الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى أين تمشي مصر
؟
نشرت سنة 1947
ذهبتُ أمس أعود الأستاذ الشيخ حسن البنا في مستشفى الروضة، فما كدت أسأل عنه حتى ابتدر إليّ جماعات من الشبان، كلٌّ يريد أن يسير معي يدلّني على غرفته ويطمئنني عن صحته وعن نجاح عمليته، وكلٌّ يتكلم وفي عينيه بريق الحب وفي صوته رنّة الإكبار، حتى دخلت عليه فوجدته مضطجعاً على سرير أصفر من أسرّة المستشفى، في غرفة ضيقة ليس فيها بهاء الغنى ولا أُبَّهة الترف، ولو شاء لحلَّ في أفخم سرير من أعظم مستشفى، ولاتكأ على وسائد من ريش النعام والتفّ بملاحف من حرير القز، ولكنه في مرضه مثله في صحته: لا يحب أن يكون كالآخرين: يستمتع بلذيذ المآكل وناعم اللباس وفخم السيارات وعالي القصور باسم الدعوة وبمال الجماعة!
ووجدت على كراسي الغرفة وفوق أنضادها وفي كل بقعة فيها شباباً متخشّعين كأن على رؤوسهم الطير، يستمعون إليه ويأخذون عنه. وسلمت عليه، فألفيته كعهدي به يوم لمحته أول مرة منذ تسع عشرة سنة، لم يتغير ولم يتكبر ولم يبطر، يقابل من حوله بوجه كأنما أضيئت فيه المصابيح من الإشراق،
ويكلمهم بلسان كأنما يقطر منه العسل من الحلاوة، ويتواضع لهم ويُشعرهم أنه واحد منهم، ويعظهم متحدثاً لا معلماً، فتبلغ الموعظة مبلغها وتؤثر أثرها، ويعلمهم سائلاً مستفهماً، ويأمرهم راجياً أو ملتمساً
…
وكان مجلسٌ لله وللعلم وللوطن، مجلسُ جِدٍّ في دنيا اللهو، وطهر في عصر الآثام، كالواحة الخضرة في الصحراء المقفرة.
وجرى ذكر المستشفيات فقلت له: لِمَ لا يفتح الإخوان مستشفى؟ فنظر إلى رجل كان قاعداً -من ضيق المكان- على حافة سريره، وقال له: ما قولك يا فلان؟ خاطبه باسمه مجرداً من الألقاب، في مودة ولطف يلينان القلوب القاسية ويعطفان الأفئدة النافرة، فكيف بأفئدة المريدين المحبين؟ ولم تكن إلا دقائق حتى تمَّ الأمر وأنشئ المستوصف الجديد للإخوان، وسيرى الناس عمّا قريب أركانه قائمة وبابَه إن شاء الله مفتوحاً.
* * *
وخرجت فركبت الترام وفي نفسي من أثر هذا المجلس مثل أثر القصة العظيمة تقرؤها وتنتهي منها، والنغمة العذبة تسمعها، وكان الترام خالياً، فلم أكد أستقر حتى دخل عليّ شابان يلبسان أردية بلا أكمام ولا أردان، وكانا ظاهرَي الخنوثة حتى كأنهما فتاتان وُضعتا في جلد رجلين! فألقيا بأنفسهما على المقعد إلقاء، فاضطجع أحدهما اضطجاع العروس المدلَّلة على سريرها ورفع الآخر رجلاً فوق رجل فعل الراقصة على مسرحها لتظهر المستتر منها! فاغتظت منهما وتمنيت لو أجد باباً إليهما لأضع عليهما لساناً كالمبرد الحامي، فأداويهما به من داء الخنوثة كما
تُداوَى بالكيّ الإبل الجربى، ولكني لم أجدْ، فأغضيتُ عنهما، وأغمضت عينيّ وتناومت وأنا أسمع حديثهما. ولن أروي بالنص هذا الحديث، ولكني ألخصه للقراء:
قال أحدهما: وما هذا العقّاد؟ إنه يحتاج إلى «ديكشينري» حتى يُفهَم
…
لماذا لا يكتبون بلغة سهلة؟
وأفاض في حديث الأدب بمثل هذا الأسلوب وهذا الفهم، يخلط كلامه بالفرنسية تارة وبكلمات من الإنكليزية لا أعرف ما هي أخرى، حتى سأل رفيقه: هل بدأت المطالعة؟ لقد قرب الامتحان.
قال الآخر: لا، إني لم أستطع.
قال: طبعاً يا أخي، أنت مشغول بما هو أهم.
وضحك ضحكة بَغِيّ وَقَاح.
قال: لا، أبداً.
قال: وفلانة؟ (وسمّى اسمها).
قال: ليس بيننا إلا أنها زميلتي وأني أقرأ معها.
قال: تقرأ في جروبي وفي طريق الهرم؟
قال: هو أنا الوحيد الذي يعمل هذا؟
وتشقّقَ الحديث عن فضائح منكرة وحكايات لها رائحة منتنة، لا أنقلها، وإن كان فيها دليل جديد لنا على وجوب انفصال
الجنسين، في الجامعة والسوق والمخزن وكل مكان، فلا يلتقيان إلا على نسب أو زواج.
وغَثَت نفسي من هذه الأحاديث ولم أستطع أن أصغي إليها، فتركتهما ونزلت من الترام، وجعلت أقابل بين المشهدين وأوازن بين الجماعتين، وأفكر: لمَن منهما تكون الغَلَبة ويُكتَب النصر؟ أيهما يجرّ مصر معه في طريقه ويوجهها وجهته؟ لمن يكون غَدٌ ويكون المستقبل: للجِدّ أم للهزل؟ للعفاف أم للفسوق؟ للبلاج أم للمسجد؟ لجماعة المستشفى أم لرفيقَي الترام؟
أما أنا فلست خائفاً من الفساد ولو كَثُرَ أهله وقَوِيَ أنصاره، ولا يائساً من الإصلاح ولو طالت سُبُله وقلّت وسائله. وهل ييأس الرُّبان مهما اضطرب البحر وعلا الموج وهو يبصر أعلام الشاطئ؟ وهل يخاف البردَ -مهما اشتد وقَرَس- من يحس نسائم الربيع؟ وهل يخشى الظلامَ -مهما تراكب وأطبق- من يرى طلائع الفجر؟
لا، لست متشائماً ولا أحب التشاؤم، ومعاذ الله أن أقصر عليه قلمي أو أقف عليه لساني؛ ولكني أنظر إلى الأمام فأجد أن الطريق مديد والمنزل بعيد، والمسلك وعر والحوائل من صخر، فأصيح بالقافلة أن جِدِّي وأسرعي، لا تنقطعي
…
وأنظر إلى الوراء فأرى أنها قطعت مراحل طِوالاً وجازت عقبات شِداداً، فأقول لها: قفي واستريحي لئلا تهلكي.
* * *
فتعالوا ننظر إلى الوراء لنرى كم قطعنا من الطريق: لقد
أقمت في مصر 1928، فما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد ولا يخطر على باله) أن سيجيء يوم يكتب فيه فلان وفلان من الكتّاب، أعني المجدّدين، في السيرة وفي التاريخ الإسلامي وفي منزل الوحي، ويدعون إلى الإسلام ويمجّدونه، فجاء هذا اليوم ورأيناه. وهَبوهم كتبوا رياء وتجارة وابتغاء الربح، أليس معنى هذا أن الناس قد تبدّلوا حتى صارت تَرُوج فيهم كتب الإسلام؟
وما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد) أن هؤلاء النفر من الشبّان الذين اجتمعوا في المطبعة السلفية في شارع الاستئناف، ليعملوا للشبان المسلمين جمعية كجمعية الشبان المسيحيين، سيكونون في سنة 1947 نصف مليون شاب تضمهم جمعيات الإخوان والشبّان والهداية وأنصار السنة وشباب محمد.
وما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد) يوم كان المتعلمون في مصر يلهجون بالفرعونية، والعامة لا يعرفون إن كانت بغداد في الشام أو القدس في العراق، أن الفكرة الإسلامية ستكون سنة 1947 ظاهرة جلية لكل مصري.
وما كنت أظن يومئذ، يوم لم يكن في مصر مجلة إسلامية إلا «المنار» و «الفتح» (ولا يظن أحد) أنه سيكون فيها جريدة إسلامية يومية، وأكثر من عشر مجلات أسبوعية وشهرية، ومجلة هي في مقدمة المجلات الأدبية منزلة وقيمة وانتشاراً، يستطيع أن ينشر فيها رجلٌ مثلي مثلَ الكلام الذي أنشره اليوم في «الرسالة» .
وما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد) أن طلاب الأزهر سينازلون الحكومة مطالبين بجعل الدين درساً أساسياً في جميع
مدارس الدولة، وبتوسيع مناطق الوعظ والإرشاد حتى تشمل جميع المراكز، وإنصاف الأئمة والخطباء.
وما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد) أنه لن يبقى سنة 1947 رجل فرنسي في سوريا ولبنان، ولن يبقى جندي إنكليزي في مدن مصر، إلا أن يدخلها متنكراً، كالبضائع المهرَّبة والحشيش والأفيون وجرثومة السل والكوليرا ولصوص المنازل! وأنها ستكون للدول العربية جامعة رسمية، لها في عالم السياسة مكانة مرموقة وفي آذان الأمم صوت مسموع.
هذه كلها خطوات في طريقنا خطوناها ومراحل قطعناها، وإنها تستحق أن نقف عليها لنستريح منها ونستبشر بها ونحمد الله عليها. ولكن هل انتهى الطريق؟
تعالوا ننظر الآن إلى الأمام كم بقي علينا.
* * *
هذه الجمعيات الإسلامية، فيها عدد كبير ونفع قليل، يهم أكثرَها المظهرُ لا الجوهر، تشتغل بالتافه الحقير وتهمل الجليل الخطير، تخضع لأفراد والله أمر بالشورى، ويجهل أعضاؤها حقائق الإسلام والعلمُ بها فرض، وهذا الجلاء ناقص في مصر لا يتم حتى يشمل وادي النيل كله، وهذه المجلات الإسلامية أكثرها لا يستحق أن يقرأ أو يُشترَى، والصحافة الفاجرة أعلى صوتاً وأبهى طبعاً وأكثر عدداً، والأفلام الداعرة تزداد انتشاراً ويزداد الناس عليها إقبالاً، ومظاهر الفسوق على السواحل تقوى سنة
بعد سنة، وجماعة المستشفى مَثَل نادر كالنسخة المخطوطة من الكتاب القيّم، وشابّا الترام النموذج الشائع كالكتاب المطبوع، فلمن منهما تكون الغلبة ويكون النصر؟ أيهما يَجُرّ مصر معه في طريقه ويوجّهها وجهته؟ لمن يكون غَدٌ ويكون المستقبل
…
إلى أين تمشي مصر؟
لقد كان لنا أستاذ يعلمنا التاريخ، كان ضابطاً في الجيش العثماني، وكان له قانونان هما عنده الأصلان اللذان تُرَدّ إليهما حوادث التاريخ كلها، وهما قانونا الوجود: أولهما أن الشيء المصادم للطبيعة لا يدوم، وثانيهما أن كل شيء يمشي على محيط دائرة: فهو يبدأ من الحضيض، ثم يعلو حتى يبلغ الأوج، ثم ينحدر. الطفل يولد ضعيفاً ثم يحبو ثم يدرج، ثم يبلغ أشده وينازع -مِن جهله- اللهَ في ملكه، ثم يعود طفلاً بلحية بيضاء. والقمر يكون هلالاً ثم بدراً ثم يدركه المحاق. والشجرة والحزب والحكومة وكل ما في الوجود، وإنما تتفاوت الأشياء في مدة العلوّ والانحدار.
فهل هذا الذي نراه في الصحف والأفلام والشواطئ من التكشف طبيعي؟ أوَلا يؤدي إلى غلبة الشهوة حتى نصير كالعجماوات، ثم إلى موتها بالألفة حتى نصير كالجمادات، وكلاهما مصادم لطبيعة البشر؟ إنه إذن لن يدوم. ثم إنه أمر بلغ آخر مداه واستكمل فتوّته، وما بعد الفتوة إلا الكهولة فالعجز فالهلاك. أما «جماعة المستشفى» فأمرها هو الأمر، وهو اليوم ضعيف ضعف الطفولة ليِّنٌ لين الغصن، ولكن بعد الطفولة شباباً أيّداً، وبعد الغصن جذعاً راسخ الجذور باسق الفروع ممتد
الظلال
…
فهو إلى زيادة وذاك إلى ضعف، والمستقبل لهذه الجماعة وإلى غايتها مصر تمشي، ولكنها تمشي متعثرة فسدّدوا خطاها وخذوا بيدها، وكونوا في عونها جميعاً لا أشتاتاً، فإن يد الله على الجماعة، وأصلحوا أنفسكم ليصلحها الله بكم، وسينصر الله من ينصره.
* * *