المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة - فصول في الدعوة والإصلاح

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌التقدمية والرجعية

- ‌الإسلام والحياة

- ‌أساس الدعوة إلى الإسلام

- ‌أين الخلل

- ‌حقائق مؤلمة

- ‌بلا عنوان

- ‌دعوهم وما يقولون

- ‌تعليق مختصر على خبر

- ‌اتفاق الدعاة

- ‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

- ‌وصية وإنذار

- ‌مشكلة

- ‌عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

- ‌الأحاديث الدينية في الإذاعة

- ‌منهج الدعوة وواجب الدعاة

- ‌ماذا يصنع الصالحون

- ‌بيان وإنذار

- ‌الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

- ‌رسالة بلا عنوان

- ‌خدمة الإسلام

- ‌الطريقة الصحيحة للإصلاح

- ‌حصاد ربع قرنفي حقل الدعوة الإسلامية في الشام

- ‌المدرسة الدينية

- ‌في نقد المناهج الدينية

- ‌كلمة تُرضي اللهوتُغضب بعض البشر

- ‌الاختلاط في الجامعات

- ‌كلمة في الأدب

- ‌حركة طيبة في لبنان

- ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

- ‌عدوان أفظع

- ‌جاء الحق وزهق الباطل

- ‌الحكم بالقوانين الشرعية

- ‌إلى علماء الشيعة

- ‌إلى أين تمشي مصر

- ‌مات شيخ الأزهر

- ‌نحن وهذه الحضارة

- ‌موقفنا من الحضارة الغربية

- ‌ردّ على أدعياء البعثية

- ‌كلمة في الاشتراكية

- ‌الدعوة إلى الوحدة

- ‌الدعوة القومية والإسلام

- ‌كلمة صغيرة

- ‌موقف الإسلام من العربية

- ‌فضل الإسلام على العربية

- ‌القومية والإسلام

الفصل: ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

نشرت سنة 1937

جاءني أمس طالب ذكي من طلاب البكالوريا في ثانوية دمشق الرسمية ومعه دفتر، فقال لي: أنت رجل يدعو إلى الاجتهاد، صرّحتَ بذلك في مقالتك الأخيرة في «الرسالة» ، فخذ انظر آراء هذا الإمام المجتهد الجديد.

قلت: أنا لم أدعُ إلى الاجتهاد المطلق ولم أفتح بابَه للطالب والجندي والتاجر والصانع، ولكن دعوت إلى تأليف لجنة من العلماء تضع لنا قوانين تستنبطها من الإسلام، نستغني بها عن هذه القوانين الأجنبية التي أصبح أخذنا بها -ونحن أمة منها انبثق نور العلم والتشريع- عاراً علينا، وتجتهد في استنباطها كما اجتهد الأئمة الأوّلون

هذا ما قلت، فمَن هو المجتهد الذي تحمل إليّ آراءه في كرّاسة مدرسية؟

قال: هو الخواجة «فلان» ، رجع من أوربا ومعه ورقة عليها اسمه وصورته وفي أسفلها خاتم مدير الجامعة، سحر بها الوزارة فقالت له: كن مدرّس التاريخ الإسلامي في صف البكالوريا، فكان! ثم أخذت الوزارةَ النشوةُ فقالت له: كن فقيهاً محدّثاً

ص: 199

أصولياً، كن أبا حنيفة

فخذ دفتره فانظر ماذا كان؟

فلا والله ما استُقبلتُ في حياتي بمثل ما استقبلني به هذا الطالب، وما رأيت وما سمعت بأعجب منه: مسيحي يدرّس دين الإسلام!

أوَليس تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخ القرآن ديناً؟ ما بقي والله إلا أن أدرّس أنا تاريخ الإنجيل ومذاهب النصرانية، وأنا لا أعرف كتاباً من الكتب التي ألفها النصارى في هذا الباب، لا أعرف فيه إلا كتاباً لشيخ مسلم. أيّ فرق بين هذا، وبين أن يدرّس هذا الشاب المسيحي دينَنا لطلابنا المسلمين، وما معه من المراجع إلا كتاب مستشرق نصراني؟

أخذتُ الدفتر أنظر ما فيه، فإذا فيه درس للقرآن والحديث والمذاهب الإسلامية في الفقه ونشوئها وأصولها واختلافها، كل آرائه جديد مبتكَر لم يعرفه أحد من العلماء والباحثين ولا يقرّه الدين. فسبّحتُ بحمد الله إذ يؤتي الحكمة من يشاء! وأحببتُ أن أشير إلى طرف من هذه الآراء، أدلّ عليها الناس ليهتدوا بها إلى الحق الذي تجنّب علماءَ المسلمين في الدهر الأطول، ثم جاء في ذَنَب الزمان على لسان «خواجة»

وأن أدلّ على مكان العبرة منها.

* * *

كان الناس كلهم، مذ جاء الله بالإسلام إلى يوم الناس هذا، مجتمعين على أن القرآن جديد في أسلوبه لا يشبه أساليب العرب في مخاطباتهم وآدابهم، وأن الله تحدّاهم به وهم ملوك

ص: 200

القول ومَرَدة البيان، فلم يقدروا على أن يأتوا بمثل سورة صغيرة منه

فجاء هذا «الخواجة» بعد ثلاثة عشر قرناً يبيّن للناس أنهم على ضلال، وأن أسلوب السُّوَر المكية من السَّجْع المعروف عند عرب الجاهلية وبعض كُهّانهم. أين كانت هذه الحقيقة مخبوءة؟

ويعلل «الخواجة ميشيل» اختلافَ أسلوب السور المكية عن المدنية بأن الرسول كان في أول دعوته "في حالة عصبية، يشعر شعوراً مبهماً، وكان مضطرباً، فلذلك أتى أسلوب السور الأولى (أي المكية) عنيفاً متقطعاً مبهماً".

ويتكلم «الخواجة» عن جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن، فيقرّر "أن هذه المجموعة الأولى لم تنل صفة رسمية، بل بقيت كمشروع خاص قام به أبو بكر وعمر". فهل في القرّاء من فهم معنى هذا الهذيان؟ وهل يُسمّى هذا اللغو المخالف للعلم والمنطق تاريخاً يُلقَى على طلبة مدرسة ثانوية؟ والمفروض في التاريخ الذي يلقى في المدارس الثانوية أنه خلاصة الحقائق الثابتة عند العلماء، لا ما يتمخض به ذهن المدرس الجاهل من خيال وسخف وهذيان!

والطامة الكبرى في كلامه على جمع عثمان للقرآن، إذ يقول ما نصه:"ولما ازدادت هذه الخلافات بين هذه الأقطار بشأن النص الأصلي للقرآن صمّم عثمان على وضع نص لا خلاف فيه". وهو كلام صريح في أن عثمان وضع نصّ القرآن!

إننا نترك ما في هذا الكلام من طعن بالإسلام لننظر في قيمته العلمية. أليس معنى هذا الكلام أن الرجل لم يفهم ماذا عمل

ص: 201

عثمان، ولم يتنازل فيقرأ كتاب التاريخ الإسلامي الذي يقرؤه الأطفال؟ كيف يكون مثل هذا مدرّساً لطلاب المسلمين في آخر صف ثانوي؟ ولِمَ لا يكون (على هذا القياس) بائعُ الباذنجان أستاذَ الحقوق الدولية في كلية الحقوق؟ أي فرق بينهما ما داما قد استويا في الجهل بما يدرّسان؟!

* * *

ويا ليت هذا الخواجة وقف هنا، بل هو قد ذهب إلى القول:"الظاهر أن هذا النص الرسمي (يعني القرآن) كان ينقصه سورتان (ما شاء الله!) ذكرهما أُبَيّ (أين ذكرهما يا حضرة الخواجة؟) ويزيد سورتين على نص ابن مسعود"!

أرأيتم أوقح من هذا الافتراء على الإسلام والعلم والحقيقة؟ لقد كان للإسلام أعداء كثيرون من أول يوم ظهر فيه إلى هذا اليوم، ولكن لم يجرؤ واحد منهم على هذا الافتراء لأنهم كانوا أشدَّ احتراماً لنفوسهم من أن يسقطوا هذه السقطة، وأعقلَ من أن يتورطوا في هذا الغلط الشائن!

ونقل أن الخوارج ينكرون سورة يوسف "لأن فيها لهجة غرامية لا تكون في كتاب مقدس"، ولم يبيّن مصدر هذا النقل، ولا هو يدريه! وأنا أعترف بأني لم أعلم ذلك من قبل، فليأتِ بالنص لنعلم مَن هم هؤلاء الخوارج القائلون بهذا القول؟

وينقل عن بعض المستشرقين تفسيراً مضحكاً غريباً لا أصل له في تاريخ ولا واقع ولا نص قديم، هو أن أوائل السور (ألم، حم، ق

إلخ) أوائل أسماء الكَتَبة أو الذين كانوا يملكون النسخ

ص: 202

عندما وُضع (انتبه لكلمة «وُضع» المتكررة) النص الأصلي! وهذا الكلام مخالف للعلم ومنافٍ للدين الإسلامي، لأنه يجعل أوائل السور من غير القرآن وهي من القرآن بالإجماع.

وينقل عنهم مسخرة أخرى لم تخرج إلا من أدمغتهم، هي أن القراءات السبع قد نشأت في القرن العاشر، إذ "اجتمع سبعة علماء وكانت بينهم مناقشات انتهت بوضع هذه القراءات السبع"! فأين ومتى كان هذا المؤتمر ومن ذكره من المؤرخين؟ أم أنه يرتجل التاريخ ارتجالاً ويضعه في رأسه؟ وهل هذا هو التاريخ الذي قرّرت الوزارة تدريسه في مدارسها؟

* * *

ولست أذكر كل ما وجدت من البلايا والخطيئات في هذا الفصل الواحد ضَنّاً بالوقت ورحمة بالقراء، ولكني أمثّل له تمثيلاً. ومن أمثلة هذا العدوان على الحق والإسلام تقريره أن في القرآن ما كان خاصاً بزمانه لا يمكن تطبيقه الآن ولا يصلح، ومثّل له في درس من دروسه بالعقوبات المنصوص عليها في القرآن. والكلام في العقوبات يحتاج إلى فصل، بل كتاب برأسه، وليس هذا محله.

ومن الأخطاء العلمية أنه عرَّفَ «البدعة» بأنها "الخطأ غير المقصود في التفتيش عن الحقيقة". وهذا مثل تعريف المثلث بأنه السطح المحاط بخمسة أضلاع، أو تعريف الفاعل في النحو بأنه الأرض المحاطة بالماء من جهاتها الأربع! وقسّم المسلمين إلى «محافظين» منعوا البِدَع و «أحرار» أخذوا بها، واشترطوا أن يكون

ص: 203

ذلك بالإجماع! وهذا تناقض وخلط لا معنى له، لأن الإجماع لا ينعقد على بدعة، وما انعقد عليه الإجماع فليس ببدعة!

ومن دلائل الجهل المطبق في بحث هذا الخواجة أنه رأى الفقهاء ينقسمون إلى أهل الحديث وأهل الرأي، ففهم أن «الرأي» هو الأخذ بالرأي المجرد وترك الحديث لأنه بزعمه متناقض مبهم! وأن هؤلاء الذين تركوا الحديث فتّشوا عن قواعد حقوقية أخرى، فنشأت المذاهب

واستمر يبحث في المذاهب بحثاً لا يختلف عن أي رواية خيالية تخرجها مخيّلة كاتبها ليدافع بها عن مذهب له، أو يظهر شعوراً يكنّه في صدره أو عاطفة تحويها نفسه. ولقد ظهرت في رواية هذا الخواجة عواطفه نحو الإسلام، وظهر عداؤه وتعصبه وبعده عن الإنصاف وبراءته من العلم والبحث العلمي.

ثم عاد إلى الشنشنة القديمة، دعوى العلاقة بين الحقوق الرومانية والإسلامية. وهي مسألة مفروغ منها، أصبح من الكلام الفارغ وإضاعة الوقت أن يعود إلى التشدّق فيها كاتبٌ أو باحث، وأصبحت مثل مسألة ادّعاء حرق المسلمين مكتبة الإسكندرية

لا رأي للعلم فيها إلا أنها تزوير وافتراء. ثم إنها ليست داخلة في منهج التاريخ ولا يعرفها هذا الخواجة لأنه ليس متخصصاً في الحقوق، ولا يفهمها الطلاب، ولا معنى للبحث فيها إلا الطعن على الإسلام بالحق والباطل وبمناسبة وغير مناسبة!

وختم البحث بقاصمة الظهر (ظهره هو) وبَليّة البلايا وطامّة الطامات، فقال نقلاً عن المستشرق اليهودي غولد زيهر بأن "البدع تصير بالعادة سنّة وينعقد عليها الإجماع فتبث، وهكذا (انتبه!) ثبت النص الأخير للقرآن (أي بعد أن كان بدعة باطلة!) والكتب

ص: 204

الستة (كذلك!) وأعياد المولد (وقد نص الشاطبي على بدعيّتها) والتوسل بالأولياء (وهي من المنكَرات) "

فانظر كيف قرن مسألة أعياد المولد الفرعية بثبوت النص القرآني والكتب الستة، وهي عماد ديننا وجماع الإسلام كله، وماذا يبقى إذا كان الكتاب والسنة بدعة؟

هذا كلام لا يقوله إلا من أعمى التعصّبُ بصيرتَه حتى ما يفكر، وأعمى الجهلُ المركَّب بصره حتى ما يرى ويقرأ، وهذا ما لا يكون إلا بخذلان من الله، ونعوذ بالله من خذلانه.

* * *

وبعد، فإننا لم نملأ صفحات «الفتح» (1) ونتعب قرّاءه الكرام رداً على هذا الجاهل أو اهتماماً به، فهو أهون علينا من ذلك، وهو على الله أشدّ هواناً. ولقد عرفت الأيام من أعداء الإسلام كل وقح وأحمق وسخيف ومزوِّر، فذهب ما جاؤوا به وبقي الإسلام لم يضرّوه شيئاً، لأن الله تعهد بحفظه وجعل العاقبة لأهله. ولكنّا كتبنا هذا الفصل، وأطلنا في التمثيل على هذا الخلط وهذا العدوان، لنأخذ من ذلك عبرة تنفعنا اليوم. ونحن اليوم (في أكثر بلدان الشرق الإسلامي) في مطلع حياة جديدة، نصفي الماضي وننخل الحاضر، ثم لا يبقى إلا المنخول المصفّى من أخلاقنا وأوضاعنا وعاداتنا.

(1) نُشرت هذه المقالة في الصفحة الأولى من مجلة «الفتح» يوم الخميس السادس من شوال 1356، وقد جعلها محب الدين الخطيب، صاحب الفتح، افتتاحية ذلك العدد (مجاهد).

ص: 205

العبرة في هذا العدوان السخيف أن هذه المفتريات -على ظهورها ونتنها- ألقيت على صف عالٍ فيه قرابة أربعين طالباً مسلماً، فما أحسّ بها ولا أنكرها إلا بضعة طلاب، أنكروها بضعف وجادلوا فيها بجهد المُقِلّ، وقَبِلها الباقون جملة وتعصّبوا لها ودافعوا عنها.

أفليس في هذا دليل على أن نزع الدروس الدينية من مناهج التدريس ومن مواد الامتحانات العمومية قد حقق أغراض المستعمرين وأذناب المستعمرين، وأخرج جيلاً جديداً جاهلاً بأصول الإسلام وعلومه وتاريخه، مجرَّداً من الغيرة الإسلامية؟

إنه لم يبقَ إلا أن يُسمّى هذا الجيل جورج وميشيل وطنوس بدلاً من أحمد ومحمد ومحمود! وماذا تغني الأسماء؟ هل يدخل الرجل الجنة بورقة النفوس أو بشهادة الميلاد؟ وهل يصبح القط أسداً بورقة تعلَّق في عنق القط مكتوب فيها أنه أسد؟

فإذا لم تعالَج هذه المسألة بصورة جدية سريعة، وإذا أضعنا هذه الفرصة الأخيرة، جاء وقت لا ينفع فيه العلاج، لأن المريض يكون قد مات! (1)

(1) أطلق علي الطنطاوي نداءه هذا في وقت مبكر ولمّا يستفحل الداء، فكان صرخةَ النذير العُريان. ثم شاء الله أن تتحقق النبوءة ويذهب هُتاف الصَّريخ بلا مُجيب، فضاعت الفرصة وجاء الوقت الذي لم يعد ينفع فيه علاج، ودفع الناس ثمن التخاذل والسكوت: نصف قرن من العناء والبلاء، وما زالوا يدفعون! انظر مقالة «رد على أدعياء البعثية» التي ستأتي في هذا الكتاب، و «الخواجة» المذكور في المقالتين واحد (مجاهد).

ص: 206

والعبرة في هذا العدوان السخيف: أن آباء هؤلاء الطلاب الأربعين لا يعلمون بأن معلم التاريخ الإسلامي لأبنائهم نصراني شيوعي لا يؤمن بدين ولا يقرّ بإله، ويصرّح بذلك في دروسه على طلابه! لا يعلمون بذلك لأنهم لا يهتمون به ولا يسألون عنه أبناءهم

هذه فئة منهم. وفئة تعلم بذلك ولكنها لا تباليه ولا تحفل به، وفئة ثالثة تعلم ذلك وتحفله وتهتم به، ولكنها لا تقدر على شيء لأن كل واحد يتكلم وحده، كل واحد منا يأتي وحده فيدفع الباب فلا يندفع، فيدعه ويمضي معتقداً أنه وفّى ما عليه. ولو دفعناه جميعاً لانهار انهياراً، فيجب أن نأخذ من هذا عبرة ودافعاً إلى العمل المجتمِع، ذلك الذي لم نتعلمه بعد.

والعبرة في هذا العدوان السخيف: أن هؤلاء الطلاب القلائل الذين أنكروا ما سمعوا، وأحبوا أن يردّوه ويعرفوا حقيقته، لم يجدوا كتاباً يتعلمون منه حقائق الإسلام، ومن وجد منهم الكتاب لم يفهمه، لأنه مكتوب بغير لغة هذا العصر لغير أبناء هذا العصر!

ولقد كنت العام الماضي في العراق، فسألني أحد تلاميذي -من طلاب الثانوية في بغداد- عن كتاب واضح منير فيه بيان حقيقة الإسلام وأركانه، يقرؤه فيغدو مسلماً كاملاً ويستغني به عن غيره، فلم أجد ما أدلّه عليه (1)، لأننا لا نزال في حاجة إلى كتاب

(1) انظر مقالة «كتاب في الدين الإسلامي» المنشورة في كتاب «فصول إسلامية» ، وفيها: "ولقد أحسست بهذا النقص منذ ابتداء عهدي بالطلب، وعرضت له في رسائل «في سبيل الإصلاح» التي نشرتها=

ص: 207

جامع يُبحَث فيه عن «الإيمان» أولاً، عن الإيمان الواجب، لا عن المناقشات والفلسفات والردود على الطوائف التي لم يبقَ منها على وجه الأرض أثر، ويكون إيماناً سلفياً مستمَدّاً من الكتاب والسنة. ويبحث عن «الإسلام» ثانياً، أي عن أركانه الخمسة بغاية الاختصار والبيان، وعن «الإحسان» ثالثاً، وهو الجانب الأخلاقي الاجتماعي من الدين.

فلعل صحيفة «الفتح» الميمونة الطالع التي أنشأت، نعم، أنشأت هي «جمعية الشبّان المسلمين» وبثَّت هذه الروح الإسلامية التي تملأ مصر اليوم، لعلها تدعو إلى تأليف هذا الكتاب الذي يقرؤه الشاب فيفهم الإسلام الواضح الفطري البسيط، كما كان يفهمه الأعرابي من جلسات قليلة يجلسها مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

* * *

إن قصة هذا الخواجة تتكرر دائماً ونحن نشتغل دائماً بردّها، أي بالعمل السلبي، ونحن في أشد الحاجة اليوم إلى

= في دمشق إثر عودتي من مصر سنة 1929، بيد أني لم أعرف خطره إلا أمس، حين درّست الدين في مدارس العراق وشرحت للطلاب مزاياه وكشفت لهم عن عظمته، فكانوا يتشوّقون إلى زيادة الاطلاع ويرغبون في متابعة الدرس، فيسألونني عن الكتاب الذي يجدون فيه خلاصة الدين كما يجدون خلاصة الطبيعة أو الهندسة في كتاب واحد، فأفكر فيه فلا أجده

"، واقرأ أيضاً «قصة هذا الكتاب» ، وهو الفصل الافتتاحي في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» الذي صدر بعد نشر هذه المقالة بثلث قرن (مجاهد).

ص: 208

العمل الإيجابي، إلى بناء النافع أيضاً لا إلى هدم الضارّ فقط، إلى إنشاء الحصون الدائمة لحماية عقائد الناشئة، وعرض الإسلام بشكل واضح صحيح، ولا يقوم بهذا إلا العلماء الذين جمعوا بين ثقافة العصر والثقافة الإسلامية والتديّن الحقيقي، وهذه هي «الحلقة المفقودة» ، أما الجامدون فقد ظهر عجزهم عن هذا، لأنهم يعيشون في هذا العصر ولا يعيشون في هذا العصر!

فيا طلاب الأزهر ودار العلوم بمصر، ويا طلاب الكلية الشرعية في بيروت، والخسروية في حلب، ودار العلوم في بغداد، ويا أيها الشباب المسلمون المتدينون في كل مكان: عليكم المُعوَّل، فإلى العمل.

* * *

ص: 209