الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل.
وكمَّل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمر حتّى يبلغ غرضه في روايتها ونشرها.
ما ابتلي به الحافظ:
ابتلي الحافظ عبد الغني رحمه الله كثيرًا، كغيره من أهل السنة، فلقد عاداه أهل البدع في زمانه، ووشوا به إلى الحكام.
ولم يكن رحمه الله ممن تأخذه في الله لومة لائم، وأكثر ما جرّ عليه البلاء قيامه بنشر أحاديث النزول والصفات، وكعادة أهل البدع والضلال في كل عصر ومصر، وموقفهم من الآثار، فقد قاموا عليه، ورموه بالتجسيم، وأما هو رحمه الله فقد كان قويّا في الحق، يجهر به، فما كان يداريهم كما فعل غيره من علماء عصره.
ولقد ابتلي كثيرًا.
قال الضياء: "كان الحافظ يقرأ الحديث بدمشق، ويجتمع عليه الخلق، فوقع الحسد، فشرعوا [أن] عملوا لهم وقتًا لقراءة الحديث، وجمعوا الناس، فكان هذا ينام، وهذا بلا قلب، فما اشتفوا، فأمروا الناصح ابن الحنبلي بأن يعظ تحت قبة النسر يوم الجمعة، وقت جلوس الحافظ، فأول ذلك أن الناصح والحافظ أرادا أن يختلفا الوقت، فاتفقا أن الناصح جلس بعد الصلاة، وأن يجلس الحافظ بعد العصر، فدسوا إلى الناصح رجلًا ناقص العقل
من بني عساكر، فقال للناصح في المجلس ما معناه: إنك تقول الكذب على المنبر، فضرب وهرب، فتمت مكيدتهم، ومشوا إلى الوالي، وقالوا:
هؤلاء الحنابلة قصدهم الفتنة، واعتقادهم يخالف اعتقادنا، ونحو هذا، ثم جمعوا كبراءهم، ومضوا إلى القلعة إلى الوالي، وقالوا: نشتهي أن تحضر عبد الغني، فانحدر إلى المدينة خالي الموفق، وأخي الشمس البخاري، وجماعة، وقالوا: نحن نناظرهم.
وقالوا للحافظ: لا تجيء فإنك حَدٌّ، نحن نكفيك، فاتفق أنهم أخذوا الحافظ وحده، ولم يدر أصحابنا، فناظروه، واحتدّ، وكانوا قد كتبوا شيئًا من الاعتقاد، وكتبوا خطوطهم فيه، وقالوا له: اكتب خطك، فأبى. فقالوا للوالي: الفقهاء كلهم قد اتفقوا على شيء، وهو يخالفهم، واستأذنوه في رفع منبره، وقالوا: نريد أن لا تجعل في الجامع إلا صلاة الشافعية، وكسروا منبر الحافظ، ومنعونا من الصلاة، ففاتتنا صلاة الظهر.
ثم إن الحافظ ضاق صدره، ومضى إلى بعلبك، فأقام بها مدة، ثم توجه إلى مصر، فجاء شاب من دمشق بفتاو إلى صاحب مصر الملك العزيز، ومعه كتب أن الحنابلة يقولون كذا وكذا مما يشنعون به عليهم، فقال: إذا رجعنا أخرجنا من بلادنا من يقول بهذه المقالة، فاتفق أنه عدا به الفرس، فشب به، فسقط، فخسف صدره، كذلك حدثني يوسف بن الطفيل شيخنا، وهو الذي
غسله، فأقيم ابنه صبي، فجاء الأفضل من صرخد، وأخذ مصر، وعسكر وكرّ إلى دمشق، فلقي الحافظ عبد الغني في الطريق فأكرمه إكرامًا كثيرًا، ونفّذ يوصي به بمصر، فتلقي الإمام بالإكرام، وأقام بها يُسمعُ الحديث بمواضع -وكان بها كثير من المخالفين- وحصر الأفضل دمشق حصرًا شديدًا، ثم رجع إلى مصر، فسار العادل عمُّه خلفه فتملك مصر، وأقام، وكثر المخالفون على الحافظ، فاستدعي، وأكرمه العادل، ثم سافر العادل إلى دمشق، وبقي الحافظ بمصر، وهم ينالون منه، حتى عزم الملك الكامل على إخراجه، واعتقل في دار أسبوعًا، فكان يقول: ما وجدت راحة في مصر مثل تلك الليالي.
وقال الشجاع بن أبي زكريا الأمير: قال لي الملك يومًا:
هاهنا فقيه. قالوا: إنه كافر. قلت: لا أعرفه. قال: بلى، هو محدِّث. قلت: لعله الحافظ عبد الغني؟ قال: هذا هو. فقلت: أيها الملك! العلماء أحدهم يطلب الآخرة، وآخر يطلب الدنيا، وأنت هنا باب الدنيا، فهذا الرجل جاء إليك، أو أرسل إليك شفاعة أو رقعة، يطلب منك شيئًا؟. قال: لا. فقلت: والله هؤلاء يحسدونه. فهل في هذه البلاد أرفع منك؟. قال: لا. فقلت: هذا الرجل أرفع العلماء، كما أنت أرفع الناس. فقال: جزاك الله خيرًا كما عرفتني.
ثم بعثتُ رقعة إليه، أوصيه به، فطلبني، فجئت، وإذا عنده شيخ الشيوخ ابن حمويه، وعز الدين الزنجاري الأمير، فقال لي
السلطان: نحن في أمر الحافظ، فقال: أيها الملك! القوم يحسدونه، وهذا شيخ الشيوخ بيننا، وحلّفته: هل سمعت من الحافظ كلامًا يخرج عن الإسلام؟ فقال: لا والله. وما سمعت عنه إلا كل جميل، وما رأيته.
وتكلم ابن الزنجاري فمدح الحافظ كثيرًا وتلامذته. وقال: أنا أعرفهم، ما رأيت مثلهم. فقلت: وأنا أقول شيثًا آخر: لا يصل إليه مكروه حتى يقتل من الأكراد ثلاثة آلاف. فقال الملك الكامل: لا يؤذى الحافظ.
فقلت: اكتب خطك بذلك. فكتب.
ثم طلب من الحافظ أن يكتب اعتقاده، فكتب: أقول كذا؛ لقول الله كذا، وأقول كذا؛ لقول الله كذا، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم كذا.
حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها، فلما رآها الكامل قال: إيشٍ أقول في هذا، يقول بقول الله، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ".
وزعم سبط ابن الجوزي أن الفقهاء أجمعوا على تكفيره، ولكن هذا من مجازفات السبط، وقلة ورعه، كما قال الحافظ الذهبي.
ووقع له من البلاء أيضًا في أصبهان ما كاد يودي إلى قتله، ومثل ذلك وهو بالموصل.
ولكنه رحمه الله كان محبوبًا من أهل السنة، يكرمونه، ويعرفون قدره، وينزلونه منزلته.
قال الضياء: ما أعرف أحدًا من أهل السنة رآه إلا أحبه،