتاج إلى ذوق يعاضد من لا يعانده، وأمر لا يصبر عنه من ألفه وما يعلم الشّوق إلا من يكابده؛ فما عند من طلب الرواية أجلّ من أبناء جنسه، ولا عند المفيد المفيد أحلى من قوله: حدّثنا فلان أو انشدنا فلان لنفسه، ولكن:
ما كلّ من طلب المعالي نافذا
…
فيها ولا كلّ الرّجال فحولا!
ولما كان الشيخ الإمام شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد ابن الشيخ
…
.... ممّن نظم فودّت الدّرر في أفلاكه لو اتّسقت، وكتب فرقم الطّروس ووشّاها، وغشّاها من زهرات الرّياض ما غشّاها، وحلّ المترجم فسحر عقل كلّ لبيب وخلب لبّه، ووقع على القصد فيه فكأنّه شيء من الغيب خصّ الله به قلبه، وأتى فيه ببدائع ما تساوى ابن الصّيرفيّ ولا ابن [نباتة]«1» عندها بحبّة، وخطب فصدع القلوب، وأجرى ذنوب المدامع من أهل الذّنوب، وحذّر فكانت أسجاعه كألحان إسحاق وسامعه يبكي بأجفان يعقوب؛ كأنّما هو في حلّة الخطابة بدر في غمامة، أو منبره غصن وهو فوقه حمامة، أو بحر وفضائله مثل أمواجه ودرّه يحكي كلامه؛ لو رآه «ابن نباتة» ما أورقت بالفصاحة أعواده، أو «ابن المنيّر» ما رقمت بالبلاغة أبراده، أو «ابن تيميّة» ما حظيت بالجدود أجداده؛ فأراد أن يشرّف قدري، ويعرّف نكري، فطلب الإجازة مني وأنا أحقّ بالأخذ عنه، واستدعى ذلك منّي: وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
فنعم قد استخرت الله تعالى وأجزت له ما يجوز لي تسميعه، وذكرت هنا شيئا من مرويّاتي وأشياخي رحمهم الله وذكرت مصنّفاتي:
إجازة قاصر عن كلّ شيء
…
يسير من الرّواية في مفازه:
لمن ملك الفضائل واقتناها
…
وجاز مدى العلى سبقا وحازه!
ومن ذلك ما كتب به الشيخ العلّامة شمس الدّين محمد بن الصائغ «2» على استدعاء لبعض من سأله الإجازة:
أقول بعد حمد الله الذي لا يخيّب من استجدى كرمه، ولا يخيب من استدعى نعمه، والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه وخدمه وما اسود مدمه «1» :
أثرت الجوى بي إذ أردت جوابي
…
وعظّمت خطبي إذ قصدت خطابي:
ومن أنا في الدّنيا أجيب ومن أنا!
…
أجيز؟ مضى الأشياخ تحت تراب!
عجيب لطلّاب لدينا تخلّفوا
…
وكم قد أتانا دهرنا بعجاب!
نحن إلى الموبلحة أمر ناي
…
عربناه بالعذيب عذاب «2» (؟)
يا أخانا: إنّ بضاعتنا في العلم مزجاة، وصناعتنا في الوقت مرجاة، ونسيم أخباره عليل، وأدب إخباره قليل، وتصانيفي وجوه أكثرها مسودّة، وآمالي في تبييضها لقصر الهمم ممتدّة؛ سئلت قديما من بعض الفضلاء أن أعدّها، فكتبت فيها رسالة لا أعرف لصقل الأذهان حدّها؛ ومنّ الله بعد ذلك بتصانيف أخر، ومقاطيع إن لم تكن كالزّهر فهي كالزّهر؛ ثم عدّد نيّفا وثلاثين مصنّفا، منها «مجمع الفرائد» في ستّ «3» عشرة مجلّدة. ثم أنشد في آخر ذلك:
ولقد شرّفت قدري
…
بنفيس من هدايا:
بنظام شنّف السّمع
…
بدرّ كالثّنايا
فارو منّي وارو عنّي
…
واغن عن شدّ المطايا
وانتق الفضل وحصّل،
…
واحظ منّي بمزايا
وتحرّ الصّدق واعلم
…
أنه خير الوصايا!!!
أجزت لك أن تروي هذه وغيرها عنّي، ولك الفضل في قبول ذلك منّي.