الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حركة طيبة في لبنان
نشرت سنة 1938
يسرنا أن نعلن لقرّاء «الفتح» أن في لبنان حركة طيبة تدل على اتجاه فيه جديد، يُدني من الغاية التي تسعى إليها مصر وغيرها من أقطار هذا الشرق الإسلامي. وقد بدأت هذه الحركة بفضح المؤامرة التي دبرها الأستاذ فؤاد أفرام البستاني (خليفة لامانس في تعصبه وغرضه ودسه)، والدكتور أسد رستم زميله في تأليف كتاب تاريخ لبنان الموجز، وما ضمّناه هذا الكتاب الذي عهدت إليهما الحكومة بتأليفه ليكون كتاب تاريخ فجعلاه كتاب أغلاط وأكاذيب وتبشير بالنصرانية، وطبعته جريدة «المكشوف» ، وقُرِّر تدريسه رسمياً في مدارس لبنان، فنهض الدكتور عمر فروخ وزميله الأستاذ النقاش، فنشرا في جريدة «بيروت» فصولاً طويلة فيها نقد تفصيلي وبيان لما في هذا الكتاب من الأغلاط الشنيعة، والكذب على التاريخ، والتحريف والتزوير، والطعن بالقرآن من وراء حجاب. وكان لهذا النقد ضجة كبرى في بيروت نبّهت الناس إلى حقيقة هؤلاء الذين يتسترون بستار العلم والأدب، فوقف تدريس الكتاب، وألفت لجنة لتنظر فيه.
وامتدت هذه الحركة إلى «المكشوف» فشرع الناس
يقاطعونها. وأول من تنبه إلى ضرر هذه الجريدة السيئة من الأدباء الأستاذ عبد الله المشنوق، مدير مدارس المقاصد الخيرية، وكان له معها موقف في العام الماضي باءت فيه هذه الجريدة بالخزي والهوان. وأول من تنبه إلى مقاطعتها من الورّاقين الأديب السيد أحمد شبلي، وكان يكتب فيها وينشرها، حتى إذا تبين له أمرها قاطعها. وانقطع جماعة من الأدباء إلى كشف خبيئها في الصحف، منهم الأستاذ محمد روحي فيصل، وكان من أصدقائها الذين تمجّدهم وتثني عليهم، فلما آثر الحق نالت منه وهجته.
* * *
أما حكاية هذه الجريدة وصاحبها بلا مبالغة ولا تزويق فهي: أن رجلاً يدعى فؤاد حبيش أحب أن يشتهر في الأدباء، ولم يُعرف له أسلوب في البلاغة ولا أثر في الأدب ولا سعة في العلم، فعمد إلى أقصر الطرق، ففاجأ الجمهور بشيء لم يكن يُنتظَر من عاقل، فألف كتاباً دعا فيه الناس -بلغة محطمة مكسرة، وأسلوب ساقط مرذول، وعامية ظاهرة- إلى التعري من الثياب، وإلى التعري من الأخلاق والدين، وإلى هتك ستر الحياء وتمزيق برقع الفضيلة، وبيّن أنه جرب ذلك بنفسه!
وألحّ في هذه الدعوة، ثم علم أنه لن يجد لكلامه سميعاً ولا لدعوته مجيباً حتى يجد الشيطان أتباعاً من الملائكة، فانصرف إلى الدعوة من وراء ستار، وأنشأ مجلة داعرة كأنها ماخور سَيّار، من نوع الصحافي التائه زاده الله تيهاً وعَمَى، موضوعها أخبار الزنا وحكايات الفحش ملطخة بالصور العارية، وسماها بألبق الأسماء
وأشدها انطباقاً على افتضاحها ووقاحتها، سماها «المكشوف» (على حين أن الناس يسألون الله الستر والله يسمي نفسه الستَّار)، فكان هذا الاسم مقالة دائمة قائمة في رأس هذه المجلة تلعنها أبداً، وكان ما صنع هذا الأحمق بنفسه نهاية الجهل والخذلان.
وكان عندنا في الشام كثير من هذه المجلات، تُنشَر بين الشبّان والشابات على مسمع الحكومة والجمعيات الإسلامية وبصرها، فأخذت على «المكشوف» السوق فلم تدع لها قارئاً، لأن هذا القلم الضعيف الذي يحمله هذا الحبيشي لا يصلح لفضيلة ولا لرذيلة، لا يصلح إلا للنار، فبارت وأفلست، فانتقل من الكلام على الدعارة الجنسية والانحلال الأخلاقي إلى الكلام على الانحلال اللغوي، وجمع لها طائفة من الشباب على شاكلة صاحبها ومثله، وأصدرها «أدبية» . لكنْ مَن تراه يقرؤها وفي الدنيا «المقتطف» و «الزهراء» و «السياسة» ، ثم جاءت «الرسالة» و «الرواية» ، إلا من سَفِهَ نفسه وأضاع عقله؟ ففكر الحبيشي وقدّر، وانتهى إلى الأخذ بحكمة بشّار حين هجا جريراً ليكون أشعر الناس، فشرع يهجو، فلا يرى إلا الإعراض والاستصغار فلا يستحي ولا يخجل، لأنه:
إذا قَلَّ ماءُ الوجه قلَّ حياؤه
…
ولا خيرَ في وجه إذا قلَّ ماؤه
ولا يَني يفتش عن أديب جديد له شهرة وله مكانة يتعلق بأذياله، فعلق بالشاعر بشارة الخوري فلم ينل منه منالاً، فمال إلى أدباء الشام فلم يلقوا لهذيانه بالاً، فانصرف إلى أدباء العربية، أدباء مصر، يحسب أنه -لِمَا فشا من سره وطمَّ من بلائه، وشاع من اسمه وتردّد على الألسنة تردد الفضيحة الحمراء والوصمة
المخزية، لا تجيء إلا ومعها اللعن- يستطيع أن يهدم بهذه الورقة المسوَّدة بالعار الأدبَ العربي في مصر، فجاء ينطح الصخرة برأسه، ولكنه لم يضرها ولم يؤثر فيها. وكيف وهي ما هي؟
ثهلان ذو الهَضَبات هل يَتَحلْحَلُ؟
هذه هي قصة المجلة التي يألم بعض إخواننا المصريين من تعرّضها إليهم وتعلقها بأذيالهم، ما زدتُ في سردها على ما أعلم أنه حق
…
والتي تدعو اليوم إلى طرح البيان العربي بتوجيه همم الشباب إلى العناية بالمعنى دون اللفظ، لتصرفهم بذلك عن لغة القرآن، وتدعو إلى عُصْبة لبنانية، يَنْبَتُّ فيها أدباء هذا الجيل من جبال الشام من جسم الأدب العربي، وتدعو (ويسوؤني أن أقرر هذا الواقع) إلى عصبية نصرانية تُلقى فيها العداوة والبغضاء بين أهل البلد الواحد، وتبلغ بها الحماقة ويبلغ بها الغرض الذي يعمي ويَصُمّ إلى أن تنشر في الصفحة من صفحاتها هجاء فلان وفلان من أكابر كتاب العربية وأدبائها، ومَن هم بُناة بيانها الجديد ومفخرتها وعزها، وتدّعي أنهم ليسوا شيئاً، وتنشر في الصفحة بعدها تقريظ فلان وفلان من صبيان المتأدبين والتراجمة في لبنان!
* * *
لقد غدا أمر هذه المجلة معروفاً عندنا كل المعرفة، حتى ما يأبه أحد لها ولا يصرف إليها باله، ثم تألفت اللجان لمحاربتها على نحو ما بيّنا في مطلع هذا المقال.
هذا ولا نسجل هذه القصة اهتماماً بالمكشوف، وإنما نسجلها على أنها ظاهرة جديدة وحركة طيبة في لبنان (1).
* * *
(1) من منهجي أنني أدع مقالات علي الطنطاوي التي كتبها في مناسبات مضت وظروف انقضت فلا أضمّها إلى أي من كتبه الجديدة، لكنني آثرت نشر هذه المقالة هنا لما وجدته من تشابه الظروف وإن تباعد الزمان؛ فإن تكن هذه الجريدة قد ماتت واندثر خبرها فلم يعد يذكرها أحد، فإن الرّحِم الذي أخرجها ما زال يُنجب، وإن لها أخوات ما زلنَ يولدن. فلتكن هذه الصرخة التي أطلقها الشيخ قبل سبعين عاماً تحذيراً من «مكشوف» ذلك الوقت تحذيراً من «مكشوف» كل وقت، ولولا أنني أنزّه هذا الكتاب عن أن يكون بوق دعاية لهذه الجرائد والمجلات لذكرتها بأسمائها، لكني أُعرض عن ذلك ليجهلها من جهلها ويهجرها من عرفها (مجاهد).