الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج الدعوة وواجب الدعاة
حديث أذيع سنة 1963
كنت قبل ثلاثين سنة معلماً في مدرسة ابتدائية، وكان معنا معلم شيخ قليل العلم كثير الادّعاء، يعرف من الإسلام أطرافاً يظن بأنها الدين كله. قُرع جرس الدرس مرة، وكان أحد المعلمين عطشان فتناول كأس الماء ليشرب قبل أن يدخل الفصل، فصرخ به صرخة جعلت حلقه يَشْرق بالماء وكفه تسقط الكأس. قال له: خالفت السنّة، شربت قائماً (1) ولم تُسَمِّ، وشربت جرعة واحدة لا ثلاثاً.
وكان جدال تحول إلى معركة، دعت إليها شدة ذلك الشيخ وتركه المعروف عند الأمر بالمعروف.
وقامت في دمشق نهضة دينية من نحو أربعين سنة، دعا إليها شيخان صالحان، تبعهما الناس أفواجاً وأقبلوا على دروسهما، وكادت تُصلح البلدَ لولا أن هذين الشيخين جعلا رأس الدعوة ومِلاكها العمامة واللحية وإخراج الأولاد من المدارس الحكومية، وكانت هذه أركان الإسلام عندهما، مع أن إطلاق اللحية وإن كان
(1) مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرب قائماً.
من السنّة فليس من أركان الإسلام (1).
وانتشرت في دمشق من سنين مشكلة شغلت العلماء شهوراً، ونُشرت فيها رسائل وأُلِّفت فيها كتب وكُتبت فيها مقالات، وانقسم أهل العلم فيها قسمين، فلا تسمع في كل مجلس إلا جدالاً. ولعلكم لا تصدقون إذا قلت لكم إن هذه المشكلة الكبيرة التي شغلت العلماء ليست محاربة الإلحاد الفاشي ولا الفساد المنشر، ولا نصرة الفضيلة وقمع الرذيلة، بل هي مشكلة التراويح: هل هي عشرون ركعة أم هي ثمان؟ وصارت هذه هي مشكلة المشكلات في الإسلام في تلك الأيام!
وأنا ما ضربت هذه الأمثلة (وعندي عشرات من أمثالها، ولكني اجتزأت بها)، ما ضربتها إلا لأبيّن للناس اختلاف صور الإسلام في نفوس أهله.
إن الإسلام في حقيقته واحد، ولكن أفهام الداعين إليه اليوم والناطقين باسمه تباينت في فهمه، حتى صار لكل واحد منهم مفهوم للإسلام غير مفهوم الآخر. وقد يشك في هذا الكلام كثير من السامعين ويترددون في تصديقه، ولكنه هو الواقع.
كل واحد منا يتمسك بمجموعة من المسائل الفرعية يجعلها هي الدين. هذا يرى الدين في دفع الشبهات عنه ورد هجمات الهاجمين عليه، وإن لم يكن هذا المدافع متمسكاً بالفرائض
(1) تحدث علي الطنطاوي في ذكرياته عن هذه الحركة التي سُمِّيت «نهضة المشايخ» . انظر الحلقة 23، وهي في الجزء الأول من أجزاء الذكريات (مجاهد).
منتهياً عن المحرمات. وذاك يراه في الإقبال على العبادة وملازمة المساجد، ولا يعنيه بعد ذلك ما يكون من كيد خصوم الدين له وانصراف أبنائه عنه وفشوّ الضلالات فيهم. والمقلدُ الدّينُ عنده مذهبه الذي يقلده، والذي يتبع شيخاً يظن الدين ما يقوله هذا الشيخ وما يفعله، وثالث يرى الدين في ترك المذاهب والأخذ من الكتاب والسنة ولو كان الآخذ عامياً جاهلاً
…
ومن يرى الدين في تكبير العمامة وتعريض اللحية وتطويل السبحة، ومن يرى الدين في صدق المعاملة والوفاء بالوعد وإن لم يُصَلِّ ولم يَصُم، ومن يراه في الصلاة والصيام ولو كان في معاملته الناس على غير ما يريد الإسلام.
وأنا أكرر القول إني لا أنكر أن إعفاء اللحية مثلاً من السنة وأن العبادة هي ركن الدين، وما أدعو إلى حلق اللحية أو تهوين شأن العبادة، معاذ الله؛ إنما قلت إن الإسلام واحد، ولكن إذا فتشت عن صوره في نفوس المنتسبين إليه وحَدِّه في عقولهم تجد صوراً مختلفات وحدوداً متباينات، بعضها باطل وكثير منها حق، ولكنه بعض الحق، يأخذ أصحابها أحكاماً فرعية أو آداباً من آداب الإسلام فيجعلونها هي الإسلام كله.
وهذه إذاعة «صوت الإسلام» ، وأول ما يُطلب من محدّثيها تحديد الإسلام الحقيقي ورسم طريق الدعوة إليه.
إن مَرَدّ أخطائنا في الدعوة إلى أمرين؛ الأول: أننا نبدأ بالفرع قبل الأصل، والمهم قبل الأهم. الثاني: أننا نختلف على هذه الفروع، فنهمل الدعوة إلى الأصول.
مع أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم. كيف دعا رسول الله إلى الإسلام؟ إنه بدأ أولاً بتصحيح العقيدة وتثبيت التوحيد في النفوس، ثم ثنّى بالنهي عن المحرمات، ثم أمر بإتيان الفرائض، ثم عمد إلى السنن والآداب. وكان الأعرابي يأتي من باديته فيجالس الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً أو بعض يوم، فيتعلم أصول الإسلام ويذهب إلى قومه داعياً ومبشراً.
فلماذا لا نفعل كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس هو قدوتنا، وبه الأسوة الحسنة لنا؟
* * *
إننا نحتاج إلى دعوة جديدة إلى الإسلام في بلاد المسلمين وبين شبان المسلمين قبل أن ندعو إليه في أوربا وأميركا، لأن أكثر هؤلاء الشبان يجهلون الإسلام، ولأنهم أصبحوا كأنهم غرباء عنه، وهذه حقيقة نقررها مع أشد الأسف.
فيجب أن نعرض عليهم الإسلام الواضح الخالي من الغموض، البسيط البعيد عن التعقيد، بأصوله المجرَّدة عن التفريعات، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من يجيئه من الأعراب. نلقّنهم أولاً ما يثبت به توحيد الله في نفوسهم، لا بمناقشة الجهمية والمعتزلة ومن كان من المخالفين الذين مضوا ولم يبقَ لهم أثر، ولا بإثارة المشكلات والشبهات والاشتغال بردّها، بل نلقنهم التوحيد كما جاء في القرآن، ونضع في قلوبهم محبة الله وخشيته، ونعلمهم أنه مطّلع عليهم وأنه لهم بالمرصاد، ثم نبين لهم المحرَّمات ونحملهم على اجتنابها، والفرائض
وندعوهم للقيام بها.
ولا بد لي من بيان أن المحرمات والفرائض قسمان، قسم وردت فيه آيات وأحاديث صريحة قطعية الدلالة ليس فيها مجال للاجتهاد، وقسم وردت فيه آيات وأحاديث أراد الشارع -توسعةً على الأمة- أن يكون فيها مجال للاجتهاد.
فالقسم الأول لم يختلف فيه العلماء أصلاً؛ لم يختلفوا في حرمة القتل والزنا واللواط والربا وأكل مال الناس بالباطل وعقوق الوالدين
…
فهذه وأمثالها لا يجوز ارتكابها ومن استحلّها كفر. ولم يختلفوا في وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وأداء حقوق الناس وأمثالها، فهذه وأمثالها لا يجوز تركها، ومن استحلّ تركها كفر.
أما ما اختلفت فيه مذاهب أهل السنة (أي المذاهب الأربعة) فذهب بعضها إلى تحريمه أو وجوبه وذهب بعضها إلى كراهته أو سنيّته، فينبغي أن نأخذ الشاب -ونحن ندعوه إلى الإسلام ونرغّبه فيه- بأخفّها عليه، ما دام لهذا الأخف مستنَد، وما دام قد قال به من يُعتَدّ بقوله من الفقهاء.
وإذا علّمناه الفرائض، الصلاة مثلاً، فلنعلمه كيفيتها الصحيحة كما علمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابَه حين قال:«صلّوا كما رأيتموني أصلّي» ، فلا ينبغي أن نُلزم الشاب بحفظ الشروط والأركان والواجبات والسنن والمندوبات والمفسدات، فيستعظم الأمر ويستصعبه فيتركه جملة، إلا إذا كان طالبَ علم يريد الانقطاع إليه
…
فإذا صحت عقيدته، وعرف الحرام فاجتنبه،
وعرف الفرض فأتاه، وذاق حلاوة الإيمان، لقنّاه السنن والآداب ورغَّبناه فيها.
* * *
والشيء الآخر هو أن بين العلماء خلافاً على أمور اجتهادية يجوز في مثلها الخلاف، فهذه لا ينبغي أن نشتغل بالمناظرة فيها ولا أن نشغل العامة بها. والتراويح ليست فريضة، فإذا لم يُصَلِّها العامي عشرين ركعة وصلاها ثماني، أو أبى الثماني وأكمل العشرين، فإنه لا يترتب على ذلك حدث في الإسلام نشتغل به عما هو أهم منه، من دفع هجمات الملحدين وتعليم شبان المسلمين حقيقة الدين.
أنا أرجو من العلماء أن يتعاونوا على ما اتفقوا عليه، ويتركوا الخلاف فيما يختلفون فيه إن كان من الأمور الاجتهادية التي اختلفت فيها أفهام الفقهاء ومداركهم.
لقد هَبَّت اليوم عواصف من المذاهب الباطلة والشبهات ومن الفساد الذي يطلق الغرائز ويثير الشهوات، وهذه العواصف توشك أن تطفئ شعلة الإيمان في نفوس كثير من أبناء المسلمين، ونحن -معشر الدعاة والوعّاظ- نختلف على الجزئيات، أو نبدأ في الدعوة بالفروع قبل الأصول.
وإذا نحن لم نعد بالإسلام إلى حقيقته، ونأخذه من ينبوعه فنعرضه على الشباب صافياً رائقاً، وتكن دعوتنا إلى المعروف بالمعروف، لا نكون قد قمنا بعمل ولا نكون قد أدّينا الواجب.
* * *