الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصية وإنذار
كُتبت سنة 1964 (1)
لمّا أخذت القلم لأكتب هذه الكلمة ذكرت أول مرة جئت فيها الحجاز وعرفت فيها الأخ المزروع؛ لقد كان ذلك من إحدى وثلاثين سنة، تبدَّلت فيها الدنيا غيرَ الدنيا وغدا الناسُ
(1) كان للشيخ عبد الله المزروع كرّاس دأب على أن يستكتب فيه مَن يَمُرّ بمكة من الأعلام ومشاهير الرجال، واستمر على ذلك ثلاثين عاماً حتى اجتمعت له طائفة كبيرة من هذه الكلمات، وتوفي ولمّا ينشرها. ثم أخرجه بعد وفاته ولدُه الدكتور أحمد في كتاب اسمه «وصايا أساطين الدين والأدب والسياسة» ، وقد نشرت الكتابَ ووزّعته «دار المنارة» التي تنشر كتب الشيخ علي الطنطاوي. قال الدكتور أحمد في مقدمته للكتاب: "كنت خارجاً من بيت الله الحرام فالتقيت بفضيلة العالم الأجل الشيخ علي الطنطاوي، وقدمت له نفسي، فابتدرني يسألني عن كرّاس نادر جمعه والدي رحمه الله بخط كثير من الشخصيات والعلماء الوافدين للحج أو للعمرة، وحثّني على الاهتمام بهذا الكراس وطباعته
…
". والكلمة التي تقرؤونها هنا واحدة من الكلمات التي يضمها الكتاب المذكور، استخرجتها منه وأضفتها إلى هذا الكتاب لمناسبتها له، ولأن قلة من محبّي الشيخ والباحثين عن تراثه سيقرؤون كتاب الشيخ المزروع، رحم الله الاثنين (مجاهد).
غيرَ الناس.
لقد كان الأخ شاباً فشاخ، ولكن طيبته في قلبه ووفاءه لإخوانه ونُبله وفضله، لا يزال كله شاباً لا يشيخ.
وكان الحجاز على بقية من القرن الذي مضى: كانت جدة قرية كبيرة لها سور يطيف بها، وكان الطريق منها إلى مكة وعراً قطعناه بالسيارة في نهار كامل، وكانت مكة محصورة بين الجبال، وكانت البلاد محرومة (أو كالمحرومة) من خيرات هذه الحضارة الجديدة. فدخلَت الحضارة الحجازَ من أوسع باب؛ اتسع عمرانه وكبرت مدنه، ونفض يده من القرن الذي مضى ليعيش في القرن الحاضر كما تعيش أعرق البلاد في الحضارة، وانتشر العلم وفُتحت المدارس للبنين والبنات، وصار فيه جامعات.
جاءته الحضارة، ولكن جاءت معها شرورها.
كان للمشايخ فيه سلطان فما أحسنوا استعماله، فزال أو كاد. وكانوا يضيِّقون على الناس ويمنعونهم المكروه خشية الوقوع في الحرام، فواقعوا المكروه والحرام. وألزموهم في التوحيد بمنع التأويل ومحاربة الأشاعرة (وهم جمهور المسلمين)، ففَشَت فيهم فاشِيَة الإلحاد وترك الإسلام
…
وكل ذلك لا يزال بذوراً في باطن الأرض أو نباتاً ضعيف الساق والجذر، ولكنه كل يوم إلى قوة، والمشايخ خاصة وأهل الدين عامة كلَّ يوم إلى ضعف.
إن هذه البذور تجد من يسقيها الماء ويجدّد لها التربة ويمدها بالغذاء، وهم المدرّسون والمدرِّسات الذين يؤتى بهم من البلاد الأخرى. إنها لا تزال المنكرات خفية غير ظاهرة، ولكن
هذه البذور التي نُثِرت في أدمغة الشبّان سرعان ما تنبت.
لقد تسربت إلى هذه الأدمغة مفاسد العصر كلها عن طريق مباشر هم هؤلاء المدرّسون، وفيهم القومي والشيوعي والشيعي والنصيري والنصراني والمنحل الخلق، وكل ذي نحلة فاسدة وخلق ذميم، والمدرّسات الفاسقات المتكشفات. وطريق غير مباشر، هو الإذاعة والمطبوعات ورحلات السعوديين إلى الخارج، ومجيء غير السعوديين إلى البلاد.
إن البلاد على خطر في دينها لا يبدو الآن، ولكنه سيظهر بعد عشر سنوات حين يتسلم طلاب اليوم مقاليد الأمر، لا سمح الله.
لقد نبَّهتُ مراراً وقلت وكتبت فما سمع مني أحد، وقلت ذلك للمشايخ ورجال الحكم فما كان لكلامي أثر، فانتبهوا قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الانتباه.
إني أُحذِّر أبناء هذا البلد الطاهر مصيراً كمصير مصر والشام والعراق في السفور والحسور والفسوق، وضعف الدين وأهله وقوة الكفر وسيطرته.
ولا أملك إلاّ القول، وقد قلت، والله المستعان.
علي الطنطاوي (من دمشق)
مكة المكرمة: غرّة شعبان 1384
* * *