الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحاديث الدينية في الإذاعة
نشرت سنة 1988
قال لي قائل: ما أكثر الأحاديث الدينية في الإذاعة!
قلت: بل ما أقلها!
إنّي لأفتح عيني ثم أغلقها
…
على كثيرٍ ولكنْ لا أرى أحدا
إنها كثير إذا عُدَّت، قليل إذا قُوِّمت. وهل يكون محدِّثاً وداعياً إلى الله ناجحاً كل من فتح كتاباً وسرد ما فيه؟ إن من المحدثين من يختار كتاباً كبيراً من كتب الحديث فيقرأ منه، يقرأ كل يوم نصف صفحة أو صفحة ويأخذ المكافأة من الإذاعة عليها، ولو استمر عشرين سنة لما أتى على نصفه! ومن يعمد إلى علم من العلوم المقرَّرة المعروفة، كالفقه وأبوابه والحديث وعلومه والسيرة والتاريخ، فيقرأ منها حصة يحسبها علينا حديثاً!
إن من هذه الأحاديث ما هو كالنوافير الصناعية، التي يراها الرائي تعلو في الجو يضرب بعضها بعضاً تلمع في عين الشمس، فيحسبها قد انبثقت من مَعين لا ينقطع، وما خرجت إلا من علبة مغلقة فيها ماء يحركها المحرّك فيقذف بها إلى العلاء، ثم يعود الماء من حيث جاء، خرج منها ثم رجع إليها.
أنا لا أدعوكم أن تأتوا في أحاديثكم بشيء جديد، فلا يمكن لأحد أن يأتي في الدين بشيء جديد، لأن كل جديد في الدين لم ينزل به قرآن ولم تَرِد به سُنّة يكون بدعة مردودة وحَدَثاً في الإسلام منكَراً. لا أريد التجديد في الموضوع، ولكن أريد أن تجددوا في الأسلوب. إننا في حاجة لعرض حقائق الإسلام في ثوب جديد. لقد جَدّت أمور وحدثت أوضاع ليس لها ذكر في هذه الكتب، لأنها لم تكن على عهد مؤلفيها ليتكلموا فيها، ولا بد من بيان حكم الإسلام في هذه الأمور وهذه الأوضاع.
نحن أمام حضارة جديدة لم يعرفها أجدادنا، حضارة وَسَمتنا بسماتها ودخلت علينا بحسناتها وسيئاتها، فما موقف الإسلام من هذه الحضارة؟
نحن أمام دعوات جديدة لم تكن على عهد أجدادنا الذين ألّفوا تلك الكتب، فما موقف الإسلام من هذه الدعوات؟ لقد واجه الإسلام على أيامهم دعوات الباطنية والخوارج والشيعة الغالية وأمثالها، فعرفوا كيف يردون عن الإسلام كيدها، فكيف نردّ نحن اليوم كيد الماركسية والقومية الملحدة والقاديانية والبهائية والعلمانية؟
نحن أمام نظريات جديدة في الفلك وفي علم الحياة وأمام كشوف جديدة في الفيزياء والكيمياء وغزو للفضاء، فما موقف الإسلام من هذه الكشوف وتلك النظريات؟
نحن أمام قوى هائلة منظَّمة، تخطط لها عقول كبيرة شريرة وتملك أسلحة خطيرة كثيرة، تعمل كلها على إخراج الجيل
الجديد منا من الدين أو إدخال الشك عليهم في عقائدهم، فكيف نعمل على رد هذه القوى وإنقاذ الجيل الجديد من خطرها؟
كيف نردّ نساءنا عن التكشف الذي يأباه الشرع، والاختلاط الذي تنكره السلائق العربية؟ كيف نعيد المسلمين إلى أخوّتهم ووحدتهم؟ كيف نشرح لهم حقيقة الإسلام الذي يجهل أكثرهم حقيقته؟ كيف نعمل على تعليم المسلمين أمور دينهم وتلقينهم خوف ربهم؟ كيف نقرب إليهم معاني قرآنهم الذي يتعبّدون به في صلاتهم، يتلونه في كل مسجد ويسمعونه من كل إذاعة، لعلهم إن فهموه رجعوا إليه فعملوا بما فيه؟ كيف نعرض عليهم سيرة نبيهم عليه الصلاة والسلام، في نفسه ومع أهله ومع أصحابه، لنعود إلى مثل ما كان عليه الرسول وأصحابه؟ كيف نحدّثهم أحاديث أرباب القلوب ونروي لهم أنباء الصالحين من العلماء العاملين، لا من جَهَلة المتعبّدين ولا من أصناف المبتدعين ولكن من الزهاد العابدين، علّ هذه المواعظ ترقق قلوبهم وتخفف عن عواتقهم من أثقال المطامع والشهوات، ليَخِفّوا فيستطيعوا الركض في طريق الجنة؟
ونأتي خلال ذلك بأحاديث فيها من طرائف التاريخ وصور المجتمع، تنويعاً للفائدة وتنشيطاً للنفس.
* * *
لما كنت أعمل أنا وأخي ناجي على تحقيق الكتاب العظيم للواعظ العظيم، كتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي، وضعت له مقدمة طويلة جاءت في الطبعة الأولى في أكثر من سبعين صفحة،
درست فيها حياته وآراءه وأدبه، فكان مما وجدت أنه كان يجتمع إليه عشرون ألفاً أو ثلاثون ألفاً، وربما بالغ المبالغون فأوصلوا عدد المستمعين إلى مئة ألف. فكنت أعجب منه وأستكثره وأحسبه مبالغة، وأسأل: كيف يسمع هذا الجمع العظيم؟ ثم رأيت أنه يتكلم متمهلاً، يسوق الجملة بعد الجملة، فينقلها مَن دنا منه إلى من نأى عنه. ذلك يوم صار الوعظ صناعة ينقطع ناس إليها، يشتغلون بها ويدأبون عليها، وكان مدارها على ترقيق القلوب وإسالة المدامع وتحريك العواطف (1). بدأ ذلك قبل انقطاع عهد الخلفاء الراشدين، حتى إني أحفظ (وإن لم أتثبّت بالمراجعة الآن من صحة هذا الذي أحفظ) أن علياً رضي الله عنه منع القُصّاص (وكانوا يسمون الوُعّاظ القُصّاص) واستثنى الحسن البصري.
وصار لمجالس الوعظ مظاهر شكلية وترتيبات عجيبة، وصف بعضَها ابن جُبَير الأندلسي في رحلته حين زار بغداد وتكلم عن ابن الجوزي، ووصفها ابن الجوزي نفسه، فقد كان يحتشد لها الناس ويأتون قبلها بساعات، يحجزون المحلات ويدفعون فيها الأجور البالغات، وتوقد الشموع، ويبدأ المجلس بتلاوة الآية أو الآيات التي سيتكلم الواعظ في تفسيرها، يتلونها بالأصوات الحسنة والأنغام المتعددة، وتتخلل الموعظةَ أبياتٌ من الشعر، ويكون فيها الصياح والصراخ والتوبة والاستغفار، ولهذه التوبة صورة ما عرفها السلف، ويكون فيها قص الشعور. ولم أحقق ما
(1) على ما فيها من أحاديث يروونها لم تثبت عند أهل العلم، وإسرائيليات ينقلونها لا دليل عليها من الإسلام، وقصص مبالَغ فيها أو هي موضوعة من أصلها.
حكاية قص الشعور هذه التي يُكثر ابن الجوزي من ذكرها.
وما أريد أن أجعل هذه المقالة عن ابن الجوزي، فمن شاء رجع إلى مقدمتي لكتابه «صيد الخاطر» (1) فقرأ ما كتبته عنه. كنت أحسب ما ذكروه عن عدد المستمعين لابن الجوزي مبالغة، ولكني أجد اليوم أنه صار من المشاهد المألوفة أن المستمعين إلى أصغر محدِّث في الإذاعة يبلغون الملايين.
لم تكن في الأيام الخالية هذه المكبِّرات للصوت، ولا هذه الإذاعات التي صارت منبراً للمصلحين وللمفسدين، وللمعلمين وللمطربين، ولمن يذكّر الناس بربهم ولمن يصرفهم عن ذكر ربهم.
وأنا أعرف إذاعة المملكة من يوم أُنشئت أنها أُنشئت ليقول المحدّث فيها كلمة الصدق ويجهر منها بدعوة الحق، أُنشئت ليهدم المحدِّث فيها ويبني: يهدم الجدار المائل، لكن لا يتركه كومة من التراب بل يبني مكانه جداراً جديداً قائماً قوياً. يقتلع من الأرض النبات الخبيث والشوك المؤذي، ولكنه لا يدع مكانه أرضاً قاحلة بل يزرع فيها أفانين النبات، لينعم الناظر بألوان الورد والزهر وينتفع الطاعم بأنواع الثمر.
(1) الذي أنبّه هنا إلى أنه كتاب عظيم، فيه منفعة وفيه متعة، فيه دنيا ودين، فيه أدب وتاريخ، وهو في فقرات قصار كأنها اليوميات التي تُنشَر في الجرائد هذه الأيام (وأقدمها في مصر يوميّات الصاوي:«ما قلّ ودلّ» ، وفي الشام يوميات يوسف العيسى في جريدة ألف باء قبل ستين سنة).
نحن لا ننكر المنكر ونمشي، بل نقف حتى نُحِلّ محلَّه المعروف.
* * *
إننا نريد أن ننشئ أمة جديدة، أمة مسلمة تمشي على سنن السلف، لتعيد مجد السلف وعز السلف. فكيف ننشئ هذه الأمة؟
كيف ينشئ الباني الدار؟ إنه يختار الحجارة، ثم ينحتها، ثم يشدّ بعضها إلى بعض. وحجارة بناء الأمة أفرادها، ولا تنشأ أمة صالحة من أفراد فاسدين. فلنبدأ بإصلاح الأفراد.
ولا بد هنا من شرطين؛ شرطان لا بد منهما لبلوغ الغاية التي نرجوها من هذه الأحاديث الدينية في الإذاعة، شرطان اثنان: واحد يُطلَب مني أنا المحدِّث، والآخر منكم أنتم يا أيها المستمعون.
أما الذي يطلب مني فهو أن أبدأ بنفسي فأعظها، لأن واعظ المسجد ومحدث الإذاعة ومعلم المدرسة، إذا لم يعظ نفسه لم يستطع أن يعظ الناس. إن فاقد الشيء لا يعطيه، والنبع الجاف لا يمد السواقي بالماء، والقلب الذي يملؤه الظلام لا يضيء للسالكين الطريق، والفؤاد الذي فيه الثلج لا يبعث في السامعين حرارة الإيمان، والعالم والمحدّث الذي يطمع في أموال الناس وفي دنيا الحكّام لا يستطيع أن يعظ الناس ولا أن ينصح الحكام.
والكلام الذي يخرج من القلب هو الذي يقع في القلب،
والذي لا يخرج إلا من اللسان لا يجاوز الآذان. ورب كلمة تسمعها من عامي جاهل تهزك هزاً وتبعث في قلبك الخشوع وتسيل من عينيك الدموع، وخطبة طويلة حوت جواهر البلاغة ودرر البيان تسمعها فلا تحرك منك شعرة واحدة. فالذي يطلبه الناس من الواعظين (ومني إن كان لي شرف الدخول في زمرة الواعظين) أن يحاولوا وعظ أنفسهم قبل موعظة الناس.
والذي يُطلَب من السامعين: أن يسمعوا هذه الأحاديث من الإذاعة ليعملوا بها، لا ليتخذوها تسلية ويقطعوا الوقت بسماعها، وأن يبدأ كل واحد منهم بنفسه فيصلحها. إذا أصلح الأب نفسه وراقب الله وكان معه بقلبه كان الله معه، فسخّر لطاعته زوجته وولده. وليكن بفعله أوعظ منه بقلبه، فلا يقل لأولاده اصدقوا وهو كاذب، ولا يأمرهم بالصلاة وهو لا يصلي، ولا ينهاهم عن الحرام وهو يفعل الحرام.
فإذا تاب الأب من ذنبه وأصلح ما بينه وبين ربه، فليلتفت إلى أسرته فيحاول إصلاحها، فإن الأمة مجموعة من الأسر، فإذا صلحت الأسر صلحت الأمة، والله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
فإذا بدأ كل سامع بنفسه فأصلحها وألزمها السير على طريق الشرع ولو خالف هواه ورغبة نفسه وأعراف مجتمعه (أعني التي تخالف الدين)، وقدّم طاعة الله وابتغاء رضاه على متابعة الناس وطلب رضاهم، وإذا عزم المحدِّث عزماً صادقاً على التوبة، وبدأ بنفسه فوعظها فتاب من ذنبه، وعزم السامعون على العمل بما
يسمعون
…
كان لهذه الأحاديث -إن شاء الله- أثرٌ باقٍ في صحيفة المحدِّث وصحائف المستمعين يوم تُعرَض صحف الأعمال على الله رب العالمين.
* * *
أما الأحاديث فإنها كالغذاء أو كالدواء. الغذاء إن كان كله دهناً ودسماً، ليس معه ما يثير الشهية ويبعث الرغبة، أعرض عنه الآكل وصعب تناوله عليه مع علمه بحاجته إليه. والدواء إن كان مُرّاً لا يُساغ أباه المريض ولو أيقن أن فيه الشفاء.
لقد قلت من قبل في أحاديثي في وسائل الإعلام إننا لما كنا صغاراً، وكانت البَرْداء (الملاريا) منتشرة بين الناس لم يُقضَ عليها كما قُضي عليها الآن والحمد لله، كانوا يداوونها بخشب الكينا، يأخذون قشور شجرته فيَغْلونها غَلْياً ثم يسقوننا منها، وهي مُرّة مرارة الحنظل أو العلقم. فكنت أفرّ منها، وربما أخذتها فصببت ما في الكوب وراء الوسائد! (وكنا نقعد على الأرض، ما كانت عندنا هذه المقاعد والأرائك).
ويستطيع الطفل الآن أن يتناول هذا الدواء فلا يحس به، ذلك أنهم أخذوا خلاصته (1)، يأخذون القليل من هذا المر، وهو العنصر الفعال فيه، فيُغَشّونه بغشاء من السكر الحلو، فيأخذه المريض فلا
(1) أي العنصر الفعّال فيه، ويدلّون عليه عادة بإضافة هذه اللاحقة:«إين» إلى الكلمة فيقولون «كينين» ، كما يقولون عن العنصر الفعّال في القهوة «كافيين» ، وعربوه فقالوا «قَهوين» .
يحس بمرارته، بل يذوق حلاوة الغشاء الذي أحاط به.
إنها قد قست القلوب، وغلب عليها حب الدنيا وملأتها مشاغل الحياة وهمومها ولذاتها، فلا بد من أن نحتال عليها حتى نذكّرها بربها وبآخرتها، وأن ندور من حولها لنجد الباب الموصل إليها.
ما خلق الله قلباً مغلقاً، بل جعل لكل قلب مدخلاً. والمداخل شتّى: فمن الناس من تدخل إليه من باب الترغيب، أو من باب الترهيب، ومن ينفعه الدليل العقلي، ومن يفيده الحافز العاطفي
…
ومن المحدّثين من يُعرِض عن هذا كله، لا يفكر فيه ولا يلتفت إليه، ويحسب أن المطلوب منه مجرد الإخبار بأن هذا الفعل يُدخل الجنة وذاك يستحق صاحبه النار.
ومَن مِن الناس يجهل أن الصدق خير، وأن الكذب شر، وأن الأمانة أفضل من الخيانة، وأن من يمشي مُكِبّاً على وجهه ليس كمَن يمشي سَوِيّاً على صراط مستقيم؟
إن هذه الحقائق الكبرى يعرفها الناس كلهم، حتى من يرتكب المعاصي. من يشرب الخمر هل يعوّد عليها ولده؟ بل خذوا مثالاً أقرب، خذوا المدخّن الذي لا تنفك أصابعه ممسكة بالدخينة، يطفئها بعد أن أشعل الأخرى منها، إذا رأى ولده يأخذ دخينة من علبته، هل يشجّعه عليها ويقول له: خذها! أم يبعده عنها ويلومه عليها؟ ذلك لأنه يعلم أنها شر، ولكنه يزعم أنه لا يستطيع الخلاص منه.
* * *
إننا لا نريد موعظة بعيدة عن الحياة، يسمعها السامع كأنه يستمع حديثاً بلسان غير لسانه، بل نريد الموعظة الممتزجة بالحياة. لا نريد زيتاً مختلطاً بالماء، إذا تركته عاد منفصلاً يهبط الماء فيه ويعلو الزيت، بل ماء ممزوجاً به الخل، قد صار منه حتى لا تفرق فيه بين الخل والماء.
لا نريد أن تكون دروس الدين في المدرسة بعيدة عما هو في المجتمع فلا يرى التلميذ سبيلاً واضحاً لإدخاله فيها؛ بل درساً مَبنيّاً على وصف ما في المجتمع: نَصِفُ الدواء ثم نسمّي له الدواء. إن الله لم ينزّل القرآن جملة واحدة كما أنزل الكتب من قبله، بل أنزله آية بعد آية، أو آيات بعد آيات، نزل مرتبطاً بالحياة، مقوِّماً عوجها، مصحِّحاً خطأها، سامياً بها: قال المشركون في مكة أقوالاً فنزل قرآن بحكاية هذه الأقوال وردّها، وكانت الهجرة فنزلت آيات في الهجرة، وكان الإفك فنزل القرآن بردّ ما أفك المفترون، وكانت مسألة أسرى بدر فنزل بها قرآن، وكانت بيعة الرضوان فنزلت الآية تتكلم عن بيعة الرضوان
…
جاء الدين مرتبطاً بالحياة؛ كلما تلونا هذه الآيات ذكرنا ما كان، فجعَلْنا ديننَا -إذ ندرّسه في مدارسنا- بعيداً عن حياتنا. أنزل الله القرآن ليكون دستوراً نتبعه وقانوناً نطبقه، فاكتفى أناس منا بتلاوة ألفاظه والتطريب في قراءته، وافتتاح الحفلات واختتامها به، وبين تلاوة الافتتاح وتلاوة الاختتام ما لا يرضي الله ولا يوافق الإسلام.
أليس هذا الذي يجري في كثير من بلاد المسلمين؟ لو كان القرآن يؤثر فينا كما أثر في عمر وغير عمر من الصحابة الأولين، فبدّل حياتهم ونقلهم من حال إلى حال، لو كان الناس يعلمون
أننا في هذا كأسلافنا، هل كانت الإذاعات في البلاد التي لا تحب الإسلام ولا تود أهله، هل كانت تفتتح إذاعتها بالقرآن؟
* * *
وبعد، فإن أحاديث الإذاعة ومقالات الصحف ليست كدروس المدرسة، ففي المدرسة طلاب محصورون، وللإذاعة مستمعون وللجريدة قارئون لا حصر لهم.
طلاب المدرسة مُلزَمون أن يحضروا من أول الحصة إلى آخرها، إن غابوا كان لهم مَن يتفقّدهم وإن غفلوا وجدوا من ينبّههم، ومستمعو الإذاعة وقُرّاء الجريدة ليس عليهم رقيب، إن شاؤوا فتحوا الرادّ فسمعوا وإن شاؤوا أغلقوه فاستراحوا، ومنهم من يسمع من الحديث كلمة من هنا وكلمة من هناك، ومن يسمعه من آخره فلا يعرف ماذا كان في أوله. وقرّاء الجريدة إن شاؤوا قرؤوا المقالة، وإن شاؤوا جازوا بها وتركوها، وإن شاؤوا قرؤوا كلمات منها. ثم إنهم متباينون فهماً وإدراكاً وعقيدة واتجاهاً، فالمحدث البارع والكاتب الناجح هو مَن يستمع إليه أو يقرأ له أكبر عدد منهم. المهم أن يستمعوا وأن يقرؤوا، ثم لا يضر المحدّثَ أو الكاتبَ ليكون ناجحاً أن يوافقوه أو أن يخالفوه، إن المهم هو أن يقرؤوه.
ولست في مقام مَن يوجّه الكُتّاب والمحدِّثين، وفيهم كثير ممّن هو أعلم مني علماً وأوسع إدراكاً وأشد إخلاصاً، ولكنها ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
* * *