الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعوة القومية والإسلام
نشرت سنة 1939
مضى قولنا في القومية بإيجاز بالغ حدّ الإشارة. ومقالتنا اليوم في معنى القومية وإظهار مكانها من الدين عَلْواً وسَفْلاً، وخلافاً ووفاقاً، وغرضنا من ذلك الاتفاق على مطمح لنا واحد ونفي التفرق الذي يؤدّي بأهله إلى الفشل، وأن نجمع قوانا التي ننفقها في التنازع والتخاصم ثم نوجهها وجهتها المرجوّة إلى الإصلاح والقوة والتقدم.
* * *
وبعد، فإذا كان معنى القومية بيان فضائل العرب، ونشر تاريخهم، والعناية كل العناية بلغتهم وآدابهم، واتباع سنتهم في كلامهم، فنحن -لا جرم- قوميون، بل إن كل مسلم فيما أحسب قومي، لأن المسلم مهما كانت لغته وكان قومه لا يستطيع أن ينكر فضائل العرب وينشر مثالبهم ويحقرهم ويبغضهم. وكيف لعمر الله يتّبع محمداً ثم يذم صحابة محمد الذين أُخذ عنهم الدين وأُثِرت عنهم الأحكام، وكانوا هم نَقَلة الأحاديث وحَمَلة القرآن؟
والمسلم -حيث كان- مَعني بتاريخ العرب لأنه تاريخ
الإسلام، مشغوف بلغة العرب لأنها لغة قرآنه ولسان نبيّه، واللغة التي بها يخاطب ربه في صلاته ويدعوه في مناجاته، محبّ لأرض العرب لأنها منها انبثق النور وفيها نزل الوحي، وعليها عاش النبي صلوات الله عليه وفيها دُفن، وإليها الحج من أقطار الأرض، فأي مسلم لا يُؤْثر عرفات على بلده، ويفضّل حجرة النبي التي يقوم فيها قبره الشريف على داره وغرفته؟
فأنت ترى بأن الإسلام دعوة عربية، وتعلم أنه صبغ الدنيا المفتوحة بالصبغة العربية في أقل من نصف قرن. فليس بين القومية -بهذا المعنى- وبين الإسلام فرق ولا خلاف، بل إن الدعوة إليها لا تنجح كما نجحت من قبل إلا إن جاءت باسم الإسلام.
وإذا كانت القومية هي السعي للوحدة العربية وإنشاء الدولة العربية القوية، فنحن قوميون عاملون على القومية مجاهدون في سبيلها. ومن يأبى الوحدة ويُؤْثر الانقسام، ويرضى بهذه الحال المضحكة المبكية؟
إن الداعين إلى الوحدة الإسلامية يعلمون أن الجهود يجب أن تُصرَف أولاً إلى توحيد العرب، وهم أعقل بحمد الله من أن يطلبوا وصل بغداد بحيدر أباد قبل أن تتصل بغداد بدمشق! والإسلام -يومَ بدا نورُه- بدأ بالعرب فوحّد بينهم، وجمع شملهم، وألَّف بين قلوبهم، فلما أصبحوا بنعمة الله إخواناً خرج بهم من جزيرتهم ففتح بهم الدنيا، وثَلَّ بهم عروش الطغاة، وأعطاهم مقاليد الأمر والنهي فحكموا بالإسلام المشرق والمغرب، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فالقومية -بهذا التفسير- لا تخالف الإسلام، بل تؤيده ويؤيدها.
أما إذا كان المراد بالقومية أن نجعل الرابطة بيننا اللغة والدم، وأن ننكر أخُوّة الدين ونبرأ من أهلها ولو كانوا في الإسلام على قدم صهيب وبلال وسلمان، وأن ننفي الدين من السياسة وننأى به عن التشريع ولا نباليه ولا نحفله، وأن نهمل صفة النبوّة في محمد صلى الله عليه وسلم فلا نرى فيه إلا زعيماً عربياً ورئيساً قومياً، وأن لا نهتم من القرآن إلا بلغته وبلاغته دون مغزاه وغايته، فالقومية -بهذا المعنى- ليست مخالفة للإسلام فحسب، ولكنها هدم للإسلام من أساسه وعودة إلى الجاهلية الأولى، يوم لم يكن كتاب أُنزِل ولا نبي بُعث ولا نور أضاء
…
وهذه التي قال عنها العارفون إنها دسيسة خبيثة من عمل الإنكليز، بدليل أن شيئاً اسمه «قومية عربية» لم يعرفه العرب قط، وإنما عرفوا عصبية قَبَلية، نعاها عليهم الإسلام وسفَّه أهلها، فاختفت حيناً، ثم ظهرت عند من لا يزعه وازع قوي من دين؛ كالشعراء ورجال السياسة (أعني بعضهم) وناس من الأعراب قالوا قيسية وقالوا يمانية.
ولم تُعرَف هذه الدعوة القومية على الوجه الذي بيّنا إلا في آخر الزمان، حين عجزت دول أوربا عن قتل «الرجل المريض» بزعمهم، فدسّت له سكين القوميات تحزّ في مفاصله وتقطع أوصاله؛ وكان ما كان مما يعرف الناس وما يأبى الله والإسلام، وانتهينا إلى الفرقة في السياسة وفي الأجناس والمذاهب، وصرنا إلى حال لو تأمل حقيقتَها المتأملُ لرأى ما تمَّ منها (في بعض البلدان المسلمة) يدل دلالة البرهان القاطع على أن المراد من هذه
الدعوة القومية هدم الإسلام ومحاربته والرجوع إلى الجاهلية، وهذا ما تجب محاربته على كل من يشهد أن لا إله إلا الله.
* * *
يَضِحُ لك من هذا أن الدعوة الإسلامية لا تهدم من القومية إلا جانبها الخبيث، أما الجانب الطيّب -من نحو إنشاء دولة عربية قوية- فإنها تؤيده وتدعمه. وإذا ظن أحد أن الأخوّة الإسلامية من شأنها أن تجعلنا نمدّ أيدينا مصافحين لكل من جاء يقتلنا ويملك أرضنا باسم الإسلام فقد ظنَّ آثماً، لأن الإسلام لم يكن في يوم من الأيام دين ضعف وتخاذل، وإنما هو دين قوة وأَيْد، وجزاءُ سيئة فيه سيئة مثلها، والعمل على كل ما يقوّي الدولة ويشد أزرها مما يطلبه الدين وتدعو إليه الشريعة.
فيا ليت إخواننا دعاة القومية يحرصون على فهم حقيقة الإسلام، إذن لرأوه الطريق الوحيد إلى ما يريدون والعون على ما يأملون، ولم يفزعوا منه ولم يجزعوا من ذكره، ولعلموا أنه يُكسبهم ثلاثمئة وعشرين مليون أخ (1)، إذا هم عجزوا اليوم عن معونتهم إلا بالروح والعاطفة فسيكونون لهم في غد عوناً باليد واللسان وإخواناً على السرّاء والضرّاء، ويكونون وإياهم كما أراد الله أن يكونوا: إخوة وأعضاء جسد، إذا شكا عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى.
* * *
(1) كانوا ثلاثمئة مليون فصاروا اليوم ألفاً وثلاثمئة مليون، هم المسلمون من غير العرب الآن (مجاهد).