الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني من الباب الرابع من الخاتمة: في المحرقات
قال في «التعريف» : وهي مواضع ممّا يلي بلادنا من حدّ الشّرق داخلة في تلك المملكة (يعني مملكة بني هولاكو من التّتار) يجهّز إليها رجال فتحرق زرعها، كأرض البقعة والثّرثار والقينة، وباشزة، والهتّاخ، ومشهد ابن عمر، والمويلح، وبلاد نينوى من برّ الموصل التي يقال إن يونس عليه السلام بعث إلى أهلها، والوادي، والميدان، والباب، والصّومعة، والمرج المعروف ببني زيد، والمرج المحترق، ومنازل الأويراتية، وهي أطراف هذه المواضع إلى جبل الأكراد، وبلاد سنجار- المنطق والمنظرة والمزيدة- وتحت الجبال عند التّليلات، وكذلك التارات، وأعالي جبل سنجار وما إلى ذلك.
وذلك أنه كان من عادة التّتر أنّهم لا يكلفون علوفة لخيلهم بل يكلونها إلى ما تنبت الأرض، فإذا كانت تلك الأرض مخصبة سلكوها، وإذا كانت مجدبة تجنّبوها؛ وكانت أرض هذه البلاد المتقدّمة الذّكر أرضا مخصبة، تقوم بكفاية خيل القوم إذا قصدوا بلادنا، فإذا أحرقوا زرعها ونباتها ضعفوا عن قصد بلادنا وحصل بذلك جميع الرّفق، والدّفع عن مباغته الأطراف ومهاجمة الثّغور.
وكان طريقهم في إحراقها أن يجهّزوا إليهم الرجال ومعهم الثّعالب
الوحشيّة وكلاب الصّيد، فيكمنون عند أمناء النّصّاح في كهوف الجبال وبطون الأودية، ويرتقبون يوما تكون ريحه عاصفة وهواؤه زعزع، تعلّق النار موثقة في أذناب تلك الثعالب والكلاب، ثم تطلق الثّعالب، والكلاب في أثرها وقد جوّعت، لتجدّ الثعالب في العدو، والكلاب في الطّلب، فتحرق ما مرّت به من الزّرع والنّبات، وتعلق الريح النار منه فيما جاوره، مع ما يلقيه الرّجّالة بأيديهم في اللّيالي المظلمة، وعشاء الأيام المعتمة. وكان ينفق في نظير هذا الإحراق من خزانة دمشق جمل من الأموال. قال: وكان الاهتمام بذلك في أوّل الأمر قبل أن يفطنوا بقصد التّحريق، ثم نبّههم على ذلك أهل المداجاة، فصاروا يربطون عليها الطّرق، ويمسكون منها بالأطراف؛ وقتل عديد من الرجال بسببها، وأحرقوهم بأشدّ من نارها.
وذكر أنّ مما كان يجتنب تحريقه- أرض الجبال «1» ، من حيث إنها بلاد بقيّة السّلف الصالح من ذرّيّة شيخ الإسلام الإمام الكبير العارف بالله «عبد القادر الجيليّ» المعروف بالكيلانيّ، نفع الله تعالى ببركاته، لتعظيمهم من الجهتين، مع ما لهم عند ملوكنا من المكانة العليّة: لقديم سلفهم، وصميم شرفهم، ولما للإسلام وأهله من إسعافهم بما تصل إليه القدرة ويبلغه الإمكان.
قلت: وبتمام القول في هذا الطّرف قد تمّ ما كنت أحاوله من التأليف، وأهتمّ به من الجمع؛ وبالله التّوفيق، وإليه الرغبة؛ وهو حسبي ونعم الوكيل.
واعلم أن المصنّفات تتفاوت في الحظوظ إقبالا وإدبارا: فمن مرغوب
فيه، ومرغوب عنه، ومتوسّط بين ذلك. على أنه قلّ أن ينفق تأليف في حياة مؤلّفه، أو يروج تصنيف على القرب من زمان مصنّفه.
قال المسعوديّ في كتابه «التّنبيه والإشراف» وقد تشترك الخواطر، وتتّفق الضمائر، وربّما كان الآخر أحسن تأليفا، وأمتن تصنيفا، لحكمة التّجارب، وخشية التّتبّع، والاحتراس من موانع المضارّ. ومن هاهنا صارت العلوم نامية، غير متناهية، لوجود الآخر ما لا يجده الأوّل، وذلك إلى غير غاية محصورة، ولا نهاية محدودة. على أنّ من شيم كثير من الناس إطراء المتقدّمين، وتعظيم كتب السّالفين، ومدح الماضي، وذمّ الباقي؛ وإن كان في كتب المحدثين ما هو أعظم فائدة، وأكثر عائدة.
ثم حكى عن الجاحظ- على جلالة قدره- أنه قال: كنت أؤلّف الكتاب الكثير المعاني، الحسن النّظم، وأنسبه إلى نفسي، فلا أرى الأسماع تصغي إليه، ولا الإرادات تتيمّم نحوه، ثم أؤلّف ما هو أنقص منه رتبة، وأقل فائدة، وأنحله عبد الله بن المقفّع، أو سهل بن هارون، أو غيرهما من المتقدّمين، ممّن صارت أسماؤهم في المصنّفين، فيقبلون على كتبها، ويسارعون إلى نسخها، لا لشيء إلا لنسبتها للمتقدّمين، ولما يداخل أهل هذا العصر من حسد من هو في عصرهم، ومنافسته على المناقب التي عني بتشييدها.
قال: وهذه طائفة لا يعبأ بها كبار الناس، وإنّما العمل على أهل النّظر والتّأمّل الذين أعطوا كلّ شيء حقّه من القول، ووفّوه قسطه من الحقّ، فلم يرفعوا المتقدّم إذا كان ناقصا، ولم ينقصوا المتأخّر إذا كان زائدا؛ فلمثل هؤلاء تصنّف العلوم، وتدوّن الكتب.
وإذا كان هذا نقل المسعوديّ عن الجاحظ الذي هو رأس المصنّفين، وعين أعيانهم، فما ظنّك بغيره؟.
لكنّي أحمد الله تعالى على رواج سوق تأليفي، ونفاق سلعته، والمسارعة إلى استكتابه قبل انقضاء تأليفه، حتّى إنّ قلمي التّأليف والنّسخ
يتسابقان في ميدان الطّرس إلى اكتتابه، ومرتقب نجازه للاستنساخ يساهمهما في ارتقابه، فضلا من الله ونعمة، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*
» .
قال المؤلّف: نجّزت تأليفه في اليوم المبارك، يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر شوّال، سنة أربع عشرة وثمانمائة.
ونجّزت هذه النسخة في يوم السبت المبارك التّاسع والعشرين من شهر صفر الخير، سنة تسع وثمانين وثمانمائة.
فرغ منه كتابة وستّة قبله، فقير رحمة ربه الغنيّ الفاتح، عبد الرزّاق بن عبد المؤمن بن محمد الناسخ الشّافعيّ، نزيل الصّالحيّة النّجميّة المعروفة بالسّادة الحنابلة، بخطّ بين القصرين: غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه، وختم له وللمسلمين بخير، آمين.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين