المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خدمة الإسلام نشرت سنة 1990 (1)   لما عدت إلى الدار وخبرني أهلي - فصول في الدعوة والإصلاح

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌التقدمية والرجعية

- ‌الإسلام والحياة

- ‌أساس الدعوة إلى الإسلام

- ‌أين الخلل

- ‌حقائق مؤلمة

- ‌بلا عنوان

- ‌دعوهم وما يقولون

- ‌تعليق مختصر على خبر

- ‌اتفاق الدعاة

- ‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

- ‌وصية وإنذار

- ‌مشكلة

- ‌عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

- ‌الأحاديث الدينية في الإذاعة

- ‌منهج الدعوة وواجب الدعاة

- ‌ماذا يصنع الصالحون

- ‌بيان وإنذار

- ‌الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

- ‌رسالة بلا عنوان

- ‌خدمة الإسلام

- ‌الطريقة الصحيحة للإصلاح

- ‌حصاد ربع قرنفي حقل الدعوة الإسلامية في الشام

- ‌المدرسة الدينية

- ‌في نقد المناهج الدينية

- ‌كلمة تُرضي اللهوتُغضب بعض البشر

- ‌الاختلاط في الجامعات

- ‌كلمة في الأدب

- ‌حركة طيبة في لبنان

- ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

- ‌عدوان أفظع

- ‌جاء الحق وزهق الباطل

- ‌الحكم بالقوانين الشرعية

- ‌إلى علماء الشيعة

- ‌إلى أين تمشي مصر

- ‌مات شيخ الأزهر

- ‌نحن وهذه الحضارة

- ‌موقفنا من الحضارة الغربية

- ‌ردّ على أدعياء البعثية

- ‌كلمة في الاشتراكية

- ‌الدعوة إلى الوحدة

- ‌الدعوة القومية والإسلام

- ‌كلمة صغيرة

- ‌موقف الإسلام من العربية

- ‌فضل الإسلام على العربية

- ‌القومية والإسلام

الفصل: ‌ ‌خدمة الإسلام نشرت سنة 1990 (1)   لما عدت إلى الدار وخبرني أهلي

‌خدمة الإسلام

نشرت سنة 1990 (1)

لما عدت إلى الدار وخبرني أهلي أن الجريدة هتفت بي تهنّئني بالجائزة لم أفهم المقصود منها ولم أدرِ أي جائزة هي، لأنني ما مُنحت في عمري جائزة ولا اجتمع قوم لتكريمي. وأنا أكتب وأخطب من سنة 1345هـ وأنا دون العشرين، وقد دخلت الآن عشر التسعين، وبلغ ما كتبته ونشرته أكثر من خمسة عشر ألف صفحة، ولم آخذ جائزة ولم أجد من أحد تكريماً. ولعل ذلك كان خيراً لي لأنني أنتظر الثواب من الله وحده.

لما كانت الوحدة بين سوريا ومصر أنشئت لجان للأدباء ولجان للفقهاء، فعُرض اسمي على اللجنتين، فقال أهل الفقه إنه لا مكان لي عندهم لأنني رجل أديب، وقال الأدباء أنْ لا محل لي معهم لأنني شيخ فقيه، فضعت بين الفقه الذي أنكرني والأدب الذي تخلى عني، ورجعت صفر اليدين وحافي القدمين، ما

(1) نُشرت هذه المقالة في جريدة «الشرق الأوسط» يوم الخميس 15/ 3/ 1990 بمناسبة حصول الشيخ رحمه الله على جائزة الملك فيصل في خدمة الإسلام، وبعضها مقتطف من الكلمة التي كتبها لتُلقى باسمه في حفل الجائزة (مجاهد).

ص: 133

أدركت ولا خُفَّي حُنين!

وقد تعودنا ألاّ يُذكر في هذا المقام، مقام التكريم وتوزيع الجوائز، إلا من كان يلقى الناس دائماً ومن عقد بينه وبين كبارهم صداقات وصِلات، أما أن يُعمَد إلى رجل مثلي، معتزل من سنين طويلة قد اشتمل عليه بيته، لا يلقى الناس إلا من كُوّة الإذاعة أو من لوحة الرائي (التلفزيون) أو من بين سطور الجريدة، ثم يكرّموه، فهذا شيء عجيب

وهذا ما كان.

إن من أكبر الشرف أن يسجَّل أحدنا في فرقة خدم الإسلام. أليس عند الفرنسيين «جوقة الشرف» ووسامها عندهم أعلى وسام؟ إن خدمتي للإسلام كانت بتوفيق من الله لي وكانت نعمة أنعمها الله عليّ، لم تكن بعملي أنا. وهل اخترت أنا قبل أن أولد الشيخ مصطفى الطنطاوي العالم الفقيه أمين الفتوى ليكون أبي؟ وهل شاركته في اختيار شقيقة محب الدين الخطيب لتكون أمي؟ إن الله أنعم عليّ بذلك بغير عمل مني وأثابني عليه (1).

إن أكبر حادث في حياتي لم أره ولم أعرفه إلا سماعاً من الناس، وهو يوم مولدي؛ لا أذكر منه إلا ما ذكروه لي، وقالوا (وهو خبر من الأخبار) إني وُلدت بلا أسنان، وإني لم أكن أتكلم، وإني لم أكن أفهم الكلام، ولا أستطيع أن أنقلب من جنب إلى جنب، مع أن الحيوان تلده أمه فيقف على رجليه ثم يمشي معها، ولم تولّده طبيبة ولا قابلة! وكنت إن حطَّت على

(1) ولكنه -من كرمه- لا يعاقب من كتب عليه أن ينشأ في بيت فسوق وعصيان، وإنما يؤاخذ كل إنسان بعمله.

ص: 134

أنفي ذبابة لم أملك أن أطرد الذبابة عن أنفي، فكان الذي يحفظني ويوجهني هو الله.

خلقني من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيباً. ثم كتب الله لي أن طال بي العمر وأني رأيت حلواً ورأيت مراً، فلا الحلو دام ولا المر استمر. وكذلك الدنيا، ليل بعده نهار ونهار يعقبه ليل، لا الليل يبقى ولا النهار، الآلام يأتي عليها حينٌ تصير ذكرى في النفس وحديثاً على اللسان، ولا يبقى للإنسان إلا ما يحمله معه إلى الدار الآخرة.

وأنا أسأل الله أن تكون خدمتي للإسلام مما ينفعني في آخرتي.

* * *

وهل يحتاج الإسلام إلى من يخدمه ويدعمه؟ إن خدمته شرفٌ للخادم لا سدُّ حاجة في المخدوم.

لقد قلت في الكلمة التي ألقاها عني في حفل الجائزة حفيدي المهندس مجاهد ديرانيّة: افتحوا مصوَّر العالم الإسلامي وانظروا إلى البلاد التي دخلها الإسلام أيام الفتوح، والبلاد التي دخل إليها بعدما طُويت رايات الفتح ووقفت جيوشه ولم يبقَ للمسلمين فتح جديد، مَن الذي أدخل الإسلام في الجزر النائية من أندونيسيا وماليزيا والفلبين؟ من أوصل الإسلام إلى المراكز الإسلامية في أوربا كلها وفي أميركا؟ من حمل الإسلام إلى كوريا وإلى اليابان؟ إن الذي حمله تجّار لم يكونوا منقطعين للدعوة ولا مستعدين لها، ولم يأت من يمدّهم بالمال الجزيل وبالوسائل

ص: 135

الموصلة كما يُمَدّ المنصِّرون.

لقد زرت أكثر بلاد الإسلام في آسيا وزرت كثيراً من المدن التي فيها مسلمون في وسط أوربا، فرأيت أنه ليس بين أهلها (وبين شبّانهم على الأخص) وبين أن يدخلوا في الإسلام إلا أن يعرفوه على حقيقته، لأنه قوة في ذاته.

وقد كذب الذين يدّعون أن الإسلام إنما انتشر بالسيف. لقد مرّ وقت كان المسلمون فيه بعدد أصابع اليدين، كانت أمة الإسلام مؤلَّفة من أبي بكر وعليّ وخديجة وسلمان وبلال؛ أبو بكر يمثل الرجال، وعليّ يمثل الصبيان، وخديجة تمثل النساء، وبلال يمثل الحبشة، وسلمان يمثل الفرس، فهل كان معهم سيف؟

هل كان مع المسلمين الأولين الذين كانوا قلة في مكة وكانوا يستترون في دار الأرقم في أصل الصّفا، هل كان مع هؤلاء الذين نشروا الإسلام وأسسوا له الأسس وعرّفوا به الناس، هل كان معهم جيش له قوة وسلاح؟

بعث الله محمداً بالتوحيد ليواجه به الأرض الكافرة كلها، قال له: قاتل في سبيل الله لا تُكلَّف إلا نفسك. رجل واحد يقاتل في سبيل الله، لينصر شرع الله ولينقذ عباد الله من الضلالة والكفر.

إن الذين يحسبون الجهاد عدواناً مسلحاً لا يدرون ما الجهاد. الجهاد ليس حرباً هجومية نعتدي فيها على الناس، والإسلام إنما جاء لإقرار العدل وتحريم العدوان، وليس الجهاد حرباً دفاعية

ص: 136

بالمعنى العسكري، فما احتل الكفار مكة ولا المدينة؛ ولكن مَثَل الجهاد كقطر كبير أصابه القحط، فشحَّت الأقوات وعمّ الجوع وفشت الأمراض وقلّ الدواء، فجاء من يحمل المدد إلى الجائعين والدواء إلى المرضى لينقذهم مما هم فيه، فوقف في الطريق ناس يمنعونهم، يحولون بينهم وبين هذا الخير وهذا العمل الإنساني، فقالوا لهم: تعالوا شاركونا فيما نعمل تكونوا منا ولكم ما لنا وعليكم ما علينا، فأبوا عليهم. قالوا لهم: دعونا نمرّ ونحن ندافع عنكم، لا نكلفكم قتال عدو ولا بذل روح، على أن تمدونا بشيء من المال قليل. قالوا: لا. فلم يبق إلا أن يقاتلوهم، أن يقاتلوا هذه الفئة القليلة التي تمنع الخير عن الناس

يقاتلون أفراداً لينقذوا أمماً، وكان ذلك هو الجهاد.

وكان الخير الذي نحمله للدنيا هو الذي نزل علينا من السماء في حراء.

* * *

الإسلام قوي بذاته مؤيَّد بتأييد الله له. انظروا كم حاقت به من شدائد، وكم اجتمع عليه من خصوم، وكم وضعوا لحربه من خطط، فكان النصر أخيراً للإسلام.

لمّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ أكثر العرب عن دين الحق، منهم من كفر وخرج من الإسلام، وأكثرهم منعوا الزكاة، فعدّهم خليفة رسول الله بهذا من المرتدّين. وحسب أقوام أنها نهاية الإسلام، فما هي إلا أن ثبت هذا الشيخ الجليل، أبو بكر، وثبت معه خيار المسلمين، فماتت الردة وعاش الإسلام.

ص: 137

ولما اجتمعت دول أوربا كلها على حرب المسلمين، وساقت إليهم جيوشاً أولها في القسطنطينية وآخرها في أعماق أوربا، وتوالت الحملات، وملك الصليبيون السواحل من سوريا وحكموا القدس، لا سنة ولا سنتين بل أكثر من تسعين سنة، فظن ضعاف النفوس أن القدس ضاعت منا إلى الأبد، فما هي إلا أن قام مسلم تركي وقام مسلم كردي، فنشرا راية القرآن وضربا بسيف محمد، حتى انتصر نور الدين ومن بعده صلاح الدين على أوربا كلها، لأن راية القرآن إذا رُفعت لا تُخذَل أبداً، وسيف محمد إذا ضربنا به لا ينبو أبداً.

ثم جاء السيل الجارف من أقصى الشرق، سيل المغول والتتار، فدمر العواصم وجرف صروح الحضارة، وسقطت أمامه بغداد التي كانت أعظم حواضر الأرض، ولم يبق إلا مصر. وكانت مصر يومئذ ضعيفة، يحكمها مماليك صيّرهم الدهر ملوكاً، فما هي إلا أن قام فيهم شيخ صالح من دمشق هو الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وشيوخ صالحون من مصر، فأيقظوا الإيمان في قلوبهم فقاتلوا لله لا للدنيا، فنصرهم الله في عين جالوت نصراً لا يزال كُتّاب التاريخ مدهوشين منه إلى اليوم.

وما ذهبت قوة الإسلام ولا فقد أهله عزتهم، وهاكم الأمثلة ظاهرة أمامكم: المجاهدون الأفغان والدولة القوية التي أعلنت عجزها عنهم. بل هاكم المثل القائم اليوم: هؤلاء الأولاد الصغار الذين يقفون في مواجهة جنود مدرَّبين، ما معهم في أيديهم الصغيرة إلا حجارة أرضهم يلقونها بسواعدهم، فعجزت عنهم هذه الدولة الباغية التي وضعوا في يدها أعتى الأسلحة ووأفتكها.

ص: 138

ولقد حضرت في عمري مؤتمراً واحداً، هو مؤتمر القدس سنة 1953 الذي انعقد لتأييد قضية فلسطين، وقد شرّفوني بأن ألقي كلمة الافتتاح فيه، فألقيتها وقلت فيها: إن كان لدى اليهود وعد من بلفور، يعدهم فيه بما لا حكم له عليه ولا نفاذ لأمره فيه، فإن لدينا وعداً من رب بلفور ورب قوم بلفور، رب العالمين، بأن النصر للمؤمنين، للمؤمنين بكتب الله كلها وبرسل الله كلهم، العاقبة لهم؛ فإن كنا منهم بقلوبنا وجوارحنا وأقوالنا وأفعالنا، حقق الله هذا النصر على أيدينا وكان لنا به المجد في الدنيا والجنة في الآخرة، وإن انحرفنا وضللنا وابتعدنا عن ديننا استبدل الله بنا قوماً غيرنا، فأسلم الشعب الألماني مثلاً أو الشعب الياباني، فحملوا لواء الإسلام الذي لا يسقط أبداً، وبقينا نحن -لا سمح الله ولا قدّر- كفقراء اليهود، لا دنيا ولا دين.

* * *

الإنسان يحبّ أن يكون مخدوماً لا خادماً وأن يكون حراً لا عبداً، إلا إذا كانت العبودية لله وكانت الخدمة لدين الله. المسلمون الأوَّلون لمّا وضعوا جباههم (وهي أكرم أعضائهم) على الأرض عند موطئ النعال ذلاً لله، أعزهم الله، فجعل جباه الجبابرة توضع عند أقدامهم، وملّكهم مفاتيح الأرض، وجعلهم سادة الأرض وأساتذتها.

وبعد، فإن العاقبة للإسلام، فمن كان مع الإسلام كان النصر معه.

* * *

ص: 139