الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بلا عنوان
نشرت سنة 1968
أنا -يا إخوان- أزدادُ اقتناعاً كل يوم بأن أحاديثنا في الإذاعة وكتاباتنا في الصحف والمجلات، كلها لا تفيد.
لقد تكلمنا كثيراً، فماذا أفادنا الكلام؟
لقد ألقيت أول خطبة عامة سنة 1345هـ، أذكر ذلك تماماً، وأنا من ذلك اليوم إلى اليوم أتكلم وأخطب وأكتب، وغيري يتكلم؛ آلاف الكتّاب والخطباء يكتبون ويخطبون، يملؤون الطروس (1) بروائع الفكر وبدائع الأدب، ويهزّون أعواد المنابر بمُعجزات البيان ومأثورات الخطب. فماذا كانت النتيجة؟
لقد شهدت عُرى الإسلام في هذه السنين الأربعين تنفصم عروة عروة، لقد شهدت صرح الإسلام يُهدَم لبنة لبنة!
نحن كل يوم إلى ضعف وخصومنا إلى قوة. لم يكن في بلدنا قبل هذه السنين صوت يرتفع بما يخالف الدين، لم يكن فيها من يكتب أو يقول ما ينافي الإسلام. كانت المدارس، حتى على عهد
(1) الطُّروس (والأَطْراس): الصحائف، والمفرد طِرْس (مجاهد).
الانتداب، تدرّس الإسلام وعلوم الإسلام. كان المدرسون -على الغالب- صالحين مصلحين، وكان الطلاب -على الأغلب- من المسلمين المتمسّكين بالدين. لم يكن في بلدنا كله امرأة واحدة سافرة ولا فجور مُعلَن، وكانت المساجد عامرة، وكانت الملاهي مقفرة، بل لقد كانت معدومة، ما كان في دمشق كله إلا ملهى واحد صغير حقير.
فماذا صار فيها اليوم، وفي أكثر بلاد المسلمين؟
كان العلماء -على ضيق أذهان أكثرهم، واقتصارهم من العلم على كتب معينة يَقرؤونها ويُقرئونها- كانوا على هذا هم مرجع البلد وموئل الناس، وكانوا الأدلة في مسالك الحياة. فما حال العلماء اليوم؟ وكان الناس يقفون عند حدود الحلال والحرام، ويسألون في كل نازلة عن حكم الله، ويربّون أولادهم وبناتهم على خوف الله ووفق شرع الله، فما حال الناس اليوم؟
فماذا أفادت الخطب، وماذا نفعت الأحاديث؟
إنها تنفع وتفيد لو كان بعدها عمل، لأن كلَّ عمل أوّلُه كلام، أما إن اقتصرنا على الكلام فعلينا وعلى كياننا السلام! الطبيب يقول لك كلاماً: يصف لك الدواء لتستعمله، فتُتبع هذا الكلامَ عملاً، أما إن اكتفيت من طبّه بسماع كلماته، لم يكن بُرء ولم يأتِ الشفاء.
* * *
يا إخوان، هل أنتم مستعدون لسماع الحقيقة ولو كانت
مؤلمة؟ الحقيقة: إننا نقول وخصومنا (أعني خصوم الإسلام) يعملون، ونحن ننام وهم يسهرون، ونحن نشتغل بحكم السُّبحة ونكتفي من الإسلام بالدعوة إلى تقصير الثوب وتطويل اللحية، وهم يدرسون أحوال كل بلد ووضعه الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ويضعون لكل بلد المنهاج الموافق له لتضليل أولاده وناشئته وإخراجهم من دين الإسلام.
يخططون لعشر سنين وعشرين، ونحن لا ننظر إلى أبعد مما بين أرجلنا ولا نمد أبصارنا لنرى ما أمامنا، ننتظر حتى تقع الواقعة فنعقد المؤتمرات ونتخذ القرارات، ونخطب الخطب الصاخبة المزلزلة ونكتب المقالات الملتهبة، ولكنها لا تحرق إلا أصابعنا، وعدوّنا ماض في طريقه لا يبالي بنا، لأنه خَبِرنا وعرفنا وعلم أنه ليس عندنا إلا الكلام وليس في خططنا إلا الارتجال.
وفيمَ نكتب؟ في موضوعات معروفة قد فرغ العلماء من الكتابة فيها، ننقل مما في الكتب، لا نجدد ولا نبتكر ولا ندع الكتب لننظر إلى الحياة. نشتغل بالفروع والأصل مهدَّد، نحافظ على أوراق الشجرة والمنشارُ يعمل في قطع جذعها، نداوي أصبع المريض من أثر وخزة الشوكة، وندع المريض يعاني سكرات الموت من مرض القلب!
قد فصلنا ما بين كتاباتنا وحياتنا، فانصرف الشبّان عن كتاباتنا حتى صار من إضاعة المال أن ننفق على ثمن ورقها وحبرها. إنها تكرار واجترار وبحث في الفروع وفي الآداب، مع أن الأمر أخطر بكثير من البحث في الفروع وفي الآداب
…
الأمر أمر كفر وإيمان!
الإسلام مهدَّد. إنه لم يمرّ على الإسلام خَطْب كالخطب الذي يمر به في هذه الأيام.
كان في الماضي أفراد ملحدون أو جماعات محدودة تحارب الإسلام، ولكن الإسلام اليوم يواجه قوى ضخمة. إنها دول غنية بالمال وبالسلاح، وعقول كبيرة شريرة تخطط لهذه الدول وتضع لها المناهج المدروسة؛ أموال تُعَدّ بآلاف الملايين، وبشر يُعَدّون بالملايين لتطبيق هذه المناهج.
لقد استطاعوا أن يغزوا آخر بقعة من العالم الإسلامي، وأن يدخلوا في أصغر حلقة من المجتمع الإسلامي.
دخلوا إلى المدارس فدسّوا ما يريدون في مناهجها، دخلوا إلى المحاكم فرفعوا منها أحكام الإسلام، دخلوا إلى وسائل الإعلام كلها فسخّروها لمآربهم، دخلوا إلى البيوت فتحكّموا في الأزياء وفي العادات
…
لم يسلم منها أحد.
أفسدوا العقول بالمذاهب والشبهات وباسم حرية الفكر. أفسدوا الأخلاق باسم الانطلاق والتحرر والروح الرياضية والحياة الفنية والحرية الجامعية، وبغير ذلك من الأسماء التي تتعدد ألفاظها ومعناها واحد، هو إذهاب العفاف وإضاعة الأعراض.
فماذا صنعنا نحن أمام هذا كله؟ كتبنا مقالات كل ما فيها مكرَّر مُعاد، وخطبنا خطباً أكثرها كلام فارغ من المعنى، ثم ذهبنا فنمنا. فهل نستمر، أم نعترف بعقم هذا المسعى ونفتش عن مسلك آخر؟
يقولون إن الرجوع إلى الحق فضيلة، فلماذا لا نرجع إلى
الحق؟ الحق أن كل ما عملناه يتلخص في كلمة واحدة، هي (ولا مؤاخذة): إننا لم نعمل شيئاً! إن عملنا كله «لا شيء» ؛ إنه «صفر» .
فلنبدأ من نقطة الصفر. إن الذي يريد أن يطلق النار على عدوّه في الحرب ينبغي أن يعرف أولاً أين هو عدوّه، وإلا أطلق النار إلى اليمين والعدو في الشمال. فلنعرف أولاً خطط أعدائنا لنرد عليها بخطط مثلها، لننتبه إلى مداخلهم علينا لنَسُدّ هذه المداخل. لنقلل من الكلام ولنكثر من العمل، لنترك الجعجعة والصراخ ولنتعلم العمل في صمت.
يجب أن يكون للعمل الإسلامي قيادة نبيهة واعية تحشد القوى وتوزع الوجائب، فلا تكلف أحداً إلا بما يستطيع، ولا يجاوز أحدٌ ما كُلِّف به.
لا أريد أن أدخل في التفاصيل، لأن أجدادنا كانوا يقولون:«ثبِّت العرشَ ثم انقُش» ؛ فالنقش لا يفيد إن لم يُثبَّت العرش، وذكر التفاصيل لا ينفع إن لم يُقَرّ الأصل. بل إن التفاصيل لا يجوز أن تذكر في مقالة عامة ولا تُعلَن في خطبة، بل تكون سراً، كالخطة الحربية في القيادة العامة، تُحفَظ وراء خمسين قفلاً لتخرج رأساً للتنفيذ يوم المعركة.
فهل لما قلت تحقيق، أم أنا أحلم يقظانَ، وأتمنى ما لا يكون؟
* * *