الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعوة إلى الأصول قبل الفروع
حديث أذيع سنة 1972
الإسلام يحتاج اليوم إلى الدعوة من جديد. لا أقصد دعوة الكفار المخالفين، فهي واجبة، ولكن أمامنا ما هو أوجب وما هو أقرب، وهو دعوة شبان المسلمين والشابات المسلمات إلى الإسلام.
لا تعجبوا، فإن أكثر أبناء المسلمين لا يعرفون ما الإسلام. حتى الذين يصلّون منهم ويصومون، فإن الكثير منهم يصلي ويصوم بحكم العادة، ولكنه لا يعرف أسرار الصلاة والصوم ولا يعرف من أحكامهما إلا القليل.
فكيف ندعو الشبان إلى الإسلام؟
أنا أعرف من الدعاة الصالحين من يأتيه الشاب من هؤلاء يرغب في التعلم والصلاح، فلا يبدؤه بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصحيح العقيدة أولاً، ثم بتعريفه المحرَّمات والكبائر المُجمَع عليها ليتجنبها والفروض الأساسية المُجمَع عليها ليقوم بها، لا يصنع ذلك كله، بل يبدؤه بإطلاق لحيته! وأنا لا أعترض على إطلاق اللحية ولا أزيّن حلقها، ولكن أضرب مثلاً لمن يترك
أركان الإسلام الأصلية ويبدأ بما وراءها، فيبذل جهداً في إقناع الشاب بإطلاق اللحية، لو بذله في تصحيح العقيدة وإقامة أركان الدين لحقق من ذلك ما يريد، ذلك لأن أصعب شيء على الشاب إطلاق لحيته، فإذا عرّفته بالله ولقّنته تعظيمه أطلق لحيته من نفسه بلا كلام، أما إذا بدأت بها فعملها على كره لها، ثم ثَقُل عليه أمرها فتركها فإنه يترك معها الدين كله. وقد شاهدنا هذا مراراً.
هذا مثال، فلا يقل بعض السامعين إن الطنطاوي يدعو إلى حلق اللحى ومخالفة السنة، فإننا في وقت حرج، والإسلام مُهاجَم في عقر داره، والإيمان نفسه مهدَّد. نحن الآن أمام خطر حقيقي وكفر صريح، فأجّلوا البحث في السنن والمكروهات، بل أجّلوا البحث في الأمور المختلَف بين فقهاء المذاهب الأربعة في أنها محرمة أو مكروهة.
* * *
خطيب الحرم في الجمعة الماضية قال كلمة صحيحة، هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث ثلاث عشرة سنة في مكة لا يدعو فيها إلا إلى تصحيح العقيدة وإقرار التوحيد، فلما استقر التوحيد في النفوس وصحّت العقيدة نزلت عليه تفصيلات الشريعة وآيات الأحكام.
فلماذا لا يفعل العلماء والمرشدون والدعاة إلى الله مثل فعل رسول اللهصلى الله عليه وسلم؟ التوحيد هو الأصل، فلماذا نجد من يبدأ بفروع الفروع قبل الأصل؟
جاء مرة شاب ألماني إلى دمشق، هداه الله إلى الإسلام فهو
يريد أن يعرف أحكامه ويتمكن منه، فدلوه على أحد المشايخ، فكان أول ما بدأه به أن يطلق لحيته وأن يختن نفسه، ثم بدأ يعلّمه أحكام الاستبراء والاستنجاء، والخلاف في جغرافية الوجه: هل يحدّه شمالاً أول الجبين أو منبت الشعر؟ وألا يضربه بالماء عند الوضوء لأن ذلك مكروه
…
وأمضى سنة كاملة ما تعلم فيها إلا أقسام المياه، وأنها سبعة: طاهر مطهِّر غير مكروه، وطاهر مطهِّر مع الكراهة، وطاهر غير مطهِّر
…
إلى آخره، وما حكم السمن الذي تسقط فيه فأرة والبئر التي تموت فيها هرة!
وثقوا أني أقول ما وقع، فكانت النتيجة أن الشاب رجع إلى ألمانيا وعاد إلى دينه!
وليس كلامي الآن عن غير المسلمين، بل إن الكثير من شباب المسلمين يحتاج إلى أن تدعوه إلى الإسلام من جديد. إن أعداء الإسلام ينصبون الشِّباك لاصطياد المسلمين، وشباكهم -مع الأسف- من الحرير الناعم، يضعون فيها كل ما يرغب فيه الشبان من ألوان الجمال وأنواع الملذات، يستعينون على اجتذابهم بالنساء وبالصور وبالملاهي، يخاطبونهم باللغة التي يفهمونها، يأخذونهم باسم حرية الفكر وحرية الاختلاط والتحرر من القيود.
بهذا وأمثاله أخذوا أكثر الشبان المسلمين وضمّوهم إلى صفوفهم. فإذا ألهم الله أحد الشبان الرجوع إلى الدين واتصل بأحد المشايخ، فماذا يجد؟
أنا أصف أمراضاً وأقرر حقائق، فلا يعتب عليّ أحد.
إما أن يتصل بشيخ من أرباب الطرق الصوفية، فيلقنه طريقته ويحمله عليها، ويُلزمه بأمور لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا الصدر الأول، ويقول له: إن هذا هو الدين. أو أن يكون الشيخ من الذين اشتغلوا بالفقه كما كان يُعرَف الاشتغال بالفقه من خمسين أو ستين سنة، وذلك بأن يقرأ الطالب على مشايخه كتب الآخرين ويفهمها، ثم يُقرئها ويُفهمها، لا يبحث عن دليل، ولا يفرّق بين الثابت بالنص وما هو مستند إلى عرف أو اجتهاد يخطئ ويصيب، فيتلقى أقوال المتأخرين من الفقهاء على أنها دين لا يُبدَّل ولا يُغيَّر. أو يكون الشيخ من الذين يهتمون بالمظاهر ويشتغلون بالتنظيم عن الغاية، فيدخل في اجتماعاته وتنظيماته، ويتعود الخوض في مسائل معينة لا يعدوها، ويرمي إلى السياسة الحاضرة أكثر مما يرمي إلى التربية الحقيقية
…
وأمثال ذلك.
لا أقول إن جميع المشايخ والدعاة على هذا، لا بل إن فيهم المشايخ العلماء العاملين، ولكنهم قلة، والكثرة تشتغل بالفرع عن الأصل. الكثرة تعيش في محيط ضيق، لا تتعداه بأبصارها ولا تعرف ما وراءه، فلا تقدّر الخطر الذي يحيق بالإسلام ولا تعلم ماذا يصنع أعداء الإسلام.
لا تدري أن الإسلام عاد غريباً كما بدأ غريباً، صار غريباً في بلاده وبين أهله. إن المساجد تمتلئ بالمصلين، والناس يصومون في رمضان، والحجاج يزداد عددهم سنة بعد سنة، ولكن الصلاة والصيام والحج فقدت عند كثير من الناس روحها وبقي جسدها. إن سموم أعداء الإسلام دخلت إلى مجتمع المصلّين الصائمين، إلى بيوتهم، إلى أفكار رجالهم، إلى أزياء نسائهم، إلى مناهج
مدارسهم، إلى قوانين محاكمهم.
* * *
إن الإسلام مهدَّد من أساسه، ولا بد من إعداد خطط جديدة، خطط ترد خطط الأعداء، فنبدأ بالأصل وهو التوحيد، ثم ننتقل إلى ترك المحرمات، ثم إتيان الفرائض، وبعد ذلك نصل إلى الكلام في تطويل اللحية وتقصير الثوب والتسمية على الطعام، وأمثال ذلك من الفروع.
إذا دخلت شوكة في إصبع الولد بين ظفره ولحمه، وغُرِزت فيها، يهتم أبوه ويسرع به إلى الطبيب، لكن إذا كان الولد مصاباً بورم خبيث ووُضع تحت العملية الجراحية، وكان معرَّضاً للموت بين دقيقة وأخرى، ورأى الطبيب الشوكة في إصبعه فإنه لا يلتفت إليها، لأنه يشتغل بما هو أهم، بإنقاذ حياة الولد من خطر الموت.
الأمر والله جِدّ كل الجد، والإسلام مهدد حقيقة، وكثير من الشبان من أبناء المسلمين قد تمكن منهم أعداء الإسلام فحازوهم إليهم، فينبغي أن يكون اهتمامنا كله بالحفاظ على أسس الدين. لنشتغل الآن بالعقائد وبالواجبات والمحرمات.
إن جذع الشجرة قد اشتعلت من حوله النار، فاشتغلوا بالجذع ودعوا الآن الفروع والأوراق.
* * *