المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌والخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللسان البين - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٤

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الرابع عشر]

- ‌[تتمة المقالة التاسعة]

- ‌الباب الرابع من المقالة التاسعة (في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل في أصول تتعيّن على الكاتب معرفتها؛ وفيه ثلاثة أطراف

- ‌الطرف الأوّل (في بيان رتبتها ومعناها، وذكر ما يرادفها من الألفاظ)

- ‌الطرف الثاني (في أصل وضعها)

- ‌الطرف الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن)

- ‌النوع الأوّل (ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر)

- ‌النوع الثاني (ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر والإسلام، وعقود الصّلح الجارية بين زعماء المسلمين؛ وهي ضربان)

- ‌الضرب الأوّل (الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتّفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدّم)

- ‌الضرب الثاني (مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة- تحرير أوضاعها، وترتيب قوانينها، وإحكام معاقدها)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يستبدّ ملوك الإسلام فيه بالكتابة عنهم- وتخلّد منه نسخ بالأبواب السلطانية، وتدفع منه نسخ إلى ملوك الكفر)

- ‌النّمط الأوّل (ما يكتب في طرّة الهدنة من أعلى الدّرج)

- ‌النّمط الثاني (ما يكتب في متن الهدنة، وهو على نوعين)

- ‌النوع الأوّل (ما تكون الهدنة فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذا ما هادن عليه»

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح المهادنة قبل لفظ «هذا» ببعديّة)

- ‌النوع الثاني (من الهدن الواقعة بين ملك مسلم وملك كافر- أن تكون الهدنة من الجانبين جميعا)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذه هدنة» ونحو ذلك)

- ‌المذهب الثاني (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «استقرّت الهدنة بين فلان وفلان» ويقدّم فيه ذكر الملك المسلم)

- ‌المذهب الثالث (أن تفتتح المهادنة بخطبة مبتدأة ب «الحمد لله» )

- ‌الطرف الثاني (فيما يشارك فيه ملوك الكفر ملوك الإسلام في كتابة نسخ من دواوينهم)

- ‌الباب الخامس من المقالة التاسعة (في عقود الصّلح الواقعة بين ملكين مسلمين؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (في أصول تعتمد في ذلك)

- ‌الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة (فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول؛ ممّا يكتب في الطّرّة والمتن)

- ‌النوع الأوّل (ما يكون العقد فيه من الجانبين)

- ‌النوع الثاني (ممّا يجري عقد الصّلح فيه بين ملكين مسلمين- ما يكون العقد فيه من جانب واحد)

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح عقد الصّلح بلفظ: «هذا» كما في النوع السابق)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح عقد الصّلح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» وربّما كرّر فيها التحميد إعلاما بعظيم موقع النّعمة)

- ‌الباب السادس من المقالة التاسعة (في الفسوخ الواردة على العقود السابقة؛ وفيه فصلان)

- ‌الفصل الأوّل (الفسخ؛ وهو ما وقع من أحد الجانبين دون الآخر)

- ‌الفصل الثاني المفاسخة؛ وهي ما يكون من الجانبين جميعا

- ‌المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتّاب وتتنافس في عملها، ليس لها تعلّق بكتابة الدّواوين السلطانية ولا غيرها؛ وفيها بابان

- ‌الفصل الأوّل في المقامات

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الرّسائل)

- ‌الصنف الأوّل (منها الرّسائل الملوكيّة؛ وهي على ضربين)

- ‌الضرب الأوّل (رسائل الغزو؛ وهي أعظمها وأجلّها)

- ‌الضرب الثاني (من الرسائل الملوكية رسائل الصّيد)

- ‌الصنف الثاني (من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتّقريض)

- ‌[الخصلة الاولى] أوّلها: العلم بموقع النّعمة من المنعم عليه

- ‌والخصلة الثانية: الحرّيّة الباعثة على حبّ المكافأة

- ‌والخصلة الثالثة: الدّيانة بالشّكر

- ‌والخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللّسان البيّن

- ‌الصنف الثالث (من الرسائل المفاخرات؛ وهي على أنواع)

- ‌الصّنف الرابع

- ‌[الصّنف الخامس]

- ‌الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في قدمات البندق)

- ‌الفصل الرابع من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الصّدقات؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (في الصّدقات الملوكيّة وما في معناها)

- ‌الطرف الثاني (في صدقات الرّؤساء والأعيان وأولادهم)

- ‌الفصل الخامس من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب مما جرت العادة بمراعاة النّثر المسجوع فيه، ومحاولة الفصاحة والبلاغة؛ وفيه طرفان)

- ‌الطرف الأوّل (فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب؛ ثم هو على صنفين)

- ‌الصنف الأوّل (الإجازات بالفتيا والتّدريس والرّواية وعراضات الكتب ونحوها)

- ‌الصنف الثاني (التّقريضات التي تكتب على المصنّفات المصنّفة والقصائد المنظومة)

- ‌الطرف الثاني (فيما يكتب عن القضاة؛ وهو على أربعة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل (التقاليد الحكميّة؛ وهي على مرتبتين)

- ‌المرتبة الأولى (أن تفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» )

- ‌[المرتبة الثانية]

- ‌الصنف الثاني (إسجالات العدالة)

- ‌الصنف الثالث (الكتب إلى النّوّاب وما في معناها)

- ‌الصنف الرابع (ما يكتب في افتتاحات الكتب)

- ‌الفصل السادس (في العمرات التي تكتب للحاجّ)

- ‌الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليّات

- ‌الخاتمة في ذكر أمور تتعلق بديوان الإنشاء غير أمور الكتابة وفيها أربعة أبواب

- ‌الباب الأوّل في الكلام على البريد؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مقدمات يحتاج الكاتب إلى معرفتها؛ ويتعلّق الغرض من ذلك بثلاثة أمور

- ‌الأمر الأوّل (معرفة معنى لفظ البريد لغة واصطلاحا)

- ‌الأمر الثاني (أوّل من وضع البريد وما آل إليه أمره إلى الآن)

- ‌الأمر الثالث (بيان معالم البريد)

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من الخاتمة في ذكر مراكز البريد

- ‌المقصد الأوّل (في مركز قلعة الجبل المحروسة بالديار المصرية التي هي قاعدة الملك، وما يتفرّع عنه من المراكز، وما تنتهي إليه مراكز كلّ جهة)

- ‌المقصد الثاني (في مراكز غزّة وما يتفرّع عنه من البلاد الشامية)

- ‌المقصد الثالث (في ذكر دمشق وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى حمص وحماة وحلب، وإلى الرّحبة، وإلى طرابلس، وإلى جعبر، ومصياف وبيروت وصيدا وبعلبكّ والكرك وأذرعات)

- ‌المقصد الرابع (من مركز حلب وما يتفرّع عنه من المراكز الواصلة إلى البيرة وبهسنى وما يليهما، وقلعة المسلمين المعروفة بقلعة الرّوم، وآياس، مدينة الفتوحات الجاهانية، وجعبر)

- ‌المقصد الخامس (في مركز طرابلس وما يتفرّع عنه من المراكز الموصّلة إلى جهاتها)

- ‌المقصد السادس (في معرفة مراحل الحجاز الموصّلة إلى مكّة المشرّفة والمدينة النّبويّة، على ساكنها سيدنا محمد أفضل الصلاة والسّلام والتحية والإكرام، إذ كانت من تتمّة الطّرق الموصّلة إلى بعض أقطار المملكة)

- ‌الطريق إلى المدينة النّبويّة (على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام)

- ‌الباب الثاني من الخاتمة في مطارات الحمام الرّسائليّ، وذكر أبراجها المقرّرة بطرق الديار المصرية والبلاد الشّاميّة، وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في مطاراته

- ‌الفصل الثاني من الباب الثاني من الخاتمة في أبراج الحمام المقرّرة لإطارتها بالديار المصرية والبلاد الشّاميّة

- ‌الأبراج الاخذة من قلعة الجبل المحروسة إلى جهات الديار المصرية

- ‌الأبراج الآخذة من قلعة الجبل إلى غزّة

- ‌الأبراج الآخذة من غزّة وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الآخذة من دمشق وما يتفرّع عنها

- ‌الأبراج الاخذة من حلب وما يتفرّع عنها

- ‌الباب الثالث من الخاتمة في ذكر هجن الثّلج والمراكب المعدّة لحمل الثّلج الذي يحمل من الشام إلى الأبواب السلطانية بالديار المصريّة؛ وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل (في نقل الثّلج)

- ‌الفصل الثاني من الباب الثالث من الخاتمة في المراكب المعدّة لنقل الثّلج من الشام

- ‌الفصل الثالث من الباب الثالث من الخاتمة في الهجن المعدّة لنقل ذلك

- ‌الباب الرابع من الخاتمة في المناور والمحرقات؛ وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المناور

- ‌الفصل الثاني من الباب الرابع من الخاتمة: في المحرقات

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في الحواشي

- ‌[فهرس]

الفصل: ‌والخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللسان البين

‌والخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللّسان البيّن

، وتخيّره بالبيان النيّر، وباللّفظ العذب الشّهيّ، والمعنى الشّريف البهيّ؛ فإن الكلام إذا كان حسنا، جعلته الحكماء أدبا، ووجدت الرّواة إلى نشره سببا، حتّى يصير حديثا مأثورا، ومجدا مذكورا، وداخلا في أسمار الملوك، وسوقا من أسواق المتأدّبين، ووصلة في المجالس، وزيادة في العقل، وشحذا للسان، وترهيفا للقلب، وتلطيفا للفكر، وعمارة للصّدر، وسلّما إلى العظماء، وسببا إلى الجلّة الكبراء. وإذا لم يكن اللّفظ رائعا، والمعنى بارعا، وبالنّوادر موشّحا، وبالملح مجلوّا، لم تصغ له الأسماع، ولم تنشرح له الصّدور، ولم تحفظه النّفوس، ولم تنطق به الأفواه، ولم يخلّد في الكتب، ولم يقيّد بالدّرس، ولم يجذل به قائل، ولم يلتذّ به سامع. ومتى لم يكن كذلك كان كلاما ككلام اللّغو، ومعاني السّهو، وكالهجر «1» الذي لا يفهم، والمستغلق الذي لا يعلم.

وليس- أبقاك الله- شيء أحوج إلى الحذق، ولا أفقر إلى الرّفق، من الشّكر النّافع، والمديح النّاجع، الذي يبقى بقاء الوشم، ويلوح كما يلوح النّجم. كما أنّه لا شيء أحوج إلى وسع الطّاقة، وإلى الفضل في القوّة، وإلى البسطة في العلم، وإلى تمام العزم- من الصّبر. وعلى أن الشّكر في طبقات متفاوتة، ومنازل متباينة؛ وإن جمعها اسم، فليس يجمعها حكم؛ فربّما كان كلاما تجيش به الصّدور، وتمجّه الأفواه، وتجدف به الألسنة، ويستعمل فيه الرّأي المقتضب، والخاطر المحتار، والكلام المرتجل، فيرمى به على عواهنه، وتبنى مصادره على غير موارده، لا يتعذّر فيه الشّاكرون لانتفاع المنعمين، كما تعذّر المنعمون لانتفاع الشّاكرين. وليست غاية القائل إلا أن يعدّ بليغا مفوّها، أو يستزيد به إلى نعمه السّالفة نعما آنفة؛ أو ليس إلا ليغترّ كريما، أو يختدع غنيّا لا يتفقّد ساعات القول، ولا يتعرّف

ص: 199

أقدار المستمعين؟ وليس غايته إلا الكسب والتّعرّض والانتفاع والتّرنّح؛ وعلى هذا يدور شكر المستأكلين، وإحماد المتكسّبين.

وهذا الباب وإن جعلته العوامّ شكرا، فهو بغير الشّكر أشبه، وبذلك أولى؛ وربّما كان شكره عن تأنّق وتذكير، وعن تخيّر وتخيير، وعن تفقّد للحالات، وتحصيل للأمور في المقامات التي تحيط بمهجته، وبحضرة عدوّ لا يزال مترصّدا لنعمته؛ فربّما التمس الزيادة في غبطه، وربّما التمس شفاء دائه وإصلاح قلبه، ونقض المبرم من معاقد حقده، على قدر الرّد، وعلى قدر تصرّف الحالات في المصلحة، لأن الشاكر كالرّائد لأهله، وكزعيم رهطه، والمشار إليه عند مشورته؛ فربّما اختار أن يكون شكره شعرا: لأن ذلك أشهر، وربّما اختار أن يكون كلاما منثورا: لأن ذلك أنبل، وربّما أظهر اليسر وانتحل الثّروة، وجعل من الدّليل على ذلك كثرة النّفقة، وحسن الشّارة، ويرى أن ذلك أصدق المدحين، وأنبل الشّكرين، ويجعل قائده إلى هذا المذهب، وسابقه إلى هذا التّدبير قول نصيب «1» :

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب!

وممّا يدخل في هذا الباب وليس به- قول العنزيّ «2» :

يابن العلاء ويابن القرم مرداس

إنّي لأطريك في أهلي وجلّاسي

حتّى إذا قيل: ما أعطاك من صفد؟

طأطأت من سوء حال عندها راسي!

أثني عليك ولي حال تكذّبني

بما أقول فأستحيي من النّاس!

وبين هذين الشّكرين طبقات معروفة، ومنازل معلومة. وموضع الشّكر

ص: 200

من قلب السّامع في القبول والاستنامة، على قدر حسن النّيّة؛ والذي يعرف به الشّاكر من صدق اللهجة، ومن قلّة السّرف، واعتدال المذاهب، والاقتصاد في القول. وهذا باب سوى الباب الآخر من حسن الوصف، وجودة الرّصف؛ ولذلك لمّا أحسن بعض الواعظين في الموعظة، وأبلغ في الاعتبار وفي ترقيق القلوب، ولمّا لم ير أحدا يخشع، ولا عينا تدمع، قال: يا هؤلاء إما أن يكون بي شرّ، أو يكون بكم شرّ.

وقيل لجلساء الفضل الرّقاشيّ «1» ، وعبد الصّمد بن الفضل الرّقاشيّ:

ما بال دموعكم عند الفضل أغزر، وعند عبد الصّمد أنزر، وكلام عبد الصّمد أغزر، وكلام الفضل أنزر؟ قالوا: لأن قلب الفضل أرقّ، فصارت قلوبنا أرقّ، والقلوب تتجارى.

وقالوا: طوبى للممدوح إذا كان للمدح مستحقّا، وللدّاعي إذا كان للاستجابة أهلا، وللمنعم إذا حظي بالشّكر، وللشّاكر إذا حظي بالقبول.

إني لست أحتشم من مدحك، لأني لست أتزيّد في وصفك، ولست أمدحك من جهة معروفك عندي، ولا أصفك بتقديم إحسانك إليّ، حتّى أقدّم الشّكر الذي هو أولى بالتّقديم، وأفضّل الصّنف الذي هو أحقّ بالتّفضيل. وفي الخبر المستفيض، والحديث المأثور: «ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى.

وقليل باق خير من كثير فان» .

تذاكر الناس عند بعض الحكماء طبقات السّابقين في الفضل، وتنزيل حالاتهم في البرّ، ومن كانت الخصلة المحمودة فيه أكثر، والخصلة الثانية فيه أوفر، فقال ذلك الحكيم: ليس بعجب أن يسبق رجل إلى الإسلام، وكلّ

ص: 201

شيء، فقد سبق إلى تقديمه ناس وأبطأ آخرون؛ وليس بعجب أن يفوق الرّجل أترابه في الزّهد، وأكفاءه في الفقه، وأمثاله في الذّبّ: وهذا يوجد في كلّ زمان، ويصاب في كلّ البلدان؛ ولكنّ العجب العجيب، والنّادر الغريب، الذي تهيّأ في عمر بن الخطّاب رضي الله عنه واتّسق له؛ وذلك أنه غبر عشر حجج: يفتح الفتوح، ويدوّخ البلاد، ويمصّر الأمصار، ويدوّن الدّواوين، ويفرض الفروض، ويرتّب الخاصّة، ويدبّر العامة، ويجبي الفيء، وترمي إليه الأرض بأفلاذ كبدها، وأنواع زخرفها، وأصناف كنوزها، ومكنون جوهرها، ويقتل ملوكها، ويلي ممالكها، ويحلّ ويعقد، ويولّي ويعزل، ويضع ويرفع، وبلغت خيله إفريقية، ودخلت خراسان: كلّ ذلك بالتّدبير الصّحيح والضّبط، والإتقان والقوّة، والإشراف، والبصر النّافذ، والعزم المتمكّن، ثم قال: لا يجمع مصلحة الأمّة، ولا يحوشهم على حظّهم من الألفة واجتماع الكلمة، وإقامتهم على المحجّة، مع ضبط الأطراف، وأمن البيضة- إلا لين في غير ضعف، وشدّة في غير عنف. ثم غبر بعد ذلك سنيّه كلّها على وتيرة واحدة، وطريقة مطّردة؛ لا ينجرف عنها، ولا يغيّرها، ولا يسأمها، ولا يزول عنها: من خشونة المأكل والملبس، وغلظ المركب، وظلف «1» النّفس عن صغيرها وكبيرها، ودقيقها وجليلها، وكلّ ما يناجز الناس عليه؛ لم يتغيّر في لقاء ولا في حجاب، ولا في معاملة ولا في مجالسة، ولا في جمع ولا في منع، ولا قبض ولا بسط: والدّنيا تنصبّ عليه صبّا، وتتدفّق عليه تدفّقا؛ والخصلة من خصاله، والخلّة من خلاله، تدعو إلى الرّغبة، وتفتح باب الألفة، وتنقض المبرم، وتفيد المروءة وتفسح المنّة، وتحلّ العقدة، وتورث الاغترار بطول السّلامة، والاتّكال على دوام الظّفر، ومواتاة الأيّام، ومتابعة الزّمان. وكان ثباته عشر حجج على هذه الحال أعجوبة، ومن البدائع الغريبة. وبأقلّ من هذا يظهر العجب، ويستعمل الكبر، ويظهر الجفاء، ويقلّ التّواضع.

ص: 202

ونحن وإن كنّا لا نستجيز أن نلحق أحدا بطباع عمر ومذهبه، وفضل قوّته، وتمام عزمه، فإنّا لا نجد بدّا من معرفة فضل كلّ من استقامت طريقته، ودامت خليقته، فلم يتغيّر عند تتابع النّعم، وتظاهر الصّنع، وإن كانت النّعم مختلفة الأجناس، ومتفاوتة في الطّبقات. وكيف يلحق به أحد؟ مع قوله:

«لو أنّ الصّبر والشّكر بعيران ما باليت أيّهما ركبت» ، ولكنّا على حال لا ندع تعظيم كلّ من بان من نظرائه في المرتبة، وأشباهه في المنزلة، إذ كان أدومهم طريقة، وأشدّهم مريرة، وأمضاهم على الجادّة الوسطى، وأقدرهم على المحجّة العظمى.

ولا بدّ من أن يعطى كلّ رئيس قسطه، وكلّ زمان حظّه؛ ولا يعجبني قول القائل: لم يدع الأوّل للآخر شيئا، بل لعمري لقد ترك له العريض الطّويل، والثّمين الخطير، واللّقم «1» النّهج، والمنهج الرّحب. ولو أنّ الناس مذ جرت هذه الكلمة على أفواه العوام، وأعجب بها الأغمار من الرّجال- قلّدوا هذا الحكم، واستسلموا لهذا المذهب، وأهملوا الرّويّة، ويئسوا من الفائدة، [إذن] لقد كان ارتفع من الدّنيا نفع كثير، وعلم غزير.

وأيّ زمان بعد زمان النّبيّ صلّى الله عليه وآله أحقّ بالتّفضيل، وأولى بالتقديم، من زمان ظهرت فيه الدّعوة الهاشميّة، والدّولة العبّاسيّة، ثم زمان المتوكّل على الله، والنّاصر لدين الله، والإمام الذي جلّ فكره، وكثر شغله بتصفية الدّين وتهذيبه، وتلخيصه وتنقيحه، وإعزازه وتأييده، واجتماع كلمته، ورجوع ألفته. وقد سمعت من يقول- ويستشهد العيان القاهر، والخبر المتظاهر-: ما رأيت في زماننا من كفاة السّلطان وولاته، وأعوانه وحماته، من كان يؤمّل لمحلّك، ويتقدّم في التّأهّب له، إلا وقد كان معه من البذخ والنّفخ، ومن الصّلف والعجب، ومن الخيلاء، ومن إفراط التّغيّر للأولياء، والتّهكّم على الخلطاء، ومن سوء اللقاء، ما لا خفاء به على كاتب

ص: 203

ولا على عامل، ولا على خطيب ولا على أديب، ولا على خاصّيّ ولا على عامّيّ.

فجمعت- والحمد لله على النّعمة فيك- بين التّواضع والتّحبّب، وبين الإنصاف وقلّة التّزيّد؛ فلا يستطيع عدوّ معلن، ولا كاشح مسرّ، ولا جاهل غبيّ، ولا عالم مبرّز، يزعم أنه رأى في شمائلك وأعطافك- عند تتابع النّعم، وتظاهر المنن- تغيّرا في لقاء ولا في بشر عند المساءلة، ولا في إنصاف عند المعاملة، واحتمال عند المطاولة: الأمر واحد، والخلق دائم، والبشر ظاهر، والحجج ثاقبة، والأعمال زاجية، والنفوس راضية، والعيون ناطقة بالمحبّة، والصّدور مأهولة بالمودّة، والدّاعي كثير، والشاكي قليل؛ وأنت بحمد الله تزداد في كلّ يوم بالتّواضع نبلا، وبالإنصاف فضلا، وبحسن اللّقاء محبّة، وبقلة العجب هيبة.

وقال سهل بن هارون في دعائه لبعض من كان يعتني بشأنه: «اللهم زده من الخيرات، وابسط له في البركات، حتّى يكون كلّ يوم من أيامه موفيا على أمسه، مقصّرا عن فضيلة غده» «1» . وقال في هذا المعنى أعشى همدان، وهو من المخضرمين:

رأيتك أمس خير بني معدّ

وأنت اليوم خير منك أمس

وبعد غد تزيد الخير ضعفا «2»

كذاك تزيد سادة عبد شمس!

قد- والله- أنعم الله عليك وأسبغ، فاشكر الله وأخلص. محتدك

ص: 204

شريف، وأرومتك كريمة، والعرق منجب، والعدد دثر «1» ، والأمر جميل، والوجوه حسان، والعقول رزان، والعفاف ظاهر، والذّكر طيّب، والنّعمة قديمة، والصّنيعة جسيمة، وما مثلكم إلا كما قال الشّاعر:

إنّ المهالبة «2» الكرام تحمّلوا

دفع المكاره عن ذوي المكروه

زانوا قديمهم بحسن حديثهم

وكريم أخلاق بحسن وجوه!

النعمة محفوظة بالشّكر، والأخلاق مقوّمة بالأدب، والكفاءة محفوفة بالحذق، والحذق مردود إلى التوكّل، والصّنع من وراء الجميع إن شاء الله.

هذا إلى ما ألبسك الله من القبول، وغشّاك من المحبّة، وطوّقك من الصّبر، فبقي الآن أن نشتهي ما أنت فيه شهوة في وزن هذه المرتبة، وفي مقدار هذه المنزلة، فإنّ الرغبة وإن قويت، والرّهبة وإن اشتدّت، فإنهما لا يثمران من النشاط، وينتجان من القوّة على المباشرة والكدّ، ما تثمره الشّهوة وإن ضعفت، والحركة من ذات النّفس وإن قلّت، لأن النّفس لا تسمح بمكنونها كلّه، وتجود بمخزون قواها أجمع، إلا بالشهوة دون كلّ علّة محرّكة، وكلّ سبب مهيّج.

قال يحيى بن خالد لجعفر بن يحيى حين تقلّد الوزارة، وتكلّف النّهوض بأعباء الخلافة: «أي بنيّ، إنّي أخاف عليك العجز:

لعظيم ما تقلّدت، وجسيم ما تحمّلت. إني لست آمن أن تتفسّخ تحت ثقلها تفسّخ الجمل تحت الحمل الثّقيل. قال جعفر: لكنّي أرجو القوّة، وأطمع أن أستقلّ بهذا الثّقل وأنا مبتهل غير مبهور، وأجيء قبل السّوابق وأنا ثاني.

ص: 205

يقول: وأنا ثاني عناني، لأنّي لم أجهد فرسي ركضا. قال يحيى: إن لكلّ رجاء سببا، فما سبب رجائك؟ قال: شهوتي لما أنا فيه، والمشتهي للعمل لا يجد من ألم الكدّ ما يجده العسيف «1» الأسيف. قال يحيى: إن نهضت بثقلها فبهذا، وإلّا فلا. وأنا أسأل الله أن يصرف شهوتك إلى حبّ ذلك، وهواك إلى الاحتفاظ بنعمتك: بشكر المصلحين، والتوكّل على ربّ العالمين.

وحقّ لمن كان من غرس المتوكّل على الله وابتدائه، ومن صنائعه واختياره، أن يخرّج على أدبه وتعليمه، وعلى تثقيفه وتقويمه، وأن يحقّق الله فيه الأمل، وينجز فيه الطّمع، وأن يمدّ له في السّلامة، ويجزل له من الغنيمة، ويطيّب ذكره، ويعلي كعبه، ويسرّ صديقه، ويكبت عدوّه.

وهذه نسخة رسالة تسمّى «الإغريضيّة» ، أرسلها أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرّي التّنوخي إلى أبي القاسم الحسين بن عليّ المغربي «2» ؛ وهي:

ص: 206

[بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة]«1» .

السّلام «2» عليك أيّتها الحكمة المغربيّة، والألفاظ العربيّة؛ أيّ هواء رقاك، وأيّ غيث سقاك؛ برقه كالإحريض، وودقه مثل الإغريض «3» ؛ حللت الرّبوة، وجللت عن الهبوة «4» ؛ أقول لك ما قال أخو [بني]«5» نمير، لفتاة بني عمير:

زكا لك صالح وخلاك ذمّ

وصبّحك الأيامن والسّعود!

لأنا آسف على قربك من الغراب الحجازيّ، على حسن الزّيّ، لمّا أقفر، وركب السّفر، فقدم جبال الرّوم في نوّ «6» ، أنزل البرس «7» من الجوّ،

ص: 207

فالتفت إلى عطفه وقد شمط فأسي، وترك النّعيب أو نسي، وهبط إلى الأرض فمشى في قيد، وتمثّل ببيت دريد «1» :

صبا ما صبا حتّى علا الشّيب رأسه

فلمّا علاه قال للباطل: ابعد!

وأراد الإياب، في ذلك الجلباب، فكره الشّمات، فكمد حتّى مات؛ وربّ وليّ أغرق في الإكرام، فوقع في الإبرام، إبرام السّأم، لا إبرام السّلم «2» ؛ فحرس الله سيدنا حتّى تدغم الطاء في الهاء «3» ، فتلك حراسة بغير انتهاء؛ وذلك أن هذين ضدّان، وعلى التّضادّ متباعدان، رخو وشديد، وهاد وذو تصعيد، وهما في الجهر والهمس، بمنزلة غد وأمس؛ وجعل الله رتبته التي [هي]«4» كالفاعل والمبتدا، نظير الفعل في أنها لا تنخفض أبدا، فقد جعلني: إن حضرت عرف شاني، وإن غبت لم يجهل مكاني، ك «يا» في النّداء، والمحذوف من الابتداء، إذا قلت: زيد أقبل، والإبل الإبل، بعد ما كنت كهاء الوقف إن ألقيت «5» فبواجب، وإن ذكرت فغير لازب «6» .

إنّي وإن غدوت [في زمان]«7» كثير الدّد، كهاء العدد، لزمت المذكّر، فأتت بالمنكر، مع إلف يراني في الأصل، كألف الوصل، يذكرني بغير «8» الثّناء، ويطّرحني عند الاستغناء، وحال كالهمزة تبدل العين،

ص: 208

وتجعل بين بين، وتكون تارة حرف لين، وتارة مثل الصّامت الرّصين، فهي لا تثبت على طريقة، ولا تدرك لها صورة في الحقيقة «1» ، ونوائب ألحقت الكبير بالصّغير، كأنها ترخيم التّصغير، ردّت المستحلس إلى «حليس» ، [وقابوس]«2» إلى قبيس؛ لأمدّنّ صوتي بتلك الآلاء، مدّ الكوفيّ صوته في هؤلاء، وأخفّف عن حضرة سيدنا [الوزير]«3» الرّئيس الحبر، تخفيف المدنيّ ما قدر عليه من النّبر «4» ؛ إن كاتبت فلست «5» ملتمس جواب، وإن أسهبت في الشّكر فلست «6» طالب ثواب، حسبي ما لديّ من أياديه، وما غمر

ص: 209

من فضل السّيّد الأكبر أبيه، أدام الله لهما القدر «1» ما دام الضّرب الأوّل من الطّويل صحيحا «2» ، والمنسرح خفيفا سريحا؛ وقبض الله يمين عدوّهما عن كلّ معن، قبض العروض من أوّل وزن «3» ، وجمع له المهانة إلى التّقييد، كما جمعا في ثاني المديد «4» ، وقلم قلم الفسيط، وخبل كسباعيّ البسيط «5» ، وعصب [الله] الشّرّ بهامة شانئهما وهو مخزوّ، عصب الوافر الثّالث «6» وهو مجزوّ، بل أضمرته الأرض إضمار ثالث الكامل «7» ، وعداه أمل الآمل،

ص: 210

وسلّم سيّدانا أعزّ الله نصرهما ومن أحبّاه وقرّباه سلامة متوسّط المجموعات «1» ، فإنه آمن من المروّعات؛ فقد افتننت في نعمهما الرّائعة، كافتنان الدّائرة الرّابعة، وذلك أنّها أمّ ستّة موجودين، وثلاثة مفقودين «2» .

وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيدنا الجليلة عدة ثريّا اللّيل «3» ، وثريّا سهيل «4» ، هذه القمر، وتلك عمر «5» ، وأعظّمه في كلّ وقت، إعظاما في مقة وبعض الإعظام في مقت «6» ؛ فقد نصب للآداب قبّة صار الشّام فيها كشامة المعيب، والعراق كعراق الشّعيب «7» ؛ أحسب ظلالها من البردين «8» ، وأغنت

ص: 211

العالم عن الهندين، هند الطّيب، وهند النّسيب، ربّة الخمار، وأرباب قمار، أخدان التّجر، وخدينة الهجر «1» ..

«2» ما حاملة طوق من اللّيل، وبرد من المرتبع مكفوف الذّيل، أوفت الأشاء، فقالت للكئيب ما شاء؛ تسمعه غير مفهوم، لا بالرّمل ولا بالمزموم؛ كأن سجيعها قريض، ومراسلها الغريض؛ فقد ماد لشجوها العود، وفقيدها لا يعود؛ تندب هديلا فات، وأتيح له بعض الآفات «3» - بأشوق إلى هديلها من عبده إلى مناسمة أنبائه، ولا أوجد على إلفها منه على زيارة فنائه؛ وليست الأشواق، لذوات الأطواق، ولا عند السّاجعة، عبرة متراجعة، إنما رأت الشّرطين «4» ، قبل البطين، والرّشاء بعد العشاء، فحكت صوت الماء في الخرير، وأتت براء دائمة التّكرير، فقال جاهل فقدت حميما، وثكلت ولدا كريما «5» : وهيهات يا باكية، أصبحت فصدحت، وأمسيت فتناسيت؛ لا همام لا همام «6» ، ما رأيت أعجب من هاتف الحمام: سلم فناح، وصمت وهو

ص: 212

مكسور الجناح؛ إنّما الشّوق لمن يدّكر في كلّ حين، ولا يذهله مضيّ السّنين.

وسيّدنا الوزير أطال الله بقاءه القائل النّظم في الذّكاء مثل الزّهر، وفي النّقاء مثل الجوهر، تحسب بادرته التّاج؛ ارتفع عن الحجاج «1» ، وغابرته الحجل في الرّجل؛ يجمع بين اللّفظ القليل، والمعنى الجليل، جمع الأفعوان في لعابه بين القلّة وفقد البلّة «2» ؛ خشن فحسن، ولان فما هان؛ لين الشّكير، يدلّ على عتق المحضير «3» ، وحرش الدّينار آية كرم النّجار؛ فصنوف الأشعار بعده كألف السّلم، يلفظ بها في الكلام، ولا تثبت لها هيئة بعد اللّام، خلص من سبك النّقد خلوص الذّهب من اللهب، واللّجين من يد القين، كأنّه لآل في أعناق حوال، وسواه لطّ في عنق ثطّ «4» ، ما خانته قوّة الخاطر الأمين، ولا عيب بسناد ولا تضمين «5» ؛ وأين النّثرة «6» من العثره،

ص: 213

والغرقد من الفرقد؟؛ فالسّاعي في أثره فارس عصا بصير، لا فارس عصا قصير «1» .

وأنا ثابت على هذه الطّويّة ثبات حركة البناء «2» ، مقيم تلك الشّهادة بغير استثناء، غنيّ عن الأيمان فلا عدم، مقسم على ما قلت فلا حنث ولا ندم؛ وإنّما تخبأ الدّرّة للحسناء الحرّة، ويجاد باليمين في العلق الثّمين، ما أنفسه خاطرا امترى الفضّة من القضّة، والوصاة من مثل الحصاة «3» ؛ وربّما نزعت

ص: 214

الأشباه، ولم يشبه المرء أباه؛ ولا غرو لذلك: الخضرة أمّ اللهيب، والخمرة بنت الغربيب «1» .

وكذلك سيدنا: ولد من سحر المتقدّمين، حكمة للحنفاء المتديّنين؛ كم له من قافية تبني السّود «2» ، وتثني الحسود، كالميت، من شرب العاتقة الكميت: نشوره قريب، وحسابه تثريب «3» ؛ أين مشبّهو النّاقة بالفدن، والصّحصح برداء الرّدن «4» ؛ وجب الرّحيل، عن الرّبع المحيل؛ نشأ بعدهم واصف، غودر رأله كالمناصف «5» ، إذا سمع الخافض صفته للسّهب الفسيح، والرّهب الطّليح، ودّ أنّ حشيّته بين الأحناء، وخلوقه عصيم الهناء «6» ، وحلم بالقود في الرّقود، وصاغ برى ذوات الأرسان، من برى البيض الحسان، شنفا لدرّ النّحور، وعيون الحور، وشغفا بدرّ بكيّ، وعين مثل الرّكيّ «7» ، وإعراضا عن بدور، سكنّ في الخدور، إلى [حول]«8» ،

ص: 215

كأهلّة المحول؛ فهنّ أشباه القسيّ، ونعام السّيّ «1» ؛ وإن أخذ في نعت [الخيل]«2» فيا خيبة من سبّه «3» الأوابد بالتّقييد، وشبّه الحافر بقعب الوليد «4» ، نعتا غبط به الهجين المنسوب، والبازيّ اليعسوب، إذ رزق من الخير، ما ليس لكثير من سباع الطّير؛ وذلك أنه على الصّغر، سمّي بعض الغرر؛ وقد مضى حرس «5» ، وخفت جرس؛ وللقالع «6» ، أبغض طالع، والأزرق، يجنّبك عنه الفرق.

فالآن سلمت الجبهة من المعض، وشمل بعضها بركات بعض، فأيقن النّطيح، أنّ ربّه لا يطيح، والمهقوع، نجاء «7» راكبه من الوقوع، فلن يحرب، قائد [المغرب]«8» ، ولن يرجل، سائس الأرجل «9» ، والعاب، وإن لحق الكعاب «10» ، فإنّه ناكب، عن ناقلات المراكب. وقالت خيفانة امريء

ص: 216

لقيس: الدّبّاءة، لراعي المباءة «1» ، والأثفيّة، للقدر الكفيّة، نقما على جاعل [عذرها]«2» كقرون العروس، وجبهتها كمحذّف التّروس «3» ؛ وأنّى للكنديّ، قواف كهجمة السّعدي «4» :

إذا اصطكّت بضيق حجرتاها

تلاقى العسجديّة واللّطيم

«5» ! فالقسيب «6» ، في تضاعيف النّسيب، والشّباب في ذلك التّشبيب؛ ليس رويّه «7» بمقلوب، ولكنّه من إرواء القلوب؛ قد جمع أليل ماء الصّبا، وصليل ظماء الظّبا «8» ؛ فالمصراع كوذيلة الغريبة «9» ، حكت الزّينة والرّيبة، وأرت الحسناء سناها، والسّمجة ما عناها؛ فأما الرّاح فلو ذكرها لشفت من الهرم، وأنتفت من الكرم إلى الكرم، ولم ترض دنان العقار، بلباس القار، ونسج العناكب، على المناكب، ولكن تكسى من وشي ثيابا، ويجعل طلاؤها

ص: 217

زريابا «1» ؛ ولقد سمعته ذكر خيمة يغبط المسك جارها من الشّيام، ويودّ سعد الأخبية أنه سعد الخيام «2» .

ووقفت على «مختصر إصلاح المنطق» الذي كاد بسماة الأبواب، يغني عن سائر الكتاب، فعجبت كلّ العجب من تقييد الأجمال، بطلاء الأحمال «3» ؛ وقلب البحر، إلى قلت النّحر «4» وإجراء الفرات، في مثل الأخرات «5» ؛ شرفا له تصنيفا شفى الرّيب، وكفى من ابن قريب «6» ، ودلّ على جوامع اللّغة بالإيماء، كما دلّ المضمر على ما طال من الأسماء.

أقول في الإخبار: أمرت أبا عبد الجبّار؛ فإذا أضمرته، عرف متى قلت: أمرته؛ وأبلّ من المرض والتّمريض، بما أسقط من شهود القريض؛ كأنّهم في تلك الحال، شهدوا بالمحال، عند قاض، عرف أمانتهم بالانتقاض، على حقّ علمه بالعيان، فاستغنى فيه عن كلّ بيان.

وقد تأمّلت شواهد «إصلاح المنطق» فوجدتها عشرة أنواع في عدّة إخوة الصّدّيق، لمّا تظاهروا على غير حقيق، وتزيد على العشرة بواحد، كأخ ليوسف لم يكن بالشّاهد. والشّعر الأوّل وإن كان سبب الأثرة، وصحيفة

ص: 218

المأثرة، فإنه كذوب القالة، نموم الإطالة؛ وإنّ «قفانبك» [على حسنها]«1» ، وقدم سنّها، لتقرّ بما يبطل شهادة العدل الرّضا، فكيف بالبغيّ الأنثى؟! قاتلها الله عجوزا لو كانت بشريّة، كانت من أغوى البريّة. وقد تمادى بأبي يوسف رحمه الله الاجتهاد، في إقامة الأشهاد، حتى أنشد رجز الضّبّ «2» ، وإن معدّا من ذلك لجدّ مغضب؛ أعلى فصاحته يستعان بالقرض، ويستشهد بأحناش الأرض «3» ؟! ما رؤبة عنده في نفير «4» ، فما قولك في ضبّ دامي الأظافير؟! ومن نظر في كتاب يعقوب وجده كالمهمل، إلا باب فعل وفعل، فإنّه مؤلّف على عشرين حرفا: ستّة مذلّقة «5» ، وثلاثة مطبقة «6» ، وأربعة من الحروف الشّديدة «7» ، وواحد من المزيدة «8» ، ونفيثتين: الثّاء والذّال، وآخر متعال «9» والأختين العين والحاء، والشّين مضافة إلى حيّز الراء.

فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاظ كمدا، أو احفاظّ حسدا «10» ؛ سبق ابن السّكّيت ثم صار السّكيت «11» ، وسمق ثم حار «12» وتدا للبيت؛ كان الكتاب

ص: 219

تبرا في تراب معدن، بين الحثّ وبين المتّدن «1» ؛ فاستخرجه سيّدنا واستوشاه «2» ، وصقله فكره ووشّاه، فغبطه النّيّرات على التّرقيش، والآل النّقيش «3» ؛ فهو محبوب ليس بهين، على أنه ذو وجهين؛ ما نمّ قطّ ولا همّ، ولا نطق ولا أرمّ «4» ، فقد ناب في كلام العرب الصّميم، مناب مرآة المنجّم في علم التّنجيم؛ شخصها ضئيل ملموم، وفيها القمران والنّجوم.

وأقول بعد في إعادة اللّفظ: إنّ حكم التّأليف في ذكر الكلمة مرّتين، كالجمع في النكاح بين الأختين: الأولى حلّ يرام، والثانية بسل «5» حرام؛ كيف يكون في الهودج لميسان، وفي السّبّة «6» خميسان؛ يا أمّ الفتيات حسبك من الهنود، ويا أبا الفتيان شرعك من السّعود؛ عليك أنت بزينب ودعد، وسمّ أيّها الرّجل بسوى سعد؛ ما قلّ أثير، والأسماء كثير.

مثل يعقوب مثل خود «7» كثيرة الحليّ ضاعفته على التّراق، وعطّلت الخصر والسّاق؛ كان يوم قدوم تلك النّسخة يوم ضريب «8» حشر الوحش مع الإنس، وأضاف الجنس إلى غير الجنس؛ ولم يحكم على الظّباء، بالسّباء، ولا رمى الآجال، بالأوجال؛ ولكنّ الأضداد تجتمع، فتستمع؛ وتنصرف بلذّات، من غير أذاة؛ وإن عبده موسى لقيني نقابا «9» ؛ فقال: هلمّ كتابا؛ يكون لك شرفا، وبموالاتك في حضرة سيدنا- أطال الله بقاءه- معترفا؛

ص: 220

فتلوت عليه هاتين الآيتين: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى

«1» . وأحسبه رأى نور السّؤدد فقال لمخلّفيه، ما قاله موسى صلّى الله عليه لأهليه: إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً

«2» ، فليت شعري: ما يطلب؟ أقبس ذهب؟ أم قبس لهب؟

بل يتشرّف بالأخلاق الباهرة، ويتبرك بالأحساب الطاهرة:

باتت حواطب ليلى يقتبسن «3» لها

جزل الجذا غير خوّار ولا دعر!

«4» وقد آب من سفرته الأولى ومعه جذوة من نار قديمة: إن لمست فنار إبراهيم، أو أونست فنار الكليم؛ واجتنى بهارا حبت به المرازبة كسرى، وحمل في فكاك الأسرى، وأدرك نوحا مع القوم، وبقي غضّا إلى اليوم؛ وما انتجع موسى إلا الرّوض العميم، ولا اتّبع إلا أصدق مقيم «5» ؛ وورد عبده الزّهيريّ من حضرته المطهّرة وكأنّه زهرة بقيع «6» ، أو وردة ربيع، كثيرة الورق، طيّبة العرق؛ وليس هو في نعمته كالرّيم، في ظلال الصّريم «7» ؛ والجاب، في السّحاب المنجاب «8» ؛ لأن الظلام يسفر، والغمام ينسفر؛ ولكنّه مثل النّون في اللّجّة، والأعفر تحت جربة «9» .

ص: 221

وقد كنت عرّفت سيدنا في ما سلف أن الأدب كعهود في غبّ «1» عهود، أروت النّجاد فما ظنّك بالوهود؟؛ وأنّي نزلت من ذلك الغيث ببلد طسم «2» ، كأثر الوسم؛ منعه القراع، من الإمراع؛ «يابوس، بني سدوس» «3» العدوّ حازب، والكلأ عازب «4» ؛ يا خصب بني عبد المدان؛ ضأن في الحربث وإبل «5» في السّعدان؛ فلما رأيت ذلك أتعبت الأظلّ «6» ، فلم أجد إلّا الحنظل، فليس في اللّبيد، إلا الهبيد «7» ؛ جنيته من شجرة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار. لبن الإبل عن المرار مرّ، وعن الأراك طيّب حرّ «8» .

هذا مثلي في الأدب، فأما في النّشب «9» ، فلم تزل لي بحمد الله تعالى وبقاء سيّدنا بلغتان: بلغة صبر، وبلغة وفر، أنا منهما بين اللّيلة المرعيّة، واللّقوح الرّبعيّة «10» ، هذه عام، وتلك مال وطعام، والقليل، سلّم إلى

ص: 222

الجليل، كالمصلّي يريغ الضّوء «1» ، بإسباغ الوضوء، والتّكفير، بإدامة التّعفير، وقاصد بيت الله يغسل الحوب، بطول الشّحوب.

وأنا في مكاتبة حضرة سيّدنا الجليلة، والميل عن حضرة سيّدنا الأجلّ والده- أعزّ الله نصره- كسبا بن يعرب، لما ابتهل في التّقرّب، إلى خالق النّور، ومصرّف الأمور، نظر فلم ير أشرق «2» من الشّمس يدا، فسجد لها تعبّدا. وغير ملوم سيّدنا لو أعرض عن شقائق النّعمان الرّبيعيّة «3» ، ومدائحه اليربوعيّة «4» ؛ مللا من أهل هذه البلد المضاف إلى هذا الاسم؛ فغير معتذر، من أبغض لأجلهم بني المنذر، وهم إلى حضرته السّنيّة رجلان: سائل، وقائل؛ فأمّا السّائل فألحّ، وأما القائل فغير مستملح؛ وقد سترت نفسي عنها ستر الخميص، بالقميص؛ وأخي الهتر، بسجوف السّتر، فظهر لي فضله الذي مثله مثل الصّبح إذا لمع تصرّف الحيوان في شؤونه وخرج من بيته اليربوع، وبرز الملك من أجلّ الرّبوع، وقد يولع الهجرس «5» ، بأن يجرس، في البلد الجرد، قدّام الأسد الورد. وإني خبّرت أن تلك الرسالة الأولى عرضت بالمعرض الكريم «6» : فأوجب ذلك رحيل أختها، متعرّضة لمثل بختها؛ وكيف لا تنفع «7» ، وفي اليم تقع، وهي بمقصد سيّدنا فاخرة، ولو نهيت الأولى لا نتهت الآخرة.

ص: 223

كملت الرسالة [التي كتبها أبو العلاء إلى الوزير الكامل أبي القاسم المغربي]«1» قلت: وهذه رسالة أنشأتها في تقريض المقرّ الكريم الفتحيّ «2» ، أبي المعالي فتح الله، صاحب دواوين الإنشاء بالديار المصرية والممالك الإسلاميّة، أدام الله تعالى معاليه، في شهور سنة أربع عشرة وثمانمائة؛ وهي:

الحمد لله الذي جعل الفتح محطّ رحال القرائح الجائدة، ومستقرّ نواها، ومحيط دائرة الأفكار الواردة، ومركز شعاع كواها، ومادّة عناصر الأفهام الجائلة، وعتاد شكيمة قواها.

نحمده على أنّ خصّ المملكة المصرية من إيداع سرّها المصون بأوسع صدر رحيب، وأنهض بتدبير مصالحها من إذا سرت كتائب كتبه إلى عدوّ أنشد من شدّة الفرق: قفانبك من ذكرى حبيب، وأقام لنصرتها بأسل الأقلام وصفاح المهارق «3» من إذا طرقها على البعد طارق تلا لسان يراعته: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ

«4» ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تسير بها برد الهداية إلى آفاق الأخلاق فتشيّد لقلاع الإيمان بأقطار القلوب أركانا، وترقم أسرار شعائرها بنقس «5»

القبول في صحف الإقبال فتبدّل داعيها بإذاعة خبرها من الإسرار إعلانا، وتدين بطاعتها ملوك الممالك

ص: 224

النائية خضوعا فتتّخذ كتب رسائلها على المفارق بعد اللّثم تيجانا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ سنّ المعروف وندب إليه، وأكرم رسول جعل خير بطانتي الملك التي تأمره بالخير وتحثّه عليه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في السّير سبيله واتّبعوا في السّيرة سننه واقتفوا فيه سننه، واتّبعوا في المعروف آثاره فتلا عليهم تالي الإخلاص: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ

«1» ، صلاة تتناقل على مرّ الزمان أخبارها، ويتصدّى لروايتها من الأمّة على تمادي الدّهر أحبارها، وسلّم تسليما كثيرا.

وبعد، فإن رياسة أهل الدّول تتفاوت باعتبار قرب الرئيس من ملكه في مخاطبته ومناجاته، واعتماد تصرّفه في أمور دولته وتنفيذ مهمّاته، والاستناد على رأيه في جليل خطوبه وعظيم ملمّاته:

فعال تمادت في العلوّ كأنّما

تحاول ثأرا عند بعض الكواكب

ولا خفاء أنّ صاحب ديوان الإنشاء من هذه الرتبة بالمحلّ الأرفع، والمنزلة التي لا تدافع ولا تدفع، والمقام الذي تفرّد بصدارته فكان كالمصدر لا يثنّى ولا يجمع؛ إذ هو كليم الملك ونجيّه، ومقرّب حضرته وحظيّه، بل عميد المملكة وعمادها، وركنها الأعظم وسنادها، حامي حومتها وسدادها، وعقدها المتّسق ونظامها، ورأس ذروتها العلياء وسنامها، وجهينة خبرها، وحقيبة وردها وصدرها، ومبلّغ أنبائها وسفيرها، وزند رأيها الموري ومشيرها.

فحيّهلا بالمكرمات وبالعلى

وحيّهلا بالفضل والسّؤدد المحض

هذا، وهو الواسطة بين الملك ورعيّته، والمتكفّل لقصيّهم بدرك قصده وبلوغ بغيته، والمسعد للمظلوم من عزائم توقيعاته بما يقضي بنصرته؛

ص: 225

وحينئذ فلا يصلح لها إلا من كان من كرام الخيم «1» بارز الخيام لاصطناع المعروف، ومع سموّ الرّتبة سامي الهمّة لإغاثة الملهوف، ومع عزّ الجناب لدى ملكه ليّن الجانب لذي المسألة، ومع قربه بحضرة سلطانه قريبا من الرّعيّة حتّى من المسكين والأرملة.

وغير خاف أن كلّ وصف من هذه الأوصاف مع مقابله كالضّدّين اللّذين لا يجتمعان بحال، والنّقيضين اللّذين قضى العقل بأنّ الجمع بينهما محال، وأنّى يجتمع العالي والهابط، والمرتفع والسّاقط؟ أم كيف تتّصل الأرض بالسّماء، أو يقع امتزاح عنصر النّار بعنصر الماء؟ ومن ثمّ عزّ هذا المطلب لهذه الوظيفة حتّى إنّه لأعزّ من الجوهر الفرد، وقلّ وجوده حتّى لم يوجد إلا في الواحد الفذّ [الفرد] ، فلا تراه إن تراه إلا في حيز النّادر، ولا تظفر به إلا ظفرك ببيض الأنوق «2» إن كان يظفر به ظافر؛ إلا أنه ربّما سمح الدّهر فأتى بالفذّ من هذا النّوع في الزّمن المتباعد، أو أسعد الدّهر فأسعف بالواحد بعد ألف واحد.

ثم قد مضت برهة من الأيام وجيد ديوان الإنشاء من نظر من هو متّصف ببعض هذه الأوصاف عاطل، والدّهر يعد بمن يقوم فيه بتفريج كربة الملهوفين ولكنّه يماطل:

يرفّه ما يرفّه في التّقاضي

وليس لديه غير المطل نقد!

إلى أن طلع نيّر الزّمان وتوضّح شروقه، وظهرت تباشير صباحه وأفل بطلوع السّعد عيّوقه «3» ، فأقبلت الدولة الظاهرية بسعادتها، وتلقّتها الأيام الناصرية جارية منها على وفق عادتها، ووفّر للدّولتين من انتخاب الأصفياء

ص: 226

قسمتها، ومخضت لها الرّأي الصائب حتّى ظهرت في الوجود زبدتها؛ فكان خلاصة اصطفائهما، وزبدة انتقائهما، المقرّ الأشرف، العاليّ، المولويّ، القاضويّ، الكبيريّ، السّفيريّ، المشيريّ، الفتحيّ، نظام الممالك الإسلامية وزمام سياستها، ومنفّذ أمورها، وجامع رآستها؛ أبو المعالي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، زاد الله تعالى في ارتقائه على تعاقب الدّول، وأجراه من خفيّ اللّطف على أجمل العوائد وقد فعل، فألقي إليه من أسرار المملكة مقاليدها، واتّفقت بحسن سفارته باتّفاق الرّواة أسانيدها، فنفذت بتنفيذه أمورها، وكملت بصحيح رأيه كسورها، فجرت الأمور بحسن تدبيره على السّداد، ومشت الأحوال بلطف سفارته على أتمّ المراد، واعترفت له الكافّة بالسّيادة فأطاعت، وعرفت له الرّعية تقدّمه في الرآسة فرعت حرمته وراعت.

وإنّ أمور الملك أضحى مدارها

عليه كما دارت على قطبها الرّحى!

قد استعبد الخطّ فأصبح له كالخديم، وأتى من المعروف بكلّ غريب فأنسى من أثر عنه ذلك في الزّمن القديم؛ فلو رآه «خالد بن برمك» لأحجم عن ملاقاته عظما، أو ناوأه «يحيى بن خالد» لمات من مناوأته عدما، أو سابقه «الفضل وجعفر» ابناه لسبقهما كرما:

مناقب لو أنّي تكلّفت نسخها

لأفلست في أقلامها ومدادها!

أو سمع به «الحسن بن سهل» لقطع إليه الحزن والسّهل، أو بصر به «الفضل» أخوه، لما رأى أنه للفضل أهل، أو عاينه «أبو عليّ بن مقلة» لعلم أنه فاقه حظّا وخطّا، أو نظر «ابن هلال» إلى أهلّة نوناته لتحقّق أنه سبقه إلى تحرير هندسة الحروف وما أخطا:

إذا أخد القرطاس خلت يمينه

تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا!

فإن تكلّم أتى من بيانه بالسّحر الحلال، أو حاور أتى من البلاغة بما

ص: 227

يقصّر عن رتبته «سحبان» في المقال، أو ترسّل أعيى «عبد الحميد» في رسائله، أو كتب رتعت من روض خطّه في زهر خمائله:

يؤلّف اللّؤلؤ المنثور منطقه

وينظم الدّرّ بالأقلام في الكتب!

فرأيه السيف لا ما صنع الهند، وعقله الصّارم لا ما استودع الغمد:

ففي رأيه نجح الأمور ولم يزل

كفيلا بإرشاد الحيارى موفّقا!

أقلامه تزري بالصّوارم وتهزأ بالأسل، وتجري بصلة الأرزاق فتزيد على الأماني وتربو على الأمل:

بت جاره فالعيش تحت ظلاله

واستسقه فالبحر من أنوائه!

فمكارمه تغني من الإملاق، وبواكره بالإسعاد تبادر الغدوّ والإشراق، وعطاياه تسير سير السّحاب فتمطر الغيث على الآفاق.

كريم مساعي المجد يركب نجدة

من الشّرف الأعلى وبذل الفواضل

قد خدمته الحظوظ وأسعدته الجدود، وقسمت المنازل السّنيّة فكان له منها سعد السّعود:

لو عدّد الناس ما فيه لما برحت

تثني الخناصر حتّى ينفد العدد!

فلو غرس الشّوك أثمر العنباء «1» أنّى أرادها، أو حاول العنقاء في الجوّ لصادها، أو زرع في السّباخ «2» لكان ذلك العام والسّنة الخصبة، ولضوعفت مضاعفة حسناته فأنبتت كلّ حبّة سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة:

وإذا السعادة لا حظتك عيونها

نم فالمخاوف كلّهن أمان

واصطد بها العنقاء فهي حبائل

واقتد بها الجوزاء فهي عنان!

ص: 228

قد لبس شرفا لا تطمع الأيام في خلعه، وتقمّص من الفضل جلبابا لا تتطلّع الأيام إلى نزعه، وانتهى إليه المجد فوقف، وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف.

فقصرت عنه خطا من يجاريه، وضاق عنه باع من يباريه:

نالت يداه أقاصي الكرم الّذي

مدّ الحسود إليه باعا ضيّقا!

فمناقبه تسبق أقلام الكاتب، وتستغرق طاقة الحاسب؛ لسس لارتفاعها غاية، ولا لتداولها نهاية؛ فلا توفي جامعة بشرطها، ولا تقوم جريدة ببسطها:

وقد وجدت مكان القول ذا سعة

فإن وجدت لسانا قائلا فقل!

قد هتف بمدحه خطباء الأقلام على منابر الطّروس، ونطقت بفضله أفواه المحابر فنكّست لرفعة قدره شوامخ الرّؤوس، وطلعت في أفق المهارق سعود إيالته السعيدة فأفلت لوجوده النّحوس، ورقمت محاسنه بنقس اللّيل على صفحات النّهار فارتسمت، وحملت أخبار معروفه فتزاحمت الآفاق على انتشاق أرج ريحه العبقة واستهمت:

لقد كرمت في المكرمات صفاته

فما دخلت لاء عليها ولا إلّا!

اتّفقت الألسنة على تقريضه فمدح بكلّ لسان، وتوافقت القلوب على حبّه فكان له بكلّ قلب مكان، واستغرقت ممادحه الأزمنة والأمكنة فاستولى شكره على الزّمان والمكان:

ولم يخل من إحسانه لفظ مخبر

ولم يخل من تقريضه بطن دفتر!

على أنّي أستقيل عثرتي من التّقصير في إطرائه، والتّعرّض من مدحه لما لا أنهض بأعبائه؛ فلو أن «الجاحظ» نصيري، و «ابن المقفّع» ظهيري، و «قسّ بن ساعدة» يسعدني، و «سحبان وائل» ينجدني، و «عمرو بن الأهتم» يرشدني، لكان اعترافي بالعجز في مدحه أبلغ مما آتيه، وإقراري بالتّقصير في شكره أولى مما أصفه من توالي طوله وأياديه:

ص: 229

ولو أنّ لي في كلّ منبت شعرة

لسانا يطيل الشّكر فيه لقصّرا!

وهذه نسخة رسالة للشيخ الإمام العالم معين الدّين تاج العلماء، خطيب الخطباء، زين الأئمة، قدوة الشّريعة، الصّدر أبي الفضل يحيى بن جعفر «1» بن الحسين بن محمد الحصكفي رحمه الله، سماها:«عتاب الكتّاب، وعقاب الألقاب، المشتملة على أصول الغريب والإغراب» وهي:

عذيري من وزراء النصبة وكتّابها، وكبراء الدّسوت وأربابها، وأواخي الدّول وأطنابها، ونوّاب الدّواوين وأنيابها «2» ، وجباة بيوت الأموال، والسّعاة في زمّ نشر الأحوال، وساسة الممالك، وصحف أسرار المآلك «3» ، الشّامخين بأنوف التّيه والكبرياء، والسّاحبين ذيول العجب والخيلاء، الرّافلين في حلل البهاء، والغافلين عن فروض العلاء، الذين تبوّؤوا السّؤدد من غير سداد، وتسنّموا الرّتب بلا إعداد، فكأنهم الحاصب، وعدوّ الله المناصب؛ شغلهم الأشر والفجور، وكلّ على بسطته يجور؛ همهم محح «4» الأجراح، وشجّ الراح بالماء القراح، وامتطاء المرد، والعتاق الجرد؛ أملهم تنجيد الأفنية، وتشييد الأبنية، والزّيادة في الرّقيق والكراع والخول والاتباع، وليس بغال، كثرة خيل وبغال، بما باعوه من الورع والدّيانة وأضاعوه من العفة والصّيانة:

قد ملكوا الدّنيا على غرّة

ونافسوا فيها السّلاطينا!

ص: 230

توزّعوا الدّولة والملك والحضرة والإسلام والدّينا

شادوا بأعمالهم دورهم

وأخربوا فيها الدّواوينا

عفّوا وما عفّوا بأقلامهم

مساكنا تحوي مساكينا

غرّتهم الدّنيا بأن أظهرت

عن غلظة تضمرها لينا

والدّهر كم جرّع في مرّة

مرّا وحينا ساقه حينا

يا أنفسا ذلّت بإتيانهم

ويك أتأتين الأتاتينا

لا ترغبي في رسلهم إنّما

تمرين في القعب الأمرّينا!

وكان يجدي القصد لو أنّهم

يدرون شيئا أو يدرّونا.

موتى همو فليك تقريظهم

إن كنت لا تأبين، تأبينا

لا يعتني الفضل بإطراء من

يكون فيه الهجو مغبونا

لو رمت شيئا دون أقدارهم

لهجوهم لم تجد الدّونا!!!

قد أخلدوا إلى الوضاعة، عن تحصيل البضاعة، وكفاهم من البراعة، بري اليراعة، وعنوا باسوداد اللّيقة «1» ، عن سؤدد الخليقة، وأحالوا على الرّمم، عند قصور الهمم؛ ومن أعظم الآفات، فخرهم بالعظم الرّفات.

وكأنّهم لصميم هاشم

أو من لهاميم العباشم «2»

غشموا فما يغشاهم

بالطّوع إلا كلّ غاشم

لا يعين أحدهم على مروّة، ولا ينعش ذا أخوّة، ولا يرعى وارث أبوّة، ولو اعتزى إلى بنوّة؛ فهو غير آس بجوده، ولا مواس بموجوده؛ يروقك كيّسه والغلام، وتروعك دويّه والأقلام؛ فإذا استنطق قلمه الصّامت، أجذل عدوّه الشّامت؛ فزاد أدراجه ناقصا، وعاد على أدراجه ناكصا.

فهو الذي أملى لهم حلمه

مع الخنا والنّكد الباهض:

ص: 231

لو أنّني ولّيت تأديبهم

شفيت صدر النّقه «1» النّاهض!

من ناظر يضحي بلا ناظر

وعارض يمسي بلا عارض

ومشرف للدين ما قصده

في الوطب «2» إلا زبدة الماخض

وخازن إن لفّ مرضاته

من حلوهم عفّ عن الحامض

ومن خبيث جاءنا ذكره

في الذّكر بين البكر والفارض

وكاتب لو أنصفوا مهره

لكان أولى منه بالرّائض!!

إن وقّع، رأيت اللّفظ المرقّع، وإن أطال وأسهب، أذال عرضه وأنهب، وكان أحقّ بتقليد الفهود، عند تقليد العهود، وأولى بشطر المناشير، عن سطر المناشير، وأجدر بقبض الرّوح، إذا انبسط للشّروح، وأخذ في ذكر الوقائع والفتوح، كفّه بالجلم «3» ، أولى منها بالقلم، وأخلق بالمسحاة، من السّحاة، وأليق بالفؤوس، من الطّروس، يبري ويقطّ، ولا يدري ما يخطّ، إذ ليس في السّفط، غير السّقط؛ إن فاتحته أو طارحته، ظفرت بغصّة الماتح «4» ، وخشر المفاتح؛ إن خطّ: فنونه كلامه، وخلط فنونه في كلامه.

إن وقّعوا وقعوا في ذمّ كلّ فم

أو أنفذوا أنفذتهم أسهم الكلم

أو قلّدوا قلّدوا خزيا يجلّلهم

أو أقطعوا قطّعوا شتما بجعلهم

أراقم المال والأعمال إن رقموا

جاؤوا من الرّقم والألفاظ بالرّقم

فالله يأخذ منهم للدّواة

وللأنقاس بالحقّ والقرطاس والقلم!!

فالجديد بهم سمل، والسّوام بينهم همل، ولا علم عندهم ولا عمل؛ لهفي على الفضل المذال، برفعة الأنذال، وضياع الحقوق، وانصياع البيضة عن العقوق.

ص: 232

ثم ما على سيّدنا الوزير، مع اصطحاب البمّ والزّير «1» ، ونفاق سوقه، وانغماسه في فسوقه، واتّصال صبوحه بغبوقه، وتخلّيه في البهو، للّعب واللهو، من ظهر غيّ يركب، وذي يسار ينكب، وساع يشي، وراع يرتشي، ورسوم حيف تجدّد، وسوآت تعدّد، ما يضرّه من شكوى الجارح البغاث «2» ، وصريخ لا يغاث، ووال يعسف بأهل مصره، وإن شركه في إصره، وقاض لا ينصف الرّعية، ولا يتّبع القضايا الشّرعية، وفقيه يسفّ إلى تحصيل عرض زائل، وتعجيل غرض من سائل؛ ماله ولحفظ المال، ومحاسبة العمال؟:

أم ما على العامل نمس الدّجاج

إن نقص الكرم وزاد الخراج؟

عليه أن يحصل في كمّه

شيء وإن أخلى جميع الخراج

وهو خراج عند ما ينتهي

يبطّ بالمبضع ما في الخراج!!

شغلهم بالشّهد المشور، لا بمشهد يوم النّشور، وقصدهم الجمع والاكتساب، ومتى الجمع والحساب، إنما هو مال يحتقب «3» ، لا مآل يرتقب، وفساد في الأرض، لا إعداد ليوم العرض:

وإنّي لأرثي للمراتب تحتوي

عليها قرود فوقهن برود

سراع إلى السّوآت فيما يشينهم

ولكنّهم عما يزين ركود

يقاظ إذا ما ثوّب اللّؤم داعيا

وعند نداء المكرمات رقود

وما غرّني إلّا جلاوز حولهم

وإلا قيام بينهم وقعود

لقد حسدوا ظلما على ما أتاهم

وهل لأخي نقص يسود حسود؟

وللسّيّد المحسود كفّ عن العلى

تذود وأخرى بالنّوال تجود

لحا الله دنيانا التي ضلّ سعيها

وفيها علينا بالضّلال شهود.

ص: 233

إذا صغّرت كاسم الحسين محلّة

علت وعلا فيها يزيد يزيد

إنما الصّدر من صدّره كماله، وحسنت أعماله، وجرّد العزمات، فشرّد الأزمات، ونفى بذبّه الكربات، واصطفى لربّه القربات، فسهّل الغنى، وأفعم الإنا، ووضع مواضع النّقب الهنا؛ فهو يهشّ للنّوال، ويبشّ عند السّؤال؛ لا يشوب ورده القذا، ولا يبطل منّه بالمنّ والأذى؛ يبشر بشره بمحاسن الأخلاق، وينشر نشره الطّيّب في الآفاق، ويحسم بدواته داء الإملاق، ويحرز بقصبته قصب السّباق:

يجرّدها من مثل وفضة نابل

أجنّتها من نافذات المعابل

وفي خطّه المنسوب تزري شباتها

بلهذم منسوب إلى الخطّ ذابل

وإن بذرت عن حبّة القلب أنبتت

من البرّ قبل البرّ سبع سنابل!!

دؤوبه لإقالة العاثر، وعمارة الدّاثر، وإشاعة المآثر؛ همّه في معضلة تراض، ومعدلة تفاض، وخلل يسدّ، وجلل يصدّ، وعان بظهره يعان، وعات بقهره يهان؛ بابه مفتوح، وخيره ممنوح، وما أقلّ اللّائم، لمن أكثر الولائم، وأغفل الجادب، لمن صنع المآدب، وأخلص الإخاء، لمن استخلص السّخاء، فبذل الرّغوة والصّريح، والسّنام الإطريح «1» ، لا كمن يشحّ بالقتار، لفرط الإقتار، ويضنّ بالوضر «2» ، على المحتضر؛ ويبخل بالعراق «3» ، عمّن روحه في التّراق، ويسرّ الغميرة «4» ، لمن يبتغي الميرة، ويبطن الدّاء، لمن ينتظر الغداء، ويسعر الأحشاء، لمن ترقّب العشاء:

ص: 234

مسلط سيرته نقمة

وجائر قسمته ضيزى «1»

ليس بذي لبّ يملّ الثّأى

ولا لباب يملأ الشّيزى «2» !

يحقد على الإخوان، عند ظهور الخوان؛ فتراه يحدّق، إلى من يشدّق، وينتقم، ممن يلتقم، ويذلّ الأكيل، ويحلّ به التّنكيل، ويبغض الشّرّيب، وإن كان الخدن القريب؛ فالحائن «3» من يرد، فيزدرد، والخائن من ينبسط، فيسترط «4» ؛ يشنأ من الأجراس، صوت الأضراس، وحشرجة البلاعم، بدحرجة المطاعم، وهرهرة الشّدوق، وجرجرة الحلوق، وقد صدّت حواجز بلواه، أفواها تصدّت لحلواه، وحكمت لجامه، بحكمة لجامه، وعدّت بكيوانه، لهى وعدت بألوانه؛ رغيفه أعرز «5» من الغريف، وأغرب من الشّيء الطّريف؛ صريف «6» بابه، دون صريف نابه، ويحكم صكّ بابه، عن كبابه، ويعدّ سديف جفانه، من سديف أجفانه، يمانع بلديده، عن سفّود قديده، ويصافح بصفحة وريده، عن صحفة ثريده؛ حمله من نجوم الحمل، وسمكه فوق السّماك الأعزل، وحوته بين الحوت والأسد، وجديه عند جدي الفرقد؛ دون عجّته ارتفاع العجاجة، وتحت دجاجته ذنب الدّجاجة:

يدرج في القدر درّاجه

ليلقط الحبّ وطيهوجه «7»

ففي السّموات سماناته

وعند ديك العرش فرّوجه

ص: 235

يحرس مائدته الدّلو والعقرب، وهما منّا أدنى وأقرب؛ يعجبه التّثمير والاحتجان، ويلذّ له التّوفير والاختزان؛ وقصر مفاجأة أحوال، تصرّح عن أهوال؛ وكأنّك بالأيام بعد الابتسام، شاهرة للحسام؛ قد كشرت عن أنيابها العصل، في بكرها والأصل، وأجلت عن سليب مسحوب، لتنكّر مصحوب؛ وآخر يتردّد في البوس، ويخلّد في الحبوس؛ قد حصل على سلّة الحاوي، من سلة الحلاوي، ومن طعم العسل، على طعن الأسل، ومن العذب البارد، على حزّ المبارد:

تقبض من خطوه الكبول

فهو على قيده يبول

خلا من الخير فهو طبل

وهكذا تضرب الطّبول

يشكو إلى الله مستغيثا

وما له عنده قبول

ذاك بما كان مستطيلا

تردي دواهيه والميول!

فهم بين حصى تعصر، وقفا يقصر، وكعاب مثقوبة، وأنواع عقوبة؛ أو يقال فلان أنارته شعوب «1» ، ووارته الجبوب، واكتفى بسلفة الممات، من المقدّمات؛ وما ظنّك بالشّلو الطّريح، في ضنك الضّريح، تحته البرزخ الموصود، وفوقه الجبل المنضود؛ انظر كيف هجر بابه المقصود، وجانبت جنابه الوفود، وأخلقت رباعه، وتفرّقت أتباعه؛ ثم تشويه الحوب «2» ، أبشع من تشويه الشّحوب؛ وويل للقوم البور، من بعثرة القبور:

ويا خسار الأنفس الغاويه

من بعد تلك الحفر الهاويه

وكلّ من خفّت موازينه

فأمّه في بعثه هاويه

وليس يدري ويحه ماهيه

نار على سكّانها حاميه!

أعاذنا الله من خلال يقضي جهلها بالشّنار، وأفعال تفضي بأهلها إلى النّار، بكرمه وإحسانه، وطوله وامتنانه.

ص: 236