الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنف الثاني (التّقريضات التي تكتب على المصنّفات المصنّفة والقصائد المنظومة)
قد جرت العادة أنه إذا صنّف في فنّ من الفنون أو نظم شاعر قصيدة فأجاد فيها أو نحو ذلك، أن يكتب له أهل تلك الصناعة على كتابه أو قصيدته بالتّقريض والمدح، ويأتي كلّ منهم بما في وسعه من البلاغة في ذلك.
فمن ذلك ما كتب به الشيخ صلاح الدين الصّفديّ على مصنّف وضعه الشيخ تاج الدّين عليّ بن الدّرهم الموصليّ الشافعيّ في الاستدلال على أن البسملة من أوّل الفاتحة؛ وهي:
وقفت على هذا التصنيف الذي وضعه هذا العلّامة، ونشر به في المذهب الشافعيّ أعلامه، وأصبح ونسبته إليه أشهر علم وأبهر علامة؛ فأقسم ما سام الرّوض حدائقه، ولا شام أبو شامة بوارقه، كلّ الأئمة تعترف بما فيه من الأدلّة، وكلّ التصانيف تقول أمامه: بسم الله؛ كم فيه من دليل لا يعارض بما ينقضه، وكم فيه من حجّة يكلّ عنها الخصم لأنّ عقله على محكّ النّقد يعرضه؛ قد أيّد ما ادّعاه بالحديث والأثر، ونقل مذهب كلّ إمام سبق وما عثر؛ لقد سرّ الشافعيّ بنصّ قوله الذي هذّبه، وجعل أعلام مذهبه مذهبة، وأتى فيه بنكت تطرب من أسرار الحرف، وفوائد عرف بها ما بين ابن الدّرهم وبين البوني من البون في تفاوت الصّرف:
أكرم به مصنّفا
…
فاق تصانيف الورى!
ليل المداد فيه
…
بالمعنى المنير أقمرا!
كم فيه برد حجّة
…
قد حاكه محرّرا،
وكم دليل سيفه
…
إذا التقى خصما فرى
فلم يكن من بعده
…
مخالف قطّ يرى!!
ومن ذلك ما كتب به المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله على قصيدة ميميّة،
للشيخ غرس الدّين خليل الصّفديّ المعروف بالصّلاح الصّفديّ، مدح بها الأمير سيف الدين ألجاي الدّوادار النّاصريّ، في شهور سنة تسع وعشرين وسبعمائة؛ وهي:
وقفت على هذه القصيدة التي أشرقت معانيها فكادت ترى، وتمكّنت قوافيها فاستمسك بها الأدب لمّا كانت الميمات فيها كالعرا، فوجدتها مشتملة من البلاغة بوزنها على البحر المحيط، لطيفة لا تقاس بأمثالها من الكلام المركّب لأنها من البسيط، فنظرت إليها مكتسبا من بيانها سحر الحدق، متعجّبا من منشئها لغرس يسرع الإثمار في الورق، ثم فطنت إلى أنّ الممدوح بها أعزّه الله تعالى سحّت ديمه فروّضت الطروس، وبرّحت مناقبه بما كان مصونا في أخبية النّفوس؛ وقد استوجب هذا المادح عطّف الله تعالى قلبه عليه من منائحه حظّا جزيلا، وحبّا يقول به لمن قصد المساواة به: لو كنت متّخذا خليلا لا تخذت فلانا خليلا:
مدبّر الملك له على العلى مقاعد
…
تهوي إلى جنابه القصّاد والقصائد!
قلت: وكتبت على قصيدة نظمها شرف الدّين عيسى بن حجّاج الشاعر المعروف بالعالية «1» ، مدح بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وضمّنها أنواع البديع، ضاهى بها بديعيّة الصّفيّ الحلّيّ، في شهور سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، ما صورته:
أما بعد حمد الله الذي أحلّ سحر البيان، وأقدر أهل البلاغة من بديع التّخيّل على ما يشهد بصحّته العيان، وذلّل برائض أفكارهم صعاب الألفاظ
فامتطوا من متون أحاسنها الجياد، وأوضح لهم طرق الفصاحة فغدت لديهم- بحمد الله تعالى- سهلة القياد، وأحيى ميّت الأدب بروح الأنفاس العيسويّة وعمّر بأنسها ربوعه الخالية، وحمى نفس الفضل في رقعة المساجلة أن تصل إليه فرازنة «1» الدّعاوى ولا غرو أنّ حماها العالية، والصّلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضّاد، وأوتي جوامع الكلم فلن تحصر معاني كلامه الأعداد- فإنّي وقفت على البديعيّة البديعة التي نظمها الفاضل الأرفع، واللّوذعيّ المصقع، أديب الزّمان، وشاعر الأوان، شرف الدّين أبو الرّوح عيسى العالية- أعلى الله تعالى منار أدبه ورفعه على مناويه، وبلغ به من قصب السّبق ما يمتنع أن يراه على البعد مضاهيه- فألفيتها الدّرّة الثمينة غير أنها لا تسام، والخريدة «2» المخدّرة إلا أنها لا يليق بها الاحتشام:
تروم احتشاما ستر لألاء وجهها!
…
ومن ذا لذات الحسن يخفي ويستر؟
قد اتّخذت من الاحتشام معقلا وحصنا لا يغشى، وانتبذت من حسّادها مكانا قصيّا فلا تخاف دركا ولا تخشى:
ولم أدر- والألفاظ منها شريفة-
…
إلى البدر تسمو أم إلى الشّمس ترتقي؟
أراد المدّعي بلوغ شأوها الجري في مضمارها فقيل: كلّا، ورام الملحد في آياتها الغضّ منها عنادا فأبى الله إلّا:
ما إن لها في الفضل مثل كائن!
…
وبيانها أحلى البيان وأمثل!
فأمسوا في معارضتها غير طامعين، وتلت عليهم آيات بلاغتها:
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ
«3» :
كم جدّلت يوم الوغى من جندل
…
صاحت به فما أطاق تصبّرا!
وكيف لا تخضع لها الأعناق، وتذلّ لها رقاب الشّعراء على الإطلاق، وهي اليتيمة التي أعقمت الأفهام عن مثلها، والفريدة التي اعترف كلّ طويل النّجاد بالقصور عن وصلها:
زادت على، من ذا يطيق وصالها؟
…
ومحلّها منه الثّريّا أقرب!
وأنّى بذلك وقد أخذت من المحاسن بزمامها، وأحاطت من الطّلاوة بكمامها، وأحدقت رياض الأدب بحدائقها، واقتطفت من أفنان الفنون ثمار معان تلذّ لناظرها وتحلو لذائقها؟:
ولا تعر غيرها سمعا ولا نظرا
…
في طلعة الشّمس ما يغنيك عن زحل
وتصرّفت في جميع العلوم وإن كانت على البديع مقصورة، وشرفت بشرف متعلّقها فأصبحت بالشرف مشهورة:
أهانت الدّرّ حتّى ماله ثمن،
…
وأرخصت قيمة الأمثال والخطبا!
لا جرم أضحت أمّ القصائد وكعبة القصّاد، ومحطّ الرّحال ومنهل الورّاد، فأربت في الشّهرة على «المثل السائر» ، واعترف بفضلها جزالة البادي وسهولة الحاضر:
فللأ فاضل في عليائها سمر
…
إنّ الحديث عن العلياء أسمار!
فأعجب بها من بادرة جمعت بين متضادّين سمر وسمر، وقرنت بين متباعدين زهر وزهر، وجادت بمستنزهين روض ونهر، وتفنّنت في أساليب الكلام وجالت، وطاوعتها يد المقال فقالت وطالت، ودعت فرسان العربيّة إلى المبارزة فنكسوا، وتحقّق المفلقون العجز عن مؤاخاتها ولو حرصوا:
فأعرب عن كلّ المعاني فصيحها
…
بما عجزت عنه نزار ويعرب!
إن ذكرت ألفاظها فما الدّرّ المنثور؟ أو جليت معانيها أخجلت الرّوض
الممطور، أو اعتبر تحرير وزنها فاق الذّهب تحريرا، أو قوبلت قوافيها بغيرها زكت توفيرا وسمت توقيرا، أو تغزّلت أسكتت الورق في الأغصان، أو امتدحت قفت إثر «كعب» وسلكت سبيل «حسّان» ؛ فإطنابها- لفصاحتها- لا يعدّ إطنابا، وإيجازها- لبلاغتها- يمدّ على المعاني من حسن السّبك أطنابا:
أبن لي مغزاها أخا الفهم إنّها
…
إلى الفضل تعزى أو إلى المجد تنسب؟
هذا وبراعة مطلعها تحثّ على سماع باقيها شغفا، وبديع مخلصها يسترق الأسماع لطافة ويسترقّ القلوب كلفا، وحسن اختتامها تكاد النّفوس لحلاوة مقطعه تذوب عليها أسفا:
لها من براهين البيان شواهد
…
إذ الفضل ورد والمعالي موارد!
وبالجملة فمآثرها الجميلة لا تحصى، وجمائلها المأثورة لا تعدّ ولا تستقصى؛ فكأنّما «قسّ بن ساعدة» يأتمّ بفصاحتها، و «ابن المقفّع» يهتدي بهديها ويروي عن بلاغتها، «وامرؤ القيس» يقتبس من صنعة شعرها، و «الأعشى» يستضيء بطلعة بدرها؛ فلو رآها «جرير» لرأى أنّ نظمه جريرة اقترفها، أو سمعها «الفرزدق» لعرف فضلها وتحقق شرفها، أو بصربها «حبيب بن أوس» لأحبّ أن يكون من رواتها، أو اطّلع عليها «المتنبّي» لتحيّر بين جميل ذاتها وحسن أدواتها:
فللبصائر هاد من فضائلها
…
يهدي أولي الفضل إن ضلّوا وإن حاروا
ولا نطيل فمبلغ القول فيها أنّ آيتها المحكمة ناسخة لما قبلها، وبرهانها القاطع قاض بأن لا تسمح قريحة أن تنسج على منوالها ولا يطمع شاعر أن يسلك سبلها:
وآيتها الكبرى التي دلّ فضلها
…
على أنّ من لم يشهد الفضل جاحد!