الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَاعِدَة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل
ضَرُورِيَّة نافعة لَا ترَاهَا فى شئ من كتب الْأُصُول فَإنَّك إِذا سَمِعت أَن الْجرْح مقدم عَلَى التَّعْدِيل وَرَأَيْت الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَكنت غرا بالأمور أَو فدما مُقْتَصرا عَلَى مَنْقُول الْأُصُول حسبت أَن الْعَمَل عَلَى جرحه فإياك ثمَّ إياك والحذر كل الحذر من هَذَا الحسبان بل الصَّوَاب عندنَا أَن من ثبتَتْ إِمَامَته وعدالته وَكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحه وَكَانَت هُنَاكَ قرينَة دَالَّة عَلَى سَبَب جرحه من تعصب مذهبي أَو غَيره فَإنَّا لَا نلتفت إِلَى الْجرْح فِيهِ ونعمل فِيهِ بِالْعَدَالَةِ وَإِلَّا فَلَو فتحنا هَذَا الْبَاب أَو أَخذنَا تَقْدِيم الْجرْح عَلَى إِطْلَاقه لما سلم لنا أحد من الْأَئِمَّة إِذْ مَا من إِمَام إِلَّا وَقد طعن فِيهِ طاعنون وَهلك فِيهِ هالكون
وَقد عقد الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد الْبر فى الْكتاب الْعلم بَابا فِي حكم قَول الْعلمَاء بَعضهم فِي بعض بَدَأَ فِيهِ بِحَدِيث الزبير رضي الله عنه دب إِلَيْكُم دَاء الْأُمَم قبلكُمْ الْحَسَد والبغضاء الحَدِيث
وَرُوِيَ بِسَنَدِهِ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه قَالَ اسْتَمعُوا علم الْعلمَاء وَلَا تصدقوا بَعضهم عَلَى بعض فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَهُم أَشد تغايرا من التيوس فِي زروبها
وَعَن مَالك بْن دِينَار يُؤْخَذ بقول الْعلمَاء والقراء فى كل شئ إِلَّا قَول بَعضهم فِي بعض
قلت وَرَأَيْت فِي كتاب معِين الْحُكَّام لِابْنِ عَبْد الرفيع من الْمَالِكِيَّة وَقع فِي المبسوطة من قَول عَبْد اللَّه بْن وهب أَنه لَا يجوز شَهَادَة الْقَارئ عَلَى الْقَارئ يَعْنِي الْعلمَاء لأَنهم أَشد النَّاس تحاسدا وتباغيا
وَقَالَهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك بْن دِينَار
انْتهى
وَلَعَلَّ ابْن عَبْد الْبر يرى هَذَا وَلَا بَأْس بِهِ غير أَنا لَا نَأْخُذ بِهِ عَلَى إِطْلَاقه وَلَكِن نرى أَن الضَّابِط مَا نقُوله من أَن ثَابت الْعَدَالَة لَا يلْتَفت فِيهِ إِلَى قَول من تشهد الْقَرَائِن بِأَنَّهُ مُتَحَامِل عَلَيْهِ إِمَّا لتعصب مذهبي أَو غَيره
ثمَّ قَالَ أَبُو عمر بعد ذَلِك الصَّحِيح فِي هَذَا الْبَاب أَن من ثبتَتْ عَدَالَته وَصحت فِي الْعلم إِمَامَته وبالعلم عنايته لم يلْتَفت فِيهِ إِلَى قَول أحد إِلَّا أَن يَأْتِي فِي جرحته بِبَيِّنَة عادلة تصح بهَا جرحته عَلَى طَرِيق الشَّهَادَات
وَاسْتدلَّ بِأَن السّلف تكلم بَعضهم فِي بعض بِكَلَام مِنْهُ مَا حمل عَلَيْهِ الْغَضَب أَو الْحَسَد وَمِنْه مَا دَعَا إِلَيْهِ التَّأْوِيل وَاخْتِلَاف الِاجْتِهَاد فِيمَا لَا يلْزم الْمَقُول فِيهِ مَا قَالَ الْقَائِل فِيهِ
وَقد حمل بَعضهم عَلَى بعض بِالسَّيْفِ تَأْوِيلا واجتهادا
ثمَّ انْدفع ابْن عَبْد الْبر فِي ذكر كَلَام جمَاعَة من النظراء بَعضهم فِي بعض وَعدم الِالْتِفَات إِلَيْهِ لذَلِك إِلَى أَن انْتهى إِلَى كَلَام ابْن معِين فِي الشَّافِعِي وَقَالَ إِنَّه مِمَّا نقم عَلَى ابْن معِين وعيب بِهِ وَذكر قَول أَحْمَد بْن حَنْبَل من أَيْن يعرف يَحْيَى بْن معِين الشَّافِعِي هُوَ لَا يعرف الشَّافِعِي وَلَا يعرف مَا يَقُوله الشَّافِعِي وَمن جهل شَيْئا عَادَاهُ
قلت وَقد قِيلَ إِن ابْن معِين لم يرد الشَّافِعِي وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْن عَمه كَمَا سنحكيه إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَرْجَمَة الْأُسْتَاذ أَبِي مَنْصُور وَبِتَقْدِير إِرَادَته الشَّافِعِي فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَهُوَ عَار عَلَيْهِ وَقد كَانَ فِي بكاء ابْن معِين عَلَى إجَابَته الْمَأْمُون إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن وتحسره عَلَى مَا فرط مِنْهُ مَا يَنْبَغِي أَن يكون شاغلا لَهُ عَن التَّعَرُّض إِلَى الإِمَام الشَّافِعِي إِمَام الْأَئِمَّة ابْن عَم الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم
ثمَّ ذكر ابْن عَبْد الْبر كَلَام ابْن أَبِي ذيب وإِبْرَاهِيم بْن سعد فِي مَالك بْن أنس قَالَ وَقد تكلم أَيْضًا فِي مَالك عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلمَة وَعبد الرَّحْمَن بْن زيد بْن أسلم ومُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَابْن أَبِي يحيى وَابْن أَبِي الزِّنَاد وعابوا أَشْيَاء من مذْهبه وَقد برأَ اللَّه عز وجل مَالِكًا عَمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْد اللَّه وجيها
قَالَ وَمَا مثل من تكلم فِي مَالك وَالشَّافِعِيّ ونظائرهما إِلَّا كَمَا قَالَ الْأَعْشَى
(كناطح صَخْرَة يَوْمًا ليقلعها
…
فَلم يَضرهَا وأوهى قرنه الوعل)
أَو كَمَا قَالَ الْحَسَن بْن حُمَيْد
(يَا ناطح الْجَبَل العالي ليُكْلِمَه
…
أشفِقْ عَلَى الرَّأْس لَا تُشْفِق عَلَى الْجَبَل)
وَلَقَد أحسن أبوالعتاهية حَيْثُ يَقُول
(وَمن ذَا الَّذِي ينجو من النَّاس سالما
…
وَلِلنَّاسِ قَالٌ بالظنون وَقيل)
وَقيل لِابْنِ الْمُبَارك فلَان يتَكَلَّم فِي أَبِي حنيفَة فَأَنْشد
(حسدوك أَن رأوك فضلك اللَّه
…
بِمَا فضلت بِهِ النجباء)
وَقيل لأبي عَاصِم النَّبِيل فلَان يتَكَلَّم فِي أَبِي حنيفَة فَقَالَ هُوَ كَمَا قَالَ نصيب
(سلمت وَهل حَيّ عَلَى النَّاس يسلم
…
)
وَقَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي
(حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه
…
فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم)
ثمَّ قَالَ ابْن عَبْد الْبر فَمن أَرَادَ قبُول قَول الْعلمَاء الثِّقَات بَعضهم فِي بعض فليقبل قَول الصَّحَابَة بَعضهم فِي بعض فَإِن فعل ذَلِك فقد ضل ضلالا بَعيدا
وخسر خسرانا مُبينًا
قَالَ وَإِن لم يفعل وَلنْ يفعل إِن هداه اللَّه وألهمه رشده فليقف عِنْدَمَا شرطناه فِي أَن لَا يقبل فِي صَحِيح الْعَدَالَة الْمَعْلُوم بِالْعلمِ عنايته قَول قَائِل لَا برهَان لَهُ
قلت هَذَا كَلَام ابْن عَبْد الْبر وَهُوَ عَلَى حسنه غير صَاف عَن القذى والكدر فَإِنَّهُ لم يزدْ فِيهِ عَلَى قَوْله إِن من ثبتَتْ عَدَالَته ومعرفته لَا يقبل قَول جارحه إِلَّا ببرهان وَهَذَا قد أَشَارَ إِلَيْهِ الْعلمَاء جَمِيعًا حَيْثُ قَالُوا لَا يقبل الْجرْح إِلَّا مُفَسرًا
فَمَا الَّذِي زَاده ابْن عَبْد الْبر عَلَيْهِم وَإِن أَوْمَأ إِلَى أَن كَلَام النظير فِي النظير وَالْعُلَمَاء بَعضهم فِي بعض مَرْدُود مُطلقًا كَمَا قدمْنَاهُ عَن المبسوطة فليفصح بِهِ ثمَّ هُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يُؤْخَذ هَذَا عَلَى إِطْلَاقه بل لابد من زِيَادَة عَلَى قَوْلهم إِن الْجرْح مقدم عَلَى التَّعْدِيل
ونقصان من قَوْلهم كَلَام النظير فِي النظير مَرْدُود
وَالْقَاعِدَة معقودة لهَذِهِ الْجُمْلَة وَلم ينح ابْن عَبْد الْبر فِيمَا يظْهر سواهَا وَإِلَّا لصرح بِأَن كَلَام الْعلمَاء بَعضهم فِي بعض مَرْدُود أَو لَكَانَ كَلَامه غير مُفِيد فَائِدَة زَائِدَة عَلَى مَا ذكره النَّاس وَلَكِن عِبَارَته كَمَا ترى قَاصِرَة عَن المُرَاد
فَإِن قلت فَمَا الْعبارَة الوافية بِمَا ترَوْنَ
قلت مَا عرفناك أَولا من أَن الْجَارِح لَا يقبل مِنْهُ الْجرْح وَإِن فسره فِي حق من غلبت طاعاته عَلَى مَعَاصيه ومادحوه عَلَى ذاميه ومزكوه عَلَى جارحيه إِذا كَانَت هُنَاكَ قرينَة يشْهد الْعقل بِأَن مثلهَا حَامِل عَلَى الوقيعة فِي الذى جرحه من تعصب مذهبي أَو مُنَافَسَة دنيوية كَمَا يكون من النظراء أَو غير ذَلِك فَنَقُول مثلا لَا يلْتَفت إِلَى كَلَام ابْن أَبِي ذيب فِي مَالك وَابْن معِين فِي الشَّافِعِي وَالنَّسَائِيّ فِي أَحْمَد بْن صَالح لِأَن هَؤُلَاءِ أَئِمَّة مَشْهُورُونَ صَار الْجَارِح لَهُم كالآتي بِخَبَر غَرِيب لَو صَحَّ لتوفرت الدَّوَاعِي عَلَى نَقله وَكَانَ الْقَاطِع قَائِما عَلَى كذبه
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يتفقد عِنْد الْجرْح حَال العقائد واختلافها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَارِح والمجروح فَرُبمَا خَالف الْجَارِح الْمَجْرُوح فِي العقيدة فجرحه لذَلِك وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّافِعِيّ بقوله وَيَنْبَغِي أَن يكون المزكون بُرَآء من الشحناء والعصبية فِي الْمَذْهَب خوفًا من أَن يحملهم ذَلِك عَلَى جرح عدل أَو تَزْكِيَة فَاسق وَقد وَقع هَذَا لكثير من الْأَئِمَّة جرحوا بِنَاء عَلَى معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مُصِيب وَقد أَشَارَ شيخ الْإِسْلَام سيد الْمُتَأَخِّرين تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد فِي كِتَابه الاقتراح إِلَى هَذَا الْإِسْلَام سيد الْمُتَأَخِّرين تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد فِي كِتَابه الاقتراح إِلَى هَذَا وَقَالَ أَعْرَاض الْمُسلمين حُفْرَة من حفر النَّار وقف عَلَى شفيرها طَائِفَتَانِ من النَّاس المحدثون والحكام
قلت وَمن أَمْثِلَة مَا قدمنَا قَول بَعضهم فِي البُخَارِيّ تَركه أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم من أجل مَسْأَلَة اللَّفْظ فيالله وَالْمُسْلِمين أَيجوزُ لأحد أَن يَقُول البُخَارِيّ مَتْرُوك وَهُوَ حَامِل
لِوَاء الصِّنَاعَة ومقدم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة ثمَّ يالله وَالْمُسْلِمين أَتجْعَلُ ممادحه مذام فَإِن الْحق فِي مَسْأَلَة اللَّفْظ مَعَه إِذْ لَا يستريب عَاقل من المخلوقين فِي أَن تلفظه من أَفعاله الْحَادِثَة الَّتِي هِيَ مخلوقة لله تَعَالَى وَإِنَّمَا أنكرها الإِمَام أَحْمَد رضي الله عنه لبشاعة لَفظهَا
وَمن ذَلِك قَول بعض المجسمة فِي أَبِي حَاتِم ابْن حبَان لم يكن لَهُ كَبِير دين نَحن أخرجناه من سجستان لِأَنَّهُ أنكر الْحَد لله فياليت شعري من أَحَق بِالْإِخْرَاجِ من يَجْعَل ربه محدودا أَو من ينزهه عَن الجسمية
وأمثلة هَذَا تكْثر وَهَذَا شَيخنَا الذَّهَبِيّ رحمه الله من هَذَا الْقَبِيل لَهُ علم وديانة وَعِنْده عَلَى أهل السّنة تحمل مفرط فَلَا يجوز أَن يعْتَمد عَلَيْهِ
ونقلت من خطّ الْحَافِظ صَلَاح الدّين خَلِيل بن كيكلدى العلائي رحمه الله مَا نَصه الشَّيْخ الْحَافِظ شمس الدّين الذَّهَبِيّ لَا أَشك فِي دينه وورعه وتحريه فِيمَا يَقُوله النَّاس وَلكنه غلب عَلَيْهِ مَذْهَب الْإِثْبَات ومنافرة التَّأْوِيل والغفلة عَن التَّنْزِيه حَتَّى أثر ذَلِك فِي طبعه انحرافا شَدِيدا عَن أهل التَّنْزِيه وميلا قَوِيا إِلَى أهل الْإِثْبَات فَإِذا ترْجم وَاحِدًا مِنْهُم يطنب فِي وَصفه بِجَمِيعِ مَا قِيلَ فِيهِ من المحاسن ويبالغ فِي وَصفه ويتغافل عَن غلطاته ويتأول لَهُ مَا أمكن وَإِذا ذكر أحدا من الطّرف الآخر كإمام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَنَحْوهمَا لَا يُبَالغ فِي وَصفه وَيكثر من قَول من طعن فِيهِ وَيُعِيد ذَلِك ويبديه ويعتقده دينا وَهُوَ لَا يشْعر ويعرض عَن محاسنهم الطافحة فَلَا يستوعبها وَإِذا ظفر لأحد مِنْهُم بغلطة ذكرهَا وَكَذَلِكَ فعله فِي أهل عصرنا إِذا لم يقدر عَلَى أحد مِنْهُم بتصريح يَقُول فِي تَرْجَمته وَالله يصلحه وَنَحْو ذَلِك وَسَببه الْمُخَالفَة فِي العقائد
انْتهى
وَالْحَال فِي حق شَيخنَا الذَّهَبِيّ أَزِيد مِمَّا وصف وَهُوَ شَيخنَا ومعلمنا غير أَن الْحق أَحَق أَن يتبع وَقد وصل من التعصب المفرط إِلَى حد يسخر مِنْهُ
وَأَنا أخْشَى عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة من غَالب عُلَمَاء الْمُسلمين وأئمتهم الَّذين حملُوا لنا الشَّرِيعَة النَّبَوِيَّة فَإِن غالبهم أشاعرة وَهُوَ إِذا وَقع بأشعري لَا يبقي وَلَا يذر
وَالَّذِي أعتقده أَنهم خصماؤه يَوْم الْقِيَامَة عِنْد
من لَعَلَّ أَدْنَاهُم عِنْده أوجه مِنْهُ فَالله الْمَسْئُول أَن يُخَفف عَنهُ وَأَن يلهمهم الْعَفو عَنهُ وَأَن يشفعهم فِيهِ
وَالَّذِي أدركنا عَلَيْهِ الْمَشَايِخ النَّهْي عَن النّظر فِي كَلَامه وَعدم اعْتِبَار قَوْله وَلم يكن يستجري أَن يظْهر كتبه التاريخية إِلَّا لمن يغلب عَلَى ظَنّه أَنه لَا ينْقل عَنهُ مَا يعاب عَلَيْهِ
وَأما قَول العلائي رحمه الله دينه وورعه وتحريه فِيمَا يَقُوله فقد كنت أعتقد ذَلِك وَأَقُول عِنْد هَذِهِ الْأَشْيَاء إِنَّه رُبمَا اعتقدها دينا وَمِنْهَا أُمُور أقطع بِأَنَّهُ يعرف بِأَنَّهَا كذب وأقطع بِأَنَّهُ لَا يختلقها وأقطع بِأَنَّهُ يحب وَضعهَا فِي كتبه لتنتشر وأقطع بِأَنَّهُ يحب أَن يعْتَقد سامعها صِحَّتهَا بغضا للمتحدث فِيهِ وتنفيرا للنَّاس عَنهُ مَعَ قلَّة مَعْرفَته بمدلولات الْأَلْفَاظ وَمَعَ اعْتِقَاده أَن هَذَا مِمَّا يُوجب نصر العقيدة الَّتِي يعتقدها هُوَ حَقًا وَمَعَ عدم ممارسته لعلوم الشَّرِيعَة غير أَنِّي لما أكثرت بعد مَوته النّظر فِي كَلَامه عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَى النّظر فِيهِ توقفت فِي تحريه فِيمَا يَقُوله وَلَا أَزِيد عَلَى هَذَا غير الإحالة عَلَى كَلَامه فَلْينْظر كَلَامه من شَاءَ ثمَّ يبصر هَل الرجل متحر عِنْد غَضَبه أَو غير متحر وأعنى بغضبه وَقت تَرْجَمته لوَاحِد من عُلَمَاء الْمذَاهب الثَّلَاثَة الْمَشْهُورين من الْحَنَفِيَّة والمالكية وَالشَّافِعِيَّة فَإِنِّي أعتقد أَن الرجل كَانَ إِذا مد الْقَلَم لترجمة أحدهم غضب غَضبا مفرطا ثمَّ قرطم الْكَلَام ومزقه وَفعل من التعصب مَالا يخفى عَلَى ذِي بَصِيرَة ثمَّ هُوَ مَعَ ذَلِك غير خَبِير بمدلولات الْأَلْفَاظ كَمَا يَنْبَغِي فَرُبمَا ذكر لَفْظَة من الذَّم لَو عقل مَعْنَاهَا لما نطق بهَا ودائما أتعجب من ذكره الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ فِي كتاب الْمِيزَان فِي الضُّعَفَاء وَكَذَلِكَ السَّيْف الْآمِدِيّ وَأَقُول يالله الْعجب هَذَانِ لَا رِوَايَة لَهما وَلَا جرحهما أحد وَلَا سمع من أحد أَنه ضعفهما فِيمَا ينقلانه من علومهما فَأَي مدْخل لَهما فِي هَذَا الْكتاب ثمَّ إِنَّا لم نسْمع أحدا يُسَمِّي الإِمَام فَخر الدّين بالفخر بل إِمَّا الإِمَام وَإِمَّا ابْن الْخَطِيب وَإِذا ترْجم كَانَ فِي المُحَمَّدين فَجعله فِي حرف الْفَاء وَسَماهُ الْفَخر ثمَّ حلف فِي آخر الْكتاب
أَنه لم يتَعَمَّد فِيهِ هوى نَفسه فَأَي هوى نفس أعظم من هَذَا فإمَّا أَن يكون ورى فِي يَمِينه أَو اسْتثْنى غير الروَاة فَيُقَال لَهُ فَلم ذكرت غَيرهم وَإِمَّا أَن يكون اعْتقد أَن هَذَا لَيْسَ هوى نفس وَإِذا وصل إِلَى هَذَا الْحَد وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَهُوَ مطبوع عَلَى قلبه
ولنعد إِلَى مَا كُنَّا بصدده فَنَقُول
فَإِن قلت قَوْلكُم لابد من تفقد حَال العقائد هَل تعنون بِهِ أَنه لَا يقبل قَول مُخَالف عقيدة فِيمَن خَالفه مُطلقًا سَوَاء السّني عَلَى المبتدع وَعَكسه أَو غير ذَلِك قلت هَذَا مَكَان معضل يجب عَلَى طَالب التَّحْقِيق التَّوَقُّف عِنْده لفهم مَا يلقى عَلَيْهِ وَأَن لَا يُبَادر لإنكار شَيْء قبل التَّأَمُّل فِيهِ
وَاعْلَم أَنا عنينا مَا هُوَ أَعم من ذَلِك ولسنا نقُول لَا تقبل شَهَادَة السّني عَن المبتدع مُطلقًا معَاذ اللَّه وَلَكِن نقُول من شهد عَلَى آخر وَهُوَ مُخَالف لَهُ فِي العقيدة أوجبت مُخَالفَته لَهُ فِي العقيدة رِيبَة عِنْد الْحَاكِم الْمُنْتَصر لَا يجدهَا إِذا كَانَت الشَّهَادَة صادرة من غير مُخَالف فِي العقيدة وَلَا يُنكر ذَلِك إِلَّا فدم أخرق
ثمَّ الْمَشْهُود بِهِ يخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْوَال والأغراض فَرُبمَا وضح غَرَض الشَّاهِد عَلَى الْمَشْهُود عَلَيْهِ إيضاحا لَا يخفى عَلَى أحد وَذَلِكَ لقُرْبه من نصر معتقده أَو مَا أشبه ذَلِك وَرُبمَا دق وغمض بِحَيْثُ لَا يُدْرِكهُ إِلَّا الفطن من الْحُكَّام وَرب شَاهد من أهل السّنة ساذج قد مقت المبتدع مقتا زَائِدا عَلَى مَا يَطْلُبهُ اللَّه مِنْهُ وأساء الظَّن بِهِ إساءة أوجبت لَهُ تَصْدِيق مَا يبلغهُ عَنهُ فَبَلغهُ عَنهُ شئ فغلب عَلَى ظَنّه صدقه لما قدمْنَاهُ فَشهد بِهِ فسبيل الْحَاكِم التَّوَقُّف فِي مثل هَذَا إِلَى أَن يتَبَيَّن لَهُ الْحَال فِيهِ وسبيل الشَّاهِد الْوَرع وَلَو كَانَ من أَصْلَب أهل السّنة أَن يعرض عَلَى نَفسه مَا نقل لَهُ عَن هَذَا المبتدع وَقد صدقه وعزم عَلَى أَن شهد عَلَيْهِ بِهِ أَن يعرض عَلَى نَفسه مثل هَذَا الْخَبَر بِعَيْنِه وَهَذَا الْمخبر بِعَيْنِه لَو كَانَ عَن شخص من أهل عقيدته هَل كَانَ يصدقهُ وَبِتَقْدِير أَنه كَانَ يصدقهُ فَهَل كَانَ يُبَادر إِلَى الشَّهَادَة عَلَيْهِ بِهِ وَبِتَقْدِير أَنه كَانَ يُبَادر فليوازن مَا بَين المبادرتين فَإِن وجدهما سَوَاء فدونه وَإِلَّا فَليعلم أَن حَظّ النَّفس دَاخله وأزيد من ذَلِك أَن الشَّيْطَان استولى عَلَيْهِ
فخيل لَهُ أَن هَذِهِ قربَة وَقيام فِي نصر الْحق وليعلم من هَذِهِ سَبيله أَنه أَتَى من جهل وَقلة دين
وَهَذَا قَوْلنَا فِي سني يجرح مبتدعا فَمَا الظَّن بِمُبْتَدعٍ يجرح سنيا كَمَا قدمْنَاهُ
وَفِي المبتدعة لَا سِيمَا المجسمة زِيَادَة لَا تُوجد فِي غَيرهم وَهُوَ أَنهم يرَوْنَ الْكَذِب لنصرة مَذْهَبهم وَالشَّهَادَة عَلَى من يخالفهم فِي العقيدة بِمَا يسوءه فِي نَفسه وَمَاله بِالْكَذِبِ تأييدا لاعتقادهم ويزداد حنقهم وتقربهم إِلَى اللَّه بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ بِمِقْدَار زِيَادَته فِي النّيل مِنْهُم فَهَؤُلَاءِ لَا يحل لمُسلم أَن يعْتَبر كَلَامهم
فَإِن قلت أَلَيْسَ أَن الصَّحِيح فِي الْمَذْهَب قبُول شَهَادَة المبتدع إِذا لم نكفره قلت قبُول شَهَادَته لَا يُوجب دفع الرِّيبَة عِنْد شَهَادَته عَلَى مخالفه فِي العقيدة والريبة توجب الفحص والتكشف والتثبت وَهَذِه أُمُور تظهر الْحق إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِذا اعتمدت عَلَى مَا يَنْبَغِي
وَفِي تعليقة القَاضِي الْحُسَيْن لَا يجوز أَن يبغض الرجل لِأَنَّهُ من مَذْهَب كَذَا فَإِن ذَلِك يُوجب رد الشَّهَادَة
انْتهى
وَمرَاده لِأَنَّهُ من مَذْهَب من الْمذَاهب المقبولة أما إِذا أبغضه لكَونه مبتدعا فَلَا ترد شَهَادَته
وَاعْلَم أَن مَا ذَكرْنَاهُ من قبُول شَهَادَة المبتدع هُوَ مَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَهُوَ مصادم لنَصّ الشَّافِعِي عَلَى عدم قبُول الخطابية وَهِي طَريقَة الْأَصْحَاب وَأَصْحَاب هَذِهِ الطَّرِيقَة يَقُولُونَ لَو شهد خطابي وَذكر فِي شَهَادَته مَا يقطع احْتِمَال الِاعْتِمَاد عَلَى قَول الْمُدَّعِي بِأَن قَالَ سَمِعت فلَانا يقر بِكَذَا لفُلَان أَو رَأَيْته أقْرضهُ قبلت شَهَادَته وَهَذَا مِنْهُم بِنَاء عَلَى أَن الْخطابِيّ يرى جَوَاز الشَّهَادَة لصَاحبه إِذا سَمعه يَقُول لي عَلَى فلَان كَذَا فَصدقهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِي
وَقد تزايد الْحَال بالخطابية وهم المجسمة فِي زَمَاننَا هَذَا فصاروا يرَوْنَ الْكَذِب عَلَى مخالفيهم فِي العقيدة لَا سِيمَا الْقَائِم عَلَيْهِم بِكُل مَا يسوءه فِي نَفسه وَمَاله
وَبَلغنِي أَن كَبِيرهمْ استفتى فِي شَافِعِيّ أيشهد عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ فَقَالَ أَلَسْت تعتقد أَن دَمه حَلَال قَالَ نعم قَالَ فَمَا دون ذَلِك دون دَمه فاشهد وادفع فَسَاده عَن الْمُسلمين
فَهَذِهِ عقيدتهم ويرون أَنهم الْمُسلمُونَ وَأَنَّهُمْ أهل السّنة وَلَو عدوا عددا لما بلغ علماؤهم وَلَا عَالم فيهم عَلَى الْحَقِيقَة مبلغا يعْتَبر ويكفرون غَالب عُلَمَاء الْأمة ثمَّ يعتزون إِلَى الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رضي الله عنه وَهُوَ مِنْهُم برِئ وَلكنه كَمَا قَالَ بعض العارفين ورأيته بِخَط الشَّيْخ تقى الدّين ابْن الصّلاح إمامان ابتلاهما الله بأصحابهما وهما بريان مِنْهُم أَحْمد ابْن حَنْبَل ابْتُلِيَ بالمُجَسِّمَة وجعفر الصَّادِق ابْتُلِيَ بالرافضة
ثمَّ هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ عَلَى طَريقَة النَّوَوِيّ رحمه الله وَالَّذِي أرَاهُ أَن لَا تقبل شَهَادَتهم عَلَى سني
فَإِن قلت هَل هَذَا رأى الشَّيْخ أَبِي حَامِد وَمن تَابعه أَن أهل الْأَهْوَاء كلهم لَا تقبل لَهُم شَهَادَة
قلت لَا بل هَذَا قَول بِأَن شَهَادَتهم عَلَى مخالفيهم فِي العقيدة غير مَقْبُولَة وَلَو كَانَ مخالفهم فِي العقيدة مبتدعا وَهَذَا لَا أعتقد أَن النَّوَوِيّ وَلَا غَيره يُخَالف فِيهِ وَالَّذِي قَالَه النَّوَوِيّ قبُول شَهَادَة المبتدع إِذا لم نكفره عَلَى الْجُمْلَة أما أَن شَهَادَته تقبل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مخالفه فِي العقيدة مَعَ مَا هُنَاكَ من الرِّيبَة فَلم يقل النَّوَوِيّ وَلَا غَيره ذَلِك
فَإِن قلت غَايَة الْمُخَالفَة فِي العقيدة أَن توجب عَدَاوَة وَهِي دينية فَلَا توجب رد الشَّهَادَة
قلت إِنَّمَا لَا توجب رد الشَّهَادَة من المحق عَلَى الْمُبْطل كَمَا قَالَ الْأَصْحَاب تقبل شَهَادَة السّني عَلَى المبتدع وَكَذَا من أبْغض الْفَاسِق لفسقه ثمَّ سأعرفك مَا فِيهِ وَأما عَكسه وَهُوَ المبتدع عَلَى السّني فَلم يقلهُ أحد من أَصْحَابنَا
ثمَّ أَقُول فِي مَا ذكره الْأَصْحَاب من قبُول شَهَادَة السّني عَلَى المبتدع إِنَّمَا ذَلِك فِي سني لم يصل فِي حق المبتدع وبغضه لَهُ إِلَى أَن يصير عِنْده حَظّ نفس قد يحملهُ عَلَى التعصب عَلَيْهِ وَكَذَا الشَّاهِد عَلَى الْفَاسِق فَمن وصل من السّني وَالشَّاهِد عَلَى الْفَاسِق إِلَى هَذَا الْحَد
لم أقبل شَهَادَته عَلَيْهِ لِأَن عِنْدهمَا زِيَادَة عَلَى مَا طلبه الشَّارِع مِنْهُمَا أوجبت عِنْدِي الرِّيبَة فِي أَمرهمَا فكم من شَاهد رَأَيْته يبغض إنْسَانا وَيشْهد عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ تدينا وَجَاءَنِي وَأدّى الشَّهَادَة عِنْدِي باكيا وَقت تأديته الشَّهَادَة عَلَى الدّين فرقا خَائفًا أَن يخسف بِالْمُسْلِمين لوُجُود الْمَشْهُود عَلَيْهِ بَين أظهرنَا
وَأَنا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ أعتقد وأتيقن أَن الْمَشْهُود عَلَيْهِ خير مِنْهُ وَلَا أَقُول إِنَّه كذب عَلَيْهِ عَامِدًا بل إِنَّه بنى عَلَى الظَّن وَصدق أقوالا ضَعِيفَة أبْغض الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا فمنذ أبغضه لحقه هوى النَّفس وَاسْتولى عَلَيْهِ الشَّيْطَان وَصَارَ الْحَامِل لَهُ فِي نفس الْأَمر حَظّ نَفسه وَفِيمَا يخْطر لَهُ الدّين
هَذَا مَا شاهدته وأبصرته ولي فِي الْقَضَاء سِنِين عديدة فليتق اللَّه امْرُؤ وقف عَلَى حُفْرَة من حفر النَّار فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه قد جعلني اللَّه قَاضِيا ومحدثا وَقد قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد أَعْرَاض النَّاس حُفْرَة من حفر النَّار وقف عَلَيْهَا المحدثون والحكام
وَمِمَّا يُؤَيّد مَا قلته أَن أَصْحَابنَا قَالُوا من استباح دم غَيره من الْمُسلمين وَلم يقدر عَلَى قَتله فَشهد عَلَيْهِ بقتل لم يقتل ذكره الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر فِي بَاب من تجوز شَهَادَته نقلا عَن بعض أَصْحَابنَا ساكتا عَلَيْهِ وَلَا يعرف فِي الْمَذْهَب خِلَافه فَإِن قلت قد قَالَ عقيبة وَمن شتم متأولا ثمَّ شهد عَلَيْهِ قبل أَو غير متأول فَلَا
قلت يَعْنِي بِالْقبُولِ بعد الشتم متأولا الشَّهَادَة بِأَمْر معِين وَنحن نعلم أَنه لَا يحملهُ عَلَيْهَا بغض فَلَيْسَ كمن وصفناه
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يتفقد عِنْد الْجرْح أَيْضًا حَال الْجَارِح فِي الْخِبْرَة بمدلولات الْأَلْفَاظ فكثيرا مَا رَأَيْت من يسمع لَفْظَة فيفهمها عَلَى غير وَجههَا
والخبرة بمدلولات الْأَلْفَاظ وَلَا سِيمَا الْأَلْفَاظ الْعُرْفِيَّة الَّتِي تخْتَلف باخْتلَاف عرف النَّاس وَتَكون فِي بعض الْأَزْمِنَة مدحا وَفِي بَعْضهَا ذما أَمر شَدِيد لَا يُدْرِكهُ إِلَّا قعيد بِالْعلمِ
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يتفقد أَيْضًا حَاله فِي الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة فَرب جَاهِل ظن الْحَلَال حَرَامًا فجرح بِهِ وَمن هُنَا أوجب الْفُقَهَاء التَّفْسِير ليتوضح الْحَال
وَقَالَ الشَّافِعِي رضي الله عنه حضرت بِمصْر رجلا مزكيا يجرح رجلا فَسئلَ عَن سَببه وألح عَلَيْهِ فَقَالَ رَأَيْته يَبُول قَائِما
قِيلَ وَمَا فِي ذَلِك قَالَ يرد الرّيح من رشاشه عَلَى يَده وثيابه فَيصَلي فِيهِ
قِيلَ هَل رَأَيْته قد أَصَابَهُ الرشاش وَصلى قبل أَن يغسل مَا أَصَابَهُ قَالَ لَا وَلَكِن أرَاهُ سيفعل
قَالَ صَاحب الْبَحْر وَحكي أَن رجلا جرح رجلا وَقَالَ إِنَّه طين سطحه بطين استخرج من حَوْض السَّبِيل
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَيْضًا تفقده وَقد نبه عَلَيْهِ شيخ الْإِسْلَام ابْن دَقِيق الْعِيد الْخلاف الْوَاقِع بَين كثير من الصُّوفِيَّة وَأَصْحَاب الحَدِيث فقد أوجب كَلَام بَعضهم فِي بعض كَمَا تكلم بَعضهم فِي حق الْحَارِث المحاسبي وَغَيره وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة دَاخل فِي قسم مُخَالفَة العقائد وَإِن عده ابْن دَقِيق الْعِيد غَيره
والطامة الْكُبْرَى إِنَّمَا هِيَ فِي العقائد المثيرة للتعصب والهوى نعم وَفِي المنافسات الدُّنْيَوِيَّة عَلَى حطام الدُّنْيَا وَهَذَا فِي الْمُتَأَخِّرين أَكثر مِنْهُ فِي الْمُتَقَدِّمين وَأمر العقائد سَوَاء فِي الْفَرِيقَيْنِ
وَقد وصل حَال بعض المجسمة فِي زَمَاننَا إِلَى أَن كتب شرح صَحِيح مُسلم للشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ وَحذف من كَلَام النَّوَوِيّ مَا تكلم بِهِ عَلَى أَحَادِيث الصِّفَات فَإِن النَّوَوِيّ أشعري العقيدة فَلم تحمل قوى هَذَا الْكَاتِب أَن يكْتب الْكتاب عَلَى الْوَضع الَّذِي صنفه مُصَنفه
وَهَذَا عِنْدِي من كَبَائِر الذُّنُوب فَإِنَّهُ تَحْرِيف للشريعة وَفتح بَاب لَا يُؤمن مَعَه بكتب النَّاس وَمَا فِي أَيْديهم من المصنفات فقبح اللَّه فَاعله وأخزاه وَقد كَانَ فِي غنية عَن كِتَابَة هَذَا الشَّرْح وَكَانَ الشَّرْح فِي غنية عَنهُ
ولنعد إِلَى الْكَلَام فِي الجارحين عَلَى النَّحْو الَّذِي عرفناك
فَإِن قلت فَهَذَا يعود بِالْجرْحِ عَلَى الْجَارِح حَيْثُ جرح لَا فِي مَوْضِعه
قلت أما من تكلم بالهوى وَنَحْوه فَلَا شكّ فِيهِ وَأما من تكلم بمبلغ ظَنّه فَهُنَا
وَقْفَة محتومة عَلَى طَالب التحقيقات ومزلة تَأْخُذ بأقدام من لَا يبرأ عَن حوله وقوته ويكل أمره إِلَى عَالم الخفيات
فَنَقُول لَا شكّ أَن من تكلم فِي إِمَام اسْتَقر فِي الأذهان عَظمته وتناقلت الروَاة ممادحه فقد جر الملام إِلَى نَفسه وَلَكنَّا لَا نقضي أَيْضًا عَلَى من عرفت عَدَالَته إِذا جرح من لم يقبل مِنْهُ جرحه إِيَّاه بِالْفِسْقِ بل نجوز أمورا أَحدهَا أَن يكون واهما وَمن ذَا الَّذِي لَا يهم وَالثَّانِي أَن يكون مؤولا قد جرح بشئ ظَنّه جارحا وَلَا يرَاهُ الْمَجْرُوح كَذَلِك كاختلاف الْمُجْتَهدين
وَالثَّالِث أَن يكون نَقله إِلَيْهِ من يرَاهُ هُوَ صَادِقا ونراه نَحن كَاذِبًا وَهَذَا لاختلافنا فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَرب مَجْرُوح عِنْد عَالم معدل عِنْد غَيره فَيَقَع الِاخْتِلَاف فِي الِاحْتِجَاج حسب الِاخْتِلَاف فِي تزكيته فَلم يتَعَيَّن أَن يكون الْحَامِل للجارح عَلَى الْجرْح مُجَرّد التعصب والهوى حَتَّى يجرحه بِالْجرْحِ
ومعنا أصلان نستصحبهما إِلَى أَن نتيقن خلافهما أصل عَدَالَة الإِمَام الْمَجْرُوح الَّذِي قد اسْتَقَرَّتْ عَظمته وأصل عَدَالَة الْجَارِح الَّذِي يثبت فَلَا يلْتَفت إِلَى جرحه وَلَا نجرحه بجرحه
فاحفظ هَذَا الْمَكَان فَهُوَ من الْمُهِمَّات
فَإِن قلت فَهَل مَا قررتموه مُخَصص لقَوْل الْأَئِمَّة إِن الْجرْح مقدم لأنكم تستثنون جارحا لمن هَذَا شَأْنه قد ندر بَين المعدلين قلت لَا فَإِن قَوْلهم الْجرْح مقدم إِنَّمَا يعنون بِهِ حَالَة تعَارض الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَإِذا تَعَارضا لأمر من جِهَة التَّرْجِيح قدمنَا الْجرْح لما فِيهِ من زِيَادَة الْعلم وتعارضهما هُوَ تَعَارضا لأمر من جِهَة التَّرْجِيح قدمنَا الْجرْح لما فِيهِ من زِيَادَة الْعلم وتعارضهما هُوَ اسْتِوَاء الظَّن عِنْدهمَا لِأَن هَذَا شَأْن المتعارضين أما إِذا لم يَقع اسْتِوَاء الظَّن عِنْدهمَا فَلَا تعَارض بل الْعَمَل بأقوى الظنين من جرح أَو تَعْدِيل
وَمَا نَحن فِيهِ لم يتعارضا لِأَن غَلَبَة الظَّن بِالْعَدَالَةِ قَائِمَة وَهَذَا كَمَا أَن عدد الْجَارِح إِذا كَانَ أَكثر قدم الْجرْح
إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ لَا تعَارض وَالْحَالة هَذِهِ وَلَا يَقُول منا أحد بِتَقْدِيم التَّعْدِيل لَا من قَالَ بتقديمه عِنْد التَّعَارُض وَلَا غَيره
وعبارتنا فِي كتَابنَا جمع الْجَوَامِع وَهُوَ مُخْتَصر جمعناه فِي الْأَصْلَيْنِ جمع فأوعى وَالْجرْح مقدم إِن كَانَ عدد الْجَارِح أَكثر من الْمعدل إِجْمَاعًا وَكَذَا إِن تَسَاويا أَو كَانَ الْجَارِح أقل وَقَالَ ابْن شعْبَان بِطَلَب التَّرْجِيح
انْتهى
وَفِيه زِيَادَة عَلَى مَا فِي مختصرات أصُول الْفِقْه فَإنَّا نبهنا فِيهِ عَلَى مَكَان الْإِجْمَاع وَلم ينبهوا عَلَيْهِ وحكينا فِيهِ مقَالَة ابْن شعْبَان من الْمَالِكِيَّة وَهِي غَرِيبَة لم يشيروا إِلَيْهَا وأشرنا بقولنَا يطْلب التَّرْجِيح إِلَى أَن النزاع إِنَّمَا هُوَ فِي حَالَة التَّعَارُض لِأَن طلب التَّرْجِيح إِنَّمَا هُوَ فِي تِلْكَ الْحَالة
وَهَذَا شَأْن كتَابنَا جمع الْجَوَامِع نفع اللَّه بِهِ غَالِبا ظننا أَن فِي كل مَسْأَلَة فِيهِ زيادات لَا تُوجد مَجْمُوعَة فِي غَيره مَعَ البلاغة فِي الِاخْتِصَار
إِذا عرفت هَذَا علمت أَنه لَيْسَ كل جرح مقدما
وَقد عقد شَيخنَا الذَّهَبِيّ رَحمَه اللَّه تَعَالَى فصلا فِي جمَاعَة لَا يعبأ بالْكلَام فيهم بل هم ثِقَات عَلَى رغم أنف من تفوه فيهم بِمَا هم عَنهُ بُرَآء وَنحن نورد فِي تَرْجَمته محَاسِن ذَلِك الْفَصْل إِنْ شَاءَ اللَّهُ
ولنختم هَذِهِ الْقَاعِدَة بفائدتين عظيمتين لَا يراهما النَّاظر أَيْضًا فِي غير كتَابنَا هَذَا
إِحْدَاهمَا أَن قَوْلهم لَا يقبل الْجرْح إِلَّا مُفَسرًا إِنَّمَا هُوَ أَيْضًا فِي جرح من ثبتَتْ عَدَالَته واستقرت فَإِذا أَرَادَ رَافع رَفعهَا بِالْجرْحِ قِيلَ لَهُ ائْتِ ببرهان عَلَى هَذَا أَو فِيمَن لم يعرف حَاله وَلَكِن ابتدره جارحان ومزكيان فَيُقَال إِذْ ذَاك للجارحين فسرا مَا رميتماه بِهِ
أما من ثَبت أَنه مَجْرُوح فَيقبل قَول من أطلق جرحه لجريانه عَلَى الأَصْل الْمُقَرّر عندنَا وَلَا نطالبه بالتفسير إِذْ لَا حَاجَة إِلَى طلبه
والفائدة الثَّانِيَة أَنا لَا نطلب التَّفْسِير من كل أحد بل إِنَّمَا نطلبه حَيْثُ يحْتَمل الْحَال شكا إِمَّا لاخْتِلَاف فِي الِاجْتِهَاد أَو لتهمة يسيرَة فِي الْجَارِح أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يُوجب