المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين ثقيل والجزاء عظيم - فصول في الدعوة والإصلاح

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌التقدمية والرجعية

- ‌الإسلام والحياة

- ‌أساس الدعوة إلى الإسلام

- ‌أين الخلل

- ‌حقائق مؤلمة

- ‌بلا عنوان

- ‌دعوهم وما يقولون

- ‌تعليق مختصر على خبر

- ‌اتفاق الدعاة

- ‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

- ‌وصية وإنذار

- ‌مشكلة

- ‌عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

- ‌الأحاديث الدينية في الإذاعة

- ‌منهج الدعوة وواجب الدعاة

- ‌ماذا يصنع الصالحون

- ‌بيان وإنذار

- ‌الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

- ‌رسالة بلا عنوان

- ‌خدمة الإسلام

- ‌الطريقة الصحيحة للإصلاح

- ‌حصاد ربع قرنفي حقل الدعوة الإسلامية في الشام

- ‌المدرسة الدينية

- ‌في نقد المناهج الدينية

- ‌كلمة تُرضي اللهوتُغضب بعض البشر

- ‌الاختلاط في الجامعات

- ‌كلمة في الأدب

- ‌حركة طيبة في لبنان

- ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

- ‌عدوان أفظع

- ‌جاء الحق وزهق الباطل

- ‌الحكم بالقوانين الشرعية

- ‌إلى علماء الشيعة

- ‌إلى أين تمشي مصر

- ‌مات شيخ الأزهر

- ‌نحن وهذه الحضارة

- ‌موقفنا من الحضارة الغربية

- ‌ردّ على أدعياء البعثية

- ‌كلمة في الاشتراكية

- ‌الدعوة إلى الوحدة

- ‌الدعوة القومية والإسلام

- ‌كلمة صغيرة

- ‌موقف الإسلام من العربية

- ‌فضل الإسلام على العربية

- ‌القومية والإسلام

الفصل: ‌الدين ثقيل والجزاء عظيم

‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

حديث أذيع سنة 1961

زرت أمس صديقاً لي، فيه سذاجة وفيه دين، فوجدته يقرّع ولده ويرفع صوته عليه ويسبّه، وقد بلغ به الغضب الغاية.

قلت: مهلاً يا أخانا، مهلاً. هوِّنْ عليك وخبِّرني بالقصة.

قال: ألا ترى هذا الخبيث قليل الأدب؟

قلت: ما له؟

قال: إنك تعرف أولاد عمه الثلاثة، وتعلم أن فلاناً منهم هو الصالح المصلح وأن الأخوين الباقيين من الجَهَلة الفُسّاق الذين يتبعون شهواتهم، لا يُحرّمون حراماً ولا يمتنعون من ممنوع، وكلما حملته على صحبة الصالح تركه فصاحب أخويه، ثم بلغت به الوقاحة أنْ مدحهما وذمّه.

قال الشاب: ما ذممته، ولكن قلت إنه ثقيل.

فزاد الغضب بالأب، وقال: أرأيت الفاعل التارك؟ يقول عن الرجل الديّن الصالح ثقيل!

قلت: أنا لا أقول بمقالته، ولكني أقول إن الدين نفسه ثقيل.

ص: 65

فارتاع الأب وصاح: أعوذ بالله! أنت تقول هذا؟ ودُهش الولد وفتح عينيه.

قلت: نعم، أنا أقول هذا، وهذا هو الحق. هذه طبيعة النفس البشرية؛ إن الله خلق النفس أمّارة بالسوء مَيّالة إلى الانطلاق من كل قيد والوصول إلى كل لذة، فيأتي الدين فيقيّدها ويمنعها من كثير من اللذائذ، فيَثقل عليها.

إن ابن العم الفاسق يأخذه إلى السينما فيجد فيها لهواً تستريح نفسه إليه وجمالاً مكشوفاً يتلذذ برؤيته، أو إلى الملهى حيث يجد أمامه حقيقةً ملموسة ما رأى في السينما صورتَه معروضةً مرئية، وينطلق معه يطلب كل متعة، ويطرق معه كل باب ويسلك معه كل طريق، ويفعل كل شيء

فيأتي ابن عمه الصالح فيقول له: ابتعد عن السينما، وعن الملهى، ولا تطرق إلا أبواب الخير، ولا تسلك إلا طرق الطاعة، فيقيّده.

إن الدين قَيْد، وكل قيد ثقيل على النفس.

يرى الشاب البنت الجميلة كاشفة الساق بادية النحر، فيقول له الشيطان: انظر إليها ما أجملها! ويخيّل له صورة المتعة بها، وتستجيب النفس للشيطان فتمتلئ رغبة بالنظر وتشوّفاً إليه، فيأتي الدين فيقول له: لا، هذا حرام. ويكون نائماً في الصباح، والفراش دافئ والجو بارد والنوم لذيذ، فيقول له الدين: اهجر فراشك الدافئ واترك نومك اللذيذ، وتوضأ وقم إلى الصلاة. ويجوع، ويرى الطعام أمامه، ونفسه تشتهيه والشيطان يرغّبه فيه، فيأتي الدين فيُلزمه بالصيام ويقول له: امتنع عن الطعام. ويجد

ص: 66

التاجر الكسب الحاضر والربح الوفير، فتميل إليه نفسه وتتعلق به رغبته، فيقول له الدين: اترك هذا الربح لأن فيه ربا، وهو حرام. ويرى الفتى بنت الجيران، فيشير إليها وتشير إليه، ويكلمها وتكلمه، ويرغب فيها وترغب فيه، وتشغله عن كل عمل فلا يفكر إلا فيها ويشغلها عن كل شغل فلا تفكر إلا فيه، ويربط الشيطان حبله بحبلها ويمهّد له الطريق إليها، فيقول له الدين: ابتعد عنها، لا تنظر إليها ولا تفكر فيها إلا بالزواج الحلال.

لذلك يرى الشاب الدين ثقيلاً، لأنه مجموعة قيود. والله نفسه وصف القرآن بأنه ثقيل، أي ثقيل على النفوس بما فيه من التكاليف والأوامر، فقال:{إنّا سَنُلْقي عَليْكَ قَوْلاً ثَقيلاً} .

وأثقل التكاليف أن تترك اللذة الحاضرة المطلوبة أملاً بلذّة غائبة مجهولة، وهذا هو الإيمان بالغيب. ولذلك أعدّ الله الثواب العظيم للمؤمنين بالغيب، وأثنى عليهم وبيّن أن ذلك أول صفة من صفات المتقين:{ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيه هُدَىً للمُتَّقينَ، الذينَ يُؤْمنونَ بالغَيْبِ، ويُقيمُونَ الصّلاةَ، وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُون} .

ومن هم المؤمنون بالغيب؟ ليسوا الذين يقولون بألسنتهم «آمَنّا» ؛ بل الشاب المؤمن بالغيب هو الذي يرى رفاقه يسلكون طريق الفسوق، وهو يميل إليه، ويعالج في نفسه مثل حرّ النار من الرغبة فيه، ويتقلب في فراشه لا يستطيع أن ينام من تفكيره فيه، ولكن يقاوم نفسه ويكبت رغبته، ويترك هذه اللذة الحاضرة طمعاً باللذة الموعودة في الآخرة. والموظف المؤمن بالغيب هو الذي يرى زملاءه يَمُدّون أيديهم إلى المال الحرام فيكونون به

ص: 67

من أولي السَّعَة والغنى، وهو يقنع بمرتبه القليل ويصبر على الضيق أملاً بالغنى والسّعة في الآخرة. والمرأة المؤمنة بالغيب هي التي ترى صاحباتها يتّبعنَ الموضة ويسلكن طريقها ويكسبن إعجاب الناس، وهي تَقْدر على ذلك وتميل إليه، ولكنها تخالف نفسها وتقيم على حجابها، وترضى أن يقولوا عنها «متأخرة» أو «مجذوبة» رجاء المكافأة في الآخرة.

المؤمن بالغيب هو الذي يمتنع عن الحرام مهما كان لذيذاً ومهما كان مفيداً في الدنيا، لينال الثواب في الآخرة. وهذا شيء ثقيل على النفس.

وابن الجوزي أشار إلى هذا المعنى في كتابه «صيد الخاطر» ، فقال إنه ليس العَجَب ممّن يتّبع هواه ويبتغي اللذّة، سواء أكانت في الحلال أم في الحرام، بل العجب ممّن يخالف نفسه وهواه ويتبع رضا الله.

قال: "جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة، ثم هي من داخل، وذِكْرُ أمر الآخرة خارجٌ عن الطبع، ثم هو من خارج. وربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في القرآن، وليس كذلك، لأن مَثَل الطبع في ميله إلى الدنيا كالماء الجاري، فإنه يطلب الهبوط، وإنما رَفْعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف. ولهذا جاء الشرع بالترغيب والترهيب يقوّي جُندَ العقل، فأما الطبع فجواذبه كثيرة، وليس العجب أن يَغْلِب، إنما العجب أن يُغلَب"(1).

(1) هذه هي الخاطرة الثانية من خواطر الكتاب. وهو كتاب عظيم=

ص: 68

وما يقوله صحيح، لأن الصلاح والتقوى صعود، والفساد والفسوق هبوط، والصعود صعب أما الهبوط فهيّن. إنك تستطيع أن تحرك الصخرة وهي في رأس الجبل حركة واحدة فتدحرجها حتى تصل إلى قرارة الوادي، ولكنك لا تستطيع أن ترفعها إلا بالجهد والتعب. وتقدر أن تخرق خزّان الماء في جبل قاسيون فينحدر ماؤه حتى يصل إلى بردى، ولكنك لا تقدر أن تعيده إلا بالمضخّات والآلات وبالغ النفقات.

* * *

إن الدين قَيْد، والعقل قيد، والقانون قيد، والخُلُق قيد

وكلما تقدم الإنسان في طريق الحضارة كثرت قيوده.

الحيوان لا يقيّده شيء إلا غريزته، فهو يمشي عارياً، وإذا مال الذكر فيه إلى الأنثى دنا منها علناً، وإذا رأى الطعام بين يدي حيوان آخر أضعف منه قتله وأخذه منه. والإنسان الابتدائي أرقى من الحيوان بقليل، قانونه قانون «الحق للأقوى» ، فكل ما يفعل القوي عنده مشروع، إن أعجبه مال الضعيف غصب منه المال، وإن أعجبته امرأة الضعيف استلب منه المرأة.

وارتقى الإنسان درجة فجاء بالحكومة، فكفَّتْ من قوّة

= يستحق أن يُقرَأ، فمن أغراه هذا التعليق فقرر أن يقرأه فقد أصاب في القرار وأحسن الاختيار. وللكتاب في السوق طبعات كثيرة، لكني أتحيّز إلى الطبعة التي حققها ناجي الطنطاوي وعلق عليها وقدم لها علي الطنطاوي، فهي أفضل الطبعات المحقَّقة وأقدمها، وأحسب أن سائر الطبعات عالة عليها في الضبط والتحقيق (مجاهد).

ص: 69

القوي وشدت أزر الضعيف وعاقبت المعتدي. ولكنها لم تَكْفِ وحدها لإصلاح المجتمع، لأن المعتدي يفرّ من وجه الحكومة أو يسيطر عليها ويعود إلى ظلمه، فلا تكفي الحكومة. وارتقى الإنسان درجة أخرى، فجاءت الأعراف والأخلاق فهذّبت الغرائز بعض التهذيب، ولكن بقي في الناس من لا يبالي بالأخلاق ولا بالأعراف، فلم يصلح المجتمع.

وارتقى الإنسان درجة أخرى، فجاء الدين فأصلح ما لم يصلحه القانون ولا العرف ولا الخلق؛ ذلك أن الذي يستقيم خوفاً من عقوبة القانون يَعْوَجّ إذا أَمِنَ أن يصل إليه القانون، والذي يستقيم اتّباعاً للعرف إنما يستقيم ما دام الناس يرونه، فإذا أمن أن يراه الناس لم يعد يبالي ما يفعل. أما الذي يستقيم اتّباعاً للدين وخوفاً من الله فإنه يبقى أبداً مستقيماً، لأنه يعلم أن الله مطّلع عليه دائماً.

ولو ترك الإنسان كل ما يثقل عليه وفعل كل ما تميل نفسه إليه لذهبت الصحة، وذهبت الأخلاق، وذهب القانون، ولم يعد الإنسان إنساناً ولكن وحشاً من وحوش الغاب؛ ذلك أن الدواء المرّ ثقيل على المريض، وتجرّعه مؤلم، والنفس تميل عنه وتنفر منه، فلو اتبعنا ميل النفس وتركنا الدواء لذهبت الصحة. وحبسك النفس عن اتباع هواها، وإمساكها عن أن تبطش عند الغضب وأن تأخذ عند الرغبة وأن تكفّ عند الشهوة ثقيل على النفس، فلو تركناه لأنه ثقيل عليها لذهبت الأخلاق. والإنسان خُلق مُحبّاً لنفسه مُريداً كل خير لها، ومنعُه نفسَه مما تريد ثقيل عليها، فلو تركنا كل إنسان يأخذ ما يشتهي من مال غيره وأهله لذهب القانون.

ص: 70

والله قد وضع في النفس حب المال والجمال وقسمهما لنا قسمين، فقال: هذا حرام وهذا حلال. فإذا جوّزنا للرجل أن يستمتع بكل جمال يشتهيه ويقدر على الوصول إليه، سواء أكان له أم كان لغيره، وسواء أكان التمتع به بالنظر واللمس أو المقاربة، حلالاً كان أم حراماً، وقلنا: هذه هي المدنية الجديدة وهذه هي الموضة، فلماذا لا نجوّز له أن يأخذ كل ما تشتهيه نفسه من أموال الناس بالغصب وبالسرقة وبالاحتيال؟ ولماذا نقيم القيامة على من يسرق عشر ليرات ونسوقه إلى المحكمة ونلقي به في السجن، ونغضّ عمّن يسرق أعراض الناس ويتمتع بحرمات بناتهم ونسائهم؟

هل المال أعزّ علينا من العِرض؟

* * *

نعم، إن الدين ثقيل، ولكن ليس كل ثقيل يُترَك.

والعاقل مَن إذا عَرَض له ألم مؤقت يجرّ وراءه لذة دائمة احتمله راضياً، كما يتحمل ألم قلع الضرس ليجد اللذة بالراحة من وجعه، وكما يتحمل العملية الجراحية للصحة المَرجوّة بعدها.

ومن إذا عرضت له لذة مؤقتة تجرّ وراءها ألماً طويلاً أعرض عنها راضياً وانصرف عنها مطمئناً، مهما اشتدّ ميله إليها وكثرت المغريات بها. ولو قيل لك: تعال نُعطِك كل ما تريد من أموال ولذائذ ونساء ونمتّعك بكل متعة تخطر على بالك، ولكن لمدة شهر واحد، ثم نقتلك بعدها شرّ قتلة ونحرّقك بالنار، هل تقبل

ص: 71

بهذا النعيم أم تقول: لا، لا أريده، وما فائدة متعة شهر إن كان بعدها الموت؟

هذا مثال لذائذ الدنيا المحرَّمة، بل إن المثال أقل من الحقيقة، فإنك تستمتع في المثال شهراً تموت بعده فتستريح، وتستمتع بالحرام ثم تموت فلا تستريح، بل تُحاسَب أشد الحساب ثم يُصار بك إلى جهنم!

فاحتمل ثِقَل الدّين، فإنه أهون من احتمال ثقل العذاب يوم القيامة.

* * *

ص: 72