المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في نقد المناهج الدينية - فصول في الدعوة والإصلاح

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌التقدمية والرجعية

- ‌الإسلام والحياة

- ‌أساس الدعوة إلى الإسلام

- ‌أين الخلل

- ‌حقائق مؤلمة

- ‌بلا عنوان

- ‌دعوهم وما يقولون

- ‌تعليق مختصر على خبر

- ‌اتفاق الدعاة

- ‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

- ‌وصية وإنذار

- ‌مشكلة

- ‌عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

- ‌الأحاديث الدينية في الإذاعة

- ‌منهج الدعوة وواجب الدعاة

- ‌ماذا يصنع الصالحون

- ‌بيان وإنذار

- ‌الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

- ‌رسالة بلا عنوان

- ‌خدمة الإسلام

- ‌الطريقة الصحيحة للإصلاح

- ‌حصاد ربع قرنفي حقل الدعوة الإسلامية في الشام

- ‌المدرسة الدينية

- ‌في نقد المناهج الدينية

- ‌كلمة تُرضي اللهوتُغضب بعض البشر

- ‌الاختلاط في الجامعات

- ‌كلمة في الأدب

- ‌حركة طيبة في لبنان

- ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

- ‌عدوان أفظع

- ‌جاء الحق وزهق الباطل

- ‌الحكم بالقوانين الشرعية

- ‌إلى علماء الشيعة

- ‌إلى أين تمشي مصر

- ‌مات شيخ الأزهر

- ‌نحن وهذه الحضارة

- ‌موقفنا من الحضارة الغربية

- ‌ردّ على أدعياء البعثية

- ‌كلمة في الاشتراكية

- ‌الدعوة إلى الوحدة

- ‌الدعوة القومية والإسلام

- ‌كلمة صغيرة

- ‌موقف الإسلام من العربية

- ‌فضل الإسلام على العربية

- ‌القومية والإسلام

الفصل: ‌في نقد المناهج الدينية

‌في نقد المناهج الدينية

حديث أذيع من إذاعة جدة سنة 1968

قبل أن أبدأ هذا الحديث أحب أن أوصيكم بكتابين أرجو أن تحرصوا على قراءتهما؛ كتابين كِدتُ أقول إن على كل مسلم مثقف الاطلاع عليهما، وهما كتاب «الغارة على العالم الإسلامي» وكتاب «التبشير والاستعمار» (1).

(1) كثيراً ما أشار جدي إلى هذين الكتابين ودعا إلى قراءتهما، وهما كتابان قديمان لكنهما ما زالا يُطبعان ويمكن أن يجدهما الناس في المكتبات اليوم. الأول (الغارة) كان في الأصل إصداراً خاصاً من مجلة فرنسية تبشيرية بروتستانتية اسمها «مجلة العالم الإسلامي» ، وقد صدر هذا العدد سنة 1912 بعنوان «الغارة على العالم الإسلامي» أو «فتح العالم الإسلامي» ، فترجمه ولخّصه محب الدين الخطيب بالاشتراك مع مساعد اليافي ونشراه منجَّماً في جريدة «المؤيد» المصرية، فأثار في العالم الإسلامي ضجة وتناقلته وأعادت نشرَ فصوله جرائدُ عدة في عدد من البلدان الإسلامية، ثم نُشر في كتاب مستقل بعد ذلك بسنوات، وهو من أول الكتب التي لفتت انتباه الناس إلى خطر التبشير في العالم الإسلامي. ثم جاء كتاب «التبشير والاستعمار» الذي أصدره سنة 1953 مصطفى الخالدي وعمر فرّوخ فجدد الاهتمام بهذا الموضوع الخطير وزاده جلاء، وهو=

ص: 169

اقرؤوهما تروا أن أعداءنا عرفوا من زمن بعيد أنهم لا يستطيعون أن يغلبونا على أمرنا، ويتحكموا بنا ويسيطروا علينا، ما دمنا عارفين بالإسلام متمسكين به، فجعلوا أكبر همهم وبذلوا أقصى جهدهم في صرفنا عن ديننا، وأعانهم على ذلك كثيرٌ من الدعاة الذين عجزوا عن أن يَدْعوا إلى الإسلام بالأسلوب الذي يفهمه أهل العصر، أو دَعَوا إليه بالغلطة التي تنفّر من الدين، أو تمسكوا بأمور فرعية وتركوا الأصل

وكان من نتائج هذه الحملة من أعداء المسلمين أن أُهملت دروس الدين في المدارس، وصار في أكثر البلاد الإسلامية لأتفه العلوم، بل صار للرسم وللّعب من العناية ومن عدد الحصص ما ليس لعلوم الإسلام كلها، وغدونا أيام الاستعمار والانتداب وما للدين في مدارسنا إلا ساعة واحدة في الأسبوع، وكان لا يدخل في الامتحانات العامة، ولا يرسب الطالب في فصله إن لم يعرف الدين، فسعينا وجاهدنا حتى صارت له ساعتان، ساعتان فقط في الأسبوع!

ولكنا استطعنا بحمد الله أن نطوّر المناهج والكتب حتى

= كتاب جليل خطير الشأن بحق. ومن تمام الفائدة أن أشير إلى كتب الدكتور محمد محمد حسين المتميزة في هذا الباب، ولا سيما كتاب «حصوننا مهددة من داخلها» وكتاب «الإسلام والحضارة الغربية» . وهذه كلها كتب قديمة، لكن الأيام لم تذهب بأهميتها وما تزال جديرة بالقراءة، أما أفضل ما صدر في هذا الباب في السنوات الأخيرة فهو المجموعة المتميزة التي أصدرتها الدكتورة زينب عبدالعزيز، وهي تضم عدداً من الكتب اختارت لها اسماً جامعاً هو «صليبية الغرب وحضارته» ، وأهمها «الفاتيكان والإسلام» و «تنصير العالم» و «حرب صليبية بكل المقاييس» (مجاهد).

ص: 170

أصبح التلميذ يفهم جانباً كبيراً من حقائق الدين في هاتين الساعتين فقط، ومَن نظر في كتب الدين التي كانت مقرَّرة في الشام مثلاً إلى ما قبل خمس سنوات (فما أعرف ما جَدَّ فيها بعد ذلك) رأى أن هذه الكتب تستوفي الكلام على الإيمان، والعبادات، والأخلاق الإسلامية، والقواعد الفقهية، مع ما تشتمل عليه من تصحيح أوضاع المجتمع وفق الإسلام وتطبيق الدين على أحوال العصر، وكل ذلك بأسلوب واضح مشرق جَلِيّ يرغب فيه التلاميذ. والفضل في ذلك لشاب لو كُلِّفتُ أن أختار خمسة من خير من عرفت من شباب المسلمين في هذا العصر لذكرته في رأس الخمسة، شاب كان مفتشاً لعلوم الدين، فعمل في صمت ودأب، وجاهد بإخلاص واحتساب، وصبر على المقاومة وعلى الأذى، وكان يستعين بهذا الدأب وهذا الصبر وبما أوتي من لين القول وحسن الخلق، حتى حقق الله على يديه هذا كله. وأنا أحب أن أسمّيه دلالة عليه، وهو الأستاذ عبد الرحمن الباني (1).

(1) ذكره في «الذكريات» غير مرة، ففي أخبار سنة 1929 (في الحلقة الرابعة والثلاثين) قال:"ودرّست في «الجوهرية»، وكان من تلاميذي فيها واحد نبغ حتى صار من شيوخ التعليم ومن العلماء، وأمضى شطراً من عمره موجِّهاً للمدرّسين مشرفاً على وضع المناهج وتأليف الكتب في العلوم الدينية، لأنه كان مفتّش التربية الدينية في وزارة المعارف، هو الأستاذ عبد الرحمن الباني". وحين رثى عبد الرحمن رأفت الباشا في الحلقة 207 قال: "وكان المفتّشَ العامّ للغة العربية في الشام يوم كان رَصيفه وسَمِيّه الأستاذ عبد الرحمن الباني مفتّشَ العلوم الدينية، فصنعا (صنع الله لهما) للدين وللعربية ما يبقى في الناس أثره وعند الله ثوابه"(مجاهد).

ص: 171

ساعتان يا سادة في الأسبوع، ساعتان فقط، كان منهما هذا الخير كله. فكم من الخير العظيم يأتي من الساعات الثماني التي خُصِّصت للدين في هذه المملكة؟

* * *

قلت في أوائل هذه الأحاديث إن الحكومة ما قصّرت وقد خصصت للدين ثماني ساعات في الأسبوع بالمدارس، وجعلت له المكانة الأولى في الامتحان، فهل كان لهذه الساعات الثماني من الفائدة ما أفادته تلكم الساعتان؟ إذا أردتم معرفة الجواب فانظروا حال الطلاب، وإذا قلتم: عرِّفْنا ما هي الأسباب؟ قلت: هي المنهج، والمدرّس، والكتاب. والكلام في هذه الثلاث لا يُوفّى في حديث ولا في ثلاثة أحاديث، بل يحتاج إلى ثلاثين حديثاً، لذلك أشير إليه إشارة في ثلاث كلمات فقط.

أما المنهج فيُطلَب فيه أن يتعلم الطالب ما يصحح عقيدته أولاً، لا على الطريقة العقلية السخيفة التي تُتَّبَع في كثير من مدارس المسلمين ولمّا كنا صغاراً كانوا يعلّموننا بها، يقولون: كل موجود لا بد له من موجِد، فالنجّار صنع الباب، والبَنّاء بنى الدار، والله خلق العالم؛ فيذهب ذهن التلميذ رأساً إلى هذا السؤال (أستغفر الله): مَنْ خلق الله؟ طريقة سخيفة! ولا بإقامة الأدلة على وجوده، بل بالطريقة القرآنية المبسطة، باعتبار أن الإيمان بالله بديهية. ثم تلقينه خوف الله ومحبته، وتعليمه عبادته ودعاءه. ثم نعلمه من الفقه ما يحتاج إليه في حياته، ما يحتاج إليه فقط، فلا نعلم التلميذ في الابتدائية موجبات الغسل، ولا ندرّس

ص: 172

البنات خيارات البيع وشروط الكفالة.

أما المدرّس فينبغي أن يُعَدَّ لدرس الدين مثل إعداد باقي المدرسين، بحيث يكون مطّلعاً على العلوم الجديدة عارفاً بها، صاحب ثقافة عامة، مُلمّاً بجميع المعارف الإنسانية إلماماً (لا علم اختصاص)، لا أن يقتصر علمه على الدرس الذي يدرّسه فإذا ذُكرت أمامه مسألة في الكيمياء والفلك مثلاً ظهر جهله بها وبعده عنها.

أما الكتاب فالأصل فيه أن يكون مفهوماً وأن يكون ممتعاً. لا أقصد أن يفهمه أستاذ الجامعة وقاضي القضاة، بل أن يفهمه التلميذ الذي سنعرضه عليه. وعندكم مقياس، مقياس حاضر دائماً: إذا أردتم أن تقرّروا كتاباً لفصل من الفصول فهاتوا تلميذاً من ذلك الفصل، تلميذاً وسطاً لا هو بالنابغة العبقري ولا هو بالغبي الخامل، وقولوا له: اقرأ فيه وانظر ماذا فهمتَ منه. ولا بأس بأن تعينوه بشيء يسير من الشرح والتفسير، فإن هو قد فهمه واستمتع به، أو لم يتبرَّم به على الأقل (حتى لو لم يستمتع به) كان كتاباً صالحاً، وإلا وجب تبديله والبحث عن غيره.

إن الكتب عندنا تدرّس الدين على أسلوب لا يفهمه التلميذ ولا يُسيغه، ولا يوجّهه في حياته وجهة الخير ولا يطبعه بطابع الإسلام. وأمامي الآن الكتاب الذي تُلزَم به بنتي الصغيرة (وهي في التاسعة من العمر وفي السنة الثالثة الابتدائية) أنقل إليكم منه هذه الفقرات بحروفها: "اعلم رحمك الله تعالى أن التوحيد هو إقرار الله بالعبادة، وأن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، ومعنى «لا إله إلا الله»:«لا إله» نافياً جميع ما يُعبَد من دون الله،

ص: 173

«إلا الله» مثبتاً العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه".

ومن قسم الفقه من الكتاب نفسه أنقل هذه الفقرات: "الاستنجاء هو إزالة الخارج من السبيلين بالماء الطهور، ويجزئ عنه الاستجمار بالأحجار وكل طاهر مباح مُنَقّ، إذا لم يتجاوز الخارج موضع العادة فلا يجزئ غير الماء، ويحرم الاستنجاء بالعظم والروث والطعام وكتب العلم، ويُشترَط ثلاث مسحات منقّية فأكثر".

وأنا أرجو مَن كان عنده من القُرّاء بنت في مثل عمر بنتي، أو كانت في المدرسة في مثل سنتها، أن يقرأ عليها هذا الكلام وأن يحاول إفهامها معناه.

وهذا كتاب السنة الثالثة المتوسطة، فتحته كيفما اتفق فجاء فيه هذا النص، هذا النص الذي سأقرؤه مقرر على البنين وعلى البنات أيضاً:"ولا يجوز بيع مَكيل بشيء من جنسه وزناً ولا موزون كَيلاً، وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد، ولم يجز النَّسء فيه ولا التفرق قبل القبض إلا بالثمن المثمَّن. وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد، إلا أن يكونا من أصلين مختلفين، فإن فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها، كالأدِقَّة والأَدْهان".

هل فهمتم من هذا النص أي شيء؟ هذا الذي يجب على تلاميذ السنة الثالثة الإعدادية أن يفهموه!

أليست هذه الكتب وأمثالها حجّة علينا نعطيها نحن لأعداء

ص: 174

الإسلام ليقولوا: ما دامت هذه الساعات تُنفَق فيما لا نفع فيه ولا أثر له، فلماذا لا نجعلها لتدريس العلوم التي يفهمها التلميذ ويستفيد منها؟ وإذا هم قالوا ذلك، أفلا يجدون مؤيّدين لهم موافقين على كلامهم من التلاميذ أنفسهم، ومن آبائهم المسلمين المتدينين؟

وإذا كانت المدارس العصرية تهمل تدريس الدين أو تجعل له ساعة أو ساعتين في الأسبوع، وكانت المدارس الدينية (أو مدارس البلاد المتمسكة بالإسلام كمدارس المملكة هنا) تخصها بربع ساعات الأسبوع، ولكنها تُلزم المدرّسين تدريسها من هذه الكتب التي لا تخاطب التلاميذ على قدر عقولهم ولا تنزل إلى درجة أفهامهم، وربما كان المدرّس الذي يدرّسها قد رُبِّي عليها ونشأ فيها فلا يعرف غيرها، فيشرح غامضها بأغمض منه

إذا كان هذا (وهو كائن كله) فكيف ومتى يتعلم التلميذ أحكام دينه؟ وماذا يصنع من كانت له بنت؟ في أي مدرسة يضعها؟

* * *

يا سادة، القمح غذاء للطير، ولو تُرك لأكلته الطيور في سنابله، فجعل ربنا -جَلَّت حكمته- في رأس السنبلة أشواكاً رقيقة تمنع الطائر من الوصول إلى القمح. وهذه الكتب أشواك تمنع التلميذ من الوصول إلى العلم ومعرفة الإسلام! فإن كان ذلك مقصوداً، وكان الغرض وضع العلم أمامه وأن يُمنَع من الوصول إليه فقد حصل المقصود. وإلا فأزيلوا هذه الأشواك ليصل التلاميذ إلى حقائق الإسلام، فإن لم تفعلوا ذهبت الساعات الثماني كل

ص: 175

أسبوع هباء، هي وما يُنفَق عليها من رواتب المدرّسين ونفقات طبع الكتب، ولم يستفد أحدٌ منها شيئاً.

ولا تؤاخذوني إن عدت إلى هذا الموضوع الآن بشيء من التفصيل بعد أن عرضت له بالإجمال في صدر هذه الأحاديث؛ فلقد أعادني إليه ما علَّق به الأستاذ علي حافظ في جريدة «المدينة» مؤيداً ما قلت محبِّذاً له، وما وجدت من الموافقة والتأييد عند كل من لقيت من الناس أو كتب إليّ.

هذه المملكة تقوم بحمد الله على الإسلام، وقد خصصت المبالغ الطائلة في موازنات المعارف والإعلام والأوقاف للإسلام وأولته أكبر العناية والاهتمام، فهل من المعقول أن نهدر هذا كله بإصرارنا على تدريس هذه الكتب بالذات بعد أن ثبت للمدرسين، ولآباء الطلاب، ولمفكّري البلد، ولأولياء الأمر، أنها لم تعد تصلح؟

نعم، إننا نقولها بأصرح لفظ وأعلى صوت: لم تعد تصلح ولا بد من تبديلها. فلماذا لا نبدّلها. هل هي قرآن منزَّل لا يغيَّر ولا يبدَّل؟

والسلام عليكم ورحمة الله.

* * *

ص: 176