الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولابد من الْمَوْت فَاتق اللَّه وَلَا تجبهمْ إِلَى شئ فَجعل أَحْمَد يبكى وَهُوَ يَقُول مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه قَالَ ثمَّ قَالَ لي أَحْمَد يَا أَبَا جَعْفَر أعد عَلِيّ مَا قلت قَالَ فَأَعَدْت عَلَيْهِ قَالَ فَجعل أَحْمَد يَقُول مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه
وَقَالَ دعْلج بْن أَحْمَد السجسْتانِي حَدثنَا أَبُو بكر السهروردي بِمَكَّة قَالَ رَأَيْت أَبَا ذَر بسهرورد وَقد قدم مَعَ واليها وَكَانَ مقطعا بالبرص يَعْنِي وَكَانَ مِمَّن ضرب أَحْمَد بَين يَدي المعتصم قَالَ دعينا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَنحن خَمْسُونَ وَمِائَة جلاد فَلَمَّا أمرنَا بضربه كُنَّا نغدوا عَلَى ضربه ونمر ثمَّ يجِئ الآخر عَلَى أَثَره ثمَّ يضْرب
وَقَالَ دعْلج أَيْضًا حَدثنَا الْخضر بْن دَاوُد أَخْبرنِي أَبُو بكر النحامي قَالَ لما كَانَ فِي تِلْكَ الْغَدَاة الَّتِي ضرب فِيهَا أَحْمَد بْن حَنْبَل زلزلنا وَنحن بعبادان
وَقَالَ البُخَارِيّ لما ضرب أَحْمَد كُنَّا بِالْبَصْرَةِ فَسمِعت أَبَا الْوَلِيد يَقُول لَو كَانَ هَذَا فِي بني إِسْرَائِيل لَكَانَ أحدوثة
ذكر الداهية الدهياء والمصيبة الصماء وَهِي محنة عُلَمَاء الزَّمَان ودعاؤهم إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَقيام الأَحْمَدين ابْن حَنْبَل الشَّيْبَانِيّ وَابْن نصر الْخُزَاعِيّ رضي الله عنهما مقَام الصديقين وَمَا اتّفق فِي تِلْكَ الكائنة من أَعَاجِيب تتناقلها الروَاة عَلَى ممر السنين
كَانَ القَاضِي أَحْمَد بْن أَبِي دؤاد مِمَّن نَشأ فِي الْعلم وتضلع بِعلم الْكَلَام وَصَحب فِيهِ هياج بْن الْعَلَاء السّلمِيّ صَاحب وَاصل بْن عَطاء أحد رُءُوس الْمُعْتَزلَة وَكَانَ ابْن أَبِي دؤاد رجلا فصيحا قَالَ أَبُو العيناء مَا رَأَيْت رَئِيسا قطّ أفْصح وَلَا أنطق مِنْهُ وَكَانَ كَرِيمًا ممدحا وَفِيه يَقُول بَعضهم
(لقد أنست مساوي كل دهر
…
محَاسِن أَحْمَد بن دؤاد)
(وَمَا طوفت فِي الْآفَاق إِلَّا
…
وَمن جدواك رَاحِلَتي وزادي)
(يُقيم الظَّن عنْدك والأماني
…
وَإِن قلقت ركابي فِي الْبِلَاد)
وَكَانَ مُعظما عِنْد الْمَأْمُون أَمِير الْمُؤمنِينَ يقبل شفاعاته ويصغي إِلَى كَلَامه وأخباره فِي هَذَا كَثِيرَة
فَدس ابْن أَبِي دؤاد لَهُ القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَحسنه عِنْده وصيره يَعْتَقِدهُ حَقًا مُبينًا إِلَى أَن أجمع رَأْيه فِي سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ عَلَى الدُّعَاء إِلَيْهِ فَكتب إِلَى نَائِبه عَلَى بَغْدَاد إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْخُزَاعِيّ ابْن عَم طَاهِر بْن الْحُسَيْن فِي امتحان الْعلمَاء كتابا يَقُول فِيهِ
وَقد عرف أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن الْجُمْهُور الْأَعْظَم والسواد الْأَكْبَر من حَشْو الرّعية وسفلة الْعَامَّة مِمَّن لَا نظر لَهُ وَلَا روية وَلَا استضاء بِنور الْعلم وبرهانه أهل جَهَالَة بِاللَّه وعمى عَنهُ وضلالة عَن حَقِيقَة دينه وقصور أَن يقدروا اللَّه حق قدره ويعرفوه كنه مَعْرفَته ويفرقوا بَينه وَبَين خلقه وَذَلِكَ أَنهم ساووا بَين اللَّه وَبَين خلقه وَبَين مَا أنزل من الْقُرْآن فأطبقوا عَلَى أَنه قديم لم يخلقه اللَّه ويخترعه وَقد قَالَ تَعَالَى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} فَكل مَا جعله اللَّه فقد خلقه كَمَا قَالَ {وَجعل الظُّلُمَات والنور} وَقَالَ {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سبق} فَأخْبرهُ أَنه قصَص لأمور أحدثه بعْدهَا وَقَالَ {أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت} وَالله مُحكم كِتَابه ومفصله فَهُوَ خالقه ومبتدعه ثمَّ انتسبوا إِلَى السّنة وَأَنَّهُمْ أهل الْحق وَالْجَمَاعَة وَأَن من سواهُم أهل الْبَاطِل وَالْكفْر فاستطالوا بذلك وغروا بِهِ الْجُهَّال حَتَّى مَال قوم من أهل السمت الْكَاذِب والتخشع لغير اللَّه إِلَى موافقتهم فنزعوا الْحق إِلَى باطلهم وَاتَّخذُوا دون اللَّه وليجة إِلَى ضلالهم
إِلَى أَن قَالَ فَرَأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أُولَئِكَ شَرّ الْأمة المنقوصون من التَّوْحِيد حظا
أوعية الْجَهَالَة وأعلام الْكَذِب ولسان إِبْلِيس النَّاطِق فِي أوليائه والهائل عَلَى أعدائه من أهل دين اللَّه وأحق أَن يتهم فِي صدقه وتطرح شَهَادَته وَلَا يوثق بِهِ من عمي عَن رشده وحظه من الْإِيمَان بِالتَّوْحِيدِ وَكَانَ عَمَّا سوى ذَلِك أعمى وأضل سَبِيلا ولعمر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أكذب النَّاس من كذب عَلَى اللَّه ووحيه وتخرص الْبَاطِل وَلم يعرف اللَّه حق مَعْرفَته فاجمع من بحضرتك من الْقُضَاة فاقرأ عَلَيْهِم كتَابنَا وامتحنهم فِيمَا يَقُولُونَ واكشفهم عَمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي خلق اللَّه وإحداثه وأعلمهم أَنِّي غير مستعين فِي عمل وَلَا واثق بِمن لَا يوثق بِدِينِهِ
فَإِذا أقرُّوا بذلك ووافقوا فمرهم بِنَصّ من بحضرتهم من الشُّهُود ومسألتهم عَن علمهمْ فِي الْقُرْآن وَترك شَهَادَة من لم يقر أَنه مَخْلُوق واكتب إِلَيْنَا بِمَا يَأْتِيك عَن قُضَاة أهل عَمَلك فِي مسألتهم وَالْأَمر لَهُم بِمثل ذَلِك
وَكتب الْمَأْمُون إِلَيْهِ أَيْضًا فِي إشخاص سَبْعَة أنفس وهم
مُحَمَّد بْن سعد كَاتب الْوَاقِدِيّ وَيحيى بْن معِين وَأَبُو خَيْثَمَة وَأَبُو مُسلم مستملي يزِيد بْن هَارُون وَإِسْمَاعِيل بْن دَاوُد وَإِسْمَاعِيل بْن أَبِي مَسْعُود وأَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي
فأشخصوا إِلَيْهِ فامتحنهم بِخلق الْقُرْآن فَأَجَابُوهُ فردهم من الرقة إِلَى بَغْدَاد وَسبب طَلَبهمْ أَنهم توقفوا أَولا ثمَّ أجابوه تقية
وَكتب إِلَى إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بِأَن يحضر الْفُقَهَاء ومشايخ الحَدِيث ويخبرهم بِمَا أجَاب بِهِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَة فَفعل ذَلِك فَأَجَابَهُ طَائِفَة وَامْتنع آخَرُونَ
فَكَانَ يَحْيَى بْن معِين وَغَيره يَقُولُونَ أجبنا خوفًا من السَّيْف
ثمَّ كتب الْمَأْمُون كتابا آخر من جنس الأول إِلَى إِسْحَاق وَأمره بإحضار من امْتنع فأحضر جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد ابْن حَنْبَل وَبشر بْن الْوَلِيد الْكِنْدِيّ وَأَبُو حسان الزيادى
وَعلي بْن أَبِي مقَاتل وَالْفضل بْن غَانِم وَعبيد اللَّه بْن عمر القواريري وَعلي بْن الْجَعْد وسجادة وَالذَّيَّال بْن الْهَيْثَم وقُتَيْبَة بْن سَعِيد وَكَانَ حِينَئِذٍ بِبَغْدَاد وسعدويه الوَاسِطِيّ وَإِسْحَاق بْن أَبِي إِسْرَائِيل وَابْن الهرش وَابْن علية الْأَكْبَر ومُحَمَّد بْن نوح الْعجلِيّ وَيحيى بْن عَبْد الرَّحْمَن الْعمريّ وَأَبُو نصر التمار وَأَبُو معمر الْقطيعِي ومُحَمَّد بْن حَاتِم بْن مَيْمُون وَغَيرهم وَعرض عَلَيْهِم كتاب الْمَأْمُون فعرضوا ووروا وَلم يجيبوا وَلم ينكروا
فَقَالَ لبشر بْن الْوَلِيد مَا تَقول قَالَ قد عرفت أَمِير الْمُؤمنِينَ غير مرّة قَالَ والآن فقد تجدّد من أَمِير الْمُؤمنِينَ كتاب قَالَ أَقُول كَلَام اللَّه قَالَ لم أَسأَلك عَن هَذَا أمخلوق هُوَ قَالَ مَا أحسن غير مَا قلت لَك وَقد استعهدت أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن لَا أَتكَلّم فِيهِ
ثمَّ قَالَ لعَلي بْن أَبِي مقَاتل مَا تَقول قَالَ الْقُرْآن كَلَام اللَّه وَإِن أمرنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بشئ سمعنَا وأطعنا
وَأجَاب أَبُو حسان الزيَادي بِنَحْوِ من ذَلِك
ثمَّ قَالَ لأَحْمَد ابْن حَنْبَل مَا تَقول قَالَ كَلَام اللَّه قَالَ أمخلوق هُوَ قَالَ هُوَ كَلَام اللَّه لَا أَزِيد عَلَى هَذَا
ثمَّ امتحن البَاقِينَ وَكتب بجواباتهم
وَقَالَ ابْن الْبكاء الْأَكْبَر أَقُول الْقُرْآن مجعول ومحدث لوُرُود النَّص بذلك فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم والمجعول مَخْلُوق قَالَ نعم قَالَ فالقرآن مَخْلُوق قَالَ لَا أَقُول مَخْلُوق
ثمَّ وَجه بجواباتهم إِلَى الْمَأْمُون فورد عَلَيْهِ كتاب الْمَأْمُون
بلغنَا مَا أجَاب بِهِ متصنعة أهل الْقبْلَة وملتمسو الرياسة فِيمَا لَيْسُوا لَهُ بِأَهْل فَمن لم يجب أَنه مَخْلُوق فامنعه من الْفَتْوَى وَالرِّوَايَة
وَيَقُول فِي الْكتاب فَأَما مَا قَالَ بشر فقد كذب وَلم يكن جرى بَين أَمِير الْمُؤمنِينَ وَبَينه فِي ذَلِك عهد أَكثر من إِخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ من اعْتِقَاده كلمة الْإِخْلَاص وَالْقَوْل بِأَن الْقُرْآن مَخْلُوق فَادع بِهِ إِلَيْك فَإِن تَابَ فأشهر أمره وَإِن أصر عَلَى شركه وَدفع أَن يكون الْقُرْآن مخلوقا بِكُفْرِهِ وإلحاده فَاضْرب عُنُقه وَابعث إِلَيْنَا بِرَأْسِهِ
وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي فامتحنه فَإِن أجَاب وَإِلَّا فَاضْرب عُنُقه
وَأما عَلِيّ بْن أَبِي مقَاتل فَقل لَهُ أَلَسْت الْقَائِل لأمير الْمُؤمنِينَ إِنَّك تحلل وَتحرم وَأما الذَّيَّال فَأعلمهُ أَنه كَانَ فِي الطَّعَام الَّذِي سَرقه من الأنبار مَا يشْغلهُ
وَأما أَحْمَد بْن يزِيد أَبُو الْعَوام وَقَوله إِنَّه لَا يحسن الْجَواب فِي الْقُرْآن فَأعلمهُ أَنه صبي فِي عقله لَا فِي سنه جَاهِل سيحسن الْجَواب إِذا أدب ثمَّ إِن لم يفعل كَانَ السَّيْف من وَرَاء ذَلِك
وَأما أَحْمَد بْن حَنْبَل فَأعلمهُ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد عرف فحوى مقَالَته وَاسْتدلَّ عَلَى جَهله وآفته بهَا
وَأما الْفضل بْن غَانِم فَأعلمهُ أَنه لم يخف عَلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا كَانَ فِيهِ بِمصْر وَمَا اكْتسب من الْأَمْوَال فِي أقل من سنة يَعْنِي فِي ولَايَته الْقَضَاء
وَأما الزيَادي فَأعلمهُ أَنه كَانَ منتحلا وَلَاء دعِي فَأنْكر أَبُو حسان أَن يكون مولى لزياد بْن أَبِيه وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الزيَادي لأمر من الْأُمُور
قَالَ وَأما أَبُو نصر التمار فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ شبه خساسة عقله بخساسة متجره وَأما ابْن نوح وَابْن حَاتِم فأعلمهم أَنهم مشاغيل بِأَكْل الرِّبَا عَن الْوُقُوف عَلَى التَّوْحِيد
وَأَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو لم يسْتَحل محاربتهم فِي اللَّه إِلَّا لإربائهم وَمَا نزل بِهِ كتاب اللَّه فِي أمثالهم لاستحل ذَلِك فَكيف بهم وَقد جمعُوا مَعَ الإرباء شركا وصاروا لِلنَّصَارَى شبها
وَأما ابْن شُجَاع فَأعلمهُ أَنَّك صَاحبه بالْأَمْس والمستخرج مِنْهُ مَا استخرجته من المَال الَّذِي كَانَ اسْتحلَّ من مَال الْأَمِير عَلِيّ بْن هِشَام
وَأما سَعْدَوَيْه الوَاسِطِيّ فَقل لَهُ قبح اللَّه رجلا بلغ بِهِ التصنع للْحَدِيث والحرص عَلَى الرياسة فِيهِ أَن يتَمَنَّى وَقت المحنة
وَأما الْمَعْرُوف بسجادة وإنكاره أَن يكون سمع مِمَّن كَانَ يُجَالس من الْعلمَاء القَوْل بِأَن الْقُرْآن مَخْلُوق فَأعلمهُ أَن فِي شغله بإعداد النَّوَى وحكه لإِصْلَاح سجادته وبالودائع الَّتِي دَفعهَا إِلَيْهِ عَلِيّ بْن يَحْيَى وَغَيره مَا أذهله عَن التَّوْحِيد
وَأما القواريري فَفِيمَا تكشف من أَحْوَاله وقبوله الرشا والمصانعات مَا أبان عَن مذْهبه وَسُوء طَرِيقَته وسخافة عقله وَدينه
وَأما يَحْيَى الْعمريّ فَإِن كَانَ من ولد عمر بْن الْخطاب فَجَوَابه مَعْرُوف
وَأما مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن عَاصِم فَإِنَّهُ لَو كَانَ مقتديا بِمن مضى من سلفه لم ينتحل النحلة الَّتِي حكيت عَنهُ وَأَنه بعد صبي يحْتَاج إِلَى أَن يعلم
وَقد كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَجه إِلَيْك الْمَعْرُوف بِأبي مسْهر بعد أَن نَصه أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن محنته فِي الْقُرْآن فجمجم عَنْهَا ولجلج فِيهَا حَتَّى دَعَاهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِالسَّيْفِ فَأقر ذَمِيمًا فانصصه عَن إِقْرَاره فَإِن كَانَ مُقيما عَلَيْهِ فأشهر ذَلِك وأظهره
وَمن لم يرجع عَن شركه مِمَّن سميت بعد بشر وَابْن الْمهْدي فاحملهم موثوقين إِلَى عَسْكَر أَمِير الْمُؤمنِينَ ليسألهم فَإِن لم يرجِعوا حملهمْ عَلَى السَّيْف
قَالَ فَأَجَابُوا كلهم عِنْد ذَلِك إِلَّا أَحْمَد بْن حَنْبَل وسجادة ومُحَمَّد بْن نوح والقواريري فَأمر بهم إِسْحَاق فقيدوا ثمَّ سَأَلَهُمْ من الْغَد وهم فِي الْقُيُود فَأجَاب سجادة ثمَّ عاودهم ثَالِثا فَأجَاب القواريري وَوجه بأَحْمَد بْن حَنْبَل ومُحَمَّد بْن نوح الْمَضْرُوب إِلَى طرسوس ثمَّ بلغ الْمَأْمُون أَنهم أجابوا مكرهين فَغَضب وَأمر بإحضارهم
إِلَيْهِ فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الرقة بلغتهم وَفَاة الْمَأْمُون وَكَذَا جَاءَ الْخَبَر بِمَوْت الْمَأْمُون إِلَى أَحْمَد ولطف اللَّه وَفرج
وَأما مُحَمَّد بْن نوح فَكَانَ عديلا لأَحْمَد بْن حَنْبَل فِي الْمحمل فَمَاتَ فَغسله أَحْمَد بالرحبة وَصلى عَلَيْهِ وَدَفنه رَحمَه اللَّه تَعَالَى
وَأما الْمَأْمُون فَمَرض بالروم فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرضه طلب ابْنه الْعَبَّاس ليقدم عَلَيْهِ وَهُوَ يظنّ أَنه لَا يُدْرِكهُ فَأَتَاهُ وَهُوَ مجهود
وَقد نفذت الْكتب إِلَى الْبلدَانِ فِيهَا من عَبْد اللَّه الْمَأْمُون وأخيه أَبِي إِسْحَاق الْخَلِيفَة من بعده بِهَذَا النَّص فَقيل إِن ذَلِك وَقع بِأَمْر الْمَأْمُون وَقيل بل كتبُوا ذَلِك وَقت غشي أَصَابَهُ فَأَقَامَ الْعَبَّاس عِنْده أَيَّامًا حَتَّى مَاتَ
وَكَانَ الْمَأْمُون قد كتب وَصِيَّة تطول حكايتها ضمنهَا تحريض الْخَلِيفَة بعده عَلَى حمل الْخلق عَلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن ثمَّ توفّي فِي رَجَب وَدفن بطرسوس واستقل أَمِير الْمُؤمنِينَ المعتصم بالخلافة
فَكَانَ من سَعَادَة الْمَأْمُون مَوته قبل أَن يحضر أَحْمَد بْن حَنْبَل إِلَى بَين يَدَيْهِ فَلم يكن ضربه عَلَى يَدَيْهِ
وَكَانَت هَذِهِ الْفِتْنَة عَظِيمَة الْموقع وَأول من امتحن فِيهَا من الْعلمَاء عَفَّان بْن مُسلم الْحَافِظ وَلما دعِي وَعرض عَلَيْهِ القَوْل بِخلق الْقُرْآن فَامْتنعَ قِيلَ قد رسمنا بِقطع عطائك وَكَانَ يعْطى ألف دِرْهَم فِي كل شهر فَقَالَ {وَفِي السَّمَاءِ رزقكم وَمَا توعدون} وَكَانَت عِنْده عائلة كَبِيرَة قِيلَ فدق عَلَيْهِ الْبَاب داق فِي ذَلِك الْيَوْم لَا يعرف وَقَالَ خُذ هَذِهِ الْألف وَلَك كل شهر عِنْدِي ألف يَا أَبَا عُثْمَان ثبتك اللَّه كَمَا ثَبت الدّين ثمَّ امتحن النَّاس بعده
قَالَ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم البوشنجي سَمِعت أَحْمَد ابْن حَنْبَل يَقُول تبينت الْإِجَابَة فِي دعوتين دَعَوْت اللَّه أَن لَا يجمع بيني وَبَين الْمَأْمُون ودعوته أَن لَا أرى المتَوَكل فَلم أر الْمَأْمُون مَاتَ بالبذندون وَهُوَ نهر الرّوم وأَحْمَد مَحْبُوس بالرقة حَتَّى بُويِعَ المعتصم بالروم وَرجع فَرد أَحْمَد إِلَى بَغْدَاد
وَأما المتَوَكل فَإِنَّهُ لما أحضر أَحْمَد دَار الْخلَافَة ليحدث وَلَده قعد لَهُ المتَوَكل فِي خوخة حَتَّى نظر إِلَى أَحْمَد وَلم يره أَحْمَد
قَالَ صَالح لما صدر أَبِي ومُحَمَّد بْن نوح إِلَى طرسوس ردا فِي أقيادهما فَلَمَّا صَار إِلَى الرقة حملا فِي سفينة فَلَمَّا وصلا إِلَى عانات توفّي مُحَمَّد فَأطلق عَنهُ قَيده وَصلى عَلَيْهِ أَبِي
وَقَالَ حَنْبَل قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه مَا رَأَيْت أحدا عَلَى حَدَاثَة سنه وَقدر علمه أقوم بِأَمْر اللَّه من مُحَمَّد بْن نوح وَإِنِّي لأرجو أَن يكون قد ختم لَهُ بِخَير قَالَ لي ذَات يَوْم يَا أَبَا عَبْد اللَّه اللَّه اللَّه إِنَّك لست مثلي أَنْت رجل يقْتَدى بك قد مد الْخلق أَعْنَاقهم إِلَيْك لما يكون مِنْك فَاتق اللَّه واثبت لأمر اللَّه أَو نَحْو هَذَا فَمَاتَ وَصليت عَلَيْهِ ودفنته أَظُنهُ قَالَ بعانة
قَالَ صَالح صَار أَبِي إِلَى بَغْدَاد مُقَيّدا فَمَكثَ بالياسرية أَيَّامًا ثمَّ حبس بدار اكتريت لَهُ عِنْد دَار عمَارَة ثمَّ نقل بعد ذَلِك إِلَى حبس الْعَامَّة فِي درب الموصلية فَقَالَ إِنِّي كنت أُصَلِّي بِأَهْل السجْن وَأَنا مُقَيّد فَلَمَّا كَانَ فِي رَمَضَان سنة تسع عشرَة حولت إِلَى دَار إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم
وَأما حَنْبَل بْن إِسْحَاق فَقَالَ حبس أَبُو عَبْد اللَّه فِي دَار عمَارَة بِبَغْدَاد فِي إسطبل لمُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم أخي إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم وَكَانَ فِي حبس ضيق وَمرض فِي رَمَضَان فحبس فِي ذَلِك الْحَبْس قَلِيلا ثمَّ حول إِلَى حبس الْعَامَّة فَمَكثَ فِي السجْن نَحوا من ثَلَاثِينَ شهرا فَكُنَّا نأتيه ونقرأ عَلَيْهِ كتاب الإرجاء وَغَيره فِي الْحَبْس فرأيته يُصَلِّي بِأَهْل الْحَبْس
وَعَلِيهِ الْقَيْد وَكَانَ يخرج رجله من حَلقَة الْقَيْد وَقت الصَّلَاة وَالنَّوْم
وَكَانَ يُوَجه إِلَي كل يَوْم برجلَيْن أَحدهمَا يُقَال لَهُ أَحْمَد بْن رَبَاح وَالْآخر أَبُو شُعَيْب الْحجام فَلَا يزَالَانِ يناظراني حَتَّى إِذا أَرَادَا الِانْصِرَاف دعِي بِقَيْد فزيد فِي قيودي قَالَ فَصَارَ فِي رجله أَرْبَعَة أقياد
قَالَ أَبِي فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث دخل عَلَي أحد الرجلَيْن فناظرني فَقلت لَهُ مَا تَقول فِي علم اللَّه
قَالَ علم اللَّه مَخْلُوق
فَقلت لَهُ كفرت
فَقَالَ الرَّسُول الَّذِي كَانَ يحضر من قبل إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم إِن هَذَا رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَقلت لَهُ إِن هَذَا قد كفر
فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة الرَّابِعَة وَجه يَعْنِي المعتصم ببغا الَّذِي كَانَ يُقَال لَهُ الْكَبِير إِلَى إِسْحَاق فَأمره بحملي إِلَيْهِ فأدخلت عَلَى إِسْحَاق فَقَالَ يَا أَحْمَد إِنَّهَا وَالله نَفسك إِنَّه لَا يقتلك بِالسَّيْفِ إِنَّه قد آلى إِن لم تجبه أَن يَضْرِبك ضربا بعد ضرب وَأَن يلقيك فِي مَوضِع لَا ترى فِيهِ شمس وَلَا قمر أَلَيْسَ قد قَالَ الله عز وجل {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} أفيكون مجعولا إِلَّا مخلوقا قلت فقد قَالَ تَعَالَى {فجعلهم كعصف مَأْكُول} أفخلقهم قَالَ فَسكت
فَلَمَّا صرنا إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِبَاب الْبُسْتَان أخرجت وجئ بِدَابَّة فَحملت عَلَيْهَا وَعلي الأقياد مَا معي أحد يمسكني فكدت غير مرّة أَن أخر على وجهى
لثقل الْقُيُود فجِئ بِي إِلَى دَار المعتصم فأدخلت حجرَة وأدخلت إِلَى بَيت وأقفل الْبَاب عَليّ وَذَلِكَ فِي جَوف اللَّيْل وَلَيْسَ فِي الْبَيْت سراج فَأَرَدْت أَن أتمسح للصَّلَاة فمددت يَدي فَإِذا أَنا بِإِنَاء فِيهِ مَاء وطست مَوْضُوع فَتَوَضَّأت وَصليت
فَلَمَّا كَانَ من الْغَد أخرجت تكتي من سراويلي وشددت بهَا الأقياد أحملها وعطفت سراويلي فجَاء رَسُول المعتصم فَقَالَ أجب فَأخذ بيَدي وأدخلني عَلَيْهِ والتكة فِي يَدي أحمل بهَا الأقياد وَإِذا هُوَ جَالس وَابْن أَبِي دؤاد حَاضر وَقد جمع خلقا كثيرا من أَصْحَابه فَقَالَ لَهُ يَعْنِي المعتصم أدنه أدنه فَلم يزل يدنيني حَتَّى قربت مِنْهُ ثمَّ قَالَ لي اجْلِسْ فَجَلَست وَقد أثقلتني الأقياد فَمَكثت قَلِيلا ثمَّ قلت أتأذن لي فِي الْكَلَام فَقَالَ تكلم
فَقلت إِلَى مَا دَعَا اللَّه وَرَسُوله
فَسكت هنيئة ثمَّ قَالَ إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
فَقلت فَأَنا أشهد أَن لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
ثمَّ قلت إِن جدك ابْن عَبَّاس يَقُول لما قدم وَفد عبد الْقَيْس على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَن الْإِيمَان فَقَالَ (أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَان قَالُوا اللَّه وَرَسُوله أعلم قَالَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَأَن تعطوا الْخمس من الْمغنم)
قَالَ أَبِي قَالَ يَعْنِي المعتصم لَوْلَا أَنِّي وَجَدْتُك فِي يَد من كَانَ قبلي مَا عرضت لَك ثمَّ قَالَ يَا عَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق ألم آمُرك بِرَفْع المحنة فَقلت اللَّه أكبر إِن فِي هَذَا لفرجا للْمُسلمين
ثمَّ قَالَ لَهُم ناظروه كَلمُوهُ يَا عَبْد الرَّحْمَن كَلمه
فَقَالَ لي عَبْد الرَّحْمَن مَا تَقول فِي القُرْآن
قلت لَهُ مَا تَقول فِي علم اللَّه فَسكت
فَقَالَ لي بَعضهم أَلَيْسَ قد قَالَ الله تَعَالَى {الله خَالق كل شَيْء} وَالْقُرْآن أَلَيْسَ هُوَ شئ فَقلت قَالَ اللَّه {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبهَا} فدمرت إِلَّا مَا أَرَادَ اللَّه فَقَالَ بَعضهم قَالَ اللَّه عز وجل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذكر من رَبهم مُحدث} أفيكون مُحدثا إِلَّا مخلوقا
فَقلت قَالَ اللَّه {ص وَالْقُرْآن ذِي الذّكر} فالذكر هُوَ الْقُرْآن وَتلك لَيْسَ فِيهَا ألف وَلَا لَام
وَذكر بَعضهم حَدِيث عمرَان بْن حُصَيْن أَن اللَّه عز وجل خلق الذّكر
فَقلت هَذَا خطأ حَدثنَا غير وَاحِد أَن اللَّه كتب الذّكر
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث ابْن مَسْعُود مَا خلق اللَّه من جنَّة وَلَا نَار وَلَا سَمَاء وَلَا أَرض أعظم من آيَة الْكُرْسِيّ
فَقلت إِنَّمَا وَقع الْخلق عَلَى الْجنَّة وَالنَّار وَالسَّمَاء وَالْأَرْض وَلم يَقع عَلَى الْقُرْآن
فَقَالَ بَعضهم حَدِيث خباب يَا هنتاه تقرب إِلَى اللَّه بِمَا اسْتَطَعْت فَإنَّك لن تتقرب إِلَيْهِ بشئ أحب إِلَيْهِ من كَلَامه
فَقلت هَكَذَا هُوَ
قَالَ صَالح بْن أَحْمَد فَجعل أَحْمَد بْن أَبِي دؤاد ينظر إِلَى أَبِي كالمغضب
قَالَ أَبِي وَكَانَ يتَكَلَّم هَذَا فأرد عَلَيْهِ وَيتَكَلَّم هَذَا فأرد عَلَيْهِ فَإِذا انْقَطع الرجل مِنْهُم اعْترض ابْن أَبِي دؤاد فَيَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هُوَ وَالله ضال مضل مُبْتَدع فَيَقُول
كَلمُوهُ ناظروه فيكلمني هَذَا فأرد عَلَيْهِ ويكلمني هَذَا فأرد عَلَيْهِ فَإِذا انْقَطَعُوا يَقُول لي المعتصم وَيحك يَا أَحْمَد مَا تَقول فَأَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أعطوني شَيْئا من كتاب اللَّه أَو سنة رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقُول بِهِ فَيَقُول ابْن أَبِي دؤاد أَنْت لَا تَقول إِلَّا مَا فِي كتاب اللَّه أَو سنة رَسُول اللَّهِ فَقلت لَهُ تأولت تَأْوِيلا فَأَنت أعلم وَمَا تأولت مَا يحبس عَلَيْهِ وَمَا يُقيد عَلَيْهِ
ثمَّ إِن المعتصم دَعَا أَحْمَد مَرَّتَيْنِ فِي مجلسين يطول شرحهما وَهُوَ يَدعُوهُ إِلَى الْبِدْعَة وأَحْمَد رضي الله عنه يَأْبَى عَلَيْهِ أَشد الإباء
قَالَ أَحْمَد رضي الله عنه وَلما كَانَت اللَّيْلَة الثَّالِثَة قلت خليق أَن يحدث غَدا من أمرى شئ فَقلت لبَعض من كَانَ معي الْمُوكل بِي ارْتَدَّ لي خيطا فَجَاءَنِي بخيط فشددت بِهِ الأقياد ورددت التكة إِلَى سراويلي مَخَافَة أَن يحدث من أمرى شئ فأتعرى
فَلَمَّا كَانَ من الْغَد فِي الْيَوْم الثَّالِث وَجه إِلَيّ فأدخلت فَإِذا الدَّار غاصة فَجعلت أَدخل من مَوضِع إِلَى مَوضِع وَقوم مَعَهم السيوف وَقوم مَعَهم السِّيَاط وَغير ذَلِك وَلم يكن فِي الْيَوْمَيْنِ الماضيين كثير أحد من هَؤُلَاءِ فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَيْهِ قَالَ اقعد ثمَّ قَالَ ناظروه كَلمُوهُ فَجعلُوا يناظروني وَيتَكَلَّم هَذَا فأرد عَلَيْهِ وَجعل صوتي يَعْلُو أَصْوَاتهم فَجعل بعض من عَلَى رَأسه قَائِم يومي إِلَيّ بِيَدِهِ فَلَمَّا طَال الْمجْلس نحاني ثمَّ خلا بهم ثمَّ نحاهم وردني إِلَى عِنْده وَقَالَ وَيحك يَا أَحْمَد أجبني حَتَّى أطلق عَنْك بيَدي فَرددت عَلَيْهِ نَحوا مِمَّا كنت أرد فَقَالَ لي عَلَيْك وَذكر اللَّعْن وَقَالَ خذوه واسحبوه واخلعوه قَالَ فسحبت ثمَّ خلعت
قَالَ وَقد كَانَ صَار إِلَي شعر من شعر النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي كم قميصى فَوجه إِلَى إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم مَا هَذَا المصرور فِي كمك قلت شعر من شعر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ وسعى بعض الْقَوْم إِلَى الْقَمِيص ليخرقه عَليّ فَقَالَ لَهُم يَعْنِي المعتصم لَا تخرقوه فَنزع الْقَمِيص عني قَالَ فَظَنَنْت أَنه إِنَّمَا درئ عَن الْقَمِيص الْخرق بِسَبَب الشّعْر الَّذِي كَانَ فِيهِ
قَالَ وَجلسَ عَلَى كرْسِي يَعْنِي المعتصم ثمَّ قَالَ العقابين والسياط فجيء بالعقابين فمدت يداي فَقَالَ بعض من حضر خَلْفي خُذ بِأَيّ الخشبتين بيديك وَشد عَلَيْهِمَا فَلم أفهم مَا قَالَ فتخلعت يداي
وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم البوشنجي ذكرُوا أَن المعتصم لَان فِي أَمر أَحْمَد لما علق فِي العقابين وَرَأى ثُبُوته وتصميمه وصلابته فِي أمره حَتَّى أغراه ابْن أَبِي دؤاد وَقَالَ لَهُ إِن تركته قِيلَ إِنَّك تركت مَذْهَب الْمَأْمُون وسخطت قَوْله فهاجه ذَلِك عَلَى ضربه
قَالَ صَالح قَالَ أَبى لما جئ بالسياط نظر إِلَيْهَا المعتصم وَقَالَ ائْتُونِي بغَيْرهَا ثمَّ قَالَ للجلادين تقدمُوا فَجعل يتَقَدَّم إِلَي الرجل مِنْهُم فيضربني سوطين فَيَقُول لَهُ شدّ قطع اللَّه يدك ثمَّ يتَنَحَّى ويتقدم الآخر فيضربني سوطين وَهُوَ يَقُول فِي كل ذَلِك شدّ قطع اللَّه يدك فَلَمَّا ضربت تِسْعَة عشر سَوْطًا قَامَ إِلَيّ يَعْنِي المعتصم فَقَالَ يَا أَحْمَد علام تقتل نَفسك إِنِّي وَالله عَلَيْك لشفيق
قَالَ فَجعل عجيف ينخسني بقائمة سَيْفه وَيَقُول أَتُرِيدُ أَن تغلب هَؤُلَاءِ كلهم
وَجعل بَعضهم يَقُول وَيلك الْخَلِيفَة عَلَى رَأسك قَائِم وَقَالَ بَعضهم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ دَمه فِي عنقِي اقتله وَجعلُوا يَقُولُونَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنْت صَائِم وَأَنت فِي الشَّمْس قَائِم فَقَالَ لي وَيحك يَا أَحْمَد مَا تَقول فَأَقُول أعطوني شَيْئا من كتاب اللَّه أَو سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَقُول بِهِ فَرجع وَجلسَ وَقَالَ للجلاد تقدم وأوجع قطع اللَّه يدك ثمَّ قَامَ الثَّانِيَة فَجعل يَقُول وَيحك يَا أَحْمَد أجبني فَجعلُوا يقبلُونَ عَلِيّ وَيَقُولُونَ يَا أَحْمَد
إمامك عَلَى رَأسك قَائِم وَجعل عَبْد الرَّحْمَن يَقُول من صنع من أَصْحَابك فِي هَذَا الْأَمر مَا تصنع وَجعل المعتصم يَقُول وَيحك أجبنى إِلَى شئ لَك فِيهِ أدني فرج حَتَّى أطلق عَنْك بيَدي فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أعطوني شَيْئا من كتاب اللَّه فَرجع وَقَالَ للجلادين تقدمُوا فَجعل الجلاد يتَقَدَّم ويضربني سوطين ويتنحي فِي خلال ذَلِك يَقُول شدّ قطع اللَّه يدك
قَالَ أَبِي فَذهب عَقْلِي فَأَفَقْت بعد ذَلِك فَإِذا الأقياد قد أطلقت عني فَقَالَ لي رجل مِمَّن حضر إِنَّا كببناك عَلَى وَجهك وطرحناك عَلَى ظهرك ودسناك قَالَ أَبِي فَمَا شَعرت بذلك وأتوني بسويق فَقَالُوا لي اشرب وتقيأ فَقلت لَا أفطر
ثمَّ جِيءَ بِي إِلَى دَار إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم فَحَضَرت صَلَاة الظّهْر فَتقدم ابْن سَمَّاعَة فصلى فَلَمَّا انْفَتَلَ من الصَّلَاة قَالَ لي صليت وَالدَّم يسيل فِي ثَوْبك فَقلت قد صلى عمر وجرحه يثغب دَمًا
قَالَ صَالح ثمَّ خلي عَنهُ فَصَارَ إِلَى منزله وَكَانَ مكثه فِي السجْن مذ أَخذ وَحمل إِلَى أَن ضرب وخلي عَنهُ ثَمَانِيَة وَعشْرين شهرا
وَلَقَد أَخْبرنِي أحد الرجلَيْن اللَّذين كَانَا مَعَه قَالَ يَا ابْن أخي رَحْمَة اللَّه عَلَى أَبِي عَبْد اللَّه وَالله مَا رَأَيْت أحدا يُشبههُ وَلَقَد جعلت أَقُول لَهُ فِي وَقت مَا يُوَجه إِلَيْنَا بِالطَّعَامِ يَا أَبَا عَبْد اللَّه أَنْت صَائِم وَأَنت فِي مَوضِع تقية وَلَقَد عَطش فَقَالَ لصَاحب الشَّرَاب ناولني فَنَاوَلَهُ قدحا فِيهِ مَاء وثلج فَأَخذه وَنظر إِلَيْهِ هنيئه ثمَّ رده وَلم يشرب فَجعلت أتعجب من صبره عَلَى الْجُوع والعطش وَهُوَ فِيمَا هُوَ فِيهِ من الهول
قَالَ صَالح كنت ألتمس وأحتال أَن أوصل إِلَيْهِ طَعَاما أَو رغيفا فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَلم أقدر
وَأَخْبرنِي رجل حَضَره أَنه تفقده فِي هَذِهِ الْأَيَّام الثَّلَاثَة وهم يناظرونه فَمَا لحن فِي كلمة قَالَ وَمَا ظَنَنْت أَن أحدا يكون فِي مثل شجاعته وَشدَّة قلبه
وروى أَنه لما ضرب سَوْطًا قَالَ بِسم اللَّه فَلَمَّا ضرب الثَّانِي قَالَ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه فَلَمَّا ضرب الثَّالِث قَالَ الْقُرْآن كَلَام اللَّه غير مَخْلُوق فَلَمَّا ضرب الرَّابِع قَالَ {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كتب الله لنا} فَضَربهُ تِسْعَة وَعشْرين سَوْطًا
وَكَانَت تكة أَحْمَد حَاشِيَة ثوب فَانْقَطَعت فَنزل السَّرَاوِيل إِلَى عانته فَرمى بطرفه إِلَى السَّمَاء وحرك شَفَتَيْه فَمَا كَانَ بأسرع من ثُبُوت السَّرَاوِيل عَلَى حَاله لم تتزحزح
قَالَ الرَّاوِي فَدخلت عَلَى أَحْمَد بعد سَبْعَة أَيَّام فَقلت يَا أَبَا عَبْد اللَّه رَأَيْتُك وَقد انحل سراويلك فَرفعت طرفك نَحْو السَّمَاء فَثَبت مَا الَّذِي قلت قَالَ قلت اللَّهم إِنِّي أَسأَلك بِاسْمِك الَّذِي مَلَأت بِهِ الْعَرْش إِن كنت تعلم أَنِّي عَلَى الصَّوَاب فَلَا تهتك لي سترا
وَفِي رِوَايَة لما أقبل الدَّم من أكتافه انْقَطع خيط السَّرَاوِيل وَنزل فَرفع طرفه إِلَى السَّمَاء فَعَاد من لحظته فَسئلَ أَحْمَد فَقَالَ قلت إلهي وسيدي وقفتني هَذَا الْموقف فَلَا تهتكني عَلَى رُءُوس الْخَلَائق
وَرُوِيَ أَنه كَانَ كلما ضرب سَوْطًا أَبْرَأ ذمَّة المعتصم فَسئلَ فَقَالَ كرهت أَن آتِي يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال هَذَا غَرِيم ابْن عَم النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو رجل من أهل بَيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم
فَهَذَا مُخْتَصر من حَال الإِمَام أَحْمَد فِي المحنة رَحمَه اللَّه تَعَالَى وَرَضي عَنهُ
وَأما الْأُسْتَاذ أَحْمَد بْن نصر الْخُزَاعِيّ ذُو الْجنان وَاللِّسَان والثبات وَإِن اضْطربَ المهند والسنان والوثبات وَإِن مَلَأت نَار الْفِتْنَة كل مَكَان فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا جَلِيلًا قوالا بِالْحَقِّ أمارا بِالْمَعْرُوفِ نهاء عَن الْمُنكر وَكَانَ من أَوْلَاد الْأُمَرَاء وَكَانَت محنته عَلَى يَد الواثق
قَالَ لَهُ مَا تَقول فِي الْقُرْآن قَالَ كَلَام اللَّه وأصر عَلَى ذَلِك غير متلعثم فَقَالَ بعض الْحَاضِرين هُوَ حَلَال الدَّم فَقَالَ ابْن أَبى دؤاد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ شيخ مختل لَعَلَّ بِهِ عاهة أَو تغير عقل يُؤَخر أمره ويستتاب فَقَالَ الواثق مَا أرَاهُ إِلَّا مُؤديا لكفره قَائِما بِمَا يَعْتَقِدهُ مِنْهُ ثمَّ دَعَا بالصمصامة وَقَالَ إِذا قُمْت إِلَيْهِ فَلَا يقومن أحد معي فَإِنِّي أحتسب خطاي إِلَى هَذَا الْكَافِر الَّذِي يعبد رَبًّا لَا نعبده وَلَا نعرفه بِالصّفةِ الَّتِي وَصفه بهَا ثمَّ أَمر بالنطع فأجلس عَلَيْهِ وَهُوَ مُقَيّد وَأمر أَن يشد رَأسه بِحَبل وَأمرهمْ أَن يمدوه وَمَشى إِلَيْهِ فَضرب عُنُقه وَأمر بِحمْل رَأسه إِلَى بَغْدَاد فَنصبت بالجانب الشَّرْقِي أَيَّامًا وَفِي الْجَانِب الغربي أَيَّامًا وتتبع رُؤُوس أَصْحَابه فسجنوا
وَقَالَ الْحَسَن بْن مُحَمَّد الْخرقِيّ سَمِعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّائِغ يَقُول رَأَيْت أَحْمَد بْن نصر حَيْثُ ضربت عُنُقه قَالَ رَأسه لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
قَالَ الْمَرْوذِيّ سَمِعت أَبَا عَبْد اللَّه وَذكر أَحْمَد بْن نصر فَقَالَ رحمه الله مَا كَانَ أسخاه لقد جاد بِنَفسِهِ
وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه الْحَافِظ فِي تَرْجَمَة أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد بْن سَعِيد الْمَرْوذِيّ وَهُوَ فِي الطَّبَقَة الْخَامِسَة من تَارِيخ نَيْسَابُورَ سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس السياري يَقُول سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس بْن سعد يَقُول لم يصبر فِي المحنة إِلَّا أَرْبَعَة كلهم من أهل مرو أَحْمَد بْن حَنْبَل أَبُو عَبْد اللَّه وأَحْمَد بْن نصر بْن مَالك الْخُزَاعِيّ ومُحَمَّد بْن نوح بْن مَيْمُون الْمَضْرُوب ونعيم بْن حَمَّاد وَقد مَاتَ فِي السجْن مُقَيّدا
فَأَما أَحْمَد بْن نصر فَضربت عُنُقه وَهَذِه نُسْخَة الرقعة الْمُعَلقَة فِي أذن أَحْمَد بْن نصر بْن مَالك
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا رَأس أَحْمَد بْن نصر بْن مَالك دَعَاهُ عَبْد اللَّه الإِمَام
هَارُون وَهُوَ الواثق بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَنفي التَّشْبِيه فَأبى إِلَّا المعاندة فَجعله اللَّه إِلَى ناره وَكتب مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك
وَمَات مُحَمَّد بْن نوح فى فتْنَة الْمَأْمُون
والمعتصم ضرب أَحْمد ابْن حَنْبَل
والواثق قتل أَحْمَد بْن نصر بْن مَالك وَكَذَلِكَ نعيم بْن حَمَّاد
وَلما جلس المتَوَكل دخل عَلَيْهِ عَبْد الْعَزِيز بْن يَحْيَى الْكِنَانِي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا رُؤِيَ أعجب من أَمر الواثق قتل أَحْمَد بْن نصر وَكَانَ لِسَانه يقْرَأ الْقُرْآن إِلَى أَن دفن قَالَ فَوجدَ المتَوَكل من ذَلِك وساءه مَا سَمعه فِي أَخِيه إِذْ دخل عَلَيْهِ مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك الزيات فَقَالَ لَهُ يَا ابْن عَبْد الْملك فِي قلبِي من قتل أَحْمَد بْن نصر فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أحرقني اللَّه بالنَّار إِن قَتله أَمِير الْمُؤمنِينَ الواثق إِلَّا كَافِرًا
قَالَ وَدخل عَلَيْهِ هرثمة فَقَالَ يَا هرثمة فِي قلبِي من قتل أَحْمَد بْن نصر فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قطعني اللَّه إربا إربا إِن قَتله أَمِير الْمُؤمنِينَ الواثق إِلَّا كَافِرًا
قَالَ وَدخل عَلَيْهِ أَحْمَد بْن أَبِي دؤاد فَقَالَ يَا أَحْمَد فِي قلبِي من قتل أَحْمَد بْن نصر فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ضَرَبَنِي اللَّه بالفالج إِن قَتله أَمِير الْمُؤمنِينَ الواثق إِلَّا كَافِرًا
قَالَ المتَوَكل فَأَما الزيات فَأَنا أحرقته بالنَّار وَأما هرثمة فَإِنَّهُ هرب وتبدى واجتاز بقبيلة خُزَاعَة فَعرفهُ رجل من الْحَيّ فَقَالَ يَا معشر خُزَاعَة هَذَا الَّذِي قتل أَحْمَد بْن نصر فقطعوه إربا إربا
وَأما أَحْمَد بْن أَبِي دؤاد فقد سجنه اللَّه فِي جلده
قلت وَبَلغنِي وَمَا أرَاهُ إِلَّا فِي تَارِيخ الْحَاكِم أَن بعض الْأُمَرَاء خرج يتصيد فَأَلْقَاهُ السّير عَلَى أَرض فَنزل بهَا فبحث بعض غلمانه فِي التُّرَاب فحفر حَتَّى رَأْي مَيتا فِي قَبره طريا وَهُوَ فِي نَاحيَة وَرَأسه فِي نَاحيَة وفى أُذُنه رقْعَة عَلَيْهَا شئ مَكْتُوب فأحضر
من قَرَأَهُ فَإِذا هُوَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا رَأس أَحْمَد بْن نصر الْكَلِمَات السَّابِقَة فَعَلمُوا أَنه رَأس أَحْمَد الْخُزَاعِيّ فَدفن وَرفع سَنَام قَبره وَكَانَ هَذَا فِي زمن الْحَاكِم أَبِي عَبْد اللَّه الْحَافِظ وَهُوَ عَلَى طراوته وَكَيف لَا وَهُوَ شَهِيد رحمه الله وَرَضي عَنهُ
وَقد طَال أَمر هَذِهِ الْفِتْنَة وطار شررها واستمرت من هَذِهِ السّنة الَّتِي هِيَ سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ إِلَى سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ فَرَفعهَا المتَوَكل فِي مَجْلِسه وَنهى عَن القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَكتب بذلك إِلَى الْآفَاق وتوفر دُعَاء الْخلق لَهُ وبالغوا فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ والتعظيم لَهُ حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ الْخُلَفَاء ثَلَاثَة أَبُو بكر الصّديق يَوْم الرِّدَّة وَعمر بْن عَبْد الْعَزِيز فِي رد الْمَظَالِم والمتوكل فِي إحْيَاء السّنة
وَسكت النَّاس عَن ذنُوب المتَوَكل وَقد كَانَت الْعَامَّة تنقم عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ أَحدهمَا أَنه ندب لدمشق أفريدون التركي أحد مماليكه وسيره واليا عَلَيْهَا وَكَانَ ظَالِما فاتكا فَقدم فِي سَبْعَة آلَاف فَارس وأباح لَهُ المتَوَكل الْقَتْل فِي دمشق والنهب عَلَى مَا نقل إِلَيْنَا ثَلَاث سَاعَات فَنزل بِبَيْت لهيا وَأَرَادَ أَن يصبح الْبَلَد فَلَمَّا أصبح نظر إِلَى الْبَلَد وَقَالَ يَا يَوْم تصبحك مني فَقدمت لَهُ بغلة فضربته بِالزَّوْجِ فَقتلته وقبره بِبَيْت لهيا ورد الْجَيْش الَّذِي مَعَه خائبين وَبلغ المتَوَكل فصلحت نِيَّته لأهل دمشق
وَالثَّانِي أَنه أَمر بهدم قبر الْحُسَيْن رضي الله عنه وَهدم مَا حوله من الدّور وَأَن يعْمل مزارع وَمنع النَّاس من زيارته وحرث وَبَقِي صحراء فتألم الْمُسلمُونَ لذَلِك وَكتب أهل بَغْدَاد شَتمه عَلَى الْحِيطَان والمساجد وهجاه دعبل وَغَيره من الشُّعَرَاء وَقَالَ قَائِلهمْ
(بِاللَّه إِن كَانَت أُميَّة قد أَتَت
…
قتل ابْن بنت نبيها مَظْلُوما)
(فَلَقَد أَتَاهُ بَنو أَبِيه بِمثلِهِ
…
هَذَا لعمرك قَبره مهدوما)
(أسفوا عَلَى أَن لَا يَكُونُوا شاركوا
…
فِي قَتله فتتبعوه رميما)
قلت لقد كَانَت هَاتَانِ الواقعتان الفظيعتان فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَرفع المحنة قبلهَا بِسنتَيْنِ فَهِيَ ذنُوب لاحقة لرفع الْفِتْنَة لَا سَابِقَة عَلَيْهَا
وَكَانَ من الْأَسْبَاب فِي رفع الْفِتْنَة أَن الواثق أُتِي بشيخ مُقَيّد فَقَالَ لَهُ ابْن أَبِي دؤاد يَا شيخ مَا تَقول فِي الْقُرْآن أمخلوق هُوَ
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ لم تنصفني الْمَسْأَلَة أَنا أَسأَلك قبل الْجَواب هَذَا الذى تَقوله يَا ابْن أَبى دؤاد من خلق الْقُرْآن شئ علمه رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رضي الله عنهم أَو جهلوه
فَقَالَ بل علموه
فَقَالَ فَهَل دعوا إِلَيْهِ النَّاس كَمَا دعوتهم أَنْت أَو سكتوا
قَالَ بل سكتوا
قَالَ فَهَلا وسعك مَا وسعهم من السُّكُوت
فَسكت ابْن أَبِي دؤاد وأعجب الواثق كَلَامه وَأمر بِإِطْلَاق سَبيله وَقَامَ الواثق من مَجْلِسه وَهُوَ عَلَى مَا حكى يَقُول هلا وسعك مَا وسعهم يُكَرر هَذِهِ الْكَلِمَة وَكَانَ ذَلِك من الْأَسْبَاب فِي خمود الْفِتْنَة وَإِن كَانَ رَفعهَا بِالْكُلِّيَّةِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى يَد المتَوَكل
وَهَذَا الَّذِي أوردناه فِي هَذِهِ الْحِكَايَة هُوَ مَا ثَبت من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَمِنْهُم من زَاد فِيهَا مَا لَا يثبت فاضبط مَا أَثْبَتْنَاهُ ودع مَا عداهُ فَلَيْسَ عِنْد ابْن أَبِي دؤاد من الْجَهْل مَا يصل بِهِ إِلَى أَن يَقُول جهلوه وَإِنَّمَا نِسْبَة هَذَا إِلَيْهِ تعصب عَلَيْهِ وَالْحق وسط فَابْن أَبِي دؤاد مُبْتَدع ضال مُبْطل لَا محَالة وَلَا يَنْتَهِي أمره إِلَى أَن يَدعِي أَن شَيْئا ظهر لَهُ وخفي عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين كَمَا حُكيَ عَنهُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَة فَهَذَا معَاذ اللَّه أَن يَقُوله أَو يَظُنّهُ أحد يتزيى بزِي الْمُسلمين وَلَو فَاه بِهِ ابْن أَبِي دؤاد لفرق الواثق من سَاعَته بَين رَأسه وبدنه
وَشَيخنَا الذَّهَبِيّ وَإِن كَانَ فِي تَرْجَمَة ابْن أَبِي دؤاد حكى الْحِكَايَة عَلَى الْوَجْه الَّذِي لَا نرضاه فقد أوردهَا فِي تَرْجَمَة الواثق من غير مَا وَجه عَلَى الْوَجْه الثَّابِت
ولنقطع عنان الْكَلَام فِي هَذِهِ الْفِتْنَة فَفِيمَا أوردناه فِيهَا مقنع وبلاغ وَقد أعلمناك أَنَّهَا لَبِثت شطرا من خلَافَة الْمَأْمُون واستوعبت خلَافَة المعتصم والواثق وَارْتَفَعت فِي خلَافَة المتَوَكل وَقد كَانَ الْمَأْمُون الَّذِي افتتحت فِي أَيَّامه
وَهُوَ عَبْد اللَّه الْمَأْمُون بْن هَارُون الرشيد مِمَّن عني بالفلسفة وعلوم الْأَوَائِل وَمهر فِيهَا وَاجْتمعَ عَلَيْهِ جمع من علمائها فجره ذَلِك إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَذكر المؤرخون أَنه كَانَ بارعا فِي الْفِقْه والعربية وَأَيَّام النَّاس وَلكنه كَانَ ذَا حزم وعزم وحلم وَعلم ودهاء وهيبة وذكاء وسماحة وفطنة وفصاحة وَدين
قِيلَ ختم فِي رَمَضَان ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ختمة وَصعد فِي يَوْم منبرا وَحدث فأورد بِسَنَدِهِ نَحوا من ثَلَاثِينَ حَدِيثا بِحُضُور القَاضِي يَحْيَى بْن أَكْثَم ثمَّ قَالَ لَهُ يَا يَحْيَى كَيفَ رَأَيْت مَجْلِسنَا فَقَالَ أجل مجْلِس يفقه الْخَاصَّة والعامة فَقَالَ مَا رَأَيْت لَهُ حلاوة إِنَّمَا الْمجْلس لأَصْحَاب الخلقان والمحابر
وَقيل تقدم إِلَيْهِ رجل غَرِيب بِيَدِهِ محبرة وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ صَاحب حَدِيث مُنْقَطع بِهِ السبل فَقَالَ مَا تحفظ فِي بَاب كَذَا فَلم يذكر شَيْئا قِيلَ فَمَا زَالَ الْمَأْمُون يَقُول حَدثنَا هشيم وَحدثنَا يَحْيَى وَحدثنَا حجاج حَتَّى ذكر الْبَاب ثمَّ سَأَلَهُ عَن بَاب آخر فَلم يذكر فِيهِ شَيْئا فَقَالَ الْمَأْمُون حَدثنَا فلَان وَحدثنَا فلَان إِلَى أَن قَالَ لأَصْحَابه يطْلب أحدهم الحَدِيث ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ يَقُول أَنا من أَصْحَاب الحَدِيث أَعْطوهُ ثَلَاثَة دَرَاهِم قلت وَكَانَ الْمَأْمُون من الْكَرم بمَكَان مكين بِحَيْثُ إِنَّه فرق فِي سَاعَة سِتَّة وَعشْرين ألف ألف دِرْهَم وحكايات مكارمه تستوعب الأوراق وَإِنَّمَا اقْتصر فِي عَطاء هَذَا السَّائِل فِيمَا نرَاهُ وَالله أعلم لما رأى مِنْهُ من التمعلم وَلَيْسَ هُوَ هُنَاكَ وَلَعَلَّه فهم عَنهُ التعاظم بِالْعلمِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ شَأْن كثير مِمَّن يدْخل إِلَى الْأُمَرَاء ويظنهم جهلة عَلَى الْعَادة الْغَالِبَة
وَكَانَ الْمَأْمُون كثير الْعَفو والصفح
وَمن كَلَامه لَو عرف النَّاس حبي للعفو لتقربوا إِلَي بالجرائم وأخاف أَن لَا أؤجر فِيهِ يَعْنِي لكَونه طبعا لَهُ
قَالَ يَحْيَى بْن أَكْثَم كَانَ الْمَأْمُون يحلم حَتَّى يغيظنا
وَقيل إِن ملاحا مر والمأمون جَالس فَقَالَ أتظنون أَن هَذَا ينبل فِي عَيْني وَقد قتل أَخَاهُ الْأمين يُشِير إِلَى الْمَأْمُون فَسَمعهُ الْمَأْمُون وَظن الْحَاضِرُونَ أَنه سيقضي عَلَيْهِ فَلم يزدْ الْمَأْمُون عَلَى أَن تَبَسم وَقَالَ مَا الْحِيلَة حَتَّى أنبل فِي عين هَذَا السَّيِّد الْجَلِيل
ولسنا نستوعب تَرْجَمَة الْمَأْمُون فَإِن الأوراق تضيق بهَا وَكِتَابنَا غير مَوْضُوع لَهَا وَإِنَّمَا غرضنا أَنه كَانَ من أهل الْعلم وَالْخَيْر وجره الْقَلِيل الَّذِي كَانَ يدريه من عُلُوم الْأَوَائِل إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن كَمَا جَرّه الْيَسِير الَّذِي كَانَ يدريه فِي الْفِقْه إِلَى القَوْل بِإِبَاحَة مُتْعَة النِّسَاء ثمَّ كَانَ ملكا مُطَاعًا فَحمل النَّاس عَلَى معتقده وَلَقَد نَادَى بِإِبَاحَة مُتْعَة النِّسَاء ثمَّ لم يزل بِهِ يحيى بْن أَكْثَم رحمه الله حَتَّى أبطلها وَرُوِيَ لَهُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنَيِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِمَا مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَلَمَّا صَحَّحَ لَهُ الْحَدِيثَ رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ وَأما مسأله خلق الْقُرْآن فَلم يرجع عَنْهَا
وَكَانَ قد ابْتَدَأَ بالْكلَام فِيهَا فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَلَكِن لم يصمم وَيحمل النَّاس إِلَّا فِي سنة ثَمَان عشرَة ثمَّ عوجل وَلم يُمْهل بل توجه غازيا إِلَى أَرض الرّوم فَمَرض وَمَات فِي سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ
واستقل بالخلافة بعده أَخُوهُ المعتصم بِاللَّه مُحَمَّد بْن هَارُون الرشيد بِعَهْد مِنْهُ وَكَانَ ملكا شجاعا بطلا مهيبا وَهُوَ الَّذِي فتح عمورية وَقد كَانَ المنجمون قضوا بِأَنَّهُ يكسر فانتصر نصرا مؤزرا وَأنْشد فِيهِ أَبُو تَمام الطَّائِي قصيدته السائرة الَّتِي أَولهَا
(السَّيْف أصدق أنباء من الْكتب
…
فِي حَده الْحَد بَين الْجد واللعب)
(وَالْعلم فِي شهب الأرماح لامعة
…
بَين الخميسين لَا فِي السَّبْعَة الشهب)
(أَيْن الرِّوَايَة أم أَيْن النُّجُوم وَمَا
…
صاغوه من زخرف فِيهَا وَمن كذب)
(تخرصا وأحاديثا ملفقة
…
لَيست بنبع إِذا عدت وَلَا غرب)
وَلَقَد تضيق الأوراق عَن شرح مَا كَانَ عَلَيْهِ من الشجَاعَة والمهابة والمكارم وَالْأَمْوَال والحيل والدهاء وَكَثْرَة العساكر وَالْعدَد وَالْعدَد
قَالَ الْخَطِيب ولكثرة عساكره وضيق بَغْدَاد عَنهُ بنى سر من رأى وانتقل بالعساكر إِلَيْهَا وَسميت الْعَسْكَر
وَقيل بلغ عدد غلمانه الأتراك فَقَط سَبْعَة عشر ألفا
وَقيل إِنَّه كَانَ عريا من الْعلم مَعَ أَنه رويت عَنهُ كَلِمَات تدل عَلَى فَصَاحَته ومعرفته
قَالَ أَبُو الْفضل الرياشي كتب ملك الرّوم لَعنه اللَّه إِلَى المعتصم يهدده فَأمر بجوابه فَلَمَّا قرئَ عَلَيْهِ الْجَواب لم يرضه وَقَالَ لِلْكَاتِبِ اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما بعد فقد قَرَأت كتابك وَسمعت خطابك وَالْجَوَاب مَا ترى لَا مَا تسمع {وَسَيعْلَمُ الْكفَّار لمن عُقبى الدَّار}
وَمن كَلَامه اللَّهم إِنَّك تعلم أَنِّي أخافك من قبلي وَلَا أخافك من قبلك وأرجوك من قبلك وَلَا أرجوك من قبلي
قلت وَالنَّاس يستحسنون هَذَا الْكَلَام مِنْهُ وَمَعْنَاهُ أَن الْخَوْف من قبلي لما اقترفته من الذُّنُوب لَا من قبلك فَإنَّك عَادل لَا تظلم فلولا الذُّنُوب لما كَانَ للخوف معنى وَأما الرَّجَاء فَمن قبلك لِأَنَّك متفضل لَا من قبلي لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي من الطَّاعَات والمحاسن مَا أرتجيك بهَا
والشق الثَّانِي عندنَا صَحِيح لَا غُبَار عَلَيْهِ وَأما الأول فَإنَّا نقُول إِن الرب تَعَالَى نَخَاف
من قبله كَمَا نَخَاف من قبلنَا لِأَنَّهُ الْملك القهار يخافه الطائعون والعصاة وَهَذَا وَاضح لمن تدبره
قَالَ المؤرخون وَمَعَ كَونه كَانَ لَا يدْرِي شَيْئا من الْعلم حمل النَّاس عَلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن
قلت لِأَن أَخَاهُ الْمَأْمُون أوصى إِلَيْهِ بذلك وانضم إِلَى ذَلِك القَاضِي أَحْمَد بْن أَبِي دؤاد وَأَمْثَاله من فُقَهَاء السوء فَإِنَّمَا يتْلف السلاطين فسقة الْفُقَهَاء فَإِن الْفُقَهَاء مَا بَين صَالح وطالح فالصالح غَالِبا لَا يتَرَدَّد إِلَى أَبْوَاب الْمُلُوك والطالح غَالِبا يترامى عَلَيْهِم ثمَّ لَا يَسعهُ إِلَّا أَن يجْرِي مَعَهم عَلَى أهوائهم ويهون عَلَيْهِم العظائم وَلَهو عَلَى النَّاس شَرّ من ألف شَيْطَان كَمَا أَن صَالح الْفُقَهَاء خير من ألف عَابِد وَلَوْلَا اجْتِمَاع فُقَهَاء السوء عَلَى المعتصم لنجاه اللَّه مِمَّا فرط مِنْهُ وَلَو أَن الَّذين عِنْده من الْفُقَهَاء عَلَى حق لأروه الْحق أَبْلَج وَاضحا ولأبعدوه عَن ضرب مثل الإِمَام أَحْمَد وَلَكِن مَا الْحِيلَة وَالزَّمَان بني عَلَى هَذَا وَبِهَذَا تظهر حِكْمَة اللَّه فِي خلقه
وَلَقَد كَانَ شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين الْوَالِد رحمه الله يقوم فِي الْحق ويفوه بَين يَدي الْأُمَرَاء بِمَا لَا يقوم بِهِ غَيره فيذعنون لطاعته ثمَّ إِذا خرج من عِنْدهم دخل إِلَيْهِم من فُقَهَاء السوء من يعكس ذَلِك الْأَمر وينسب الشَّيْخ الإِمَام إِلَى خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا ينْدَفع شئ من الْمَفَاسِد بل يزْدَاد الْحَال وَلَقَد قَالَ مرّة لبَعض الْأُمَرَاء وَقد رأى عَلَيْهِ طرزا من ذهب عريضا عَلَى قبَاء حَرِير يَا أَمِير أَلَيْسَ فِي الثِّيَاب الصُّوف مَا هُوَ أحسن من هَذَا الْحَرِير أَلَيْسَ فِي السكندري مَا هُوَ أظرف من هَذَا الطرز أَي لَذَّة لَك فِي لبس الْحَرِير وَالذَّهَب وعَلى أى شئ يدْخل الْمَرْء جَهَنَّم وعذله فِي ذَلِك حَتَّى قَالَ لَهُ ذَلِك الْأَمِير اشْهَدْ عَلَي أَنِّي لَا ألبس بعْدهَا حَرِيرًا وَلَا طرزا وَقد تركت ذَلِك لله عَلَى يَديك فَلَمَّا فَارقه جَاءَهُ من أعرفهُ من الْفُقَهَاء وَقَالَ لَهُ أما الطرز فقد جوز أَبُو حنيفَة مَا دون أَرْبَعَة أَصَابِع وَأما الْحَرِير
فقد أَبَاحَهُ فلَان وَأما وَأما وَرخّص لَهُ ثمَّ قَالَ لَهُ لم لَا نهى عَن المكوس لم لَا نهى عَن كَذَا وَكَذَا وَذكر مَا لَو نهى الشَّيْخ الإِمَام أَو غَيره عَنهُ لما أَفَادَ وَقَالَ لَهُ إِنَّمَا قصد بِهَذَا إهانتك وَأَن يبين للنَّاس أَنَّك تعْمل حَرَامًا فَلم يخرج من عِنْده حَتَّى عَاد إِلَى حَاله الأول وحنق عَلَى الشَّيْخ الإِمَام وظنه قصد تنقيصه عِنْد الْخلق وَلم يكن قصد هَذَا الْفَقِيه إِلَّا إِيقَاع الْفِتْنَة بَين الشَّيْخ الإِمَام والأمير وَلَا عَلَيْهِ أَن يُفْتِي بِمحرم فِي قَضَاء غَرَضه
وَهَذَا الْمِسْكِين لم يكن يخفى عَلَيْهِ أَن ترك النَّهْي عَمَّا لَا يُفِيد النَّهْي عَنهُ من الْمَفَاسِد لَا يُوجب الْإِمْسَاك عَن غَيره وَلَكِن حمله هَوَاهُ عَلَى الْوُقُوع فِي هَذِهِ العظائم والأمير مِسْكين لَيْسَ لَهُ من الْعلم وَالْعقل مَا يُمَيّز بِهِ
والحكايات فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة ومسك اللِّسَان أولى وَالله الْمُسْتَعَان
وَمَات المعتصم فِي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَولى الواثق بِاللَّه أَبُو جَعْفَر هَارُون ابْن المعتصم بْن الرشيد وَكَانَ مليح الشّعْر يرْوى أَنه كَانَ يحب خَادِمًا أهدي لَهُ من مصر فأغضبه الواثق يَوْمًا ثمَّ إِنَّه سَمعه يَقُول لبَعض الخدم وَالله إِنَّه ليروم أَن ُأكَلِّمهُ من أمس فَمَا أفعل فَقَالَ الواثق
(يَا ذَا الَّذِي بعذابي ظلّ مفتخرا
…
مَا أَنْت إِلَّا مليك جَار إِذْ قدرا)
(لَوْلَا الْهوى لتجارينا عَلَى قدر
…
وَإِن أفق مِنْهُ يَوْمًا مَا فَسَوف ترى)
وَقد ظرف عبَادَة الملقب بِعبَادة المخنث حَيْثُ دخل إِلَيْهِ وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أعظم اللَّه أجرك فِي الْقُرْآن قَالَ وَيلك الْقُرْآن يَمُوت قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كل مَخْلُوق يَمُوت بِاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من يُصَلِّي بِالنَّاسِ التَّرَاوِيح إِذا مَاتَ الْقُرْآن فَضَحِك الْخَلِيفَة وَقَالَ قَاتلك اللَّه أمسك
قَالَ الْخَطِيب وَكَانَ ابْن أَبِي دؤاد قد استولى عَلَيْهِ وَحمله عَلَى التَّشْدِيد فِي المحنة