المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحكم بالقوانين الشرعية - فصول في الدعوة والإصلاح

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌التقدمية والرجعية

- ‌الإسلام والحياة

- ‌أساس الدعوة إلى الإسلام

- ‌أين الخلل

- ‌حقائق مؤلمة

- ‌بلا عنوان

- ‌دعوهم وما يقولون

- ‌تعليق مختصر على خبر

- ‌اتفاق الدعاة

- ‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

- ‌وصية وإنذار

- ‌مشكلة

- ‌عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

- ‌الأحاديث الدينية في الإذاعة

- ‌منهج الدعوة وواجب الدعاة

- ‌ماذا يصنع الصالحون

- ‌بيان وإنذار

- ‌الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

- ‌رسالة بلا عنوان

- ‌خدمة الإسلام

- ‌الطريقة الصحيحة للإصلاح

- ‌حصاد ربع قرنفي حقل الدعوة الإسلامية في الشام

- ‌المدرسة الدينية

- ‌في نقد المناهج الدينية

- ‌كلمة تُرضي اللهوتُغضب بعض البشر

- ‌الاختلاط في الجامعات

- ‌كلمة في الأدب

- ‌حركة طيبة في لبنان

- ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

- ‌عدوان أفظع

- ‌جاء الحق وزهق الباطل

- ‌الحكم بالقوانين الشرعية

- ‌إلى علماء الشيعة

- ‌إلى أين تمشي مصر

- ‌مات شيخ الأزهر

- ‌نحن وهذه الحضارة

- ‌موقفنا من الحضارة الغربية

- ‌ردّ على أدعياء البعثية

- ‌كلمة في الاشتراكية

- ‌الدعوة إلى الوحدة

- ‌الدعوة القومية والإسلام

- ‌كلمة صغيرة

- ‌موقف الإسلام من العربية

- ‌فضل الإسلام على العربية

- ‌القومية والإسلام

الفصل: ‌الحكم بالقوانين الشرعية

‌الحكم بالقوانين الشرعية

حديث أذيع سنة 1967

أنا من أقدم المحدثين في الإذاعة؛ فلقد حدّثت من أول إذاعة عربية من نحو ربع قرن ولا أزال أتحدث إلى اليوم، وطريقتي التي لا أحيد عنها هي أن أقول ما يفهمه العامي ولا ينكره العالِم، وأن أجتنب المباحث العلمية لأن مكانها الجامعات والنوادي لا الإذاعات.

هذه طريقتي، ولكني سأحيد عنها في هذا الحديث. إني سأتكلم -مضطراً- بما يعلو عن أفهام العامة، وهذا تحذير، فهل سمعتم بمحدّث يبدأ حديثه بالتحذير من سماعه؟

* * *

قلت إن هذه الحضارة الغربية التي أقبلنا عليها واغترفنا منها فيها ما لا يمنعه ديننا ولا يحرم الأخذ به، فنحن نأخذه مطمئنّين، وفيها ما يحتاج إلى بحث ونظر، وفيها ما يخالف الدين الذي نَدين به والأخلاق التي نتحلّى بها.

أما ما يخالف فهو الذي يطلق الغرائز ويثير الشهوات، ثم

ص: 221

يفتح أمامها طرق الحرام ويسهّلها ويُعبّدها، ويسدّ في وجهها سبل الحرام أو يوعّرها ويضيعها. وسأتكلم عليه في طائفة من هذه الأحاديث.

وأما الذي يحتاج إلى بحث ونظر فأوّله هذه القوانين الجديدة وهذه النظم: ما حكمها في الدين؟ وهل يجوز إقرارها والعمل بها، أم لا بد من اتّباع ما قرر الفقهاء في مذهب من المذاهب الأربعة؟ وما أجيب به الآن هو رأيي الذي أراه، وهو يحتمل الخطأ والصواب، فمن تبين له خطؤه فليصحّحه لي.

إذا فتحتم كتاب «بلوغ المرام» أو «منتقى الأخبار» ، أو أي كتاب من الكتب التي تسرد أحاديث الأحكام، وجدتم أن الأحاديث الواردة في العبادات كثيرة جداً والأحاديث الواردة في المعاملات المدنية قليلة.

وهذا من مزايا الإسلام، ليكون ديناً مرناً يصلح لكل زمان ومكان؛ فالعبادات لا تحتاج إلى تبديل، بل لا يجوز فيها التبديل، ولا مجال فيها للاجتهاد إلا في فهم النص الذي جاءت دلالته غيرَ قطعية تسهيلاً على الناس. أما المعاملات فمن شأنها أنها تتبدل بتبدل الأزمان والبلدان، وتتبدل بتبدل أوضاع الناس وأعرافهم، فوضَعَ لها الشرع قواعد عامة وترك للمجتهدين استنباط التفاصيل.

فقد حدد الشرع -مثلاً- كيف ينعقد العقد وكيف يكون صحيحاً لا فاسداً، وضمن حرية المتعاقدين بنفي الإكراه، كما أنه نفى التغرير والغبن، ومنع أنواعاً معينة من العقود لأنها

ص: 222

عقود مضرّتها أكثر من نفعها، ولم يعتبرها ولو تراضى عليها المتعاقدان، وترك ما عدا ذلك إلى رأي المسلمين، فما رأوه في عصر من العصور حسناً ولم يخالفوا فيه نصاً شرعياً من آية أو حديث كان عند الله حسناً.

فالقوانين والأنظمة الجديدة إن كان فيها تحليل حرام (كما يحلل القانون المدني في أكثر البلاد الإسلامية الربا) فهذا مردود لا نقبله، ولو أجمع عليه المجلس النيابي، ولو اتفقت عليه الأمة كلها، بل نرده ولو أطبقت على القول به أمم الأرض، لأنه ليس لبشر أن يُحِلّ ما حرّم الله، وليس لبشر أن يُسقط عن المكلَّفين ما أوجبه الله عليهم.

هذا في الحرام المتفَق على حرمته والواجب المتفَق على وجوبه، أما ما دون ذلك من الأمور التي أوجبها مذهب من مذاهب المسلمين الأربعة وقال آخر إنها مندوبة لا واجبة، والتي حرمها مذهب وقال غيره إنها مكروهة لا محرَّمة، فهذه أمرها أسهل.

وما جاء في هذه الأنظمة الجديدة من أحكام لم يتعرض إليها الدين بل تركها للمسلمين، كنظام المرور، ونظام الموظفين، ونظام أصول المحاكمات الذي يبيّن طرق المرافعة المؤدّية إلى العدل الذي أمر الله به، فهذه الأنظمة (وهي في حقيقتها قوانين وإن كانت تسمَّى هنا أنظمة) فإننا نقبلها ولا نعترض عليها.

وكذلك القول في قانون العقوبات. إن الشرع حدد عقوبات معيَّنة لبعض الجرائم، كعقوبة القتل والزنا والقذف والسرقة وشرب

ص: 223

الخمر والإفساد في الأرض، فلا يجوز تبديلها ولا التصرف فيها، ومن بدّل عقوبة السارق فجعلها السجن مثلاً محل القطع، إن استحلّ هذا التبديل أو اعتقد أن الذي ذهب إليه أفضل وأعدل يكون قد كفر! أما الجرائم والمخالفات التي لم ينص الشارع عليها فإن عقوبتها متروكة لرأي الحاكم المسلم، فما قرّره -بعد استشارة أولي الرأي والعلم وأصحاب الحل والعقد- يكون قانوناً مقبولاً.

وقد يستفظع الناس عقوبة الرجم مثلاً أو عقوبة القطع. والجواب أن عقوبة الرجم لا تكون إلا بإقرار المذنب، لأن الشرع وضع لإثباتها شروطاً يكاد يكون تحقيقها متعذِّراً أو بعيد الوقوع. وكيف يرى أربعة شهود في وقت واحد ما أوجب عليهم الشارع أن يشهدوا به، ولو كان الفاعلان يفعلان ذلك الأمر أمامهم ما رأوا ذلك لأن أعضاء الإنسان يحجب بعضها بعضاً؟ والعفو، فقد اضطررت إلى هذا التعبير المعقد لئلا أصرّح في الإذاعة بما لا يحسن التصريح به فيها. ومن أقر بالزنا كان له الحق بأن يرجع عن إقراره، ولو كان الإقرار أمام القاضي؛ كل ذلك لأن الحدود تُدرَأ بالشبهات.

وعقوبة السارق لا تكون في كل سرقة، بل في السرقة التي يأخذ فيها الشيء من حِرْز مثله بنيّة امتلاكه، ولا يكون هذا الشيء تافهاً حقيراً بل شيئاً ثميناً له قيمة. فلو وضع تاجرٌ عشرين ألف ريال على مكتبه وترك الباب مفتوحاً وذهب ليصلي وجاء من سرقها فإنه لا يُقطَع، لأنه لم يسرقها من حرز مثلها، ومثل هذا المبلغ لا يوضع عادة على المكتب بل في صندوق الحديد. ومن أخذه من صندوق الحديد وأعطاه لآخر، قالوا إنه لا قَطْع عليه

ص: 224

لأنه لم يأخذه لنفسه، والحدود تدرأ بالشبهات. ومن سرق ريالاً أو بطيخة لا يُقطَع لأن الذي سرقه تافه قليل الثمن.

ومن باب درء الحدود بالشبهات ما فعله عمر من ترك القطع عام الرّمادة، لأن الأمر بلغ بكثير من الناس في تلك السنة إلى حال الاضطرار وجواز أكل الميتة.

ومن الناس من يقول إن قطع اليد عقوبة وحشية لا تليق بهذا العصر. وجوابنا: أولاً: أن هذا حكم الله، فإن رأيتموه وحشياً أو غير وحشي، وإن أعجبكم أو لم يعجبكم، فإننا لا نستطيع أن نتركه ولا أن نلغيه. وهل تريدون أن نصدر مرسوماً نقرر فيه إلغاء آية القطع من القرآن ومحوها من الطبعات الجديدة من المصاحف ومنع تلاوتها؟!

ونقول ثانياً: هل رقبة الإنسان أعزّ عليه أم يده؟ فلماذا تسمحون أن نقطع رقبته عقوبة له على بعض الجرائم، وتستنكرون أن نقطع يده عقوبة على بعضها؟

ونقول ثالثاً: إننا لا نحتاج إلا لقطع يد أو يدين كل عشر سنين، ثم يعمّ الأمن وتبطل السرقات. وهذا ما رأيناه بأعيننا في هذه المملكة أيام الملك عبد العزيز رحمه الله، لمّا جئناها من نحو ثلاثين سنة؛ كنت تترك مالك في الصحراء على الطريق العام، وتغيب عنه شهراً ثم تعود إليه فتجده على حاله ما مسّته يد. لقد كتبت يومئذ أقول إن الصحراء صارت على عهد عبد العزيز آمَنَ من ميدان النجم في باريس، وكانت كلمة حق.

* * *

ص: 225

بقي شيء واحد أحب أن أقوله قبل أن أختم هذا الحديث: إنه لا يكفي في القانون المدني أن تكون أحكامه موافقة للشرع، بل أن يكون مستنبَطاً من الفقه الإسلامي.

والفقه الإسلامي -في الواقع- غنيٌّ غِنىً لا يحتاج معه إلى الأخذ من غيره. إنه أكثر كتباً وبحوثاً وأعمق نظريات، وأصحُّ قواعدَ وأكثرُ تفريعات من القانون الفرنسي. وهذا شيء مشاهَد يعرفه القضاة الذين يرجعون إلى كتبنا وإلى الكتب الفرنسية. والعثمانيون وضعوا «المَجَلّة» فكانت قانوناً مدنياً ممتازاً، وبقينا نحكم بها في الشام إلى أيام حسني الزعيم، ولا تزال الأردن تحكم بها. مع أنها وُضعت في القرن الماضي واقتُصر فيها على مذهب واحد، فكيف لو وضعنا مثلها الآن ولم نتقيد فيها بمذهب واحد ولا بالمذاهب الأربعة، بل بالدليل الشرعي، فإن اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام الاجتهادية ولم يَرِد في هذا الحكم دليل مُلزِم من كتاب أو سنّة، ورأينا العدل في غير ما قالوا به فلا مانع من أن نخالفهم.

تقولون: ما دام الحكم لا يخالف الدين، فما الفرق بين أن نأخذه من الفقه الإسلامي أو من الحقوق الفرنسية؟

الفرق أنها لما كانت عندنا «المجلة» ، مجلة الأحكام العدلية، وكانت هي قانوننا المدني، كنا نرجع فيما لا نصّ عليه فيها إلى كتب الفقه: إلى الحاشية والتنقيح والفتاوى الهندية وأمثالها، فلما جاءنا حسني الزعيم -عليه من الله ما يستحق- بالقانون المدني الفرنسي صار مرجعنا دالّوز وجاستون وشُرّاح فرنسا

هؤلاء صاروا هم أئمتنا!

ص: 226

والخلاصة أيها السادة: إن هذه الأنظمة وهذه القوانين، ما كان منها متعلقاً بأمر لم ينصّ عليه الشرع (كنظام المرور ونظام الموظفين) فهو مقبول، وما كان منها مخالفاً للشرع، يُحِلّ حراماً أو يُسقط فرضاً، فمردود. وإن علينا أن نقتبس هذه القوانين من شرعنا، من أدلّة الشرع لا من مذهب معين، لا نأخذها من قانون أجنبي فنضطر إلى الرجوع إلى كتب أهله.

هذا، واعلموا أن القانون المدني الفرنسي (الذي هو أصل القوانين المدنية الحديثة) وضعته لجنة بأمر نابليون بعد عودته من مصر. وقد ثبت الآن -من محاضر جلسات اللجنة وأوراقها- أنهم اعتمدوا فيه على كتب في فقه الإمام مالك. فإذا كانوا هم أخذوه منا، أفنرجع فنقبسه منهم؟

أيكون عندنا كنز من الذهب، ثم نمدّ أيدينا لنشحد قرشاً؟!

* * *

ص: 227